قَدَرٌ أن يختلف الناس و لا يصلوا إلى اتفاق تام في أي شأن من الشؤون . إنها ظاهرة صحية تنبئ عن حجم الحراك الفكري الذي يسري في أوردة المجتمع . لكن الأهم في هذا الموضوع ألا يصل الاختلاف في الرأي إلى قطيعة وشقاق ، و تعنيف شديد اللهجة من طرف لآخر ..
أضع هذه الأسطر مقدمة لحديث عن النشيد الإسلامي الجديد ، لأن الجديد في النشيد الإسلامي مازال يُنْهِضُ دنيا المحبين لهذا الفن ، وأخشى ألا يقعدها من بعد .. !!
§ تطور الحاجة الفنية ، وحسابات المنافسة :
يحتاج الإنسان حتى يصل إلى نمو كامل على مستوى ( الروح ) و ( الجسد ) أن يمد هذين الجانبين المهمين لحياته بما يَحْفِزُ جوانب الفاعلية الإنسانية فيهما . و إذا صَحَّ لنا أن نُسَمّيَ للجسد حاجاتٍ من مثلِ الحاجة الغذائية و حاجة الملبس وغيرها ؛ فأرجو أن يصح لنا أن نسمي للروح حاجةً فنية بجانب الحاجات الأخرى المتعددة للبنيان الروحي في النفس الإنسانية .
هذه الحاجة الفنية تتطور بمرور الزمن كما تتطور الحاجة الغذائية للجسد . فما كان مفضلا عند الآباء و الأجداد من مأكولات و مشروبات قد لا يحظى بقبول عند الجيل في هذا الزمان . والكلام ذاته يقال عن الحاجة الفنية ؛ فما كان يرضي الذائقة الفنية لأولئك ، لا يستطيع بالضرورة أن يرضي ذائقة هؤلاء .
تأسيسا على هذا يمكن أن نقول ، إن النشيد القديم كان ابناً بارا للظروف التي شكلت وعي متابعيه ، و هو نتاج المنظومة الفكرية التي ترتبط بمستويات ثقافية واجتماعية متعددة عند القائمين عليه ، فمن ثم تجاوب معه الناس الذين وجدوا فيه مُتَنَفَّساً لآمالهم و آلامهم ، وأحسوا بقربه منهم . وإذن ، فقد كان قادرا على استيعاب مشاعر الناس ، وعلى التجاوب مع المستوى المعرفي السائد .
من هنا ، نستطيع القول بأن الإضافات الجديدة التي طرأت على النشيد الحالي كالإيقاعات والمؤثرات الصوتية ، وطبيعة المواضيع والكلمات ، هي صدى التطور الاجتماعي والثقافي للمسلم المعاصر .
وبعبارة أخرى ، إنه من الضرورة بمكان أن يطور النشيد من أدواته حتى يصل إلى مستوى المنافسة في عالم يحفل بالجديد في كل الميادين . لا يمكن القبول بأن يظل النشيد على المستوى ذاته من الناحية الفنية و الثقافية ، ويرغب في الوقت ذاته أن يكون في مستوى المنافسة مع فنون أخرى لا ترقى بالذوق الإنساني ولكنها تستطيع أن تُغري ، و لا تدفع باتجاه بناء الأخلاق ولكنها تستطيع أن تخدع !
كان النشيد في بداياته معبّرا عن فئةٍ بعينها و مُوَجَّهاً إليها ، فمن ثَمَّ كان منطقيا ومقبولا أن يهتم بهذه الدائرة فقط . أما اليوم فقد تغيرت المعادلة ، إذ استطاع النشيد عبر نضاله المخلص وبنائه المحكم أن يصل إلى قطاع واسع من الناس ، فيه الوَرِع والآخذ بالرُّخَص والذي يأتي في مرتبةٍ ثالثة ، وفيه المثقف و العامي ، وهكذا .. أطيافٌ منوعةٌ تفرض على النشيد أن يتعامل معها بذكاء حتى يحافظ عليها كرصيد مضاف ، ويستطيع أن يمضي معها حتى تترقى في مستوياتها لتصل إلى الكمال المنشود .
