بقلم: طلعت رميح
مع أن معركة أفغانستان تكاد تكون منسية فى الإعلام مقارنة بما يجرى فى فلسطين والعراق إلا أن الجهاد فى أفغانستان قد دخل هو الآخر مرحلة متقدمة من تحرير أفغانستان.المشاهدات فى الفترة الأخيرة والمتابعة للأحداث، تشيربأن الأوضاع هناك قد تطورت على نحو كبير يمكن معه القول بأن المعركة لتحرير أفغانستان قد دخلت فى مرحلتها الاستراتيجية الثالثة.وقوام المرحلة الثالثة هو أن حركة طالبان قد دخلت فى مرحلة تحرير أجزاء من الأرض الأفغانية أو عدد من الولايات وإقامة سلطة عليها أو بالدقة إقامة حالة ازدواج سلطة فيها مع خوض معارك داخلها -لتشتيت قدرات العدو وإجباره على توزيع قواته - بديلا لمرحلة الاختباء فى مناطق جبلية متفرقة وإقامة خطوط علاقات مع السكان دون انتظام أو بديلا للعمل من خارج المناطق المأهولة بالسكان. وكذا أن حركة طالبان قد توسع نفوذها إلى مناطق متعددة فى داخل أفغانستان وليس فى منطقة واحدة وأنها صعدت عملياتها إلى درجة غير مسبوقة منذ بداية العدوان الأمريكى على أفغانستان وأنها قامت ببناء مؤسساتها الشورية والسياسية والعسكرية التى باتت تتمتع بالحركة العلنية.كانت استراتيجية طالبان فى المرحلة الأولى من الحرب قد اعتمدت استراتيجية القتال لتمكين القيادة من الانسحاب وبما يمنح القدرة على مواصلة القتال من بعد –استراتيجية الانسحاب -ثم هى اعتمدت فى المرحلة التالية خطة انتشار لقواتها وهجماتها دون التركز فى أية منطقة –استراتيجية الانتشار فى مناطق محددة مع الانتشار والحركة فى داخلها -وها هى تدخل المرحلة الثالثة من استراتيجيتها لتحرير الأرض وإسقاط الحكومة العميلة بالسيطرة على الأرض وتحريرها وتنظيم تشكيلاتها وتنظيماتها الشورية والسياسية والعسكرية.
دلالات المرحلة الحالية:
من يتابع المعارك، يلحظ أن أنماط المعارك باتت مختلفة فى أفغانستان حاليا وان الولايات المتحدة باتت ترسل تعزيزات جديدة إلى هناك بسبب تصاعد العمليات العسكرية والقتالية لطالبان ضد القوات الأمريكية وقوات التحالف الأمريكى الأوروبى لاحتلال أفغانستان. وإذا كان اللافت للنظر أكثر من غيره أن طالبان قد تمكنت من نقل مسرح تلك العمليات من جنوب أفغانستان حيث مكان التركز الاستراتيجي السابق الارتكان إليه إلى شمال أفغانستان حيث كانت تتركز قوات تحالف الشمال وفى منطقة معروفة تاريخيا بضعف نفوذ وسيطرة طالبان، فإن هذا التغيير قد ترافق مع تعيين طالبان قائدا عسكريا عاما لها بات قادرا على الحركة العسكرية والإعلامية بل وصل ترتيب عوامل قوة تنظيم الحركة أن عينت الحركة مسئولا عسكريا لولاية فارياب على الحدود الأفغانية مع تركمانستان بالإضافة إلى نائبين آخرين له بهدف تصعيد تلك العمليات ضد قوات الزعيم الأوزبكي الجنرال عبد الرشيد دستم، وان أعلنت عن اسم وزير دفاعها وعن المتحدث الاعلامى باسمها إضافة إلى استمرار وتصعيد عملياتها وضغطها العسكرى على القوات الأمريكية والأوروبية فى جبهة الجنوب التى تتميز تاريخيا بنفوذ سياسى عسكرى كبير للحركة بها، والتى وصلت قوتها فى داخلها حاليا إلى درجة منعت تمدد الحكومة العميلة فيها وحصارها فى نفس النقاط التى تحرسها فيها القوات الأمريكية، وهو ما جعل الأمم المتحدة منذ نحو عامين تجمد نشاطها في النصف الجنوبي من البلاد،بل وصل الأمر إلى استعداد للرحيل الكامل من أفغانستان.
