بؤس الخطابة في غير المؤمنين!
عزت القمحاوي
عزت القمحاوي
كم هي مؤسفة هذه الحقبة من التاريخ الفلسطيني!
هذا هو أهم ما يمكننا استنتاجه من الكلام الكثير والعراك الأكثر الذي شهده مؤتمر فتح.
ليس الخلاف في الرأي رذيلة في ذاته؛ بل هو فضيلة عندما يكون هناك بعض الثوابت، يتفق عليها أبناء القضية، ويختلفون على ما عداها من المتغيرات.
في حالة كتلك، يكون حوار وإنصات، وهو ما بدا مفتقداً في مؤتمر فتح، سواء في التراشقات بين كلمات الحاضرين من التنظيم وبين الغائبين من قيادات حماس، أو التراشق بين حاضري المؤتمر أنفسهم.
وما يقلق، أكثر من التشابك بالأيدي، هو اضطرار الطيب عبدالرحيم أمين عام الرئاسة الفلسطينية إلى النزول عن المنصة، عندما ثار بعض أعضاء المؤتمر في وجهه. ليس مهماً أيهم على صواب؛ هو أو هم، بل المهم والمفزع هو حالة الخصام التام وانعدام فرص الإقناع عبر الخطابة، التي تعكس حالة من عدم الإيمان.
عدم الإيمان بمن أو بماذا، هذا هو السؤال الذي تواجهه القضية اليوم.
' ' '
من أرسطو إلى ديل كارينجي (صاحب الكتب الأكثر مبيعاً في تطوير القدرات الذاتية) فإن الخطابة هي فن التأثير على جمهور باستخدام الكلمات، ومهارات الخطيب: لغته، منطقه، ثقته بنفسه، وحركة جسده وإشاراته.
نادراً ما نجد من يتحدث عن الجمهور، ذلك الشريك الذي يجب أن يؤثر فيه الخطيب!
ربما نجد الإشارة في كتب الدراما، التي تتعامل مع الخطاب بوصفه عرضاً درامياً حياً، حيث تتحدث عن عدوى الاقتناع في الدراما، وعدوى الضحك في الكوميديا، التي تنتقل من واحد إلى آخر من الحاضرين، عندما يقوم بعض الأفراد الأسرع التقاطاً للمغزى بإطلاق العدوى وقيادة حالة التجاوب.
هذه الآلية انتبه إليها المطربون ومقرئو القرآن بالسليقة، فصاروا يبثون بين الجمهور بعضاً من المستمتعين بالأجر، من باتوا يعرفون باسم 'المطيباتية' الذين يبادرون بإعلان الاستحسان عقب الكوبليه في الغناء أو الآية في التلاوة. وبعض النجوم كان يبالغ فيدس أتباعه وسط حفل المطرب أو المقرىء الخصم للنيل من أدائه بتعليقات الاستهجان!
لهذا يمكننا أن نعتبر الخطابة الفن الذي يزيد اقتناع الجمهور بقضية، لا خلق الاقتناع من عدم. وهذا يتسق مع حقيقة أن الأنبياء وأصحاب الدعوات الكبرى لم يبدأوا دعواتهم بالخطابة؛ فمهما كان منطقهم أو حضورهم ما كان لدعاواهم أن تعيش بعد الخطبة الأولى وسط جمهور معاد بالكامل.
أن تخطب في جمهور معاد، هو البؤس بعينه.
في مسرحيات شكسبير لا تنبـــع التراجيديا من كم الدم المراق على قلم الشاعر السفاح، بل من خطابات الملوك والأمراء الذين جار عليهم الزمان وسط جمهور غير مؤمن بأساطيرهم، ولا يعترف بآلامهم. البؤس نفسه يمكن أن نلاحظه في الخطابات الأخيرة للطغاة، قبل أن يفتك بهم الجمهور أو طاغية جديد.
' ' '
على النقيض جاءت خطابات باراك أوباما خلال حملته الانتخابية وانتهاء بخطابه في جامعة القاهرة.
أوباما أفصح لساناً وأقوى بياناً من بوش، إلا أن ما صنع الفرق بينهما ليس طلاقته في مواجهة لعثمات بوش وجهله وعدوانية خطابه، بل أرضية الجمهور المستقبل لكلام كل منهما.
حتى تاريخ خطاب جامعة القاهرة لم يفعل أوباما ما يجعله مرفوضاً. وأمام الانبهار به سارع البعض بحماس لا يدع مجالاً للتراجع بتنصيبه خطيباً للقرن الحادي والعشرين، بناء على الأثر الذي أحدثه في قطاع عريض من الجمهور العربي والإسلامي بخطابه المدجج بآيات القرآن.
