الســـلام عليــــكم ورحمـة الله وبـركاته
الكـون أسـرار
أن من ينظر الى السماء لا يمكن ان يعتبرها مجرد محطٍّ لتأملات العشاق والشعراء. فهي المظلَّة التي لا تبرح تراقب جيرانها في الطابق الأسفل، بل هي لا تتوانى عن التدخل في حياتهم العامة والخاصة. وهم أمام تدخلها الدائم والكلِّي القدرة لا حول لهم ولا قوة .
وقد انكب الإنسان منذ أقدم العصور على دراسة السماء ومحتوياتها، تحرِّكه تلك القناعة الميتافيزيائية بأن للسماء سيطرة مطلقة على الأرض. إذ كان يؤمن أن الطبيعة واحدة وأن الطاقة التي تحرك كل ما فيها واحدة؛ وبالتالي، فكل حركة في هذا الكون لها تأثيرها وتبعاتها عليه وعلى محيطه.
لقد اشتملت دراسة الإنسان للفضاء الخارجي على وصف حركة النجوم وأبعادها من جهة ووصف تأثير هذه الحركة ونتائجها من جهة أخرى . أي أن التمييز الحقيقي بين علم الفلك وعلم التنجيم لم يكن موجوداً. واكتسبت دراسة علم الفلك أهمية بالغة لأنها ترتبط بمختلف علوم الطبيعة، وذلك بسبب تأثير الأفلاك على جميع ما يحدث في "عالم ما دون القمر". ولم يكن يُنظَر إلى هذا العلم على أنه شكل إنساني صرف من أشكال المعرفة، بل هو علم أوحِي به إلى النبي إدريس أو هرمس المثلث بالحِكَم الذي صعد إلى زحل لاستحضار علم النجوم إلى الأرض. فدراسة الأفلاك، إذن، ذات طبيعة مقدسة ولها جانب من الحقيقة المُنزَلة .
ولكن الفصل بين علمي الفلك والتنجيم تكرس في القرون الوسطى انسجاماً مع سيرورة العلم ككل، أي محاولة الفصل بين العلوم الميتافيزيائية والعلوم الموضوعية.
إن معرفة الكون في علم التنجيم مدخل لمعرفة النفس الإنسانية وربط النفس ومعرفتها بالتحولات الكونية ، محاولةً لإخراج عالم النفس المجهول إلى دائرة الضوء وتسهيل تصنيف النفس ودراستها تبعاً لأنماط محددة. وهذا الارتباط كان يستند إلى فكرة حدسية تشبِّه العالم بالإنسان الكبير أو تشبه الإنسان بكون صغير. ونأخذ من إخوان الصفا ما جاء في مقدمة إحدى رسائلهم: "إن معنى قول الحكماء "العالم"، إنما يعنون السموات السبع والأرضين، وما بينهما من الخلائق أجمعين. وسمُّوه أيضاً إنساناً كبيراً لأنهم يرون أنه جسم واحد بجميع أفلاكه وأطباق سمواته وأركان أمهاته ومولداته .
ويرون أيضاً أن له نفساً واحدة سارية قواها في جميع أجزاء جسمها كسريان نفس الإنسان الواحد في جميع أجزاء جسده..." ويتابعون: "نريد أن نذكر في هذه الرسالة صورة العالم ونَصِف كيفية تركيب جسمه كما وُصِف في كتاب التشريح تركيبُ جسد الإنسان. ثم نصف في رسالة أخرى ماهية نفس العالم، وكيفية سريان قواها في الأجسام التي في العالم، من أعلى الفلك إلى منتهى مركز الأرض." ولكن القول بتماثل وارتباط العالم الأرضي بالعالم العلوي لا يعني أبداً إمكانية التنبؤ بمصير كل ما يتحرك في هذا العالم، كما حاول بعضهم أن يصور أن علم النجوم لا يدَّعي ولا يحقُّ له أن يدَّعي إمكانية التنبؤ بالأحداث. يقول إخوان الصفا عن هذا الأمر: "إن كثيراً من الناس يظنون أن علم أحكام النجوم هو ادعاء الغيب.
وليس الأمر كما ظنوا لأن علم الغيب هو أن يعلم ما يكون بلا استدلال ولا علل ولا سبب من الأسباب وهذا لا يعلمه أحد من الخلق." كما أن ابن سينا ينتقد المنجمين بسبب ادعائهم القدرة على التنبؤ بالأحداث بشكل دقيق، ولكنه لا ينفي وجود تأثيرات فلكية في عالم المتغيرات، ويؤمن بأهمية تلك التأثيرات على الأحداث التي تجري على الأرض.