ولقد وصلت قوة حركة طالبان خلال المرحلة الحالية إلى الإعلان –على لسان القائد العسكرى لحركة طالبان فى حديثه للجزيرة القطرية –عن امتلاك أسلحة قادرة على إسقاط الطائرات الأمريكية أكثر تقدما وتعقيدا، الأمر الذي يعني تطوير لأسلحتها وهو الإعلان الذى جاء عقب إسقاط مجاهدى طالبان لطائرة أمريكية وإسقاط طائرة فريق الإنقاذ الذى حضر لإنقاذ أفرادها أيضا.
وقد ترافق مع انتشار وتوسع النشاط العسكرى والسياسى لطالبان استمرار عدم قدرة الحكم المعين أمريكيا من تحقيق الاستقرار لنفسه رغم كل المساعدة والمساندة العسكرية الأمريكية والأوروبية بسبب نشاط طالبان، حيث لم تحصل الحكومة على اى نمط من الشرعية الداخلية كما هى فشلت فى تشكيل جيش موحد، وهى ما تزال تعانى من نفوذ أمراء الحرب السابقين.وقد تمكنت حركة طالبان من التأثير على مدى شرعية الانتخابات الرئاسية على المستوى السياسى والجماهيرى بما مثل ضربة قاتلة إلى مستوى شرعية هذه الانتخابات، وقد بدأت طالبان تحركها ضد الانتخابات الرئاسية بالبيان الذي أصدرته في أواخر شهر نوفمبر 2003 والذي طالبت الأفغانيين فيه بمقاطعة هذه الانتخابات، وهو ما لقى استجابة مباشرة من الشعب الأفغاني خاصة في المناطق الجنوبية.
المرحلة الأولى من المعركة:
فى بداية الهجوم الأمريكي على أفغانستان تحت شعار القضاء على طالبان والقاعدة، وبينما كان الكثيرون يلحون على صمود قوات طالبان والقاعدة فى الدفاع عن المدن، وكذلك بينما كانت الرغبة النفسية الداخلية عند ملايين من أبناء الأمة أن لا ينسحب المجاهدون من المدن، كان العارفون بقواعد واستراتيجيات هذا النوع من الحرب والغيورين على المجاهدين يستعجلون انسحابهم من المدن، فالدفاع عن المدن فى حالة القصف العسكرى الإجرامي بالتكنولوجيا المعاصرة أمر ينجم عنه خسائرا مروعة للقوات وللسكان وبما يعيق من بعد أو يؤخر التحول السريع نحو الهجوم ضد العدو مرة أخرى.لقد كانت آلة الحرب النفسية العدوانية الأمريكية تحض وتهول من القدرة لطالبان والقاعدة على الدفاع عن المدن وكانت تتمنى بقاء المقاتلين فيها حتى تلحق بهم اشد الخسائر وحتى تصاب جماهير الأمة بالإحباط من بعد إذا ما انسحب المجاهدون بعد ذلك من المدن.
كان الأمريكان والأعداء عموما يتمنون لو أخطأ المجاهدون وابقوا قوتهم تحت القصف والحصار من جميع الاتجاهات حتى يستسلموا فى النهاية ويذبحوا.كان الانسحاب من المدن نصرا كبيرا للمجاهدين من طالبان والقاعدة فى تلك المرحلة وكان التأخير فى الانسحاب لأسباب عملية –كما اتضح فيما بعد-منها تأمين القادة وتأمين عملية إنسحاب القوات وتأمين توزيع مخابىء السلاح وفق خطط القتال والجهاد فيما بعد، وللاستعداد لمعركة من نوع جديد بتكتيكات جديدة وتوزيع جديد للقوات ولخطوط الاتصال.