§ الغاية لا تبرر الوسيلة :
لا يمكن أن يكون الباب مُشْرَعاً لكل جديد في النشيد . ثَمَّةَ جديدٌ ينسف فكرته الأساس، ويُلقي بظلال من الشك على منطلقه الفكري ، و يهز الثقة في مصداقيته . لا بد أن يتجاوب الجديد مع الإطار العام للنشيد الإسلامي حتى ينفع الناس و لا يكون زبدا يذهب جُفاءً .
يقول كثيرون : إن النشيد يتبع الفنون الفاسدة ، حتى كأنه يريد أن يكون ابنا لها ، أو صورة طبق الأصل منها مع تغيير بعض المسميات ، فمن مؤثرات صوتية مثيرة للريبة ، وإيقاعات صاخبة ، ومواضيع ليست في قوة المواضيع القديمة ، و الكلمات أكثرها غث ، والألحان لا تثير في النفس إلا الطرب ، و كلام كثير من مثل هذا الكلام .
و أقول : إن في هذا الكلام شيئا من الصحة و شيئا من الغلط ! ..
فالصحيح أن النشيد يتتبع الفنون الفاسدة كما يتتبع القانون الجريمة . لا تتطور القوانين وتُحْكَمُ نصوصُها وضوابطُها إلا بعد أن تتطورَ الجرائم و أساليب المجرمين ، حتى تكون سَدّاً منيعا في وجه الجريمة و المحتالين على القانون . و هكذا النشيد ينبغي أن يتطور حتى يستطيع أن يصرف إليه أنظار المفتونين بالفنون الفاسدة ، ويكون الـمُعَبِّرَ الأفضل عن آمالهم و آلامهم . لكن الغلط يحدث حين ينسلخُ من مبادئه ، وتنطمسُ مرجعيتُه ، فيدل على الفن الآخر من حيث أراد أن يعبر عن هويته ، و يسير وَفْقَ معايير الآخر من حيث أراد أن يُمَكِّن نفسه و يُثْبِتَ أصالته !
إن الغاية لا تبرر الوسيلة . لا تُقبلُ الوسيلة إلا إذا اتكأتْ على شرفِ الغاية و طُهْرِها . ليستحضر القائمون على فن النشيد أن الغاية هي الترويح الذي يَشْرَحُ النفس للعبادة، وليَعْرِضوا فَنَّهم أبدا على هذا المحكّ .
§ وضوح المرجعية و المنطلق :
في مقال كتبه الباحث و الصحفي المصري حسام تمام ، ونشر في موقع ( إسلام أون لاين ) تحت عنوان ( نحو خطاب إسلامي إنساني ) بيّن فيه الحاجةَ الملحة لانفتاح الخطاب الإسلامي بما يجعله أكثرَ إنسانيةً وعالمية ، و أن هذا الانفتاح لا بد أن يتم استجابة لشروط الواقع وإكراهاته وانطلاقًا أيضًا من حاجة حقيقية ورغبة داخلية في عدم تضييق ما وسعته رسالة الإسلام ، و أكد على أن الانفتاح ينبغي أن يكون في إطار محدد من وضوح المرجعية و المنطلق ، و الحرص على عدم طمس الهوية من خلال الإحالة الدائمة إلى مرجعيات إنسانية مستقلة بذاتها عن الدين.
وهذا الكلام ينسحب بالضرورة على النشيد باعتباره أحد العناصر المهمة و الفاعلة في الخطاب الدعوي المعاصر ، فلا بد أن ينفتح خطاب النشيد على الدائرة الإنسانية ولكن دون فصلها عن الدين . ينبغي أن نقول بكل وضوح : إن كثيرا من الأناشيد اليوم تطرح مواضيع إنسانية عامة – لاشك أنها تتفق مع مبادئ الدين و توجيهاته – ولكنها لا تحيل المستمع إلى المرجعية الإسلامية ، كما أن الإنشاد في مثل هذه المواضيع مع وجود صخب كثير من الإيقاعات والمؤثرات الصوتية ، يوقع المستمع في إشكال كبير حول هوية ما يستمع إليه ، ويهز ثقته بهذا الفن .
