إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

من هو انا؟(1)

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • من هو انا؟(1)

    قصة يومية سيتم نشر أجزاؤها بشكل يومي
    (1)
    ظلامٌ مطبق..
    ثم فجأة فتحتُ عيني بشدة، لدرجة أنني شعرتُ بأن جسدي انتفض نتيجةً لذلك، ولكني في البداية لم أستطع رؤية سوى نورٍ شديد دفعني لمحاولة تحريك يدي اليمن لأغطي عينيّ.

    في تلك اللحظة تمكنتُ من سماع صوتٍ ما صدر عن يساري فالتفتُ نحوه وأنا بالكاد أرى، فتبينتُ جهازاً ما كان يحتوي على شاشة سوداء ظهرت عليها خطوط بيضاء متعرجة!!

    "أين أنا الآن؟!!.."
    طرح عقلي هذا السؤال فيما حاولتُ أنا تعديل وضعية تمددي على السرير الذي اكتشفتُ للتو إني جالسٌ عليه!!

    نظرتُ من حولي مرة أخرى..
    غرفة مغلقة مليئة بمختلف الأجهزة التي لا أعرف كينونتها ولا الغرض منها، وسريرٌ ذا غطاء أبيض قد تمددت عليه وخزانة صغيرة وُضعت على يميني.

    أما أنا فقد كنت أرتدي لباساً غريباً أخضر اللون، وقد غطى لحافٌ أبيض نصف قدميّ، فيما كانت يدي اليمنى – كصدري- قد مُد إليها إنبوب صغير متصل إلى أحد الأجهزة الغريبة!!

    همستُ لنفسي وأنا أحدق مرعوباً في المكان:
    - أين أنا؟!!..مالذي أفعله هنا؟!!
    وعندها بدأ الصداع يغزوا رأسي!!

    مددتُ يدي اليمنى نحو رأسي كي أخرج الصداع منه، وعندها سمعتُ دوي فرقعة كبيرة أو ما شابه ظننتها في بداية الأمر نتيجة خروج الصداع من رأسي!!

    ولكني اكتشفتُ بسرعة أن مصدر الصوت هو فتح الباب المُغلق بقوة، وما إن أحلت ناظري إلى هناك حتى رأيت فتاتين تلبسان لباساً أبيض بالكامل تتقدمان نحوي بسرعة وقد بدا الإهتمامُ على وجهيهما، وما إن وصلتا عندي حتى تحركت إحداهما نحو جهازٍ ما وراحت تعبث بأزراره فيما جاءت الأخرى نحوي ومدت يدها نحو يدي اليمنى لتتحسس شيئاً ما وهي تسأل:
    - كيف تشعر الآن؟
    كُنت أحدق في وجهها بغرابة وأنا أسأل نفسي : "من تكون هذه الفتاة؟"، ولذلك فقد تأخرت إجابتي بضع ثوان قبل أن أقول:
    - لا أدري..بخير..على ما أعتقد!
    وبعد إنتهائي من نطقي بالإجابة شعرتُ بأن صوتي كان مبحوحاً وفي نفس اللحظة أحسستُ بالعطش الشديد.

    كانت الفتاة مشغولة آنذاك بمعاينة يدي وجس نبضي على الأرجح فاعتقدتُ أنها لم تسمع إجابتي أو لم تأبه لها، التفتُ إلى الفتاة الأخرى التي كانت تعاين الجهاز الذي يصدر منه الصوت فيما يبدو فقد انتبهتُ لتوي أن الصوت المتقطع لم يعد يصدر!

    مرة أخرى انفتح الباب بضجيجٍ مدوي أثاره إحتكاكه بأرضية الغرفة على الأرجح، وحين التفتُ نحوه رأيت هذه المرة رجلاً ملتحياً يضعُ نظارة ويرتدي سترة بيضاء وهو يتقدم نحوي على عجالة قبل أن يسأل الفتاة الواقفة عن يميني:
    - هل وعى؟!
    أجابتهُ بسرعة وهي تناوله ملفاً انتبهتُ للتو أنها كانت تحمله وقالت:
    - نعم، منذ خمس دقائق.

    هل مضت خمس دقائق حقاً؟!
    ثم هززتُ رأسي كأني أبعد هذا التساؤل السخيف عن رأسي، واستبدلته بسؤال آخر ألقيته على الواقف أمامي هذه المرة بدلاً من الإحتفاظ به داخل جمجمتي:
    - أين أنا الآن؟!
    لم يعبأ هو بسؤالي، فقد أجاب وهو ينظر إلى الملف:
    - في المستشفى..

    نظرتُ حولي بسرعة بعد سماعي إجابته، إذاً فهذا يفسر كل شيء..
    البياض في ملابسهم، والأجهزة الغريبة التي أوصلت بعضها إلي، والصداع الشديد الذي أشعر به!

    لم أهنأ باستنتاجي لفترة طويلة، فقد ناول الطبيب الملف للممرضة الواقفة بجنبه ثم مد يده نحو جبيني و وضع كفه عليه لثوان وأبعدها ثم سألني:
    - ما هو اسمك؟!
    حدقتُ فيه ببرهة نتيجة استغرابي للسؤال، ومن ثم هززتُ رأسي بتلقائية كأني أطرد استغرابي ذلك ثم فتحتُ فمي لألقي بالإجابة السهلة:
    - أنا..اسمي..
    ولكن الغريب أن الإسم لم يأت!!
    لم يخرج من بين شفتي!!

    ورغم شعوري بأن إسمي – وبكل تأكيد- قريبٌ من شفتيّ إلا أنني لم أستطع النطق به!!

    وبعد أن هززتُ رأسبي مرة أخرى، ومددتُ يدي إلى جبيني لأعصره محاولاً طرد الصداع الذي يحولني دون ذكر اسمي وأنا أغمض عيني، وبعد ثوان أبعدتُ يدي بشدة وأنا أقول بيأس:
    - لا أعرف..!!
    __________________
    رددوا معي... سبحان الله والحمدلله ولا اله الا الله والله أكبر

  • #2
    لي رجعه
    بس الظاهر الموضوع مكانه بالقسم العام


    تسلموو

    تعليق


    • #3

      (2)


      مضت على الموقف السابق وعدم تذكري لاسمي أو من أكون ما يقارب الساعة، وقد قضاها الطبيب والممرضتان المصاحبتان له في فحص جسدي وجس نبضي وإزالة بعض اللفائف التي كانت تغطي جسدي ورأسي واستبدالها بأخرى جديدة أو إزالتها تماماً كما أزالوا أسلاك جس النبض الموصولة إلى صدري وأنابيب التغذية، واكتفوا بإعطائي حبوباً ما وكوب ماء بعد أن شدد الطبيب على عدم إعطائي أي غذاء خلال الفترة البسيطة القادمة خوفاً من أمرٍ ما لم أعرفه.

      أما أنا فلم أكن مهتماً بكل ذلك، بل كنت أسرحُ في عالمٍ بعيد في رأسي وأنا أحاول أن أتذكر اسمي..لقد كان الوضع غريباً بالطبع!!

      لم أعد أشعر بذلك الصداع الشديد بل حل محله شعورٌ لا أعرف وصفه، ولكنني أعتقد أنه يمكن تشبيهه كسحابٍ أو ضباب يحيط برأسي ويمنعني من تذكر اسمي أو أي شيءٍ يتعلق بي!!

      ولقد كان ضباباً غير مؤلم في الحقيقة!!

      بعد أن شعرتُ بالتعب من محاولة التذكر وبأن الصداع بدأ يعود إلي بعد هذا التفكير المرهق التفتُ نحو الدكتور وسألته بصوتٍ واهن:
      - لماذا لا أستطيع تذكر أي شيء؟!!
      هذه المرة لم يتجاهل سؤالي أو يجيب عليه وهو يقرأُ شيئاً ما بل التفت إلي وتقدم نحوي قليلاً ليقول بابتسامة مطمئنة:
      - لا تقلق بنيّ، إن الأمر لا يعدوا على الأرجح كونه صدمة ما بعد الحادث!!
      ثم أضاف وهو يهز رأسه قليلاً دلالةً على تأكده مما يقول:
      - ستستعيدُ ذاكرتك بعدما تأخذ قسط من الراحة.
      ثم ابتعد قبل أن يخرج من الغرفة.

      لم تنتهي تساؤلاتي عند هذا الحد فقط، وهذه المرة لم أرد أن أحتفظ بها لنفسي بل سألتُ الممرضة المتبقية هناك:
      - كيف وصلتُ إلى المستشفى؟
      أجابت باقتضاب:
      - حادث سيارة.
      لم تكفني إجابتها السريعة فالفضول يكاد أن يسبق الصداع في تفجير رأسي ولذلك قلت لها باستغراب:
      - حادث سيارة!!
      وعندما صمتت هي في حركة تُبين عدم استيعابها لحاجتي إلى المزيد من التفاصيل سألتها:
      - كيف حدث ذلك؟ وأين؟
      بعد هذا السؤال تركت ما بيديها من عمل واقتربت مني قبل أن تقول:
      - لقد تم العثور عليك على بعد عدة أمتار من سيارة احترقت بشكلٍ شبه كامل بعدما اصطدمت بعمود إنارة في الطريق الجنوبي السريع ، ولقد تم نقلك إلى هنا بمستشفى العاصمة المركزي نظراً لسوء حالتك، ولقد كدت..
      قاطعتها سائلاً:
      - متى حدث كل هذا؟!!
      - خمسة أيام.
      - خمسة أيام كاملة؟!!
      - نعم.

      نمت عنها حركة تدل على نيتها بالإبتعاد، ولكني لم أتركها بل سألتها مرة أخرى:
      - لم يزرني أي أحد؟
      - كلا
      - ألم يتم إبلاغ أهلي؟
      بعد هذا السؤال ظهر بعض التوتر على وجه الممرضة أو ربما كان ذلك لعدم معرفتها بالإجابة قبل أن تقول:
      - كلا..في الحقيقة نحن لا نعرف أي شيء عنك!!
      سألتها بعصبية هذه المرة:
      - وكيف لم يتم التعرف عليّ؟ ماذا عن أرقام السيارة؟
      ألقت بمفاجئتها الأخيرة قبل أن تبتعد:
      - لم تكن هناك لوحة أرقام في سيارتك، وبصماتك تم أخذها دون فائدة..هذا هو كلام الشرطة!!
      ثم خرجت هي الأخرى.

      تركتني الممرضة مدهوشاً بفمٍ مفتوح وأنا لم أستوعب ما قالته بعد!!

      سيارة بدون لوحة أرقام وبصمات غير موجودة!!

      ما هذا؟!!
      هل هي مزحة سخيفة؟ أم هو فلم من نوعٍ ما؟!!

      "يا ليتني لم أسأل الممرضة تلك الأسئلة!!"
      هكذا كان تفكيري لثانية أو تزيد!!

      ثم عدت مرة أخرى لتساؤلي القديم:
      "من هو أنا؟!!.."
      __________________
      رددوا معي... سبحان الله والحمدلله ولا اله الا الله والله أكبر

      تعليق


      • #4
        (3)
        بعد مُضي أكثر من ثلاثة أيام على إستعادتي الوعي بدأتُ أشعر بأن جسمي قد استعاد الكثير من عافيته، ففي الحقيقة فأنا كُنت أستطيع المشي بسهولة ولم يكن يعقني سوى يدي اليسرى التي كانت ملفوفة بشاشٍ أبيض، وكذلك كان رأسي ملفوف بشاشٍ آخر فكما عرفت من الطبيب "فهد" فقد أُصبت على الأرجح في رأسي عندما اندفعتُ عبر زجاج السيارة خارجها واصطدمتُ بالأرض بينما انفجرت السيارة.

        خبرٌ آخر حمله لي اليوم الجديد، فأنا – ورغم محاولاتي العديدة- لم أستطع تذكر أي شيء عن نفسي!!
        ونتيجةً لذلك فلم يكن لي خيار سوى إقناع نفسي بأني فقدت الذاكرة.

        كُنت أنوي أن أسأل الدكتور عن حالتي هذه واستفسر أكثر عن إمكانية استعادة ذاكرتي، ولكن اليوم حمل لي مفاجأة أخرى..
        ففي حدود الساعة العاشرة صباحاً دخل الغرفة الجديدة التي نُقلت إليها بعدما استعدتُ وعيي وألقى السلام عليّ ثم راح يسألني عن حالي وبعد ذلك مد يده اليمنى نحو نظارته الموضوعة أمام عينيه وحركها حركة بسيطة دلت على توتره وقال:
        - هناك من يود رأيتك!!
        استغربتُ لثانية ثم فرحت لثانية أخرى وهممتُ أن أسأله من يكون هذا الذي عرف بوجودي هنا ولكن الطبيب أكمل كلامه قائلاً:
        - إنها الشرطة.
        فتحركتُ فوق سريري بعصبية وسألته بدهشة:
        - وما الذي تريده الشرطة مني؟
        - أنت تسببت في حادثة سير وهذا أمر طبيعي أن تود الشرطة رأيتك.