وقد أجبرت الوقائع العلمية المثبَتة العلماء على العودة إلى هذه الفكرة. إذ يقول الطبيب كلود برنار في كتابه مدخل لدراسة الطب التجريبي: "لا يشكل الكائن الحي استثناء من التناغم الطبيعي الكبير الذي يجعل الأشياء تتكيف بعضها مع بعض. فهو لا يكسر أي توافق وهو لا يتناقض ولا يتواجه مع القوى الكونية عموماً، بل على العكس يساهم في السمفونية الكونية للأشياء وليست حياته إلا جزءاً من الحياة الكلية في الكون."
ولا يخفى اليوم على أحد أهمية أشعة الشمس للحياة بكل أشكالها على الأرض. بل إن باستور يقول إن جميع أشكال الحياة هي في بنيتها وشكلها واستعداداتها وأنسجتها على علاقة صميمية بحركة الكون.
وإضافة إلى ما لتتابع الليل والنهار وتتابع الفصول وأطوار القمر من تأثير على حياة الإنسان، فإن التقنيات العلمية الحديثة سمحت باكتشاف تأثيرات كونية عديدة أخرى. ولها تأثيرها أيضاً، كما تدل الدراسات الحديثة، على النفس الإنسانية والسلوك الإنساني. أي أن الأهمية التي كان يعزوها المنجمون لحالة السماء وقت الولادة لا يمكن إنكارها، وهي طريقة اعتمدت للتعرف إلى الأفراد والاستدلال على عالمهم الداخلي.
لقد أثبتت الفيزياء أن الطبيعة لا تعرف أي تحوُّل مجاني. فأي أمر يحدث في الطبيعة له دور يؤديه في سمفونية القوى الطبيعية الكونية. ويوجد الإنسان في قلب هذا الكون مثلما يوجد الكون في داخله، وهو ليس في منأى عن التحولات الكونية، وهو يتفاعل معها بطريقته. فهناك حوار نفساني وبيولوجي ثابت منذ البدء بين الحياة وذاك المحيط البعيد المتشكل من الشمس والقمر والكواكب.
حركات القمر وتأثيره الفيزيائي على كوكبنا
يؤثر القمر – وهو الجسم السماوي الأقرب إلينا – على الأرض بفضل نوعين من الحركات:
1. النوع الأول يعود لدوران الأرض حول نفسها في 24 ساعة وهو حركته اليومية. واليوم القمري أطول قليلاً من اليوم الشمسي: 24 ساعة 50 دقيقة. هذه الحركة مسؤولة عن ظاهرة المدّ والجزر التي تحدث مرتين في اليوم. الوقت الذي يفصل بين مد وجزر هو 12 ساعة 4/10، وهي الفترة التي تنقضي بين مرورين متتاليين للقمر على مدار المكان. إن الجذب الثقالي للقمر هو الذي يسبب ظاهرة المدّ والجزر بتراكبه مع التأثير الثقالي للشمس الذي يُعتبَر دوره أضعف من دور القمر بمرتين أو ثلاث. ولا تقتصر الاستجابة على المحيطات التي تخضع لتغيرات دورية (مرتين يومياً)، بل يشتمل أيضاً على الفضاء والقشرة الأرضية.
2. الحركة الثانية للقمر هي دورانه حول الأرض. والشهر القمري (28 يوماً) يفصل بين ظهورين للقمر. وخلال الشهر القمري يحدث تغيُّر هام في الشدة الضوئية التي تبلغ أوجها عندما يكون القمر بدراً، أي عندما يكون في مقابل الشمس تماماً. ولتغيرات الزاوية بين الشمس والقمر تأثير هام على ظاهرة المدّ والجزر.
تبلغ ظاهرة المدّ والجزر أوجها عندما يكون البدر مكتملاً وعندما يبدأ القمر بالظهور، أي عندما تتضافر التأثيرات الثقالية للقمر والشمس. أما في الربع الأول والأخير، فإن التأثيرات الشمسية والقمرية تتعاكس.
يضاف إلى هذه التأثيرات الفيزيائية المعروفة منذ أمد بعيد تغيرات أكثر دقة. فقد اكتشف Chapman وBarterls في عام 1940 أن شدة الحقل المغناطيسي للأرض تخضع لتغيرات ساعة بعد ساعة مردها اليوم والشهر القمري. وقد أكد العالمان اليابانيان Matsushita و Maeda هذه الظاهرة وقدَّما ملاحظات إضافية حولها. كما أن الأقمار الصناعية أثبتت أن القمر يستطيع في بعض مواضعه بالنسبة للشمس أن يحوِّل اتجاه الرياح الشمسية – وهو سيل القسيمات الأولية الذي ينبثق باستمرار من الشمس والذي تخضع الأرض لتأثيراته.
المد والجزر الحيوي : في آثار جاذبية القمر على الإنسان
إن تأثير القمر على الإنسان ثابت على مر العصور ومعظم الحضارات تتضمن إشارات إلى هذا الموضوع، وإن كانت تختلف حول الأهمية التي تضفيها عليه الكواكب وعلى تأثيره.