ولتوضيح هذا المعنى ، نضرب مثالا بالمنشد البريطاني سامي يوسف الذي تصدر أعماله بنسخ ثلاث بالموسيقى الكاملة ، و بالإيقاع فقط ، و بدونهما. فلأن المرجعية واضحة جدا في أعماله الفنية، فإننا لا نشعر بأي حرج من الاستماع إلى النسختين الثانيتين. ورغم إصراره على نفي صفة (المنشد) عنه فإنه في قرارة أنفسنا كذلك ، لأن أناشيده كلها طافحة بالمرجعية الإسلامية، فهناك تمجيد صريح لله تعالى و مدائح في الحبيب المصطفى و قضايا يعيشها المسلم ألما و أملا كالأمة والعيد و الأم وغيرها. والأمر بالعكس ، فإن الاستماع لبعض الأناشيد الخليجية – التي قد تخلو في أحيانٍ حتى من الإيقاعات – يجعلك تنظر بشك إليها وإلى من يؤديها، فرغم أن المكتوب على الغلاف منشد ونشيد ، فإن ما يعتمل في النفس هو أن هذا العمل هو ضَرْبٌ من الفنون التي تدعو إلى الترف المحرم .
إن القضية إذن تتجاوز المسميات لتستقر في المضمون . وتتجاوز مضمون الكلمة إلى مضمون المنشد الذي ينبغي أن يكون صادقا في التعبير و حكيما في التدبير . و تتجاوز المنشد و الكلمة إلى مبادئ الإسلام و توجيهاته العامة التي ينبغي أن تتفاعل بصدق و حكمة في صدور المستمعين والقائمين عموما على الفنون و الثقافة .
§ قد نرى الرأي و لكننا لا نعتقده :
لا يسعى هذا المقال إلى إقناع رافضي فكرة الإيقاع و المؤثرات الصوتية في الأناشيد الإسلامية بالاستماع إليها ، بل يسعى إلى بيان الدواعي الموضوعية التي أدت ببعض المنشدين إلى هذا السبيل ، لينطلق منه إلى فكرة أن الإنسان قد يتفهم موقفا أو اتجاها فكريا ويحترم أصحاب الرأي فيه و لكنه يتحفظ عليه ويخالفهم فيما يرون .
بهذا نستطيع أن نتفهم رأي المنشد الذي يصر على الإيقاعات والمؤثرات في أناشيده عندما يبرر رأيه بأنه يستهدف الجمهور الذي لا يتورع عن متابعة الفنون الفاسدة ، و رأي المنشد الذي يصر على أن يظل النشيد كما وُجد ويبقيه بعيدا عن الجديد ليحافظ على جمهوره الأول .
إن التنوع في الطرح الإنشادي ظاهرة صحية . من خلاله تتسعُ قاعدة النشيد ، و يسمعُ به من يُصِمُّونَ الآذانَ عنه مدَّعين أن لا حضورَ له ، و يَكْتُبُ له التاريخُ أنه أحدُ العناصرِ الفاعلة في المشهد الثقافي و الفكري الذي يتفاعل معه غيرُ فئةٍ من فئاتِ المجتمع .
على أنه ينبغي التذكير بما قلناه سلفا من أن وضوح المرجعية و صدق التوجه وحكمة المنهج عناصر مهمة للنجاح الكامل . وهنا ينبغي أن نقول للمنشدين الذين يؤمنون بالجديد في النشيد: إن الإيقاع في منظومة النشيد ينبغي أن يُفهم على أنه المحاولة العفيفة المتطورة لتقديم فن شريف قادر على المنافسة وسط زحمة الفساد الذي يلبس في كل يوم لَبوسا . الدف هو الأساس ، والإيقاع والمؤثرات ينبغي أن يقدما الدف كإيقاع جميل . والإيقاع ينبغي أن يكون المنطقة الوسطى بين الثنائيتين المرفوضتين أبدا : (الإفراط) و (التفريط) .