        لم يطل نقاشنا طويلاً فبعد ثوان دخل ثلاث رجال يرتدون الزي العسكري واقتربوا منا، وفي الحقيقة فأنا لم أخشى رأيتهم بقدر ما كنت قلقاً بشأن ما سيحصل لي.

        ألقى أكبرهم رتبة – كما هو ظاهر من النجوم التي يحملها على كتفه- التحية ومن ثم سألني سؤال عابر عن صحتي قبل أن يلتفت للطبيب "فهد" وهو يقول:
        - هل يمكن أن نستعمل غرفتك من أجل إنهاء الإجراءات؟
        بدا وكأن الدكتور فوجئ بطلبهم ولكنه هز رأسه موافقاً، وبعد ذلك كان عليّ أن أمشي وأتبع الأربعة وأنا أتساؤل عن سبب عدم (إنهاء الإجراءات) في الغرفة التي كنا بها؟
        هل يكون السبب هو عدم رغبة الشرطة في أن يطّلع المرضى الذين يشاركوني الغرفة الضخمة التي نُقلت إليها بالأمس خفايا التحقيق؟!
        هل سيحدث تعذيب أو ضغط من نوعٍ ما عليّ؟

        وانتهت تلك الأسئلة بسرعة!!
        فقد وصلنا لغرفة الدكتور في أقل من دقيقة، وبعدها بثوان كنت بمفردي مواجهاً الرجال الأربعة!!
        الشرطي الأكبر رتبة والتي دلت البطاقة التي يحملها أن اسمه "عبد الله" يجلس بمقابلي ولا يفصلني عنه سوى متر أو أقل، وخلفه يقف الشرطيان الآخرين بثبات بينما كان الدكتور يجلس على الجانب الآخر من المكتب.

        بدأ "عبد الله" الإستجواب بتلميحِ ذكي:
        - لم نتعرف على اسمك أيها الأخ الطيب!!
        وفي الحقيقة لو كنت في مزاجٍ آخر لا يغزوني فيه الفضول ولا صداع الرأس لقلت له بسخرية كيف يستجوبُ شخصاً لا يعرف اسمه!!
        ولكن ذلك السببين دفعاني للقول بوهن:
        - لا أذكر اسمي، وفي الحقيقة فأنا لا أذكر أي شيء!!

        ظهر بعضُ الإستغراب في وجهه، ولكنه لم يكن قوياً بحيث يقنعني بأنه يسمع ذلك للمرة الأولى بل على الأرجح فقد سمعه من قبل من الدكتور "فهد"، ولم يخف عليّ ذلك بل قال بصراحة:
        - في الحقيقة فقد أخبرني الدكتور فهد بذلك قبل مجيئي إليك، وقال إنك لم تتذكر اسمك عند استعادتك الوعي قبل أيام..
        ثم عدل من جلسته بحيث قرب من رأسه نحوي وهو يعقد كفيه فوق ركبتيه وأكمل:
        - ولكنه أخبرني أن الحالة في الغالب لا تكون سوى مجرد ردة فعل طبيعية من الجسم نتيجة استعادة الوعي فجأة، أو أنها نتيجة اصطدام رأسك بشيءٍ ما أثناء الحادث، ولذلك فإنه من الطبيعي أن تفقد ذاكرتك لبعض الوقت الذي غالباً لن يتجاوز بضعة أيام.

        منعني الصداع وكثرة الإستفهامات في رأسي من استيعاب مقصده من هذه الجملة الطويلة فقلت ببساطة:
        - ولكني لا أتذكر أي شيء!!
        التفت الشرطي بثقة نحو الدكتور " فهد" وسأله بثقة:
        - دكتور: ما هو رأيك؟
        أجاب الدكتور بعد نحنحة قصيرة وقال بلهجة صادقة خالطها بعض التوتر:
        - في الحقيقة فإنني لم أصادف منذ عملي بالمستشفى قبل 30 عاماً حالة فقدان ذاكرة أبداً.
        سأله الشرطي مرة أخرى:
        - إذن ما هو تفسيرك للأمر؟
        بدا وكأن الطبيب يود التهرب من الأمر ولكنه قال:
        - أعتقد أن الأمر لا يعدو كونه اضطراب عقلي خفيف نتيجة الحادث.
        التفت نحوي الشرطي "عبد الله" وحدق لي بنظرات حادة هذه المرة وهو يقول مُكملاً كلام الطبيب:
        - أو محاولة للتظاهر بالنسيان وعدم التذكر.

        استغرق مني الأمر عدة ثوان قبل أن انتبه لاتهامه المبطن، فقلت بعصبية:
        - ولكن أنا لا أتذكر حقيقةً!!
        فسألني بنفس حدة الصوت:
        - إذن كيف تفسر خلو سيارتك من لوحة للأرقام؟
        قلت له وقد بدأت أفقد أعصابي:
        - ما رأيك أن تبحث في هذا الأمر الشرطة المتخصصة في مثل هذه الأمور؟؟
        - والبصمات؟
        - عدم مطابقتها لأي من البصمات الموجودة معكم تُأكد أنني لستُ من أرباب السوابق!!

        رماني بمفاجأة أخرى:
        - وبماذا تفسر قيادتك المتهورة والسريعة والتي سببت اصطياد لاقطات السرعة لصورة سيارتك أكثر من ست مرات في الطريق السريع؟!
        صمّتُ قبل أن أقول :
        - إن كنت تتذكر جيداً فأنا الذي فقد ذاكرته هنا!!
        ثم أضفت:
        - هل لي أن أعرف ما هو تحليلك للأمر؟ لم تتهمني بالتظاهر بفقدان الذاكرة؟

        أرجع رأسه للخلف وقال بهدوء:
        - لأن مثل هذا الأمر لا يحدث يومياً!!
        ثم أضاف:
        - نحن نشك في أنك تحاول التهرب من شيءٍ ما.

        فتضاعف الصداع في رأسي..
        __________________
        رددوا معي... سبحان الله والحمدلله ولا اله الا الله والله أكبر

        تعليق


        • #5

          (4)


          كانت نظرة شريرة كما تهيأ لي تظهر في وجه "عبد الله" وهو يقول جملته التي سببت الصداع لي، وبدأت تخيلات تغزو رأسي لتخبرني بأنه سوف يأمر باقتيادي للسجن بعد قليل!!

          ولكن "عبد الله" تنهد بحسرة قبل أن يقول:
          - ولكن للأسف لا توجد تشريع يتيح لنا معاقبة من يدعي إنه فقد الذاكرة، ولذلك فلن نوجه لك سوى تهم السرعة المتهورة وتعريض حياة الآخرين للخطر وسوف نطالبك بالطبع بدفع تعويضات عن الأضرار التي سببتها للطريق وربما ستسحب رخصة القيادة عنك لعدة أشهر.

          رغم أن الأمر كان أخف من اتهامي بأني أخفي شيئاً ما، ولكن ذلك لم يمنعني من القول بتذمر:
          - ولكني لا أتذكر أي شيء من ذلك!!
          قال بهدوء حسبته يقصد من خلاله استفزازي:
          - ولكن هذا لا يعني أنك لم تكن مسئولاً عن أفعالك آنذاك!!
          ولم يتح لي فرصة للرد بل أضاف:
          - وبما أنك لا تحمل أي أوراق ثبوتية فقد تم إصدار قرار بعدم مغادرتك المستشفى حتى تتلقى العلاج المناسب ومن ثم تحال للمحاكمة.

          "عدم مغادرة"!!
          "محاكمة"!!
          ألا تبدو هذه الكلمات كبيرة بعض الشيء؟!!
          هممتُ بالصراخ في وجه هذا الغبي الذي يقابل وجهي والذي لا يفهم أي شيء من معاناتي ولكنه قام من مكانه بسرعة وناول ورقة ما للطبيب "فهد" وهو يقول:
          - هذا هو الأمر بالحجز الإجباري في المستشفى، وأنا أسلمه لك باعتبارك الطبيب المسئول عنه وقد تم تسليم نسخة منه لإدارة المستشفى.

          ثم غادر!!
          نعم غادر..
          غادر وكأنه لم يلق عدة هموم فوق رأسي!!
          وكأنه لم يزدني مصيبة فوق مصيبة!!
          يا للصداع اللعين..
          صرختُ بصوت عالي:
          - تباً!! هل أنا في الجحيم حتى أعامل هكذا؟!!
          كُنت أظن أن ذلك الصراخ كان داخل رأسي فقط ولكن الدكتور "فهد" أجابني متهكماً بنبرة سخرية:
          - أنت في الوطن العربي.

          أمسكتُ برأسي بكلتا يدي و وأنزلته نحو حجري وأنا أسأل:
          - وما الذي سيحدث الآن؟
          أجابني وأنا أسمعُ صوت تحريك كرسيه دلالةً على قيامه:
          - الآن أنت بحالة جسدية مقبولة نظراً لأن الرضوض لم تكن قوية سوى بمنطقة الرأس وهو الآن بما يرام بين تلك اللفائف، ولكن يبقى معالجتك والإهتمام بك نفسياً حتى تستعيد ذاكرتك..

          "إذن فهناك أمل"
          هكذا فكرت وأنا ألتزم الصمت..

          أضاف الطبيب بعدها:
          - ولذلك فسوف أحولك للقسم النفسي..
          "جيد جداً..!!"
          سمعته يكمل بسخرية:
          - والذي لا يوجد للأسف..
          رفعتُ رأسي وأنا أنظر إليه مستغرباً، هل سمعي ضعف أم أن هذا الطبيب ينوي السخرية مني؟!!
          حرك يديه بالهواء وكأنه ينفي شيئاً ما أو يطلب مني عدم الإستعجال بينما ينتقل من وراء المكتب نحوي:
          - ولكن لا تقلق فلدينا الدكتور " سالم العراقي" وهو طبيب متخصص في علم النفس، وله رسالة ماجستير في " فقدان الذاكرة" ولذلك فستنتقل إلى جناحه بقسم الأطفال..

          " اللعنة!! إما أن سمعي قد ضعف حقاً وإما أنني في فلمٍ هزلي"
          هكذا فكرت بينما كُنت أراقب الطبيب فارغاً فاهي وهو يتوجه نحو باب الغرفة ليفتحه قبل أن يتوقف أمامه وهو يطلب مني بإشارة من يده الخروج.

          رأى ترددي بينما كنت أقوم من الكرسي ولذلك تطوع فوضح لي جملته الأخيرة:
          - الدكتور سالم لديه أيضاً خبرة بعلم نفس الأطفال ولذلك فمعظم عمله هناك حالياً بانتظار أن يفتح الجناح النفسي الذي ما زال قيد الإنشاء.

          " هذا ليس غريباً على مستشفياتنا!!"
          لا أدري كيف خطرت في بالي هذه الفكرة الساخرة وأنا أتبعُ الطبيب بصمت بين الممرات.

          و وصلنا لجناح الأطفال..
          ولم يكن من الصعب معرفة ذلك فصراخ الأطفال و أصواتهم وهم يلعبون ويدردشون كان يُسمع من مسافة بعيدة، وفي الحقيقة فقد كان من حسن حظي إننا ابتعدنا قليلاً عن الغرف التي يتجمعُ فيها المرضى واتجهنا نحو غرف معزولة بعض الشيء وإلا فإن رأسي كان سينفجر بكل تأكيد!!

          تبعتُ الدكتور "فهد" نحو طبيب كان يراجعُ ملفاً ما وهو واقف بجنب ما يشبه قسم الإستقبال وبجنبه ممرضة جميلة الملامح كانت تسأله عن شيءٍ ما، ولقد تكلم الدكتور "فهد" فور محاذاته الرجل:
          - السلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته.
          التفت الدكتور نحو "فهد" ليحادثه فكان رجلاً في نهاية الأربعينيات على الأرجح وقد ظهر بعضُ الشيب على لحيته الخفيفة بينما كان يضع نظارة طبية، ولقد كان بشوشاً ومرحاً في كلامه ولقد شعرتُ بالإرتياح نحوه رغم أنني لم أستمع للكثير من كلامه.
          وفجأة تقدم نحوي وقال مبتسماً بمرح:
          - مرحباً بك عزيزي المريض 1003 معنا!!
          __________________
          رددوا معي... سبحان الله والحمدلله ولا اله الا الله والله أكبر

          تعليق


          • #6
            (5)
            "لقد أصبحتُ فاقداً للذاكرة بشكلٍ رسمي الآن..يالحظي الرائع!!"
            هكذا فكرت بسخرية وأنا أتبع الدكتور "سالم" نحو الغرفة التي خصصت لي، وعند وصولنا إليها تفاجئت بأن الغرفة مرتبة بشكل رائع وتبدو وكأن أحداً لم يسكنها من فترة، بل كانت تختلف عن باقي غرف المستشفى اختلافاً كبيراً، فهنا لا توجد أجهزة طبية من أي نوع ولا أي إشارة تدل على أنك في المستشفى!!

            خزانة كبيرة، ومرآة متوسطة الحجم على أحد أبوابها، وإناء أزهار صغير على المنضدة بجنب السرير الوردي الفراش!!