كان الانسحاب من المدن عملية استراتيجية كبرى ومن الطراز الأول وقد ظهر ذلك فى الهجوم الذى شنته قوات طالبان على خطوط الدفاع الأولى للتحالف الشمالى عند بداية المعارك،ولشدة الهجوم وضراوته كانت مفاجأة القوات المعادية مفاجأة ذات وزن استراتيجى عندما توقف القتال فجأة لتجد قوات عصابات تحالف الشمال أن الخطوط القتالية الأمامية خالية تماما من المجاهدين، وأنها ليست بحاجة إلي أن تقاتل لدخول المدن بما أصابهم بحالة من الحيرة والحذر عطلت اندفاعهم واحتلالهم للمدن.كان الأمر مفاجئا أيضا للقوات الأمريكية رغم أنها كانت تقصف كل متحرك فى الهواء أو على الأرض.وبعد عملية الانسحاب كان المفترض فى مثل هذه الحالات أن يحتاج الأمر وقتا أطول حتى تبدأ معارك مجموعات المجاهدين المصغرة –حرب العصابات - أو أن تكون هناك فترة زمنية واسعة للانتقال من الدفاع إلي الهجوم إلي الاستنزاف لكن قادة طالبان والقاعدة أذهلوا الجميع بقدرتهم على التحول من الدفاع إلي الهجوم إلي الاستنزاف وبقدرتهم على تأمين قادتهم وقواتهم العسكرية من الإبادة تحت قصف الطيران، وقد أصبحنا فور إنتهاء عمليات الانسحاب من المدن أمام حرب استنزاف للعدو، حرب استنزاف لا تبدأ من الصفر بل من وضع أفضل مما بدأت به جميع حروب -العصابات -فى العالم من الناحية العسكرية.
المرحلة الثانية:
فى المرحلة الثانية وبعد انتهاء الهجوم الأمريكى وتوابعه –خاصة معركة طورا بورا –فوجئت القوات الأمريكية بان كل استراتيجياتها الحربية وهجماتها وعمليات القصف لابادة كل مظاهر الحياة على الأرض الأفغانية لم تفلح رغم كل ما قتلت إلا فى توريط الجيش الأمريكى فى حرب استنزاف ممتدة، وان هؤلاء المعممين بسيطو المظهر أقوياء القلوب بالإيمان نجحوا فى خطة خداع استراتيجي للقوات الأمريكية التى باتت تعيش وقائع هجمات وحصار خانق. لقد أدرك الأمريكان أن كل ما أنجزوه لم يتعد أنهم نزلوا على الأرض دون احتلالها،إذ اكتشفوا أنهم لا يتواجدون إلا فى مناطق معزولة فى مطارات أو قواعد.
لقد فوجئت القوات الأمريكية حقا بان قوات المجاهدين منتشرة فى كل مكان وأنها هى التى تسيطر على المجتمع وان قادتها بدءوا سياسة متدرجة من البناء السياسى على الأرض مترافقا ومتزامنا مع تطور تدريجى فى العمليات العسكرية التى بدأت بعمليات قصف صاروخى عن بعد ومن قواعد متحركة ومن مناطق متعددة متفرقة تستهدف القواعد الأمريكية بما جعل القوات الأمريكية فى حالة استنفار وتوتر دائم.وكما تقضى العقيدة العسكرية الأمريكية –الاستخدام المفرط للقوة -فقد قامت القوات فى كل مرة تتعرض فيها للهجوم بالرد بعمليات قصف لكل المنطقة التى جرى منها إطلاق الصواريخ مما نتج عنه خسائر واسعة فى صفوف المدنيين وبما ضاعف من النقمة الشعبية عليها حتى باتت هذه القوات لا تخرج من أزمة مع السكان المحليين إلا لتدخل إلي أزمة جديدة، بسبب قصفها وقتلها للسكان المدنيين الأمر الذى جعل حتى الحكومة الانتقالية العميلة تعترض وتهاجم تصرفات القوات الأمريكية وتطلب التنسيق معها قبل القصف.
لقد باتت هذه القوات مرتعشة مرعوبة خائفة تطلق الصواريخ للرد على رصاصات الأفراح التى يتصادف إطلاقها خلال مرور اعتي الطائرات التى لاتراها الرادارات والتى لا تصيبها الصواريخ الخ.لقد أصبحت قوات التحالف الاستعماري لاحتلال أفغانستان بكل ما نزل منها على الأرض الأفغانية محاصرة حتى فى العاصمة وتخشى على وجودها خشية الكافر للموت أن تنتشر فى أية مدينة أخرى بل هى وجدت نفسها تتقلص مساحة سيطرتها رويدا رويدا وأنها معرضة حتى فى العاصمة -التى هى عنوان الاستقرار والتى ركزت القوات الدولية كل جهدها وتواجدها لتأمين وضع الحكومة ومؤسساتها للحكم –إلى عمليات متعددة ومتنوعة نهارا وليلا فى الوقت الذى وجدت نفسها والحكومة العميلة فى مواجهة مع الخلافات والتوترات العرقية فى ظروف بدت عاجزة فيها عن بناء شرطه أو حماية وزراء وقادة الحكومة العميلة.