يعتقد إخوان الصفا أن مكانة القمر تلي مكانة الشمس من حيث الأهمية. إلا أن معظم تأثيراته تقتصر على ما يحدث على الأرض من أدوار "أنثوية". وله تأثير في نمو النبات المثمر وذبوله وتكوين الفطور وإنتاج بعض المعادن، كالصخور والملح، وفي تكوين بعض الحيوانات، كالطيور. كما يعتقد إخوان الصفا أيضاً أن مدة حياة الحيوان على الأرض تعتمد هي الأخرى على منازل القمر.
ونشهد اليوم بعد تطور الفيزياء وعلم الفضاء عودة إلى دراسة تأثير القمر علينا مزودين بوسائل دقيقة وموضوعية تقودنا في أبحاثنا الفكرة الحدسية القديمة ذاتها. فمما اكتشف العلماء أن المغناطيسية الأرضية وتأيُّن ionization الفضاء يختلفان ويتبدلان بحسب أطوار القمر. وقد حاول الطبيب النفساني ليونارد رافيتز دراسة تأثير هذه التبدلات على المرضى النفسيين وقام من أجل ذلك بقياس الاختلاف في الكمون الكهربي بين الرأس والصدر عند المرضى النفسيين. وكان الفرق يتبدل بين يوم وآخر بالتوافق مع أطوار القمر وهياج المرضى. وقد انتهى الدكتور رافيتز إلى تفسير ذلك بالقول أن القمر لا يؤثر مباشرة في سلوك الإنسان، ولكنه يستطيع، بتغيير نسب القوى الكهرمغناطيسية في الكون، إحداث كوارث عند الأشخاص غير المتوازنين.
وقد عرضت المجلة الأميركية للطب النفسي في عام 1972 نظرية Arnold Lieber وCarolyn Sherin من قسم الطب النفسي في جامعة ميامي. تفسِّر هذه النظرية (وهي نظرية تستند إلى التجربة الإحصائية) علاقة الجاذبية القمرية باضطراب المزاج. وقد ذكرا فيها: "لقد بات ثابتاً أن القمر، بتأثيره الثقالي على الأرض، هو المحرك الرئيسي للمدّ والجزر المحيطي والفضائي والأرضي. فإذا نظرنا إلى جسم الإنسان على أنه ميكروكوسم أو كون صغير يتألف من العناصر ذاتها التي تتألف منها مساحة الأرض (80 % ماء 20 % أملاح عضوية ومعدنية)، لأمكننا أن نقول إن قوى الثقالة القمرية قادرة على ممارسة تأثير مماثل على الماء المتضمن في جسم الإنسان. هكذا يستطيع القمر إحداث تبدلات دورية على الوسط السائل الذي تسبح فيه خلايا جسمنا، بحيث نستطيع التكلم على مدٍّ وجزر بيولوجيين يحدثان تبدلات في المزاج تتظاهر عند الشخص المؤهَّب باضطراب في السلوك.
وقد اختار الباحثان نموذجاً تجريبياً لإثبات نظريتهما، فاختارا دراسة حوادث القتل، فلاحظا بعد إحصاء كل الجرائم التي حدثت في فلوريدا من 1956-1970 وجود ذروة في عدد الجرائم عند كل اكتمال للقمر. وقد رأى الكاتبان أن هذه النتيجة هامة جداً على المستوى الإحصائي.
وقد أظهرت دراسات عديدة وجود دورة قمرية عند الكثير من الحيوانات إذ يرتبط نشاطها بها. وما يبدو مؤكداً اليوم أن وجود أو غياب ضوء القمر لا يفسر كل شيء؛ إذ يمكن أن توجد أقنية سرية أخرى يضبط القمر بواسطتها ساعة الإنسان الداخلية.
لقد أطلق شكسبير على القمر في القرن السادس عشر "سيد الحزن المطلق" وأعلن أن القمر يجعل الأشخاص حمقى عندما يقترب من الأرض.
الشمس وتأثيرها على الإنسان
كان الفيثاغوريون ينظرون إلى الشمس على أنها كرة صماء وكانوا يسمونها الدائرة الذهبية. أما إخوان الصفا فقد تحدثوا في كتاباتهم عن حركة الكواكب وتأثيرها في حوادث عالم الكون، وخاصة في تكوين النبات والحيوان والجنين. وقد أعطوا الشمس مكانة خاصة: فهي من العالم بمنزلة القلب من الجسد، وبقية الكواكب بمنزلة بقية الأعضاء. كما شرحوا بشكل مفصل أثر الشمس في أثناء سيرها. وإلى هذا الأثر تُنسَب صحة الحيوان ومرضه، وأحوال الجبال والوديان على الأرض، وحسن حالة الناس وشقاؤهم، وأمور الممالك السياسية، الخ.