            كان إنطباعي الأول عن الغرفة بأنها رائعة، وقد كان أكثر ما أعجبني فيها هو الهدوء الذي يعمها، فعلى الرغم أنها تقع في قسم الأطفال إلا أنني لم أتمكن من سماع أصواتهم وأنا في الغرفة.

            لم يطل الدكتور "سالم" البقاء معي في الغرفة، بل غادر بعد سؤال بسيط إن كانت الغرفة قد أعجبتني و وعدٍ بأنه سيجلس معي لاحقاً.

            كانت تلك فرصة وجب اغتنامها كي أجلس مع نفسي، فتمددتُ على الفراش الوردي ورحت أحدق في السقف وأنا أفكر في الذي يحدث لي الآن : يا ترى ما سببه؟!!

            ولكن معظم تفكيري كان منصباً فيمن أكون..
            كيف كانت هي حياتي قبل الحادث؟
            هل كانت حياة سعيدة أم تعيسة؟
            " لا بد أن تكون حياة تعيسة لأني لا أتذكر أي شيءٍ منها.."
            هكذا تذمرتُ في تفكيري..
            يا ترى كيف هو حال عائلتي الآن؟
            أو هل هناك عائلة لي بالأساس؟
            يا ترى ما الذي خسرته بفقداني الذاكرة؟!!

            بعد التساؤل الأخير حاولتُ الهرب من أفكاري، فليس من الممتع أن تقضي وقتك تسأل نفسك أسئلة لن تستطيع إجابتها!!

            تململت فوق السرير فرأيتُ فوق المنضدة الصغيرة جهاز تسجيل و بجانبه عدة أوراق بيضاء فارغة وقلم وكتاب صغير الحجم، فمددتُ يدي نحو الكتاب ونظرتُ إلى عنوانه فكان رواية بعنوان "الجنية" لمؤلف اسمه غازي القصيبي وقد كانت هناك صورة امرأة تلبسُ ملابس بدت غريبة لي.

            مددتُ يدي نحو المسجل وضغطتُ زر تشغيله بدون أن أتأكد من وجود شريط ما بداخله، ومن ثم بدأتُ بتقليب صفحات الرواية بسرعة بحيث أتوقف بين عدة صفحات لألتقط عدة أسطر ثم أقلب الصفحات مرة أخرى، ومن ثم رحتُ للغلاف الخلفي ورحت أقرأ ملخص الرواية.

            فور إنهائي لقراءة الملخص انتبهتُ إلى أن صوتاً شذياً كان يصدر من المسجل:
            اسمحي لي يا الغرام العف يا الوجه السموح
            إن لزمت الصمت أو حتى لبست الأقنعة
            اعترف لك ما بقى من عالي الهمة سفوح
            انحدر كلي كما طفلٍ تحدر مدمعه
            (محمد عبده)

            ولسببٍ ما في تلك اللحظات شعرتُ بعدم الرغبة لا في القراءة ولا في الإستماع للأغنية فمددتُ للمسجل وأطفأته وأغلقتُ الرواية.

            وبعدها مباشرة شعرتُ برغبة في الخروج من هذه الغرفة، وكأني رحت أراها في لحظة غرفة كئيبة خانقة!!

            لم أعرف ما السبب الذي دفعني للإكتئاب فجأة، ولكني لم أفكر في الأمر كثيراً بل اتجهتُ للخارج..
            وفور خروجي من الغرفة وإغلاقي الباب تجمدتُ مكاني لسببٍ ما، ووقفتُ أنظر للرائح والقادم بصمت وعقلي في مكانٍ آخر..
            لستُ أدري فيم كنتُ أفكر ولكنه لم يكن تفكيراً بكثرة ما كان إحساساً!!

            مشيتُ باتجاهٍ معين دون أن أخطط لشيءٍ ما، فقط كنت أمشي ببطء وأنا اراقب البشر وهم يتصرفون بعفوية..

            " كم هي نعمة أن تعرف من أنت!!"

            وجدتُ نفسي في مقدمة غرفة تجمّع فيها العديد من الأطفال المرضى فوق أسرتهم، ووقفتُ مكاني أراقب براءتهم..
            هناك من تمدد فوق سريره وحده يلعب بلعبة ما أو يحدق في الفراغ، وهناك من يبكي بصوتٍ مسموع ورأسه في حضن أمه، وآخر غرق في محادثة ضاحكة الطفل المجاور له، وتلك جلست تُسرح دميتها التي أحضرها لها والدها باهتمام بينما هو جالسٌ بجنبها يُحدق إليها بعينين دامعتين..
            مشاهد أثرت فيّ بشدة وأنا أشاهدها..

            مشيتُ صامتاً وأنا أحدق في كل موقف بتأثر، والدموع تكادُ أن تفر من عيني..

            وفجأة توقفت بجنب آخر سرير في الغرفة، كانت توجد عليه فتاة صغيرة وحيدة ذا شعرٍ أسود حريريّ و وجهٍ طفولي رائع تنظر نحوي بطفولية مبتسمة بعينين كبيرتين وقد بدا عليها الإهتمام ثم قالت بصوت طفولي وهي تكلمني:
            - خالد..
            فتجمدتُ مكاني وفتحتُ فمي وأنا أنظر إليها بذهول..!!
            __________________
            رددوا معي... سبحان الله والحمدلله ولا اله الا الله والله أكبر

            تعليق


            • #7

              (6)


              كانت تُحادثني أنا..
              نعم أنا..لا شك في ذلك!!
              هذه الفتاة للتو نادتني باسمٍ ما..!!
              نظرتُ إليها دون أن أتحرك من مكاني باستغراب وذهول شديدين جعلا عقلي يكف عن التفكير!!

              رفعت يدها الصغيرة نحوي وقالت مبتسمة:
              - خالد..أنت تشبه أخي خالد!!

              ومع جملتها الأخيرة واصلتُ الوقوف في مكاني، ولكن هذه المرة بدون أي اضطرابات نفسية إن صح التعبير..
              لم أستوعب الأمر تماماً، فبرغم أنني فهمتُ أن ذلك مجرد تشبيه من طفلة بريئة ولكن شعوراً ما جعلني أرتاح بدرجة كبيرة عندما دققتُ النظر في وجهها الجميل.

              اقتربتُ منها بهدوء وأنا أرسم ابتسامة على وجهي بصعوبة، ومسكت يدها الصغيرة الممدودة في الهواء وهممتُ بقول شيءٍ ما ولكني لم أعرف ماذا أقول!!

              اكتفيتُ بالعبث بأصابعها لثوان وأنا أرى وجهها يزدادُ إشراقاً ثم سألتها:
              - كيف حالك؟
              رسمت ابتسامة أوسع هذه المرة على وجهها وقالت بخجل:
              - بخير

              جلستُ بجنبها على كرسي كان هناك ولم أترك يدها بل حملتهما معي ثم سألتها:
              - ما هو اسمك؟
              - أمل
              قبلتُ يدها وأنا ابتسم وقلت:
              - جميلٌ مثلك
              وبعد جملتي هذه تورد خداها خجلاً بسرعة مما زادها جمالاً، وقالت بصوتٍ يكادُ لا يبين:
              - شكراً
              مددتُ يدي الأخرى بعفوية نحو دُبٍ صغير وضع فوق خزانة صغيرة بجنب السرير وحركته قليلاً ثم تركته والتفتُ نحوها وسألتها بابتسامة:
              - كم عمرك يا أمل؟
              لمعت أسنانها اللؤلئية وهي تقول:
              - ستة
              ثم سألتني بطفولية:
              - أنت مريضٌ هنا؟

              حتى قُبيل سؤالها ذاك كُنت قد نسيتُ نفسي معها، ولكنها أعادتني للواقع المؤلم فتركتُ يدها بهدوء وأنا أتذكر ذلك وقلت بدون ابتسامة:
              - نعم
              - ما هو اسمك؟

              " بماذا أُجيبك أيتها الصغيرة؟!!"
              ترددتُ قليلاً قبل أن أقول:
              - لقد صدمتُ رأسي بشدة ولذلك فأنا لا أذكر اسمي.

              ويا للغرابة!!
              لقد انفجرت الصغيرة ضاحكة بشدة لنصف دقيقة قبل أن تقول من بين دموع الضحك:
              - مثل..مثل "توم و جيري"
              لم أعرف ما الذي تقصده ولكني ابتسمتُ لضحكتها وأمسكتُ يدها مرة أخرى ثم قبلتها..

              هممتُ أن أقول شيئاً ما ولكني أحسستُ بجسمٍ ما يقترب مني فالتفتُ للخلف لأرى ممرضة محجبة تقترب بهدوء وهي تحمل عدة أوراق في يديها، وقد توقفت في مكانها فور انتباهها لي وألقت السلام..

              رددتُ السلام بعد تردد وأنا لا أعرف ما الذي أفعله لاحقاً، ثم قلت مبرراً موقفي:
              - أنا..أنا كنت أدردش مع الصغيرة فقط
              اقتربت نحو الصغيرة من الناحية الأخرى للسرير وقالت:
              - لا بأس..
              ثم التفتت للصغيرة وقالت بحنان:
              - كيف هو حالك اليوم أمل؟
              كان من الواضح أن الصغيرة فرحة لرؤية الممرضة، ولذلك قالت مشاكسة:
              - بخير ما دمتي لن تعطيني ذاك الدواء المر
              ضحكت الممرضة ضحكة قصيرة قبل أن تقول:
              - حسناً أيها المشاكسة، لن أعطيك إياه الآن ..سأكتفي بفحص قلبك

              ثم وضعت سماعة طبية فوق أذنيها ومدت يدها بالطرف الآخر نحو قلب الصغيرة وهي تحني رأسها.

              وفي تلك اللحظات كنت أحدق في وجهها الجميل..
              "أين رأيت هذا الوجه من قبل؟!!"

              وعندما أنهت الطبيبة فحصها ورفعت رأسها نظرتُ أنا نحو الصغيرة وسألتها:
              - لماذا أنت في المستشفى؟
              قالت بدون أي ابتسامة:
              - لقد أصبت في حادث سيارة
              ولست أدري أيهما آلمني أكثر:
              طريقة نطقها للجملة، أم تشابه قدرينا؟!!

              حاولتُ أن أخفف منها ولذلك فقد سألتها وأنا أتصنع الطفولية والمرح:
              - وأين هو أخوك خالد الذي يشبهني؟
              هذه المرة لم تجبني بجملة ما بل بدمعة نزلت من عينيها بسرعة وبصمت..
              قالت الممرضة وهي تحدق إلي بعينين غاضبتين وهي تكتب في الأوراق التي تحملها:
              - لقد توفي في نفس الحادث
              ثم أضافت بلهجة حازمة:
              - يجب أن تذهب الآن، سوف أقوم بنقل أمل لغرفة الفحص بالأشعة
              فذهبتُ بصمت..
              وفي غرفتي تمددتُ فوق سريري وأمسكتُ بالأوراق البيضاء والقلم وبدأت أكتب..
              أكتبُ عما جرى لي..
              __________________
              رددوا معي... سبحان الله والحمدلله ولا اله الا الله والله أكبر

              تعليق


              • #8
                (7)
                بعد يومين كُنت في غرفتي متمدداً على سريري وأحدق في السقف كالعادة، ولكن هذه المرة مع علبة دواء في يدي!!
                فهذه الحبوب قد أعطاني إياها "الدكتور سالم" يوم أمس وطلب مني تناولها بمعدل مرتين يومياً،لِمَ؟ لم أتجرأ وأسأله خوفاً من وقع الإجابة عليّ ولم يتطوع هو ويخبرني بالسبب.

                انتشلني من تفكيري الذي لم يكن متعلقاً بشيءٍ ما عدة طرقات خفيفة على الباب فناديتُ وأنا بنفس وضعي السابق:
                - ادخل
                انفتح الباب ليظهر من وراءه الدكتور "سالم" نفسه فانتفضتُ أنا وقمت من مكاني احتراماً له وقلت له بعد أن رددتُ السلام الذي ألقاه:
                - تفضل..ادخل يا دكتور
                ابتسم هو ابتسامة خفيفة وسألني:
                - كيف هو حالك أيها المريض 1003؟

                "ما زال مصراً على مناداتي بذات اللقب"
                تميزتُ غيظاً بداخلي ولكني كتمته وقلت بدون ابتسامة:
                - الحمدُ لله ..بخير
                - هل يمكنني أن أجلس معك للحظات؟
                - بالطبع، تفضل يا دكتور
                ثم أضفت بلهجة ساخرة:
                - اعتبر أن المستشفى مستشفاك..