ولقد وصلت طالبان إلى وضعها الراهن فى المرحلة الحالية عبر استراتيجية بالغة الدقة والذكاء إذ هى أعادت تجميع كل القوى المعادية للوجود الأمريكى فى تحالف يتوسع باضطراد كانت الضربة الكبرى فيه التحالف السياسى والعسكرى مع غلب الدين حكمتيار فى نوفمبر 2002.
كما هى وصلت إلى المرحلة الراهنة بعد أن نجحت فى إعادة تنظيم صفوفها وقدراتها التنظيمية والقتالية وهو ما تجسد فيما أعلن عن إعادة تشكيل الملا عمر -في يونيو 2003 –لمجلس شورى الحركة لتفعيل مهمة طرد القوات الأمريكية من أفغانستان والحكومة الانتقالية الأفغانية بقيادة حامد قرضاي. وقد ضم المجلس وزير دفاع طالبان السابق بالإضافة إلي عدد من القيادات العسكرية السابقة في جيش طالبان. بالإضافة إلى عقد بعض الاجتماعات الموسعة،التى كان أبرزها اجتماع الملا عمر في 17 سبتمبر الماضي مع 50 من قيادات الحركة لمناقشة تسريع وتيرة العمليات العسكرية والقتالية ضد القوات الأمريكية
الاستراتيجية الأفغانية للتحرير:
لإدراك ما يجرى فى أفغانستان، يجب أن نفهم الفارق بين استراتيجية تحرير كلا من فلسطين والعراق.فى فلسطين تقوم استراتيجية التحرير على التفكيك التدريجى لكيان موجود وذو أغلبية يهودية ويسيطر على ارض محددة ومن ثم تطول المعركة.وفى العراق تجرى استراتيجية تحرير العراق استنادا إلى عدم تمكين الاحتلال من شرعية مع عدم تمكينه من الانسحاب إلى قواعد خارج المدن اى جعل العدو يخرج من المدن إلى خارج العراق، لا إلى خارج المناطق السكانية.
وفى أفغانستان يكون تحرير الأرض بالسيطرة عليها فى الأطراف وشن عملية استنزاف واسعة ومستمرة دون السيطرة على المدن أبدا بالنظر إلى الظروف الجغرافية المهيأة للنشاط الجهادى فى الأطراف ولعدم وجود مدن بالمعنى السكانى والجغرافى والمعمارى الموجود فى العراق أو فى فلسطين.ولذلك ستظل استراتيجية طالبان والقاعدة هى إقامة حالة من ازدواج السلطة دون السعى إلى تحرير كامل للمدن، بل العمل على خنق السلطات المحلية واستنزاف القوات الأمريكية والقوات الأوروبية المتحالفة معها. وكذلك القيام بعمليات انتشار قوى المجاهدين وتوثيق علاقاتهم مع السكان المحليين وتكتيكات الهجوم والهرب واصطياد القوات المعادية من حيث لا تتوقع.
إن من يقرا الوضع فى أفغانستان يدرك أن الأعداء فى أزمة استراتيجية مستحكمة..وفى المقابل فان أزمات المجاهدين كلها أزمات تكتيكية يحلها الوقت ومزيد من الجهد والوقت والنشاط..وبينهما تبقى الحكومة الأفغانية العميلة عاجزة ومشلولة أصبحت معلقة فى الهواء..ومحاصرة داخل العاصمة..لا تملك إمكانية بناء جيش..ومن ثم فالأمل لديها والحل هو أن تنتشر القوات الأمريكية والأوروبية على كل الأرض الأفغانية بينما هذه القوات تعرف ما ينتظرها إذا ما هى انتشرت، حيث الوقوع فى المصيدة.