ولكن وسائل المعرفة تطورت مع ظهور التلسكوب والأقمار الصناعية، وبتنا نعرف أن الشمس نجم في فوران دائم، يدور حول نفسه، وأن اندفاعات لغازات مشتعلة تنشأ على سطحه وتندفع في الفضاء. إن الأرض تسبح في فضاء شمسي. فالشمس قادرة على إحداث اضطراب في كهربائية الفضاء الأرضي وإحداث عواصف مغنطيسية. وهي، إضافة لكونها توفر الضوء والحرارة، فهي تمارس على كوكبنا تأثيرات أخرى غير تلك التي تستطيع أجهزتنا المتطورة التقاطها.
بعض التعاريف عن النشاط الشمسي
البقع الشمسية (الكلف الشمسي): إن صورة الشمس تعطي صورة واضحة جداً لسطح الشمس النيِّر الذي يبث لنا الضوء والحرارة. وفي هذه الطبقة اللامعة نشاهد البقع الشمسية الشهيرة التي كان غاليليو أول من رصدها بواسطة نظارته الشهيرة. وهي فجوات أو انخماصات هامة، تتراوح بين عشرات ومئات الآلاف من الكيلومترات. ويمكن أن تتسع بعض الفجوات الكبيرة للأرض بسهولة. ونستطيع عبر هذه الثقوب رؤية الطبقات التحتية الملاصقة التي تبدو سوداء معتمة لأنها أقل لمعاناً. وتبدو الحواف الداخلية لهذه البقع كحواف قماش مثقوب، وهي رمادية ويطلق عليها اسم "ظلال البقعة". وغالباً ما تتجمع في اثنتين أو أكثر.
المقذوفات الغازية الشمسية: فوق الطبقة النيرة Photosphere توجد الطبقة الملونة أو القرمزية Chromosphere التي نستطيع رؤيتها أثناء الكسوف. وهذه الطبقة تشكل المكان الذي تحدث فيه الانقذافات الغازية الشمسية. وهي عبارة عن دفق من المادة الضوئية تأخذ شكل أقواس أو حزم أو أشكال أخرى. وقد يصل ارتفاع هذه الانقذافات إلى بضع مئات من آلاف الكيلومترات.
وفوق الطبقة القرمزية يوجد الإكليل الشمسي (الهالة) الذي نستطيع رؤيته بالعين المجردة أثناء الكسوف. وهو طبقة تمتد بعيداً جداً أكثر مما كان يُعتقَد في الماضي استناداً إلى الرؤية العيانية المباشرة، لدرجة أن الأرض نفسها تسبح في أحد أجزائها الأكثر رقة.
هل يرتبط مزاج الإنسان بفعالية الشمس ؟
يقول Düll الذي درس حالات الانتحار التي حدثت بين 1917 و 1932 في برلين وكوبنهاغن وفرانكفورت وزيورخ أن عدد حالات الانتحار يرتفع بشكل ملحوظ عندما يزداد النشاط الشمسي بشكل مفاجئ. إذ لاحظ أن عدد حالات الانتحار يرتفع بنسبة 8 % في الأيام التي يحدث فيها ازدياد الفعالية الشمسية. ويرى بعضهم في هذه الحصيلة دليل على وجود اضطرابات في الجهاز العصبي تحدثها تغيرات مصاحبة في حالة الهواء الكهربائية. وإذا كانت دراسة Düll تعود لما قبل الحرب العالمية الثانية وتنقصها بعض الدقة الإحصائية، فقد أكد علماء آخرون من بعده وجود علاقة بين الانتحار والنشاط الشمسي. فقد أكد الدكتور أورمينيي Orményi من بودابست، بعد دراسته 2240 حالة انتحار أو محاولة انتحار مسجلة في عام 1964، علاقة هذه الحالات بالنشاط الشمسي. واحتمال أن تكون النتيجة الملاحظة محض صدفة يقل عن 1 %. ويذكر العالم ذاته بعد جمعه معطيات تتعلق بـ 5479 حادث سير حدثت في بودابست بين عامي 63 و 64 أن العواصف الجيومغنطيسية ترافقت بارتفاع نسبة الحوادث بنسبة 101 %.
وقد خلص الباحث إلى أن العواصف المغناطيسية خطيرة جداً، خاصة إذا ترافقت بهبوط مفاجئ في الحرارة. ويضيف: "يمكن استناداً إلى ملاحظاتنا إعطاء توقعات منتظمة عن عدد حوادث العمل إذا كان بمقدور علماء الفضاء التنبؤ بنشاط الشمس. وقد سمحت بعض التنبيهات بتخفيض عدد الحوادث بنسبة 10 – 20 % في الصناعة.