                لم يعلق على جملتي الأخيرة بل اكتفى بسحب كرسي كان موضوعاً على جنب وجلس عليه بينما جلستُ أنا على السرير وأنا أتساؤل في نفسي في هل أنه عليّ أن أتمدد على السرير أم يمكنني الجلوس؟

                وعلى عكس ما توقعت فلم يسألني الطبيب عما أتذكره بل نظر للمنضدة الصغيرة ثم مدّ يده نحو الأوراق التي كتبتُ عليها مذكراتي مؤخراً وقال:
                - هل يمكنني أن ألقي نظرة عليها؟
                كانت الأوراقُ في يديه بالأساس ولذلك لم أجد بداً من القبول:
                - تفضل..خذ راحتك يا دكتور
                أضاف مبتسماً وهو يبدأ بتصفح الورقة الأولى:
                - هذا من أجل العلاج
                قلت بعفوية:
                - إذن أؤمل أن يستحق الأمر هذه التضحية

                وبعد عبارتي الأخيرة راح يقرأ أوراقي وقد بدا عليه التركيز، فيم رحت أنا أفكر – ويا للغرابة- في جملتي الأخيرة!!
                هل عندما استرجع ذاكرتي سأحمد الله على ذلك؟
                أم أنني سألعنُ حظي؟
                كنت في السابق أضع صورة وردية لحياة ما بعد عودة الذاكرة..
                أبٌ تكاد الفرحة أن تُطيره في الهواء ولكنه يخفي ذلك وراء ملامحه الجادة التي تزينها ابتسامة صغيرة، وأمٌ تأخذني في حضنها والدمعُ لا يكف عن السيلان من مقلتيها، وعدد من الأخوة الصغار يحيطون بي وهم يلقون التعليقات الساخرة على الموقف..
                ومن يدري..
                ربما تكون هناك أيضاً امرأة جميلة تقفُ بعيداً بعض الشيء تغالب دمعها من الفرح وقد بان الخجل والسعادة على وجنتيها الورديتين، فما المانع أن تكون هناك (زوجة) جميلة تنتظرني في حياة ما بعد استعادة الذاكرة وأنا الشابُ الذي يشارف على نهايات العشرينيات حسبما دل الملف الطبي الذي تلصصتُ عليه يوم نهوضي؟

                شعرتُ بالكآبة لسببٍ ما بعد سيل الخواطر ذاك، فهززتُ رأسي لأبعد تلك الأفكار ثم نظرت للدكتور سالم الذي كان قد انتهى تواً من رؤية الأوراق وبعد أن أعادها إلى مكانها قال لي:
                - يبدو أنك لا تحب محمد عبده!!
                تابعتُ عيناه فرأيته ينظر لشريط الأغاني ذاك الذي وضعته سابقاً خارج المسجل وقلت له:
                - نعم، أعتقد أنني لستُ من محبي الإستماع إلى الأغاني ربما!!

                هز رأسه موافقاً دون أن ينبت ببنت شفة ثم نظر من مكانه نحو الخزانة الكبيرة ذا الباب المفتوح وقد ظهرت في داخلها عدد من الإحتياجات التي تكفل المستشفى بتوفيرها لي، ثم التفت نحوي وهم بقول شيءٍ ما عندما دوت عدة طرقات خفيفة على الباب لتقاطعه عن الكلام بينما قلت أنا :
                - تفضل

                وما إن أنهيتُ الكلمة حتى انفتح الباب عن ممرضة جميلة تضعُ نظارتين طبيتين دخلت وهي تحملُ ملفاً ما وألقت السلام وهي تتقدم من الدكتور بينما أنا حملقتُ النظر في ملامحها قبل أن أصاب بالدهشة!!
                إنها تلك الممرضة التي فحصت الصغيرة "أمل" قبل يومين!!

                "إنها أجملُ مع النظارة الطبية.."
                وابتسمتُ..

                رددتُ السلام متأخراً بعض الشيء ثم صمتُ لأسمعها وهي تخبره عن عدد من الحالات الجديدة للأطفال التي وصلت للمستشفى اليوم، وبعد ذلك قال لها الدكتور:
                - حسناً سأهتم بالأمر..
                ثم أضاف بعدما نظر لي نظرة سريعة:
                - سأذهب لرؤية بعض الحالات ثم سنلتقي في مكتبي بعد نصف ساعة، تمام؟
                - تمام

                وخرج الدكتور بعدما ودعني على أمل أن نلتقي بعد ساعتين حيث أخبرني بأننا (سنحاول تذكر بعض الأشياء مع بعض!!).
                وما إن همت الممرضة بالخروج حتى سألتها:
                - كيف هي حال أمل الآن؟
                قالت وهي تفتحُ الباب:
                - بخير
                كُنت قد قمت من مكاني وتبعتها نحو الخارج عندما قلت:
                - أعتذر بشأن ما حصل قبل يومين..لم أكن أعرف بخصوص شقيقها
                قالت وهي تمشي بجانبي دون أن تنظر نحوي:
                - لا بأس
                - هل لي أن أعرف ما هي حالتها الآن؟

                وعلى الأرجح فقد فهمت سؤالي خطئاً فقد توقفت مكانها واستدارت نحوي وهي تضع يديها داخل جيبيها وقالت:
                - أمل تعرضت لحادث سيارة منذ ثلاثة أشهر عندما كان أخوها المرحوم يقود السيارة في وقت متأخر من الليل، ولقد كان الحادثُ شنيعاً أدى لوفاة أخوها على الفور ولولا أنها كانت نائمة في المقعد الخلفي فلربما لاقت المصير ذاته.
                هززتُ رأسي مُتفهماً الأمر فلا أعتقد أن رؤية شقيقك يموت أمامك شيءٌ حسن، ولكن الممرضة واصلت الحديث بنبرة غريبة:
                - ولكن هذا ليس كُل شيء..
                __________________
                رددوا معي... سبحان الله والحمدلله ولا اله الا الله والله أكبر

                تعليق


                • #9
                  (8)
                  نظرتُ إليها مُستفهماً فأكملت:
                  - في الحقيقة فإن والدها مُتزوج من امرأتان، المرأة الأولى هي أم المرحوم خالد والمرأة الأخرى هي أم أمل وقد توفت هذه بعد ولادة ابنتها مباشرة نتيجة مضاعفات العملية، ومن الواضح أنه كانت هناك معارضة شديدة من الزوجة الأولى ضد تواجد أمل في بيتها بعد وفاة أمها، وقد سبب ذلك مشاكل عديدة أدى آخرها إلى قدوم خالد من مدينة أخرى بالليل وحمل أخته الوحيدة من منزل والده بعد شجار معه ومع أمه واتجه بها إلى منزله في مدينة أخرى، وفي الطريق حدث ما حدث..

                  بدت لي قصة حزينة ولكني لم أفهم ما المغزى منها فسألتها:
                  - ومن أين عرفت كل هذا؟
                  تجاهلت سؤالي قائلةً:
                  - لقد وصلت إلينا أمل -رغم نجاتها من الحادث- في حالة جسدية صعبة ولقد كانت تحتاج إلى عملية عاجلة ولقد استدعينا والدها من أجل التوقيع على العملية ولكنه رفض أن يتحمل مسئوليتها بعدما أتى إلى المستشفى وهو في حالة نفسية سيئة نتيجة وفاة ولده البكر، ولقد وافقت إدارة المستشفى على إجراء العملية العاجلة على مسئوليتها القانونية نتيجة تخلي ولي الأمر عن ابنته وبعدما نجحت العملية وشفيت أمل بشكل شبه كامل وجهنا رسالة إلى والدها كي نخبره بحالتها ولكنه رفض أن يتولى مسئوليتها وأعلن تبرأه منها ولم يزرها ولو مرة واحدة في المستشفى ولم يفعل ذلك أحدٌ من أهل أمل فلا أخوال لديها ولا إخوة، والآن يُناقش المستشفى مصير أمل وهناك فرصة كبيرة أن تُحال لإحدى دور الرعاية.

                  بدت لي القصة أكثر حزناً وخصوصاً الجملة الأخيرة منها والتي ستكون بداية لنهاية مأساوية لتلك الوردة التي ذبلت بما يكفي، ولذلك سألت والعصبية بادية على صوتي:
                  - ولكن ألا يمكن للقانون أن يجبر أبوها على رعايتها؟
                  حركت نظارتها قليلاً وهي تجيب:
                  - للأسف، القانون هنا أقر كإجراء إحترازي أنه من الأفضل إبعاد الطفل عن ولي الأمر الذي يقر بعدم أهليته أو رغبته في رعاية الطفل خشية أن يقوم ذلك الولي بإيذاء الطفل إن أُجبر على تحمل مسئوليته، ولكن نص القانون يقول أيضاً أنه ليس من حق الولي المطالبة بحق الرعاية على الطفل في أي سن بعد تخليه عنه ولا بأي حق من حقوقه أو ما شابه.

                  ولست أدري لم خطر في بالي ذلك الشرطي الذي زارني قبل مدة ليحقق معي!!
                  هممتُ بقول شيءٍ ما كتعليق على قصة أمل ولكن الممرضة قالت لي بهدوء:
                  - إن كنت تريد مساعدتها فيمكنك فعل ذلك بالإكثار من زيارتها، فلقد سألت عنك أكثر من مرة في فترة غيابك، ويبدو أنها متعلقة بك.

                  قالت الجملة الأخيرة بابتسامة بيضاء زادت من جمال وجهها فابتسمتُ أنا أيضاً وقلت:
                  - حسناً، سأفعل ذلك فوراً، شكراً لك..

                  وتحركت فوراً من مكاني نحو غرفة الأطفال وكأني أخشى أن تهرب تلك الصغيرة من بين يديّ!!
                  وفكرتُ بحزن بأن شعوري بأنه لديّ أكثر من قاسم مع تلك الصغيرة قد تحقق للأسف، فكلاً منا فقد عائلته بطريقة أو بأخرى.

                  توجهتُ مباشرة نحو سرير "أمل" هذه المرة دون أن أراقب البشر، ولقد رأيتها هُناك جالسة على السرير وهي تحادث دبها الصغير ومن حركة يديها استنتجتُ أنها كانت تنصحه نصيحة ما!!

                  تقدمتُ منها ببطء ثم قلت:
                  - صباح الخير يا حلوتي
                  رفعت رأسها وما إن رأتني حتى ظهرت البهجة على وجهها الصغير وقالت:
                  - صباح النور..أهلاً يا..
                  ثم لم تكمل جملتها بل حكت شعر رأسها بيدها لتقول وقد ظهرت علامات التساؤل على وجهها:
                  - أما زلت لا تذكر إسمك؟

                  ضحكتُ لرؤيتها بهذه الطريقة وقلت وأنا أسحب الكرسي المجاور لسريرها:
                  - كلا، يبدو أن الضربة كانت قوية على رأسي
                  ضحكت هي أيضاً ثم سألتني:
                  - إنها مشكلة، لا أعرف بماذا أناديك!!
                  قلت لها وأنا أداعب خصلات شعرها لأدفعها للخجل:
                  - ما رأيك أن تسميني أنت؟

                  قالت هي بعد تفكير طفولي بسيط:
                  - خالد، سأسميك خالد لأنك تشبه أخي كثيراً، ما رأيك؟

                  تجمدت يدي التي كانت على شعرها لثانية أو تزيد قبل أن أقول محاولاً عدم تغيير صوتي:
                  - حسناً، إنه إسمٌ جميل ولا يمكنني رفضه..

                  " خالد!!..يبدو أن القدر يود التأكيد في كل لحظة أن حكايتي تنتهي بحادث سيارة..!!"
                  __________________
                  رددوا معي... سبحان الله والحمدلله ولا اله الا الله والله أكبر

                  تعليق


                  • #10
                    (9)


                    كُنت جالساً مع الصغيرة عندما أتى الدكتور "سالم" فجأة، وبعد أن سلم وحادث الصغيرة قليلاً قال:
                    - من الجيد أنني وجدتك هنا..حان وقت الذهاب لنحاول إسترجاع بعض ذكرياتك يا 1003
                    كانت الدهشة واضحة على أمل من مناداتي بالرقم (1003) فهي – ولحسن حظها – لم تتعود أن يناديها أحدهم برقمٍ ما، ولذلك فقد اغتنمتها فرصة كي أتخلص من هذا الرمز الذي لاصقني منذ أيام وقلت للدكتور باسماً:
                    - لقد ولت أيام المريض (1003) لقد أسمتني أمل إسماً رائعاً!!
                    مثل الدكتور ببراعة دور المندهش ببراعة وهو يقول:
                    - غير صحيح..!!
                    ثم أضاف وهو يسألنا:
                    - وما هو هذا الإسم؟!!
                    تظاهرتُ بمحاولة التذكر وأنا أضع إصبعيّ الخنصر والبنصر على ذقني وأقول:
                    - إنه إسمٌ رائع..امممممم..ولكن..لستُ متأكداً إني أذكره..هلّا ساعدتني أيتها المشاكسة؟
                    لكزتني أمل بكوعها ضاحكة وهي تقول:
                    - قبل قليل كُنت تقول إنه اسمٌ رائع!!
                    ضحكتُ قليلاً ثم قلت للدكتور:
                    - إنه خالد.

                    كان من الواضح من خلال تعبيرات وجه الدكتور أنه يعرف بحادثة الصغيرة ولكنه لم يعلق بل قال بجدية قبل أن يذهب:
                    - إذن هيا بنا يا أستاذ خالد حتى لا نتأخر..
                    فودعتُ الصغيرة على عجالة ثم تبعته.