مع أن معركة أفغانستان تكاد تكون منسية فى الإعلام مقارنة بما يجرى فى فلسطين والعراق إلا أن الجهاد فى أفغانستان قد دخل هو الآخر مرحلة متقدمة من تحرير أفغانستان.المشاهدات فى الفترة الأخيرة والمتابعة للأحداث، تشيربأن الأوضاع هناك قد تطورت على نحو كبير يمكن معه القول بأن المعركة لتحرير أفغانستان قد دخلت فى مرحلتها الاستراتيجية الثالثة.وقوام المرحلة الثالثة هو أن حركة طالبان قد دخلت فى مرحلة تحرير أجزاء من الأرض الأفغانية أو عدد من الولايات وإقامة سلطة عليها أو بالدقة إقامة حالة ازدواج سلطة فيها مع خوض معارك داخلها -لتشتيت قدرات العدو وإجباره على توزيع قواته - بديلا لمرحلة الاختباء فى مناطق جبلية متفرقة وإقامة خطوط علاقات مع السكان دون انتظام أو بديلا للعمل من خارج المناطق المأهولة بالسكان. وكذا أن حركة طالبان قد توسع نفوذها إلى مناطق متعددة فى داخل أفغانستان وليس فى منطقة واحدة وأنها صعدت عملياتها إلى درجة غير مسبوقة منذ بداية العدوان الأمريكى على أفغانستان وأنها قامت ببناء مؤسساتها الشورية والسياسية والعسكرية التى باتت تتمتع بالحركة العلنية.كانت استراتيجية طالبان فى المرحلة الأولى من الحرب قد اعتمدت استراتيجية القتال لتمكين القيادة من الانسحاب وبما يمنح القدرة على مواصلة القتال من بعد –استراتيجية الانسحاب -ثم هى اعتمدت فى المرحلة التالية خطة انتشار لقواتها وهجماتها دون التركز فى أية منطقة –استراتيجية الانتشار فى مناطق محددة مع الانتشار والحركة فى داخلها -وها هى تدخل المرحلة الثالثة من استراتيجيتها لتحرير الأرض وإسقاط الحكومة العميلة بالسيطرة على الأرض وتحريرها وتنظيم تشكيلاتها وتنظيماتها الشورية والسياسية والعسكرية.
دلالات المرحلة الحالية:
من يتابع المعارك، يلحظ أن أنماط المعارك باتت مختلفة فى أفغانستان حاليا وان الولايات المتحدة باتت ترسل تعزيزات جديدة إلى هناك بسبب تصاعد العمليات العسكرية والقتالية لطالبان ضد القوات الأمريكية وقوات التحالف الأمريكى الأوروبى لاحتلال أفغانستان. وإذا كان اللافت للنظر أكثر من غيره أن طالبان قد تمكنت من نقل مسرح تلك العمليات من جنوب أفغانستان حيث مكان التركز الاستراتيجي السابق الارتكان إليه إلى شمال أفغانستان حيث كانت تتركز قوات تحالف الشمال وفى منطقة معروفة تاريخيا بضعف نفوذ وسيطرة طالبان، فإن هذا التغيير قد ترافق مع تعيين طالبان قائدا عسكريا عاما لها بات قادرا على الحركة العسكرية والإعلامية بل وصل ترتيب عوامل قوة تنظيم الحركة أن عينت الحركة مسئولا عسكريا لولاية فارياب على الحدود الأفغانية مع تركمانستان بالإضافة إلى نائبين آخرين له بهدف تصعيد تلك العمليات ضد قوات الزعيم الأوزبكي الجنرال عبد الرشيد دستم، وان أعلنت عن اسم وزير دفاعها وعن المتحدث الاعلامى باسمها إضافة إلى استمرار وتصعيد عملياتها وضغطها العسكرى على القوات الأمريكية والأوروبية فى جبهة الجنوب التى تتميز تاريخيا بنفوذ سياسى عسكرى كبير للحركة بها، والتى وصلت قوتها فى داخلها حاليا إلى درجة منعت تمدد الحكومة العميلة فيها وحصارها فى نفس النقاط التى تحرسها فيها القوات الأمريكية، وهو ما جعل الأمم المتحدة منذ نحو عامين تجمد نشاطها في النصف الجنوبي من البلاد،بل وصل الأمر إلى استعداد للرحيل الكامل من أفغانستان.