أن من ينظر الى السماء لا يمكن ان يعتبرها مجرد محطٍّ لتأملات العشاق والشعراء. فهي المظلَّة التي لا تبرح تراقب جيرانها في الطابق الأسفل، بل هي لا تتوانى عن التدخل في حياتهم العامة والخاصة. وهم أمام تدخلها الدائم والكلِّي القدرة لا حول لهم ولا قوة .
وقد انكب الإنسان منذ أقدم العصور على دراسة السماء ومحتوياتها، تحرِّكه تلك القناعة الميتافيزيائية بأن للسماء سيطرة مطلقة على الأرض. إذ كان يؤمن أن الطبيعة واحدة وأن الطاقة التي تحرك كل ما فيها واحدة؛ وبالتالي، فكل حركة في هذا الكون لها تأثيرها وتبعاتها عليه وعلى محيطه.
لقد اشتملت دراسة الإنسان للفضاء الخارجي على وصف حركة النجوم وأبعادها من جهة ووصف تأثير هذه الحركة ونتائجها من جهة أخرى . أي أن التمييز الحقيقي بين علم الفلك وعلم التنجيم لم يكن موجوداً. واكتسبت دراسة علم الفلك أهمية بالغة لأنها ترتبط بمختلف علوم الطبيعة، وذلك بسبب تأثير الأفلاك على جميع ما يحدث في "عالم ما دون القمر". ولم يكن يُنظَر إلى هذا العلم على أنه شكل إنساني صرف من أشكال المعرفة، بل هو علم أوحِي به إلى النبي إدريس أو هرمس المثلث بالحِكَم الذي صعد إلى زحل لاستحضار علم النجوم إلى الأرض. فدراسة الأفلاك، إذن، ذات طبيعة مقدسة ولها جانب من الحقيقة المُنزَلة .
ولكن الفصل بين علمي الفلك والتنجيم تكرس في القرون الوسطى انسجاماً مع سيرورة العلم ككل، أي محاولة الفصل بين العلوم الميتافيزيائية والعلوم الموضوعية.
إن معرفة الكون في علم التنجيم مدخل لمعرفة النفس الإنسانية وربط النفس ومعرفتها بالتحولات الكونية ، محاولةً لإخراج عالم النفس المجهول إلى دائرة الضوء وتسهيل تصنيف النفس ودراستها تبعاً لأنماط محددة. وهذا الارتباط كان يستند إلى فكرة حدسية تشبِّه العالم بالإنسان الكبير أو تشبه الإنسان بكون صغير. ونأخذ من إخوان الصفا ما جاء في مقدمة إحدى رسائلهم: "إن معنى قول الحكماء "العالم"، إنما يعنون السموات السبع والأرضين، وما بينهما من الخلائق أجمعين. وسمُّوه أيضاً إنساناً كبيراً لأنهم يرون أنه جسم واحد بجميع أفلاكه وأطباق سمواته وأركان أمهاته ومولداته .
ويرون أيضاً أن له نفساً واحدة سارية قواها في جميع أجزاء جسمها كسريان نفس الإنسان الواحد في جميع أجزاء جسده..." ويتابعون: "نريد أن نذكر في هذه الرسالة صورة العالم ونَصِف كيفية تركيب جسمه كما وُصِف في كتاب التشريح تركيبُ جسد الإنسان. ثم نصف في رسالة أخرى ماهية نفس العالم، وكيفية سريان قواها في الأجسام التي في العالم، من أعلى الفلك إلى منتهى مركز الأرض." ولكن القول بتماثل وارتباط العالم الأرضي بالعالم العلوي لا يعني أبداً إمكانية التنبؤ بمصير كل ما يتحرك في هذا العالم، كما حاول بعضهم أن يصور أن علم النجوم لا يدَّعي ولا يحقُّ له أن يدَّعي إمكانية التنبؤ بالأحداث. يقول إخوان الصفا عن هذا الأمر: "إن كثيراً من الناس يظنون أن علم أحكام النجوم هو ادعاء الغيب.
وليس الأمر كما ظنوا لأن علم الغيب هو أن يعلم ما يكون بلا استدلال ولا علل ولا سبب من الأسباب وهذا لا يعلمه أحد من الخلق." كما أن ابن سينا ينتقد المنجمين بسبب ادعائهم القدرة على التنبؤ بالأحداث بشكل دقيق، ولكنه لا ينفي وجود تأثيرات فلكية في عالم المتغيرات، ويؤمن بأهمية تلك التأثيرات على الأحداث التي تجري على الأرض.