والله من وراء القصد ،،
أضع هذه الأسطر مقدمة لحديث عن النشيد الإسلامي الجديد ، لأن الجديد في النشيد الإسلامي مازال يُنْهِضُ دنيا المحبين لهذا الفن ، وأخشى ألا يقعدها من بعد .. !!
*******************
يحتاج الإنسان حتى يصل إلى نمو كامل على مستوى ( الروح ) و ( الجسد ) أن يمد هذين الجانبين المهمين لحياته بما يَحْفِزُ جوانب الفاعلية الإنسانية فيهما . و إذا صَحَّ لنا أن نُسَمّيَ للجسد حاجاتٍ من مثلِ الحاجة الغذائية و حاجة الملبس وغيرها ؛ فأرجو أن يصح لنا أن نسمي للروح حاجةً فنية بجانب الحاجات الأخرى المتعددة للبنيان الروحي في النفس الإنسانية .
هذه الحاجة الفنية تتطور بمرور الزمن كما تتطور الحاجة الغذائية للجسد . فما كان مفضلا عند الآباء و الأجداد من مأكولات و مشروبات قد لا يحظى بقبول عند الجيل في هذا الزمان . والكلام ذاته يقال عن الحاجة الفنية ؛ فما كان يرضي الذائقة الفنية لأولئك ، لا يستطيع بالضرورة أن يرضي ذائقة هؤلاء .
تأسيسا على هذا يمكن أن نقول ، إن النشيد القديم كان ابناً بارا للظروف التي شكلت وعي متابعيه ، و هو نتاج المنظومة الفكرية التي ترتبط بمستويات ثقافية واجتماعية متعددة عند القائمين عليه ، فمن ثم تجاوب معه الناس الذين وجدوا فيه مُتَنَفَّساً لآمالهم و آلامهم ، وأحسوا بقربه منهم . وإذن ، فقد كان قادرا على استيعاب مشاعر الناس ، وعلى التجاوب مع المستوى المعرفي السائد .
من هنا ، نستطيع القول بأن الإضافات الجديدة التي طرأت على النشيد الحالي كالإيقاعات والمؤثرات الصوتية ، وطبيعة المواضيع والكلمات ، هي صدى التطور الاجتماعي والثقافي للمسلم المعاصر .
وبعبارة أخرى ، إنه من الضرورة بمكان أن يطور النشيد من أدواته حتى يصل إلى مستوى المنافسة في عالم يحفل بالجديد في كل الميادين . لا يمكن القبول بأن يظل النشيد على المستوى ذاته من الناحية الفنية و الثقافية ، ويرغب في الوقت ذاته أن يكون في مستوى المنافسة مع فنون أخرى لا ترقى بالذوق الإنساني ولكنها تستطيع أن تُغري ، و لا تدفع باتجاه بناء الأخلاق ولكنها تستطيع أن تخدع !
كان النشيد في بداياته معبّرا عن فئةٍ بعينها و مُوَجَّهاً إليها ، فمن ثَمَّ كان منطقيا ومقبولا أن يهتم بهذه الدائرة فقط . أما اليوم فقد تغيرت المعادلة ، إذ استطاع النشيد عبر نضاله المخلص وبنائه المحكم أن يصل إلى قطاع واسع من الناس ، فيه الوَرِع والآخذ بالرُّخَص والذي يأتي في مرتبةٍ ثالثة ، وفيه المثقف و العامي ، وهكذا .. أطيافٌ منوعةٌ تفرض على النشيد أن يتعامل معها بذكاء حتى يحافظ عليها كرصيد مضاف ، ويستطيع أن يمضي معها حتى تترقى في مستوياتها لتصل إلى الكمال المنشود .