                    لم يكن مكتب الدكتور "سالم" كبير الحجم ولكن حسن تنظيمه وترتيبه أظهره على أنه كذلك، ولم أستطع التركيز جيداً في محتويات المكتب وتفاصيله فقد طلب من الدكتور أن أجلس على كرسي بمقابل سبورة صغيرة بينما جلس الدكتور على يمين السبورة فوق كرسيٍ آخر.

                    وبدأ الكلام:
                    - أستاذ خالد: حتى ينجح العلاج يجب أن تكون على دراية بمراحله، في الحقيقة أنت لم تصب بكسرٍ شديد في الجمجمة أو ما شابه يمكن أن يسبب فقدان ذاكرة دائم كما تشير دراساتي، فصحيح أن الضربة كانت قوية ولكنها لم تسبب إصابة دائمة. وهذا يعني أن فرصة إستعادتك لذاكرتك قوية..
                    جعلتني جملته الأخيرة أسرحُ قليلاً بعض الشيء في عالم الخيال لأسأل نفسي متى يحين هذا الوقت قبل أن أعود لأتابع كلامه:
                    - .. وهو يعتمد بشكل كبير على تعاونك معنا، نحن سنساعدك على إستعادة ملامح شخصيتك بهدوء ودون تدخل منا ومن ثم ستجدُ نفسك تدفعك لتذكر ماضيك بسهولة خصوصاً وإن حالفنا الحظ و وجدنا (المفتاح) لذلك..

                    " سأنام إن واصل شرحه هكذا!!"

                    عدل الدكتور من جلسته وقال :
                    - والآن سأسألك أسئلة عامة لا تعتمد على ماضيك..ما هو لونك المفضل؟
                    ورغم أن السؤال بدا سهلاً إلا أنني استغرقتُ ثواني قبل أن أقول:
                    - أعتقد أنه الأحمر
                    وضع علامة ما على ورقة يحملها قبل أن يسأل مرة أخرى:
                    - ما هو الشيء الذي تفضل عمله في وقت فراغك؟
                    - الحديث مع أمل
                    - شيء آخر؟
                    - مراقبة الناس
                    - في الغرفة؟
                    قلت ببعض السخرية:
                    - الكتابة عن ذكرياتي
                    ..
                    واستمرت الجلسة ساعة كاملة تحدثتُ فيها عن نفسي، وفي كل مرة كانت الأسئلة تزدادُ تعقيداً وصعوبة بالنسبة لي لدرجة أنني خرجتُ من المكتب وأنا أشعر بالصداع يغزو رأسي.

                    بعد المشي لدقيقة أو ليزيد في ممرات الجناح – الذي صرت أحفظه جيداً – وجدتُ نفسي أنظر لتلك الممرضة الجميلة التي حادثتها صباح اليوم عندما أخبرتني بقصة أمل المحزنة، ولقد كانت تحادث ثلاث ممرضات أخريات بحديثٍ بعيد عن العمل كما هو يبدو فقد كُن يتضاحكن.

                    كانت المحجبة الوحيدة بينهن ولكن ذلك لم يمنعها أن تكون الأجمل بينهن، وبعد لحظات من التحديق استسخفتُ نفسي فرحت أمشي متوجهاً نحو ممرٍ آخر قبل أن أتوقف لأنظر نحو مشهد طفل يدفع شيخاً عجوزاً قد يكون أبيه فوق كرسي متحرك، ولقد كان التعبُ واضحاً على ملامح الطفل لدرجة أنني هممتُ بالتقدم نحوه لأساعده ولكني سمعتُ صوتاً أنثوياً يقول لي:
                    - لا تحاول، إنه يرفض دوماً أن يساعده أحد في دفع والده فهو يعتبرُ أن ذلك واجبه.
                    التفتُ نحو مصدر الصوت فكانت هي الممرضة نفسها، فقلت لها:
                    - قليلٌ من الناس يفعل ذلك لوالده في عصرنا هذا!!
                    - في المستشفى ترى كثيراً من الأمور مثل هذا لدرجة أنك قد تتعود على مثل هذه المشاهد.
                    كانت تبدو رائعة وهي تقول جملتها الأخيرة بحكمة!!

                    تقدمت عدة خطوات وهي تقول:
                    - هل انتهيت من جلسة الدكتور "سالم" (1003)؟
                    قالتها باسمة فهي على الأرجح كانت – مثلي – تستغرب طريقة الدكتور في العلاج، فقلت لها بدلاً من أن أجيب على السؤال:
                    - لقد أسمتني أمل إسماً آخر بدلاً من هذا الرمز!!
                    نظرت نحوي متسائلة عن الإسم فقلت لها:
                    - خالد
                    بدا التأثر والحزن عليها واضحاً ولكنها قالت بصعوبة:
                    - اسمٌ رائع
                    فقلت لها باسماً وأنا أحاول تخفيف حدة الموقف:
                    - وهل أطلقت عليك أمل أي اسم؟
                    ضحكت هي وقد عرفت مقصدي فقالت:
                    - هند..اسمي هند
                    بدا وقع الإسم غريباً علي ولكني قلت:
                    - اسمٌ رائع أيضاً أخت هند..يبدو أن أمل تحسن إختيار الأسماء!!

                    ضحكت على تعليقي ثم استأذنت وذهبت مبتعدة بسرعة تدل على أن عملاً ما ينتظرها، فيما واصلتُ أنا المشي بهدوء قبل أن أتوقف وأنظر نحو مشهدٍ آخر..
                    كان هناك عدد من الرجال يؤدون صلاة الظهر بخشوع داخل قاعة صغيرة، وقد وقفتُ أنا مكاني ولم أستطع الحراك بل ولم أستطع الشعور بأي شيءٍ أيضاً أو التفكير.
                    وبعد قليل..
                    سرت إرتجافة في أوصالي..
                    وشعرتُ بشعورٍ ما يغمرني..

                    أنا لم أُصّلِ مُنذ زمن..
                    __________________
                    رددوا معي... سبحان الله والحمدلله ولا اله الا الله والله أكبر

                    تعليق


                    • #11
                      (10)
                      بعد إسبوع
                      دخلتُ غرفتي وأقفلتُ الباب بشدة ليدوي بصوتٍ عال بينما اتجهتُ أنا نحو فراشي لأتمدد عليه رافعاً رأسي نحو السقف.
                      لقد مضى إسبوعٌ كامل منذ بدأ العلاج مع الدكتور "سالم" دون أية فائدة!!

                      في كل جلسة كان يلمح إلى ضرورة أن نجد (مفتاحاً) للماضي يساعدني لاسترجاع ذاكرتي، وكأنه بطريقة غير مباشرة يذكرني بأن أحداً لم يسأل عني رغم أن الشرطة نشرت قبل خمسة أيام كاملة صوري في الجرائد المحلية كما نشرت القناة التلفزيونية الرسمية خبراً مقتضباً عني مع بعض الصور في إحدى نشرات الأخبار المسائية ومعها سردٌ مختصر لقصتي بعد الحادث المشئوم الذي أودى بذاكرتي!!
                      لم لا يزورني أحد؟!!
                      هل أنا (مقطوعٌ من شجرة)؟!!
                      ولِمَ لا أشعر بالحنين للعائلة؟
                      فلقد بدأ يهيأ لي بأني بدأت أحب الوضع الذي أنا فيه!!
                      لا عائلة..ولا مسئولية..

                      قطعتُ تفكيري ورجعت أفكر في جلسات العلاج..
                      ما الفائدة منها؟؟
                      فقط مجرد صداع يزداد بعد كل جلسة، وأحلام وكوابيس بعضها عبارة عن حادثة سيارة حمراء اللون كنت أقودها تصطدم بعمود إنارة – ويا للغرابة فعندما رويتُ الكابوس للدكتور قال إن السيارة التي كنت أقودها تحمل نفس المواصفات!!- وكابوس آخر يحكي كيف أن الشرطة أتت لاصطحابي كي ينفذوا حكم الإعدام بي بتهمة أني بعتُ ذاكرتي للشيطان!!

                      تذكرتُ مع مرور الحلم الأخير على خاطري مشهد "أمل" وهي تنفجر ضاحكة مع كل تفصيلٍ أحكيه و الممرضة "هند" تشاركها الضحك..

                      "أمل" و "سالم" و "هند"..
                      حياتي هذه تتمحور حولهم فقط، ضحكات مع الصغيرة وسرحان في عالم الطفولة و محاولات مستعصية للتذكر مع الدكتور و روعة الحديث ببساطة مع الممرضة التي يجذبني نحوها شيءٌ ما.

                      ومرة أخرى انتقل تفكيري نحو "هند" ملاك الرحمة وتذكرت حوارنا بعد إحدى الجلسات مع الدكتور "سالم" حيثُ خرجت غاضباً بسبب الصداع الذي ألم بي فسألتني –بعفوية- عن السبب فقلت لها بغضب:
                      - يبدو أن الدكتور ينوي قتلي بالصداع بعدما يئس من علاجي!!
                      وبدلاً من أن تتفهم موقفي راحت تضحك قبل أن تقول:
                      - طريقة نظيفة للقتل!!
                      ثم أضافت:
                      - إن الدكتور سالم قد أسس إسلوباً فريداً في العلاج يعتمد على إستثارة العقل الباطني..
                      وبما أنني لا أفهم الكثير من المصطلحات الطبية فقد قاطعتها حتى لا تتعمق هي في الحديث الطبي وسألتها بدهشة:
                      - هل قلت بأنه هو من أسس هذا العلاج؟
                      رفعت رأسها من بين الأوراق التي كانت مشغولة بها ونظرت نحوي مبتسمة من وراء نظارتها وقالت:
                      - نعم إنها طريقة تجريبية وهو يعد حولها رسالة دكتوراة.

                      قلدتُ "أمل" عندما تستغباني أو تتظاهر بالغضب مني وضربتُ جبيني بخفة وقلت:
                      - إذن أصبحت فأر تجارب للدكتور..!!.. يا لضياع عمرك يا خالد!!
                      فانفجرت هند ضاحكة بخجل..

                      ومن جديد قادني التفكير بـ"فئران التجارب" إلى الدكتور "سالم" ذلك الرجل الهادئ ذو الروح المرحة، وكيف كان يسلي عني بزياراته المتكررة لغرفتي وهو يلقي بعض التعليقات الساخرة من طريقة ترتيبي للغرفة أو يخبرني ببعض الإبتسامات التي أطلع عليها حديثاً، ولكني لم أكن أنطلقُ في الحوار معه لسببٍ بسيط وهو لأنه يحيل كل حديث أقوله إلى مسألة فقدان الذاكرة وجلسات محاولة إستعادتها!!

                      نظرتُ نحو المنضدة الصغيرة والخزانة المفتوحة الباب دوماً فرأيت جريدة إنجليزية هي عبارة عن جريدة الأمس وقد اشتريتها لقضاء الوقت في شيء مفيد ورأيت موس حلاقة وفوطة جديدة..كلها من أموال الدكتور "سالم" الذي أصر أن آخذها وهو يقول مبتسماً:
                      - لا تقلق ستعيد إليّ المبلغ عندما تستعيد ذاكرتك، وإن لم تستعدها فهي ثمن فشلي!!

                      فابتسمتُ أنا بسخرية وأنا أتذكر جملته تلك..
                      رفعتُ يدي اليسرى بتلقائية ونظرت نحو كفي وأصابعي التي أصابها بعض الإحمرار نتيجة أول عراك في حياتي الجديدة، فقد كنت أمشي في الممر صباح اليوم عندما وقع ناظري على مشهد أحد المرافقين لمريضٍ ما وهو يدفع "هند" للخلف وهو يصرخ في وجهها:
                      - لقد قتلته ..لقد قتلته!!
                      في حين أمسكت هي بمعصم الرجل في محاولة إبعاد يده عنها وهي تقول:
                      - إنه ليس من تأثير الدواء، لقد فقد الوعي نتيجة الإرهاق وفقدانه الكثير من..
                      ولكن الرجل لم يسمح لها بالكلام أكثر فقد دفعها أكثر ومد يده نحو وجهها ناوياً ضربها بكل ما أوتي من قوة.
                      وفي تلك اللحظة لم أفكر في سبب وقوف ممرضي وأطباء المستشفى وهم يراقبون المشهد بصمت دون أن تُحرك أحدهم رجولته فيندفع للدفاع عن تلك الممرضة الضعيفة بل انطلقت بسرعة وأمسكت يد الرجل في الهواء وأنا أبعده دون أن أقول أية كلمة، وما إن التفتُ لأنظر نحو "هند" وأطمأن عليها حتى أحسستُ بلكمة تجتاح وجهي وصراخ البعض يتردد في المكان، وبعد ذلك دار عراك عنيف بيني وبين ذلك الرجل انتهى بإبعاده من المكان وهو يتقيأُ دماً!!