وقد أجبرت الوقائع العلمية المثبَتة العلماء على العودة إلى هذه الفكرة. إذ يقول الطبيب كلود برنار في كتابه مدخل لدراسة الطب التجريبي: "لا يشكل الكائن الحي استثناء من التناغم الطبيعي الكبير الذي يجعل الأشياء تتكيف بعضها مع بعض. فهو لا يكسر أي توافق وهو لا يتناقض ولا يتواجه مع القوى الكونية عموماً، بل على العكس يساهم في السمفونية الكونية للأشياء وليست حياته إلا جزءاً من الحياة الكلية في الكون."
ولا يخفى اليوم على أحد أهمية أشعة الشمس للحياة بكل أشكالها على الأرض. بل إن باستور يقول إن جميع أشكال الحياة هي في بنيتها وشكلها واستعداداتها وأنسجتها على علاقة صميمية بحركة الكون.
وإضافة إلى ما لتتابع الليل والنهار وتتابع الفصول وأطوار القمر من تأثير على حياة الإنسان، فإن التقنيات العلمية الحديثة سمحت باكتشاف تأثيرات كونية عديدة أخرى. ولها تأثيرها أيضاً، كما تدل الدراسات الحديثة، على النفس الإنسانية والسلوك الإنساني. أي أن الأهمية التي كان يعزوها المنجمون لحالة السماء وقت الولادة لا يمكن إنكارها، وهي طريقة اعتمدت للتعرف إلى الأفراد والاستدلال على عالمهم الداخلي.
لقد أثبتت الفيزياء أن الطبيعة لا تعرف أي تحوُّل مجاني. فأي أمر يحدث في الطبيعة له دور يؤديه في سمفونية القوى الطبيعية الكونية. ويوجد الإنسان في قلب هذا الكون مثلما يوجد الكون في داخله، وهو ليس في منأى عن التحولات الكونية، وهو يتفاعل معها بطريقته. فهناك حوار نفساني وبيولوجي ثابت منذ البدء بين الحياة وذاك المحيط البعيد المتشكل من الشمس والقمر والكواكب.
حركات القمر وتأثيره الفيزيائي على كوكبنا
يؤثر القمر – وهو الجسم السماوي الأقرب إلينا – على الأرض بفضل نوعين من الحركات:
1. النوع الأول يعود لدوران الأرض حول نفسها في 24 ساعة وهو حركته اليومية. واليوم القمري أطول قليلاً من اليوم الشمسي: 24 ساعة 50 دقيقة. هذه الحركة مسؤولة عن ظاهرة المدّ والجزر التي تحدث مرتين في اليوم. الوقت الذي يفصل بين مد وجزر هو 12 ساعة 4/10، وهي الفترة التي تنقضي بين مرورين متتاليين للقمر على مدار المكان. إن الجذب الثقالي للقمر هو الذي يسبب ظاهرة المدّ والجزر بتراكبه مع التأثير الثقالي للشمس الذي يُعتبَر دوره أضعف من دور القمر بمرتين أو ثلاث. ولا تقتصر الاستجابة على المحيطات التي تخضع لتغيرات دورية (مرتين يومياً)، بل يشتمل أيضاً على الفضاء والقشرة الأرضية.
2. الحركة الثانية للقمر هي دورانه حول الأرض. والشهر القمري (28 يوماً) يفصل بين ظهورين للقمر. وخلال الشهر القمري يحدث تغيُّر هام في الشدة الضوئية التي تبلغ أوجها عندما يكون القمر بدراً، أي عندما يكون في مقابل الشمس تماماً. ولتغيرات الزاوية بين الشمس والقمر تأثير هام على ظاهرة المدّ والجزر.
تبلغ ظاهرة المدّ والجزر أوجها عندما يكون البدر مكتملاً وعندما يبدأ القمر بالظهور، أي عندما تتضافر التأثيرات الثقالية للقمر والشمس. أما في الربع الأول والأخير، فإن التأثيرات الشمسية والقمرية تتعاكس.
يضاف إلى هذه التأثيرات الفيزيائية المعروفة منذ أمد بعيد تغيرات أكثر دقة. فقد اكتشف Chapman وBarterls في عام 1940 أن شدة الحقل المغناطيسي للأرض تخضع لتغيرات ساعة بعد ساعة مردها اليوم والشهر القمري. وقد أكد العالمان اليابانيان Matsushita و Maeda هذه الظاهرة وقدَّما ملاحظات إضافية حولها. كما أن الأقمار الصناعية أثبتت أن القمر يستطيع في بعض مواضعه بالنسبة للشمس أن يحوِّل اتجاه الرياح الشمسية – وهو سيل القسيمات الأولية الذي ينبثق باستمرار من الشمس والذي تخضع الأرض لتأثيراته.
المد والجزر الحيوي : في آثار جاذبية القمر على الإنسان
إن تأثير القمر على الإنسان ثابت على مر العصور ومعظم الحضارات تتضمن إشارات إلى هذا الموضوع، وإن كانت تختلف حول الأهمية التي تضفيها عليه الكواكب وعلى تأثيره.