§ الغاية لا تبرر الوسيلة :
لا يمكن أن يكون الباب مُشْرَعاً لكل جديد في النشيد . ثَمَّةَ جديدٌ ينسف فكرته الأساس، ويُلقي بظلال من الشك على منطلقه الفكري ، و يهز الثقة في مصداقيته . لا بد أن يتجاوب الجديد مع الإطار العام للنشيد الإسلامي حتى ينفع الناس و لا يكون زبدا يذهب جُفاءً .
يقول كثيرون : إن النشيد يتبع الفنون الفاسدة ، حتى كأنه يريد أن يكون ابنا لها ، أو صورة طبق الأصل منها مع تغيير بعض المسميات ، فمن مؤثرات صوتية مثيرة للريبة ، وإيقاعات صاخبة ، ومواضيع ليست في قوة المواضيع القديمة ، و الكلمات أكثرها غث ، والألحان لا تثير في النفس إلا الطرب ، و كلام كثير من مثل هذا الكلام .
و أقول : إن في هذا الكلام شيئا من الصحة و شيئا من الغلط ! ..
فالصحيح أن النشيد يتتبع الفنون الفاسدة كما يتتبع القانون الجريمة . لا تتطور القوانين وتُحْكَمُ نصوصُها وضوابطُها إلا بعد أن تتطورَ الجرائم و أساليب المجرمين ، حتى تكون سَدّاً منيعا في وجه الجريمة و المحتالين على القانون . و هكذا النشيد ينبغي أن يتطور حتى يستطيع أن يصرف إليه أنظار المفتونين بالفنون الفاسدة ، ويكون الـمُعَبِّرَ الأفضل عن آمالهم و آلامهم . لكن الغلط يحدث حين ينسلخُ من مبادئه ، وتنطمسُ مرجعيتُه ، فيدل على الفن الآخر من حيث أراد أن يعبر عن هويته ، و يسير وَفْقَ معايير الآخر من حيث أراد أن يُمَكِّن نفسه و يُثْبِتَ أصالته !
إن الغاية لا تبرر الوسيلة . لا تُقبلُ الوسيلة إلا إذا اتكأتْ على شرفِ الغاية و طُهْرِها . ليستحضر القائمون على فن النشيد أن الغاية هي الترويح الذي يَشْرَحُ النفس للعبادة، وليَعْرِضوا فَنَّهم أبدا على هذا المحكّ .
§ وضوح المرجعية و المنطلق :
في مقال كتبه الباحث و الصحفي المصري حسام تمام ، ونشر في موقع ( إسلام أون لاين ) تحت عنوان ( نحو خطاب إسلامي إنساني ) بيّن فيه الحاجةَ الملحة لانفتاح الخطاب الإسلامي بما يجعله أكثرَ إنسانيةً وعالمية ، و أن هذا الانفتاح لا بد أن يتم استجابة لشروط الواقع وإكراهاته وانطلاقًا أيضًا من حاجة حقيقية ورغبة داخلية في عدم تضييق ما وسعته رسالة الإسلام ، و أكد على أن الانفتاح ينبغي أن يكون في إطار محدد من وضوح المرجعية و المنطلق ، و الحرص على عدم طمس الهوية من خلال الإحالة الدائمة إلى مرجعيات إنسانية مستقلة بذاتها عن الدين.
وهذا الكلام ينسحب بالضرورة على النشيد باعتباره أحد العناصر المهمة و الفاعلة في الخطاب الدعوي المعاصر ، فلا بد أن ينفتح خطاب النشيد على الدائرة الإنسانية ولكن دون فصلها عن الدين . ينبغي أن نقول بكل وضوح : إن كثيرا من الأناشيد اليوم تطرح مواضيع إنسانية عامة – لاشك أنها تتفق مع مبادئ الدين و توجيهاته – ولكنها لا تحيل المستمع إلى المرجعية الإسلامية ، كما أن الإنشاد في مثل هذه المواضيع مع وجود صخب كثير من الإيقاعات والمؤثرات الصوتية ، يوقع المستمع في إشكال كبير حول هوية ما يستمع إليه ، ويهز ثقته بهذا الفن .