                      وتذكرتُ مشهد "هند" وهي تتقدم نحوي بينما كنت جالساً لتفحص وجهي وأصابع يدي إحدى الممرضات الأجنبيات وقالت لي بصوتٍ هامس:
                      - شكراً..لقد عرضت نفسك للضرب..لم يكن هناك داع!!
                      فرفعتُ رأسي نحوها وقلت لها وأنا أحدق في عينيها اللتان زادتا إتساعاً كما تهيأ لي وقلت بعد ثوان:
                      - لم يحصل سوى الخير..
                      ثم أضفت بسخرية:
                      - ثم أن يديّ كانتا بحاجة لبعض التدريب والحركة

                      لا أدري هل أصبح صوتها طفولياً أم أن سمعي قد تأثر بضربة ما عندما قالت:
                      - لقد كان بضعف حجمك مرتين على الأقل!!

                      " إذن لهذا السبب لم يقترب منه أحد"
                      فكرتُ حينها بسخرية..

                      على فراشي مر عليّ للمرة الألف على الأقل طيفُ تلك الجميلة وهي تقول جملتها بنبرة هامسة وعينيها تتلألئان بالدمع الحبيس فيهما قبل أن تذهب مبتعدة:
                      - شكراً خالد..أنت إنسانٌ طيب!!

                      ومرة أخرى شعرتُ بذلك الشعور يجتاح كياني!!
                      وهرباً من السؤال حول ماهية هذا الشعور أبعدتُ اللحاف من جسدي واتجهتُ خارج الغرفة بلا هدف نحو ممرات المستشفى.
                      وبينما كنت أتجه نحو محل صغيرٍ قاصداً شراء شيءٍ ما خفيف لنتناوله أنا و الصغيرة رأيتُ "هند" من بعيد وهي تتناول شيئاً ما من إحدى الطاولات الصغيرة الموضوعة على جنب الممر وبعد قليل اقترب منها رجل ضخم لم أتبين ملامحه واقترب منها ضاحكاً بما يدل على أنه كان يتحدث معها سابقاً واقترب من أذنها وهمس لها بشيءٍ ما لتضحك وهي تضع يدها على فمها قبل أن تضربه على كتفه بخفة..
                      تجمدتُ مكاني وأنا أراقب هذا المشهد بدهشة، هل من المعقول أن تتصرف بهذا الطريقة مع شخص لا تعرفه؟!!

                      وما إن رفع الرجل رأسه حتى تضاعفت الصدمة..
                      إنه الشرطي "عبد الله"..!!

                      وتهاوت "هند" من مرتبة الملاك الطاهر..
                      __________________
                      رددوا معي... سبحان الله والحمدلله ولا اله الا الله والله أكبر

                      تعليق


                      • #12
                        (11)
                        وقفت مقابل المرآة في دورة المياه الملحقة بغرفتي وأنا أحدق في وجهي الذي تجري عليه قطراتُ المياه التي صببتها عليه قبل قليل.

                        شعرٌ طويل، ولحية غير مهذبة، وشاربٌ بدأ للتو بالتضخم، وعينين واسعتين تحملان من الضياع شيءٌ كثير رغم أن صاحبها لم يصل للثلاثين بعد..
                        "ما الذي ستحبه "هند" في هذا الوجه؟!!"
                        هززتُ رأسي كي أبعد هذا التساؤل من عقلي ولكن بدون فائدة فما زال الأمر عالقاً هناك!!

                        "لم غضبت لرؤية ذلك المشهد ؟!!"
                        " هل أحبها؟!!"
                        ابتسمتُ بسخرية لهذا التساؤل الأخير وتهربتُ منه برشة أخرى من المياه على وجهي قبل أن أخرج إلى الغرفة حيثُ بدأت بمسح وجهي بالفوطة.

                        كيف كان شعوري حينها؟؟
                        لا أعرف!!
                        فيبدو أنني أمتلك موهبة تجميد مشاعري!!

                        وكأن القدر شاء أن يسخر مني أو أن يستهزأ بمشاعري فقبل أن أنهي مسح وجهي سمعتُ عدة طرقات خفيفة على الباب فقلت:
                        - تفضل
                        وثم التفتُ نحو الباب منتظراً رؤية الدكتور "سالم" وهو يدخل حاملاً أوراقه وعلى وجهه تلك الإبتسامة المريحة ليقول كعادته تعليقاً ساخراً حول صعوبة فتح الباب، ولكني عوضاً عن ذلك رأيتُ صاحبة الوجه الجميل وهي تدخل حاملةً ملفاً ما وهي ترسم إبتسامة صغيرة قائلةً:
                        - هل بإمكاني الدخول؟

                        كانت بالداخل بالفعل حينما ألقت بسؤالها ذاك!!
                        " هل بإمكانك الخروج من الغرفة؟!!"
                        ولكني قلت عوضاً عن ذلك:
                        - بالطبع، تفضلي

                        دخلت بهدوء و وقفت في منتصف الغرفة وكما توقعت فقد نظرت – كعادتها- بسرعة نحو مختلف أنحاء الغرفة قبل أن تنظر نحوي وتقول دون أن تفارقها الإبتسامة:
                        - لدي مفاجأة لك اليوم!!

                        امتلأت غيظاً وأنا أستغرب من جرأتها وكيف أنها أتت إلى هنا لتقول لي بأنها تحمل لي مفاجأة سخيفة!!
                        ولكني سرعان ما راجعت نفسي فهي لم ترتكب نحوي شيئاً خاطئاً ولذلك قلت لها:
                        - رائع، ما ينقص هذا اليوم الجميل هو المفاجآت فقط!!

                        ويبدو أنها لم تنتبه لنبرة السخرية في كلامي فقد راحت تنظر إلى أوراقها قبل أن ترفع رأسها نحوي وتقول وهي تبتسم إبتسامة واسعة:
                        - كيف هي يدك الآن؟
                        كان من الواضح أنها كانت تريد إثارة فضولي نحو المفاجأة السخيفة التي لم تثر إهتمامي، ولكني لم أتجاوب معها بل جلست على طرف السرير وقلت ببرود:
                        - بخير

                        مرة أخرى لم تيأس "هند" فقد نظرت للأوراق ثم قالت بنبرة من يلقي بمفاجأة صاعقة وهي ترفع رأسها:
                        - لقد استعدتُ ذاكرتك!!
                        حملقتُ فيها بغباء وأنا أحاول فهم ما الذي تقصده بعبارتها ونطقتُ أثناء ذلك بكلمات متقطعة:
                        - آ..ما الذي..؟!!
                        فانفجرت هي ضاحكة على مشهدي السخيف هذا قبل أن تشير نحوي قائلةً:
                        - ههههه..لقد كنت أمزح معك فقط فذاكرتك ليست معي!!

                        " مزحة سخيفة مثل وجهك يا ذات العينين العسليتين"
                        فكرتُ في ذلك وأنا أجبر نفسي على رسم إبتسامة واسعة سخيفة على وجهي بينما كنت أغلي غيظاً في داخلي.

                        قالت هند بلطف هذه المرة وهي تكتم ضحكتها بينما تناولني الملف الذي تحمله:
                        - بإمكانك الخروج من المستشفى الآن، لقد صدر أمر بإنهاء أمر الحجز المفروض عليك.
                        ورغم أنني انصدمتُ بهذا وأنا أتناول الأوراق إلا أنني تمهلت في الرد على كلامها خشية أن تكون مزحة سخيفة أخرى منها ولكنها أكملت القول بجد:
                        - إنني لا أمزح هذه المرة، لقد استلمتُ هذه الأوراق صباح اليوم

                        "إذا فلهذا كان ذلك الشرطي الحقير هنا"
                        فتحتُ الملف بهدوء و وجدت فيه ما يثبت كلامها وتصفحت بسرعة مجموعة الأوراق التي تتكلم عن قضيتي فيما قالت هند:
                        - نظراً لعدم إمكانية إثبات شيء ضدك ونتيجة للفحوص التي أثبتت فقدانك لذاكرتك فقد أتى القرار بتغريمك فقط ثمن الأضرار العامة التي تسببت بها على أن تسددها في فترة لا تزيد عن ستة أشهر من الآن أو سوف تحال إلى المحاكمة المختصة بمثل هذه الأمور و..
                        قاطعتها سائلاً:
                        - وماذا عن السيارة الخالية من لوحة الأرقام التي كنت أقودها؟

                        هزت كفيها وكأنها لا تعلم الكثير فيما قالت:
                        - لا أدري، يبدو أنهم قرروا تجاهل الأمر أو تأجيل البحث فيه حتى تستعيد ذاكرتك.

                        تذكرتُ حينها مشهد الدكتور "فهد" وهو يقول بنرة ساخرة:
                        - أنت في الوطن العربي!!

                        لا أدري كيف حصل ذلك ولكنني سألتها بجرأة:
                        - هند، من الذي أتى بهذه الأوراق؟!!
                        ويبدو أنها كانت مشغولة بالنظر إلى هاتفها فلم تنتبه لنبرة التحقيق التي لازمت سؤالي فقالت ببساطة:
                        - أخي، إنه يعمل في الشرطة وقد كان المسئول عن حادثتك.

                        رفعت رأسي نحوها وحدقت فيها بذهول وأنا لا أستطيع الكلام بينما كانت هي مشغولة عني بهاتفها..
                        أخوها!!
                        كل هذه العصبية والغضب والتفكير لأني رأيت أخوها يكلمها؟!!
                        ونكستُ برأسي مرة أخرى..

                        قالت هي وهي تمد يديها نحو الأوراق:
                        - حسناً، حان موعد ذهابي فقد انتهى عملي لهذا اليوم..
                        ثم تناولت الأوراق وناولتني ورقتين فيما احتفظت بالباقي وهي تقول:
                        - هذه الأوراق يجب أن تحتفظ بها إدارة المستشفى
                        قُلت بسرعة وأنا أتحرك من مكاني:
                        - حسناً، أعتقد أنني سأرافقك نحو الخارج
                        وفيما اتجهتُ لتناول مجموعة ملابس جاهزة اشتراها لي قبل فترة الدكتور "سالم" قالت "هند" ونبرة التردد واضحة في صوتها :
                        - ولكن ألا تظن أنه من الأفضل أن نخبر الدكتور سالم قبل أن تخرج؟
                        قلت لها مازحاً وأنا أتوجه نحو دورة المياه لاستبدال ملابسي:
                        - بل العكس هو الصحيح، فمن الأفضل أن أستمتع بالخروج الآن حتى يستمتع هو بمنعي لاحقاً!!
                        ودخلتُ دورة المياه على صدى ضحكتها..

                        وفور خروجي وجدتها تنتظرني وعندما كنت أغلق باب غرفتي من الخارج سألتني:
                        - وهل ستعود إلى هنا؟

                        نظرتُ نحوها دون أن تشعر لي وفكرت كيف انقلبت مشاعري وانقلب مزاجي نحوها 180 درجة في ظرف ثوان!!
                        " ما الذي فعلته بي يا هند؟!!"

                        انتبهتُ أنني لم أجب على تساؤلها عندما أحالت نظرها نحوي فقلت:
                        - بالطبع سأعود إلى هنا!!

                        ولم ينطق أحدنا بكلمة بعد ذلك بل غاص كلٌ منا في عالم خياله..

                        وبعدما أصبحنا خارج المستشفى التفتت نحوي وسألتني :
                        - هل تريد من يوصلك إلى مكانٍ ما؟!!
                        من طريقة إلقاؤها السؤال عرفتُ أنها لا تفضل حمل أحد غريب في سيارتها ولكني لم أغضب لذلك بل قلت لها:
                        - لا، شكراً، أود أن أستنشق الهواء العليل، ومن ثم لا أعتقد أنني سأذهب بعيداً من هنا..

                        وجلستُ أراقبها وهي تبتعد..
                        فجأة انتبهتُ لمشهد فتاة شقراء جميلة تقتربُ نحوي وهي تخلع نظارتها الشمسية وقد بان الفرح على وجهها الطفولي، وفي البداية لم أظن أنها قادمة نحوي ولكنها ركضت إليّ وهي تمد ذراعيها قائلةً بصوتٍ عالي:
                        - Oh, my baby ..you are here
                        (آه عزيزي، أنت هنا!!)
                        ويا للدهشة..!!
                        لقد حضنتني فيما وقفتُ أنا مكاني فاغراً فمي!!
                        ومن خلفها رأيتُ "هند" تفتحُ باب سيارتها دون أن تلتفت للخلف وتنطلق مبتعدة..
                        __________________
                        رددوا معي... سبحان الله والحمدلله ولا اله الا الله والله أكبر

                        تعليق


                        • #13
                          (12)
                          وأنا أبعد رأسي عن الشقراء شممتُ عطراً نافذ الرائحة فأغمضتُ عيني بتلقائية لأرى مشهداً غريباً، أو بالأحرى ذكرى قديمة!!
                          كُنت أنا جالساً مرتدياً بذلة رسمية رمادية اللون وبجنبي هذه الشقراء الجميلة وهي ترتدي قميصاً أحمر اللون يزيد من إغراء جسدها في مطعم راقي وقد أطفئت جميع المصابيح في الزاوية التي نحن فيها، ولم يكن هناك من ضوء إلا من خمسة شموع تزين كعكة متوسطة الحجم وضعت في طاولتنا وقد قمت أنا والشقراء بالنفخ على الشموع لإطفائها فيما كنا نمسك بأيدي بعضنا البعض.