يعتقد إخوان الصفا أن مكانة القمر تلي مكانة الشمس من حيث الأهمية. إلا أن معظم تأثيراته تقتصر على ما يحدث على الأرض من أدوار "أنثوية". وله تأثير في نمو النبات المثمر وذبوله وتكوين الفطور وإنتاج بعض المعادن، كالصخور والملح، وفي تكوين بعض الحيوانات، كالطيور. كما يعتقد إخوان الصفا أيضاً أن مدة حياة الحيوان على الأرض تعتمد هي الأخرى على منازل القمر.
ونشهد اليوم بعد تطور الفيزياء وعلم الفضاء عودة إلى دراسة تأثير القمر علينا مزودين بوسائل دقيقة وموضوعية تقودنا في أبحاثنا الفكرة الحدسية القديمة ذاتها. فمما اكتشف العلماء أن المغناطيسية الأرضية وتأيُّن ionization الفضاء يختلفان ويتبدلان بحسب أطوار القمر. وقد حاول الطبيب النفساني ليونارد رافيتز دراسة تأثير هذه التبدلات على المرضى النفسيين وقام من أجل ذلك بقياس الاختلاف في الكمون الكهربي بين الرأس والصدر عند المرضى النفسيين. وكان الفرق يتبدل بين يوم وآخر بالتوافق مع أطوار القمر وهياج المرضى. وقد انتهى الدكتور رافيتز إلى تفسير ذلك بالقول أن القمر لا يؤثر مباشرة في سلوك الإنسان، ولكنه يستطيع، بتغيير نسب القوى الكهرمغناطيسية في الكون، إحداث كوارث عند الأشخاص غير المتوازنين.
وقد عرضت المجلة الأميركية للطب النفسي في عام 1972 نظرية Arnold Lieber وCarolyn Sherin من قسم الطب النفسي في جامعة ميامي. تفسِّر هذه النظرية (وهي نظرية تستند إلى التجربة الإحصائية) علاقة الجاذبية القمرية باضطراب المزاج. وقد ذكرا فيها: "لقد بات ثابتاً أن القمر، بتأثيره الثقالي على الأرض، هو المحرك الرئيسي للمدّ والجزر المحيطي والفضائي والأرضي. فإذا نظرنا إلى جسم الإنسان على أنه ميكروكوسم أو كون صغير يتألف من العناصر ذاتها التي تتألف منها مساحة الأرض (80 % ماء 20 % أملاح عضوية ومعدنية)، لأمكننا أن نقول إن قوى الثقالة القمرية قادرة على ممارسة تأثير مماثل على الماء المتضمن في جسم الإنسان. هكذا يستطيع القمر إحداث تبدلات دورية على الوسط السائل الذي تسبح فيه خلايا جسمنا، بحيث نستطيع التكلم على مدٍّ وجزر بيولوجيين يحدثان تبدلات في المزاج تتظاهر عند الشخص المؤهَّب باضطراب في السلوك.
وقد اختار الباحثان نموذجاً تجريبياً لإثبات نظريتهما، فاختارا دراسة حوادث القتل، فلاحظا بعد إحصاء كل الجرائم التي حدثت في فلوريدا من 1956-1970 وجود ذروة في عدد الجرائم عند كل اكتمال للقمر. وقد رأى الكاتبان أن هذه النتيجة هامة جداً على المستوى الإحصائي.
وقد أظهرت دراسات عديدة وجود دورة قمرية عند الكثير من الحيوانات إذ يرتبط نشاطها بها. وما يبدو مؤكداً اليوم أن وجود أو غياب ضوء القمر لا يفسر كل شيء؛ إذ يمكن أن توجد أقنية سرية أخرى يضبط القمر بواسطتها ساعة الإنسان الداخلية.
لقد أطلق شكسبير على القمر في القرن السادس عشر "سيد الحزن المطلق" وأعلن أن القمر يجعل الأشخاص حمقى عندما يقترب من الأرض.
الشمس وتأثيرها على الإنسان
كان الفيثاغوريون ينظرون إلى الشمس على أنها كرة صماء وكانوا يسمونها الدائرة الذهبية. أما إخوان الصفا فقد تحدثوا في كتاباتهم عن حركة الكواكب وتأثيرها في حوادث عالم الكون، وخاصة في تكوين النبات والحيوان والجنين. وقد أعطوا الشمس مكانة خاصة: فهي من العالم بمنزلة القلب من الجسد، وبقية الكواكب بمنزلة بقية الأعضاء. كما شرحوا بشكل مفصل أثر الشمس في أثناء سيرها. وإلى هذا الأثر تُنسَب صحة الحيوان ومرضه، وأحوال الجبال والوديان على الأرض، وحسن حالة الناس وشقاؤهم، وأمور الممالك السياسية، الخ.