ولقد وصلت قوة حركة طالبان خلال المرحلة الحالية إلى الإعلان –على لسان القائد العسكرى لحركة طالبان فى حديثه للجزيرة القطرية –عن امتلاك أسلحة قادرة على إسقاط الطائرات الأمريكية أكثر تقدما وتعقيدا، الأمر الذي يعني تطوير لأسلحتها وهو الإعلان الذى جاء عقب إسقاط مجاهدى طالبان لطائرة أمريكية وإسقاط طائرة فريق الإنقاذ الذى حضر لإنقاذ أفرادها أيضا.
وقد ترافق مع انتشار وتوسع النشاط العسكرى والسياسى لطالبان استمرار عدم قدرة الحكم المعين أمريكيا من تحقيق الاستقرار لنفسه رغم كل المساعدة والمساندة العسكرية الأمريكية والأوروبية بسبب نشاط طالبان، حيث لم تحصل الحكومة على اى نمط من الشرعية الداخلية كما هى فشلت فى تشكيل جيش موحد، وهى ما تزال تعانى من نفوذ أمراء الحرب السابقين.وقد تمكنت حركة طالبان من التأثير على مدى شرعية الانتخابات الرئاسية على المستوى السياسى والجماهيرى بما مثل ضربة قاتلة إلى مستوى شرعية هذه الانتخابات، وقد بدأت طالبان تحركها ضد الانتخابات الرئاسية بالبيان الذي أصدرته في أواخر شهر نوفمبر 2003 والذي طالبت الأفغانيين فيه بمقاطعة هذه الانتخابات، وهو ما لقى استجابة مباشرة من الشعب الأفغاني خاصة في المناطق الجنوبية.
المرحلة الأولى من المعركة:
فى بداية الهجوم الأمريكي على أفغانستان تحت شعار القضاء على طالبان والقاعدة، وبينما كان الكثيرون يلحون على صمود قوات طالبان والقاعدة فى الدفاع عن المدن، وكذلك بينما كانت الرغبة النفسية الداخلية عند ملايين من أبناء الأمة أن لا ينسحب المجاهدون من المدن، كان العارفون بقواعد واستراتيجيات هذا النوع من الحرب والغيورين على المجاهدين يستعجلون انسحابهم من المدن، فالدفاع عن المدن فى حالة القصف العسكرى الإجرامي بالتكنولوجيا المعاصرة أمر ينجم عنه خسائرا مروعة للقوات وللسكان وبما يعيق من بعد أو يؤخر التحول السريع نحو الهجوم ضد العدو مرة أخرى.لقد كانت آلة الحرب النفسية العدوانية الأمريكية تحض وتهول من القدرة لطالبان والقاعدة على الدفاع عن المدن وكانت تتمنى بقاء المقاتلين فيها حتى تلحق بهم اشد الخسائر وحتى تصاب جماهير الأمة بالإحباط من بعد إذا ما انسحب المجاهدون بعد ذلك من المدن.
كان الأمريكان والأعداء عموما يتمنون لو أخطأ المجاهدون وابقوا قوتهم تحت القصف والحصار من جميع الاتجاهات حتى يستسلموا فى النهاية ويذبحوا.كان الانسحاب من المدن نصرا كبيرا للمجاهدين من طالبان والقاعدة فى تلك المرحلة وكان التأخير فى الانسحاب لأسباب عملية –كما اتضح فيما بعد-منها تأمين القادة وتأمين عملية إنسحاب القوات وتأمين توزيع مخابىء السلاح وفق خطط القتال والجهاد فيما بعد، وللاستعداد لمعركة من نوع جديد بتكتيكات جديدة وتوزيع جديد للقوات ولخطوط الاتصال.