                          أعادني للواقع إبتعادُ شعر الشقراء الجميلة عن رأسي..
                          أمسكت الشقراء بيدي بعدما حضنتني وقالت باللغة الإنجليزية بلهجة تحمل الكثير من التغنج والدلع:
                          - ما الذي تفعله هنا عزيزي؟
                          كُنت أحدق في وجهها مدهوشاً مما حدث قبل لحظات ولم أعرف ماذا أقول بل اكتفيت بفتح فمي على الفراغ، ولكن ضغطة من أصابعها على كفي وعينيها الزرقاوتين المتسائلتين دفعاني للقول بتردد باللغة الإنجليزية:
                          - آه..لقد..لقد كُنت مصاباً بالصداع!!
                          لم كذبت؟!!
                          لا أدري!!
                          بل لم أعرف بأي جملة نطقت حتى انتهيت من نطقها!!

                          ارتدت هي من جديد نظارتها الشمسية وتركت يديّ وقالت باسمة:
                          - من الواضح أنه كان صداعاً شديداً لأنك لا تبدو بخير، هل تريد مني أن أوصلك للبيت؟

                          "البيت؟!!"

                          قلت بصوتٍ واهن:
                          - نعم
                          ومشينا بصمت نحو سيارة فاخرة مكشوفة، أو بالأحرى مشيتُ وحدي بصمت فهي لم تصمت بل واصلت الحديث عن أشياء لم أتبينها ولم أهتم بها كالأسواق، والبحر، والجو الحار، وغيرها..
                          ويبدو أنها كانت معتادةً على صمتي فأنا لم أنطق بكلمة واحدة وهي لم تطلب مني التعليق على ما تقوله بل كانت تكتفي بالصمت لفترة بسيطة ثم تواصل الحديث مرةً أخرى، ولقد شعرتُ أنها كانت تحاول جذبي للحديث معها وكأنها كانت تتوقعُ أنني غاضبٌ منها أو ما شابه!!

                          وفي السيارة وبينما كانت هي تهتمُ بالقيادة على أنغام أغنية إنجليزية:
                          I don't care
                          I just wanna to be yours
                          (Ricky Martin)
                          اهتممتُ أنا بالنظر إلى وجهها، فلقد بدا مألوفاً بطريقة غير عادية فأنا متأكد أن هذا الوجه هو لشخص احتل مكانة عزيزة في قلبي ولكني في نفس الوقت لا أستطيع تذكر أي شيء يتعلق به!!
                          فقط أحاسيس بالدفء والفرح والحنان والراحة الغامرة تنتابني!!

                          تكلمت هي فجأة بعد عدة دقائق من القيادة:
                          - لقد وصلنا
                          ولقد كانت تنظر نحوي وهي تقول جملتها تلك فنظرتُ لها للحظات وأنا أشعر بشعورٍ غريب نحوها ثم أحلت رأسي للأمام حيثُ كان هناك منزلٌ ضخم من طابقين وأمامه حديقة منزلية فاخرة وسور ضخم.

                          "هل هذا هو البيت؟!!"

                          كُنا قد وقفنا أمام البوابة الحديدية الضخمة المغلقة ، وبحركة لا شعورية نزلتُ أنا من السيارة ببطء ونظرتُ نظرة مطولة للمنزل بعدما أقفلتُ باب السيارة ولم ألتفت للشقراء التي واصلت الجلوس في السيارة المكشوفة ولكنها قالت بصوتٍ عالي بعد لحظات بنبرة تجمعُ بين الغضب والحزن:
                          - لقد اعتذرتُ منك عما حصل مع مايكل وبينتُ لك أن ذلك حصل بسبب إهمالك لي، فلا يوجد داعي لتعاملني وكأني غير موجودة فأنا لستُ ضعيفة لدرجة أنني غير قادرة على تركك!!

                          التفتُ لها مستغرباً مما تقول ومن تغير مزاجها ورأيتها تنظر إليّ وكأنني تتوقعُ مني جواباً ما ولكني نظرتُ إليها بعينين حائرتين ومشاعر غريبة تجتاحُ كياني!!
                          فلقد أثار غضبي سماعي اسم "مايكل" لسببٍ ما لدرجة أنني شعرتُ أنني احتقرتُ الفتاة، ولكن تفكيري لم يستمر طويلاً فسرعان ما انطلقت هي بسيارتها وهي تلقي بعشرات الكلمات من السباب.

                          " دعي مايكل ينفعك أيتها الحقيرة!!"

                          لم أعبأ بها أكثر من النظر لسيارتها تنطلق مبتعدة لثوان، ثم نظرتُ للمنزل الذي حرك فيّ شعوراً بالراحة ثم تقدمتُ نحو الباب الحديدي وحركتُ القطعة الحديدية التي تغلقه ثم دفعتُه لمسافة بسيطة قبل أن ألِجَ إلى الداخل.

                          وبعدما مشيتُ عدة خطوات داخل الحديقة توقفتُ مكاني ورحت أحدق حولي، شعورٌ غريبٌ كان يسيطر عليّ آنذاك وربما يمكن وصفه بأني شعرتُ بأني (استعدتُ ذاكرتي ولم أستعدها في نفس الوقت)، فأنا كُنت أحيل رأسي فجأة نحو اتجاهٍ ما وكأني أبحثُ عن شيءٍ مُعين لأفاجأ بشيءٍ مميز في ذلك الإتجاه: نافورة، مجسم لأسدين يقفان بشموخ، شجرة أزهار جميلة..

                          " هذا المكان ليس غريباً عليّ!!"
                          واصلتُ المشي بخطوات متثاقلة نحو المنزل وأنا أنظر في مختلف الإتجاهات وقد بدأت أشعر بالألفة!!
                          كم هو رائعٌ ذلك الشعور..!!

                          أخذني شعور الألفة لدرجة أنني لم أنتبه لنفسي إلا وأنا أمام باب المنزل ممسكاً بمقبضه أحاول فتحه!!
                          لم ينفتح الباب فقد كان مغلقاً، ولسببٍ ما فلم أطرق الباب بل تراجعت خطوتين إلى الوراء أحدق فيه بصمت، صمتٌ عن التفكير وصمتٌ عن النطق، ومن ثم رحتُ أنظر حولي قبل أن أركز نظري على عمودٍ رخامي عن يساري ثم تقدمتُ نحوه ببطء ورفعتُ يدي إلى ثقبٍ صغير كان به وهناك لامست أصابعي شيئاً حديدياً..إنه مفتاح الباب!!

                          وقفتُ مكاني للحظات بعدما أدرت المفتاح في الباب لأفتح القفل دون فتح الباب، وقد كاد الجنون أن يصيبني وتساؤلات عدة تدور بعقلي: هل استعدتُ ذاكرتي أم بعد؟ كيف عرفتُ مكان المفتاح؟ لِمَ لا أتذكرُ المنزل؟ لِمَ لم أتذكر الشقراء الجميلة؟ ما الذي يحدثُ لي؟
                          ولكنني هززتُ رأسي مقرراً عدم الإستسلام لهذا الأفكار وفتحتُ الباب وقد قويت عزيمتي بعد تذكري – بطريقة أو بأخرى – لمكان المفتاح.

                          وبعد دخولي المنزل وقفتُ في الصالة الواسعة التي احتوت على أشياء قدرتُ أنها ثمينة من كراسي وأراكي ولوحات فنية وتلفاز ضخم وأمور أخرى لم أطل النظر في إحداها بقدر ما تمعنتُ في المكان الواسع وكأني استغرب من اتساعه!!

                          وفجأة أوقفتُ ناظريّ على لوحة كبيرة مكسورة عُلقت على الجدار أعلى بأمتار بسيطة من خزانة خشبية، ولقد كانت اللوحة عبارة عن صورة رجل خمسينيّ العمر ذو لحية وشاربٍ خفيفين وعينين يتقدان ذكاءً زادتا من جمال الصورة المكسورة الزجاج.

                          تقدمتُ خطوة نحو الصورة ورفعتُ يدي اليمنى لأشير نحوها وأنا أقطب الجبين كردة فعل على الصداع الذي بدأ يغزوني وقلت بحروف متقطعة:
                          - أ..أبي!!
                          ..
                          __________________
                          رددوا معي... سبحان الله والحمدلله ولا اله الا الله والله أكبر

                          تعليق


                          • #14
                            (13)
                            جلستُ جلسة القرفصاء في منتصف الصالة الواسعة وقد ضممتُ ركبتيّ إلى صدري وكأني أحمي نفسي من البرد الذي لا يوجد أصلاً!!

                            لقد استعدتُ ذاكرتي..
                            كُنت أحدق في الفراغ بينما كُنت في عقلي أسترجعُ سيرة حياتي منذ صغري وكأني أريد أن أتأكد من أني لم أنس شيئاً من ماضي حياتي، وفي نفس الوقت كُنت خائفاً من شيءٍ ما وأشعر بالرعشة تسري في جسدي الضعيف، الخوفُ من ماذا؟ لا أدري!!

                            قمتُ من مكاني بعد عدة دقائق من الجلوس واتجهتُ نحو الصورة المعلقة في الجدار، وقبل أن أصل إليها بمسافة بسيطة دستُ بقدمي من غير قصد على بقايا حطام شيءٍ ما فتوقفتُ ورفعتُ قدمي عنه ونظرتُ إلى ما دست عليه فكان بقايا مزهرية، ثم رفعتُ نظري إلى صورة والدي المكسورة وتذكرتُ كيف أنني أمسكتُ بهذه المزهرية وأنا أتفوه بالعشرات من كلمات السباب والكراهية قبل أن أرميها على صورة والدي بكل حقد وعنف.

                            واصلتُ تقدمي نحو الصورة ومددتُ يدي عندما أصبحتُ قريباً منها ولكن ليس لصورة والدي، بل لصورتها هي..
                            تحسستُ بأصابعي صورتها الصغيرة التي كانت موضوعة فوق الخزانة الخشبية وكأني أتمنى لو أتحسسُ وجهها الناعم مرة أخرى ونزلت دمعة من عيني وأنا أدرك أن أمنيتي قد أصبحت مستحيلة.

                            قضيتُ ما يقارب الخمس دقائق وأنا أتحسس الصورة التي التقطتها لها وهي ترتدي لباساً شتوياً وبجنبها رجلٌ ثلجي قد صنعناه مع بعض، ولقد كانت ترفعُ إصبعين من خلف رأس رجل الثلج في إشارة لاستغباؤه..مُشاكسة كعادتها!!

                            أرجعتُ الصورة لمكانها ومشيتُ بهدوء نحو السُلّم المؤدي للدور الثاني ومن ثم اتجهتُ لأول غرفة إلى اليسار وفتحتُ الباب باستخدام مفتاح أخرجته من تحت مزهرية صغيرة وضعت فوق منضدة بجنب الباب..
                            " لقد استعدتُ ذاكرتي حقاً "

                            دخلتُ الغرفة وأغمضتُ عينيّ بسرعة فور دخولي ومن ثم رحت في عقلي أصف الغرفة كما أتذكرها ثم فتحتُ عينيّ وقد كانت الغرفة كما تذكرتها تماماً : مُهملَة، بعيدة كل البعد عن الترتيب، سرير ذو غطاء أبيض ، مجموعة صور تجمعني بها موضوعة بجنب الخزانة الضخمة، مجموعة كتب كلها بالإنجليزية موضوعة في مكتبة خشبية صغيرة.

                            تقدمتُ نحو مجموعة الصور، والتقطتُ صورة معينة بذاتها وأخذتها معي نحو السرير وأنا أنظر إليها، كانت هذه هي آخر صورة لها قبل وفاتها وقد أرسلتها لي بينما كنت بعيداً عنها، كانت قد أرسلتَها إليّ في يوم عيد ميلادها الخامس عشر، وظهرت هي في الصورة مبتسمة وهي ترتدي زياً تقليدياً واسعاً وتلبسُ حجاباً أبيض على رأسها، لتخالفني وتخالف أبيها..

                            وضعتُ الصورة فوق السرير وأنا أتذكرُ ذلك، ومن ثم دفنتُ وجهي بين راحتيّ يديّ وأنا أبكي..نعم أبكي على فراقها وعلى حالة عائلتي.

                            تذكرتُ آخر اتصالٍ لي بها، بل هو قبل الأخير، حيثُ اتصلتُ بها في منتصف الإسبوع كعادتي حيث لا يكون والدها بالمنزل بل مشغولاً بصفقاته وأعماله وبزوجته الأخرى التي تصغره بعشرين عاماً على الأقل، تذكرتُ كيف راحت تحكي لي بفرح أنها قررت ارتداء الحجاب لأنها أصبحت امرأة وأنها بدأت بحفظ القرآن الكريم تلبيةً لنصائح مُدرستها الرائعة في المدرسة الجديدة، وتذكرتُ كيف قالت لي بصوتٍ حزين:
                            - ألن تعود إلى هنا؟ لقد مضى عليك هناك سبع سنوات، هل كلام والدي صحيح؟ لقد قال بأنك لن تعود أبداً..
                            وكالعادة تهربتُ منها ومن أسئلتها وأغلقت الهاتف..