ولكن وسائل المعرفة تطورت مع ظهور التلسكوب والأقمار الصناعية، وبتنا نعرف أن الشمس نجم في فوران دائم، يدور حول نفسه، وأن اندفاعات لغازات مشتعلة تنشأ على سطحه وتندفع في الفضاء. إن الأرض تسبح في فضاء شمسي. فالشمس قادرة على إحداث اضطراب في كهربائية الفضاء الأرضي وإحداث عواصف مغنطيسية. وهي، إضافة لكونها توفر الضوء والحرارة، فهي تمارس على كوكبنا تأثيرات أخرى غير تلك التي تستطيع أجهزتنا المتطورة التقاطها.
بعض التعاريف عن النشاط الشمسي
البقع الشمسية (الكلف الشمسي): إن صورة الشمس تعطي صورة واضحة جداً لسطح الشمس النيِّر الذي يبث لنا الضوء والحرارة. وفي هذه الطبقة اللامعة نشاهد البقع الشمسية الشهيرة التي كان غاليليو أول من رصدها بواسطة نظارته الشهيرة. وهي فجوات أو انخماصات هامة، تتراوح بين عشرات ومئات الآلاف من الكيلومترات. ويمكن أن تتسع بعض الفجوات الكبيرة للأرض بسهولة. ونستطيع عبر هذه الثقوب رؤية الطبقات التحتية الملاصقة التي تبدو سوداء معتمة لأنها أقل لمعاناً. وتبدو الحواف الداخلية لهذه البقع كحواف قماش مثقوب، وهي رمادية ويطلق عليها اسم "ظلال البقعة". وغالباً ما تتجمع في اثنتين أو أكثر.
المقذوفات الغازية الشمسية: فوق الطبقة النيرة Photosphere توجد الطبقة الملونة أو القرمزية Chromosphere التي نستطيع رؤيتها أثناء الكسوف. وهذه الطبقة تشكل المكان الذي تحدث فيه الانقذافات الغازية الشمسية. وهي عبارة عن دفق من المادة الضوئية تأخذ شكل أقواس أو حزم أو أشكال أخرى. وقد يصل ارتفاع هذه الانقذافات إلى بضع مئات من آلاف الكيلومترات.
وفوق الطبقة القرمزية يوجد الإكليل الشمسي (الهالة) الذي نستطيع رؤيته بالعين المجردة أثناء الكسوف. وهو طبقة تمتد بعيداً جداً أكثر مما كان يُعتقَد في الماضي استناداً إلى الرؤية العيانية المباشرة، لدرجة أن الأرض نفسها تسبح في أحد أجزائها الأكثر رقة.
هل يرتبط مزاج الإنسان بفعالية الشمس ؟
يقول Düll الذي درس حالات الانتحار التي حدثت بين 1917 و 1932 في برلين وكوبنهاغن وفرانكفورت وزيورخ أن عدد حالات الانتحار يرتفع بشكل ملحوظ عندما يزداد النشاط الشمسي بشكل مفاجئ. إذ لاحظ أن عدد حالات الانتحار يرتفع بنسبة 8 % في الأيام التي يحدث فيها ازدياد الفعالية الشمسية. ويرى بعضهم في هذه الحصيلة دليل على وجود اضطرابات في الجهاز العصبي تحدثها تغيرات مصاحبة في حالة الهواء الكهربائية. وإذا كانت دراسة Düll تعود لما قبل الحرب العالمية الثانية وتنقصها بعض الدقة الإحصائية، فقد أكد علماء آخرون من بعده وجود علاقة بين الانتحار والنشاط الشمسي. فقد أكد الدكتور أورمينيي Orményi من بودابست، بعد دراسته 2240 حالة انتحار أو محاولة انتحار مسجلة في عام 1964، علاقة هذه الحالات بالنشاط الشمسي. واحتمال أن تكون النتيجة الملاحظة محض صدفة يقل عن 1 %. ويذكر العالم ذاته بعد جمعه معطيات تتعلق بـ 5479 حادث سير حدثت في بودابست بين عامي 63 و 64 أن العواصف الجيومغنطيسية ترافقت بارتفاع نسبة الحوادث بنسبة 101 %.
وقد خلص الباحث إلى أن العواصف المغناطيسية خطيرة جداً، خاصة إذا ترافقت بهبوط مفاجئ في الحرارة. ويضيف: "يمكن استناداً إلى ملاحظاتنا إعطاء توقعات منتظمة عن عدد حوادث العمل إذا كان بمقدور علماء الفضاء التنبؤ بنشاط الشمس. وقد سمحت بعض التنبيهات بتخفيض عدد الحوادث بنسبة 10 – 20 % في الصناعة.
للـموضوع بقيــة,,,
تعليق