ولم يضع المتحمسون في حسابهم الجمهور المتعاطف مبدئياً مع فكرة التغير في السياسة الأمريكية متمثلة في اختيار أوباما. ولكن بعد أن ثبتت قوة المؤسسة في السياسة الأمريكية وقوة انتساب أوباما إليها، فالوضع صار مختلفاً. لا يمكننا أن نتوقع الأثر نفسه للكلمات نفسها إذا ما ألقاها أوباما اليوم، بعد أن طالب العرب بما أسماه 'شجاعة تجاه إسرائيل' ويعني به تطبيعاً مجانياً، كهدية قبل فتح الكلام في السلام، وهو ما لم يطلبه الرجل الأبيض اليميني المحارب!
' ' '
ولا يمكن لمن يفكر بالجمهور المعادي أن ينسى خطاب السادات في الكنيست.
الرجل المطفأ مقارنة بعبد الناصر استطاع أن يتوازن فوق أمواج الجماهير باستعارة خطاب ناصر والادعاء بالسير في طريقه: 'إذا مات جمال عبدالناصر فكلنا جمال عبدالناصر'، وخلال سبع سنوات من الحكم أنضج طريقته الخاصة في الخطابة وعرف كيف يمسرح أداءه وكيف يزرع النكات بين كلماته، أو يصنع 'الإفيه'. وقد ذهب إلى الكنيست بخبرة سنوات سبع، مستدفئاً بالنصر في الحرب وبالنصر وبالنصر الإعلامي في الغرب الذي كان يوليه أهمية قصوى، ومع ذلك أخذ يتصبب عرقاً، وسط الجمهور المعادي. وكان أكثر ما يخافه القتل وأقله المقاطعة وإنزاله من فوق المنصة.
الصهاينة اعتادوا إنزال الخطيب العربي من فوق المنصة سواء كان ضيفاً أو عضواً عربياً في الكنيست أو كان تلميذا يخطب في مدرسة إبتدائية.
وطوال الفترة الماضية منذ انشقاق حماس، كانت إسرائيل سعيدة بتراشق المنصات بين فتح وحماس، فهذا الهدم الخطابي المتبادل يقضي على هيبة كل منهما. ولذلك فإنها لا تحول بين أي خطيب وأية منصة، وربما تضع خطة لحماية المنصات؛ لكي تضمن استمرار تدفق الخطب غير الموزونة باتجاه جمهور لا يريدها!
انعدام الفلسطينيين بقياداتهم هو البداية التي تسعى إسرائيل إلى أن تسحبها على القضية نفسها.
هذا هو أهم ما يمكننا استنتاجه من الكلام الكثير والعراك الأكثر الذي شهده مؤتمر فتح.
ليس الخلاف في الرأي رذيلة في ذاته؛ بل هو فضيلة عندما يكون هناك بعض الثوابت، يتفق عليها أبناء القضية، ويختلفون على ما عداها من المتغيرات.
في حالة كتلك، يكون حوار وإنصات، وهو ما بدا مفتقداً في مؤتمر فتح، سواء في التراشقات بين كلمات الحاضرين من التنظيم وبين الغائبين من قيادات حماس، أو التراشق بين حاضري المؤتمر أنفسهم.
وما يقلق، أكثر من التشابك بالأيدي، هو اضطرار الطيب عبدالرحيم أمين عام الرئاسة الفلسطينية إلى النزول عن المنصة، عندما ثار بعض أعضاء المؤتمر في وجهه. ليس مهماً أيهم على صواب؛ هو أو هم، بل المهم والمفزع هو حالة الخصام التام وانعدام فرص الإقناع عبر الخطابة، التي تعكس حالة من عدم الإيمان.
عدم الإيمان بمن أو بماذا، هذا هو السؤال الذي تواجهه القضية اليوم.
' ' '
من أرسطو إلى ديل كارينجي (صاحب الكتب الأكثر مبيعاً في تطوير القدرات الذاتية) فإن الخطابة هي فن التأثير على جمهور باستخدام الكلمات، ومهارات الخطيب: لغته، منطقه، ثقته بنفسه، وحركة جسده وإشاراته.
نادراً ما نجد من يتحدث عن الجمهور، ذلك الشريك الذي يجب أن يؤثر فيه الخطيب!
ربما نجد الإشارة في كتب الدراما، التي تتعامل مع الخطاب بوصفه عرضاً درامياً حياً، حيث تتحدث عن عدوى الاقتناع في الدراما، وعدوى الضحك في الكوميديا، التي تنتقل من واحد إلى آخر من الحاضرين، عندما يقوم بعض الأفراد الأسرع التقاطاً للمغزى بإطلاق العدوى وقيادة حالة التجاوب.