كان الانسحاب من المدن عملية استراتيجية كبرى ومن الطراز الأول وقد ظهر ذلك فى الهجوم الذى شنته قوات طالبان على خطوط الدفاع الأولى للتحالف الشمالى عند بداية المعارك،ولشدة الهجوم وضراوته كانت مفاجأة القوات المعادية مفاجأة ذات وزن استراتيجى عندما توقف القتال فجأة لتجد قوات عصابات تحالف الشمال أن الخطوط القتالية الأمامية خالية تماما من المجاهدين، وأنها ليست بحاجة إلي أن تقاتل لدخول المدن بما أصابهم بحالة من الحيرة والحذر عطلت اندفاعهم واحتلالهم للمدن.كان الأمر مفاجئا أيضا للقوات الأمريكية رغم أنها كانت تقصف كل متحرك فى الهواء أو على الأرض.وبعد عملية الانسحاب كان المفترض فى مثل هذه الحالات أن يحتاج الأمر وقتا أطول حتى تبدأ معارك مجموعات المجاهدين المصغرة –حرب العصابات - أو أن تكون هناك فترة زمنية واسعة للانتقال من الدفاع إلي الهجوم إلي الاستنزاف لكن قادة طالبان والقاعدة أذهلوا الجميع بقدرتهم على التحول من الدفاع إلي الهجوم إلي الاستنزاف وبقدرتهم على تأمين قادتهم وقواتهم العسكرية من الإبادة تحت قصف الطيران، وقد أصبحنا فور إنتهاء عمليات الانسحاب من المدن أمام حرب استنزاف للعدو، حرب استنزاف لا تبدأ من الصفر بل من وضع أفضل مما بدأت به جميع حروب -العصابات -فى العالم من الناحية العسكرية.
المرحلة الثانية:
فى المرحلة الثانية وبعد انتهاء الهجوم الأمريكى وتوابعه –خاصة معركة طورا بورا –فوجئت القوات الأمريكية بان كل استراتيجياتها الحربية وهجماتها وعمليات القصف لابادة كل مظاهر الحياة على الأرض الأفغانية لم تفلح رغم كل ما قتلت إلا فى توريط الجيش الأمريكى فى حرب استنزاف ممتدة، وان هؤلاء المعممين بسيطو المظهر أقوياء القلوب بالإيمان نجحوا فى خطة خداع استراتيجي للقوات الأمريكية التى باتت تعيش وقائع هجمات وحصار خانق. لقد أدرك الأمريكان أن كل ما أنجزوه لم يتعد أنهم نزلوا على الأرض دون احتلالها،إذ اكتشفوا أنهم لا يتواجدون إلا فى مناطق معزولة فى مطارات أو قواعد.
لقد فوجئت القوات الأمريكية حقا بان قوات المجاهدين منتشرة فى كل مكان وأنها هى التى تسيطر على المجتمع وان قادتها بدءوا سياسة متدرجة من البناء السياسى على الأرض مترافقا ومتزامنا مع تطور تدريجى فى العمليات العسكرية التى بدأت بعمليات قصف صاروخى عن بعد ومن قواعد متحركة ومن مناطق متعددة متفرقة تستهدف القواعد الأمريكية بما جعل القوات الأمريكية فى حالة استنفار وتوتر دائم.وكما تقضى العقيدة العسكرية الأمريكية –الاستخدام المفرط للقوة -فقد قامت القوات فى كل مرة تتعرض فيها للهجوم بالرد بعمليات قصف لكل المنطقة التى جرى منها إطلاق الصواريخ مما نتج عنه خسائر واسعة فى صفوف المدنيين وبما ضاعف من النقمة الشعبية عليها حتى باتت هذه القوات لا تخرج من أزمة مع السكان المحليين إلا لتدخل إلي أزمة جديدة، بسبب قصفها وقتلها للسكان المدنيين الأمر الذى جعل حتى الحكومة الانتقالية العميلة تعترض وتهاجم تصرفات القوات الأمريكية وتطلب التنسيق معها قبل القصف.
لقد باتت هذه القوات مرتعشة مرعوبة خائفة تطلق الصواريخ للرد على رصاصات الأفراح التى يتصادف إطلاقها خلال مرور اعتي الطائرات التى لاتراها الرادارات والتى لا تصيبها الصواريخ الخ.لقد أصبحت قوات التحالف الاستعماري لاحتلال أفغانستان بكل ما نزل منها على الأرض الأفغانية محاصرة حتى فى العاصمة وتخشى على وجودها خشية الكافر للموت أن تنتشر فى أية مدينة أخرى بل هى وجدت نفسها تتقلص مساحة سيطرتها رويدا رويدا وأنها معرضة حتى فى العاصمة -التى هى عنوان الاستقرار والتى ركزت القوات الدولية كل جهدها وتواجدها لتأمين وضع الحكومة ومؤسساتها للحكم –إلى عمليات متعددة ومتنوعة نهارا وليلا فى الوقت الذى وجدت نفسها والحكومة العميلة فى مواجهة مع الخلافات والتوترات العرقية فى ظروف بدت عاجزة فيها عن بناء شرطه أو حماية وزراء وقادة الحكومة العميلة.