ولتوضيح هذا المعنى ، نضرب مثالا بالمنشد البريطاني سامي يوسف الذي تصدر أعماله بنسخ ثلاث بالموسيقى الكاملة ، و بالإيقاع فقط ، و بدونهما. فلأن المرجعية واضحة جدا في أعماله الفنية، فإننا لا نشعر بأي حرج من الاستماع إلى النسختين الثانيتين. ورغم إصراره على نفي صفة (المنشد) عنه فإنه في قرارة أنفسنا كذلك ، لأن أناشيده كلها طافحة بالمرجعية الإسلامية، فهناك تمجيد صريح لله تعالى و مدائح في الحبيب المصطفى و قضايا يعيشها المسلم ألما و أملا كالأمة والعيد و الأم وغيرها. والأمر بالعكس ، فإن الاستماع لبعض الأناشيد الخليجية – التي قد تخلو في أحيانٍ حتى من الإيقاعات – يجعلك تنظر بشك إليها وإلى من يؤديها، فرغم أن المكتوب على الغلاف منشد ونشيد ، فإن ما يعتمل في النفس هو أن هذا العمل هو ضَرْبٌ من الفنون التي تدعو إلى الترف المحرم .
إن القضية إذن تتجاوز المسميات لتستقر في المضمون . وتتجاوز مضمون الكلمة إلى مضمون المنشد الذي ينبغي أن يكون صادقا في التعبير و حكيما في التدبير . و تتجاوز المنشد و الكلمة إلى مبادئ الإسلام و توجيهاته العامة التي ينبغي أن تتفاعل بصدق و حكمة في صدور المستمعين والقائمين عموما على الفنون و الثقافة .
§ قد نرى الرأي و لكننا لا نعتقده :
لا يسعى هذا المقال إلى إقناع رافضي فكرة الإيقاع و المؤثرات الصوتية في الأناشيد الإسلامية بالاستماع إليها ، بل يسعى إلى بيان الدواعي الموضوعية التي أدت ببعض المنشدين إلى هذا السبيل ، لينطلق منه إلى فكرة أن الإنسان قد يتفهم موقفا أو اتجاها فكريا ويحترم أصحاب الرأي فيه و لكنه يتحفظ عليه ويخالفهم فيما يرون .
بهذا نستطيع أن نتفهم رأي المنشد الذي يصر على الإيقاعات والمؤثرات في أناشيده عندما يبرر رأيه بأنه يستهدف الجمهور الذي لا يتورع عن متابعة الفنون الفاسدة ، و رأي المنشد الذي يصر على أن يظل النشيد كما وُجد ويبقيه بعيدا عن الجديد ليحافظ على جمهوره الأول .
إن التنوع في الطرح الإنشادي ظاهرة صحية . من خلاله تتسعُ قاعدة النشيد ، و يسمعُ به من يُصِمُّونَ الآذانَ عنه مدَّعين أن لا حضورَ له ، و يَكْتُبُ له التاريخُ أنه أحدُ العناصرِ الفاعلة في المشهد الثقافي و الفكري الذي يتفاعل معه غيرُ فئةٍ من فئاتِ المجتمع .
على أنه ينبغي التذكير بما قلناه سلفا من أن وضوح المرجعية و صدق التوجه وحكمة المنهج عناصر مهمة للنجاح الكامل . وهنا ينبغي أن نقول للمنشدين الذين يؤمنون بالجديد في النشيد: إن الإيقاع في منظومة النشيد ينبغي أن يُفهم على أنه المحاولة العفيفة المتطورة لتقديم فن شريف قادر على المنافسة وسط زحمة الفساد الذي يلبس في كل يوم لَبوسا . الدف هو الأساس ، والإيقاع والمؤثرات ينبغي أن يقدما الدف كإيقاع جميل . والإيقاع ينبغي أن يكون المنطقة الوسطى بين الثنائيتين المرفوضتين أبدا : (الإفراط) و (التفريط) .
والله من وراء القصد ،،
تعليق