                            هذه الصغيرة لم تكبر لتكون كأبيها أو مثلي، بل أصبحت في صغرها كأمها الراحلة التي لا تتذكرها أبداً.
                            نشأت بعيداً عني أنا الذي هربتُ إلى بريطانيا بحجة الدراسة بعد خلافي الشديد مع والدي نتيجة زواجه مرة أخرى بعد ثمان سنوات من وفاة أمي، ذلك الخلاف لم يكن الوحيد ولكنه هو (الذي قصم ظهر البعير) فأنا لم أرض على ليالي والدي الحمراء ولا على إهماله لي ولشقيقتي الصغرى بعد وفاة والدتي، ولا على مشاريع المجون التي يقيمها بحجة تشجيع السياحة في البلد، وكثيراً ما اعترضتُ على علاقاته الغير شرعية مع فتيات يصغرنه بعقود وأذكر أنه في يوم من الأيام قال لي ساخراً أنه سيجعلها علاقات شرعية كي أرضى، ولقد فعل ذلك بزواجه من تلك الساعية وراء الأموال والتي تصغره بعشرين عاماً.

                            هربتُ إلى (ليدز) بالشمال البريطاني وأنا أقنع نفسي بأني سأكون نفسي وسأكون أفضل من والدي وسأنتزع شقيقتي من براثنه لأجعلها تعيش حياة أفضل معي، ابتسمتُ بسخرية وأنا أتذكر كيف أنني أصبحتُ هناك أسوأ من والدي، ليالي حمراء وعلاقات مع فتيات بالعشرات وسكر وخمرٌ وعربدة، وقد أعجبني الوضع هناك وهروبي من المشاكل مع والدي واختفاء إحساسي بالمسئولية نحو شقيقتي الصغرى إلا من اتصالات متقطعة أو محادثة قصيرة بـ(الماسنجر).

                            آخر لقاؤي بها كان وهي ابنة ثماني سنوات عندما أخذتها معي في فصل الشتاء إلى بريطانيا بسنتي الأولى بها برحلة سريعة حيثُ التقطتُ لها هناك صورتها مع الرجل الثلجي، وبعد تلك الرحلة ساءت العلاقة بيني وبين والدي حيث أخبرني بأنه لن يسمح لي بالعودة للمنزل وأنه تبرأ مني ولن يسمح لي برؤية شقيقتي مرة أخرى، ولولا أنني كنت أمتلك عدداً من المؤسسات والشركات الصغيرة المسجلة باسمي والتي تدر لي دخلاً كبيراً لما استطعت المواصلة في بريطانيا لسبع سنوات متواصلة.

                            تذكرتُ كيف أنني أوهمتُ نفسي بأني مستقرٌ هناك لدرجة أنني أقمتُ علاقة حب مع الشقراء "جوليا" لمدة خمسة سنوات كادت أن تنتهي بالزواج لولا أنني اكتشفتُ أنها تخونني في أحلك الظروف مع من كنت أحسبه أعز أصدقائي، وتذكرتُ كيف أن "جوليا" حاولت الإعتذار إليّ عن تصرفها مع "مايكل" بل وتبعتني إلى هنا رغم رفضي لعلي أسامحها .

                            " يا للماضي التعيس الذي سعيتُ لاستعادته!!"
                            هكذا سخرت من نفسي وأنا أقوم من السرير واتجهتُ إلى إحدى الأدراج وفتحته بغية الحصول على دفتر صغير أكتب فيه ذكرياتي عادةً ولكني تفاجئت بكتيب صغير رسمي وضع عليه شعار الدولة، إنه جوازي!!
                            تمتمتُ لنفسي نتيجة المفاجأة وقلت:
                            - مستحيل..!!
                            ولكني تجاهلتُ الأمر وأخذت الجواز معي واتجهتُ لدرجٍ آخر وتناولتُ منه مفتاح سيارة ثم ركضتُ بسرعة لأخرج من المنزل، قبل أن أتجه نحو حظيرة للسيارات توجد بحديقة المنزل واتجهتُ من فوري للسيارة ذات الدفع الرباعي المتبقية هناك وشغلتها..

                            "يجب أن أزورها..يجب عليّ أن أراها"
                            __________________
                            رددوا معي... سبحان الله والحمدلله ولا اله الا الله والله أكبر

                            تعليق


                            • #15
                              (14)
                              انطلقتُ مبتعداً بسيارتي ذات الدفع الرباعي من المنزل مكتفياً بإغلاق الباب الحديدي بإهمال مُعللاً ذلك بأن لا أحد يسكن قرب المنزل لما يقارب النصف كيلو متر كلها منطقة خاصة مسجلة باسمي ومن النادر أن يتجرأ أحدٌ غريب ويدخلها.

                              كُنت سارحاً أفكر في الماضي كما لم أفكر من قبل، ولقد استغرقتُ في ذلك لدرجة أنني لم أنتبه لصوت الراديو وهو يبث أغنية إنجليزية من خلال التردد المخصص للإذاعة الإنجليزية هنا، وفور انتباهي لذلك أغلقتُ الراديو وكأني أخشى أن تقطع حبل أفكاري!!

                              وقبل أن أعود لذكرياتي عن الماضي انتبهتُ إلى أنني كنت في (الطريق الجنوبي السريع) حيثُ حصل الحادث الذي أودى بذاكرتي لعدة أسابيع، وعندها رحت أتذكر ما حصل قبل ذلك بساعات..
                              كُنت قد وصلتُ للتو إلى منزلي من رحلة طيران استمرت عدة ساعات ولكني لم آخذ قسطاً من الراحة بل اكتفيتُ بالبقاء لأقل من ساعة حطمتُ خلالها صورة والدي من الغضب وأنا ألقي عليه اللوم ما حصل لشقيقتي قبل أن آخذ إحدى سياراتي الرياضية لأتجه إلى حيثُ مثواها الأخير ولكني فوجئت بسيارتين يقطعان عليّ الطريق فور خروجي من المنزل ونزل منها مجموعة من الرجال كانوا يحملون مختلف الأسلحة البيضاء وسرعان ما أحاطوا بي بعدما خرجتُ من السيارة متفاجئاً مما يحصل، ولم يكن من الصعوبة بمكان أن أعرف من خلال حديثهم أن هدفهم خطفي ومطالبة والدي بعد ذلك بالفدية من أجل إطلاق سراحي..

                              " لقد أخطئوا في اختيار ضحيتهم بكل تأكيد.."
                              هكذا فكرتُ وأنا ابتسم بسخرية متذكراً تلك اللحظات بينما مددتُ يدي إلى علبة سجائر موضوعة في الكرسي المجاور لي وأخرجت منه سيجارة وضعتها في فمي بينما واصلتُ التذكر..
                              حينما اقتادني المسلحون بسرعة نحو سيارة حمراء صغيرة استغللتُ أنا ذهاب بعضهم نحو منزلي من أجل نهب ما فيه في حين لم يبق معي سوى ثلاثة أشخاص، ولذلك فلم يكن من الصعب التخلص منهم مع إجادتي لبعض الفنون القتالية ولكني لم أستطع الركض نحو سيارتي فانطلقتُ بدل ذلك نحو سيارتهم الحمراء التي لم يكن بها أحد وفي رأسي هدفين:أن أهرب ممن يطاردوني، وأن أذهب إليها.

                              بحثتُ عن ولاعة لأشعل بها السيجارة المحصورة بين شفتيّ ولكني لم أطل البحث فسرعان ما شعرت بعدم الرغبة بالتدخين الذي يذكرني بالماضي فألقيتُ بالسيجارة إلى الكرسي المجاور..
                              انطلقتُ بالسيارة الحمراء نحو (الطريق الجنوبي السريع) مُستهدفاً تحقيق الهدفين، وفي الحقيقة فلم أتذكر كيف انتهى بي الأمر إلى الحادث الذي أودى بذاكرتي، ولكن من المؤكد أن الخاطفين لم ينجحوا بالنيل مني ولم يعودوا إلى بيتي لسببٍ أو لآخر.

                              والأهم من ذلك أنني حمدتُ ربي لأني كُنت قد نسيت حمل الجواز معي في المرة الماضية وإلا لكان احترق بالسيارة أو أخذه الخاطفون مع سيارتي الأخرى وتأزمت أموري أكثر!!

                              كان الطريقُ قد أصبح أكثر ازدحاماً ولكني لم أشعر بذلك لأني كُنت في عالمٍ آخر، ولم أعد للواقع إلا بطرقات خفيفة على زجاج السيارة فأحلتُ وجهي نحو صاحبها فكان رجلاً عسكرياً مُبتسم الوجه وكأنه يدرك أنني كُنت في عالمٍ آخر.
                              نزلتُ من السيارة بعدما أخذت جوازي وسلمتُ عليه بابتسامة فرد السلام وأشار نحو غرفة صغيرة وهو يطلب مني بلطف إنهاء إجراءاتي بسرعة، فاتجهتُ نحو الغرفة ومن خلال نافذة زجاجية ناولتُ جوازي للموظف الموجود هُناك ليعيده إلي بعد لحظات تحقق فيها من صحة البيانات وختم الجواز وقال:
                              - تفضل يا أخ سالم ، رحلة مُيسرة إن شاء الله
                              تناولتُ جوازي وأنا ابتسم ثم عدت للسيارة دون أن أشكره على حسن تعامله فقد أنستني نشوة سماع اسمي الحقيقي منذ فترة بدت طويلة ذلك.

                              و واصلتُ القيادة لمدة ساعتين متواصلتين وذكرياتي هي الوحيدة التي تسلي عني ..
                              حتى وصلتُ إلى هدفي المنشود : (مقبرة العائلة الخاصة)..
                              كانت المقبرة قد أُنشأت على يد جدي خارج حدود القرية التي عاش فيها طفولته قبل أن يصبح من أثرى أثرياء البلد، وقبل وفاته اشترى هذه الأرض كي يُدفن فيها قريباً من القرية التي عشقها وبعد ذلك أصبحت عادة في عائلتنا أن ندفن موتانا هُنا.

                              بخطوات سريعة تتجاهل المكان انطلقتُ نحو مثواها الأخير، فأنا لا أعشقُ زيارة المقابر..

                              وأخيراً توقفتُ أمام آخر صفٍ من القبور التي وضعت مؤخراً، وببطء تقدمتُ نحو آخر قبرٍ فيه وكأني أخشى على نفسي من الصدمة.

                              ومع خطواتي المتثاقلة نحو قبرها الصغير تذكرتُ آخر اتصالٍ لها بي، وكيف راحت تحكي لي بصوتٍ متشنج من كثرة البكاء كيف أن والدها أتى بزوجته إلى المنزل بعدما كانت تقيم بمنزلٍ آخر وكيف راحت تلك الأخيرة تضربها بقسوة لدرجةِ أنها كسرت يدها الصغيرة..
                              تذكرتُ والدمعة تجري من عينيّ كيف قالت لي بصوتها الناعم:
                              - لم يبق لي شيء أحب الحياة من أجله..أنت لن تعود!!
                              وقبضتُ أصابعي على كفي وأنا أهم بضرب نفسي من الغيظ وأنا أتذكر كيف وعدتها بكل خير من أجل إنهاء المكالمة والعودة إلى كأس الشراب الذي تركته.
                              تذكرتُ كيف أن كبير الخدم في بيت والدي اتصل بي بعد عدة أيام ليخبرني بوفاة شقيقتي نتيجة سقوطها من سلم المنزل وهي تحاول الهرب من زوجة أبيها!!
                              كيف فقدتُ عقلي..
                              كيف صرخت بوجه كل شيء..وكدتُ أجن!!
                              حاولتُ العودة للوطن بأسرع فرصة ولكن لم تكن هناك رحلة طيران جاهزة قبل إسبوع كامل، ولن تكون مباشرة بل لدولة مجاورة كنت أقضي بها الكثير من الوقت ولدي فيها العديدُ من الممتلكات..
                              فكان ألعنُ إسبوعٍ في حياتي..
                              تركتُ كل شيء..واعتزلت الحياة فيه..
                              لتحدث الصدمة الأخرى..الأقل شأناً.."جوليا" و"مايكل"..

                              وأخيراً وصلتُ إليها..
                              وارتجفتُ عندما وقفتُ بجوار قبرها..
                              " شذى طلال سليمان "
                              " 15 عاماً "
                              وبكيت..
                              واعتذرتُ عن عدم زيارتي لها..
                              لأني غبت عنها..
                              حية..وميتة..
                              __________________
                              رددوا معي... سبحان الله والحمدلله ولا اله الا الله والله أكبر

                              تعليق

                              يعمل...
                              X