ولقد وصلت طالبان إلى وضعها الراهن فى المرحلة الحالية عبر استراتيجية بالغة الدقة والذكاء إذ هى أعادت تجميع كل القوى المعادية للوجود الأمريكى فى تحالف يتوسع باضطراد كانت الضربة الكبرى فيه التحالف السياسى والعسكرى مع غلب الدين حكمتيار فى نوفمبر 2002.
كما هى وصلت إلى المرحلة الراهنة بعد أن نجحت فى إعادة تنظيم صفوفها وقدراتها التنظيمية والقتالية وهو ما تجسد فيما أعلن عن إعادة تشكيل الملا عمر -في يونيو 2003 –لمجلس شورى الحركة لتفعيل مهمة طرد القوات الأمريكية من أفغانستان والحكومة الانتقالية الأفغانية بقيادة حامد قرضاي. وقد ضم المجلس وزير دفاع طالبان السابق بالإضافة إلي عدد من القيادات العسكرية السابقة في جيش طالبان. بالإضافة إلى عقد بعض الاجتماعات الموسعة،التى كان أبرزها اجتماع الملا عمر في 17 سبتمبر الماضي مع 50 من قيادات الحركة لمناقشة تسريع وتيرة العمليات العسكرية والقتالية ضد القوات الأمريكية
الاستراتيجية الأفغانية للتحرير:
لإدراك ما يجرى فى أفغانستان، يجب أن نفهم الفارق بين استراتيجية تحرير كلا من فلسطين والعراق.فى فلسطين تقوم استراتيجية التحرير على التفكيك التدريجى لكيان موجود وذو أغلبية يهودية ويسيطر على ارض محددة ومن ثم تطول المعركة.وفى العراق تجرى استراتيجية تحرير العراق استنادا إلى عدم تمكين الاحتلال من شرعية مع عدم تمكينه من الانسحاب إلى قواعد خارج المدن اى جعل العدو يخرج من المدن إلى خارج العراق، لا إلى خارج المناطق السكانية.
وفى أفغانستان يكون تحرير الأرض بالسيطرة عليها فى الأطراف وشن عملية استنزاف واسعة ومستمرة دون السيطرة على المدن أبدا بالنظر إلى الظروف الجغرافية المهيأة للنشاط الجهادى فى الأطراف ولعدم وجود مدن بالمعنى السكانى والجغرافى والمعمارى الموجود فى العراق أو فى فلسطين.ولذلك ستظل استراتيجية طالبان والقاعدة هى إقامة حالة من ازدواج السلطة دون السعى إلى تحرير كامل للمدن، بل العمل على خنق السلطات المحلية واستنزاف القوات الأمريكية والقوات الأوروبية المتحالفة معها. وكذلك القيام بعمليات انتشار قوى المجاهدين وتوثيق علاقاتهم مع السكان المحليين وتكتيكات الهجوم والهرب واصطياد القوات المعادية من حيث لا تتوقع.
إن من يقرا الوضع فى أفغانستان يدرك أن الأعداء فى أزمة استراتيجية مستحكمة..وفى المقابل فان أزمات المجاهدين كلها أزمات تكتيكية يحلها الوقت ومزيد من الجهد والوقت والنشاط..وبينهما تبقى الحكومة الأفغانية العميلة عاجزة ومشلولة أصبحت معلقة فى الهواء..ومحاصرة داخل العاصمة..لا تملك إمكانية بناء جيش..ومن ثم فالأمل لديها والحل هو أن تنتشر القوات الأمريكية والأوروبية على كل الأرض الأفغانية بينما هذه القوات تعرف ما ينتظرها إذا ما هى انتشرت، حيث الوقوع فى المصيدة.
تعليق