هذه الآلية انتبه إليها المطربون ومقرئو القرآن بالسليقة، فصاروا يبثون بين الجمهور بعضاً من المستمتعين بالأجر، من باتوا يعرفون باسم 'المطيباتية' الذين يبادرون بإعلان الاستحسان عقب الكوبليه في الغناء أو الآية في التلاوة. وبعض النجوم كان يبالغ فيدس أتباعه وسط حفل المطرب أو المقرىء الخصم للنيل من أدائه بتعليقات الاستهجان!
لهذا يمكننا أن نعتبر الخطابة الفن الذي يزيد اقتناع الجمهور بقضية، لا خلق الاقتناع من عدم. وهذا يتسق مع حقيقة أن الأنبياء وأصحاب الدعوات الكبرى لم يبدأوا دعواتهم بالخطابة؛ فمهما كان منطقهم أو حضورهم ما كان لدعاواهم أن تعيش بعد الخطبة الأولى وسط جمهور معاد بالكامل.
أن تخطب في جمهور معاد، هو البؤس بعينه.
في مسرحيات شكسبير لا تنبـــع التراجيديا من كم الدم المراق على قلم الشاعر السفاح، بل من خطابات الملوك والأمراء الذين جار عليهم الزمان وسط جمهور غير مؤمن بأساطيرهم، ولا يعترف بآلامهم. البؤس نفسه يمكن أن نلاحظه في الخطابات الأخيرة للطغاة، قبل أن يفتك بهم الجمهور أو طاغية جديد.
' ' '
على النقيض جاءت خطابات باراك أوباما خلال حملته الانتخابية وانتهاء بخطابه في جامعة القاهرة.
أوباما أفصح لساناً وأقوى بياناً من بوش، إلا أن ما صنع الفرق بينهما ليس طلاقته في مواجهة لعثمات بوش وجهله وعدوانية خطابه، بل أرضية الجمهور المستقبل لكلام كل منهما.
حتى تاريخ خطاب جامعة القاهرة لم يفعل أوباما ما يجعله مرفوضاً. وأمام الانبهار به سارع البعض بحماس لا يدع مجالاً للتراجع بتنصيبه خطيباً للقرن الحادي والعشرين، بناء على الأثر الذي أحدثه في قطاع عريض من الجمهور العربي والإسلامي بخطابه المدجج بآيات القرآن.
ولم يضع المتحمسون في حسابهم الجمهور المتعاطف مبدئياً مع فكرة التغير في السياسة الأمريكية متمثلة في اختيار أوباما. ولكن بعد أن ثبتت قوة المؤسسة في السياسة الأمريكية وقوة انتساب أوباما إليها، فالوضع صار مختلفاً. لا يمكننا أن نتوقع الأثر نفسه للكلمات نفسها إذا ما ألقاها أوباما اليوم، بعد أن طالب العرب بما أسماه 'شجاعة تجاه إسرائيل' ويعني به تطبيعاً مجانياً، كهدية قبل فتح الكلام في السلام، وهو ما لم يطلبه الرجل الأبيض اليميني المحارب!
' ' '
ولا يمكن لمن يفكر بالجمهور المعادي أن ينسى خطاب السادات في الكنيست.
الرجل المطفأ مقارنة بعبد الناصر استطاع أن يتوازن فوق أمواج الجماهير باستعارة خطاب ناصر والادعاء بالسير في طريقه: 'إذا مات جمال عبدالناصر فكلنا جمال عبدالناصر'، وخلال سبع سنوات من الحكم أنضج طريقته الخاصة في الخطابة وعرف كيف يمسرح أداءه وكيف يزرع النكات بين كلماته، أو يصنع 'الإفيه'. وقد ذهب إلى الكنيست بخبرة سنوات سبع، مستدفئاً بالنصر في الحرب وبالنصر وبالنصر الإعلامي في الغرب الذي كان يوليه أهمية قصوى، ومع ذلك أخذ يتصبب عرقاً، وسط الجمهور المعادي. وكان أكثر ما يخافه القتل وأقله المقاطعة وإنزاله من فوق المنصة.
الصهاينة اعتادوا إنزال الخطيب العربي من فوق المنصة سواء كان ضيفاً أو عضواً عربياً في الكنيست أو كان تلميذا يخطب في مدرسة إبتدائية.
وطوال الفترة الماضية منذ انشقاق حماس، كانت إسرائيل سعيدة بتراشق المنصات بين فتح وحماس، فهذا الهدم الخطابي المتبادل يقضي على هيبة كل منهما. ولذلك فإنها لا تحول بين أي خطيب وأية منصة، وربما تضع خطة لحماية المنصات؛ لكي تضمن استمرار تدفق الخطب غير الموزونة باتجاه جمهور لا يريدها!
انعدام الفلسطينيين بقياداتهم هو البداية التي تسعى إسرائيل إلى أن تسحبها على القضية نفسها.
تعليق