المشكل الرئيس الذي يطرح نفسه في هذا المقال, كاشفا عمق العلاقة التي تصوغها الأنظمة العربية بين قمة هرمها السياسي والقاعدة الجماهيرية التي تشكل محورا هاما في بناء الدولة أيا كان نظامها السياسي ومنهجها في الحكم , هو لماذا نجح السلطان قابوس سلطان عمان في حين أخفق الرئيس اليمني علي عبدالله صالح في بناء دولة آمنة مستقرة ؟ سؤال أحسبه يشكل حضورا قويا اليوم في ظل التناحر السياسي الديني الاجتماعي الذي تشهده الساحة اليمنية مما جعلها ترزح تحت وطأة الحروب منذ أكثر من أربعين عاما أو يزيد, بينما تتربع جارتها سلطنة عمان عرش الدول العربية على المستوى الأمني والاستقرار السياسي.
أنموذجان من أهم النماذج الرئيسة في عالم الأنظمة السياسية في الوطن العربي من منطلق التشابه الكبير في الأحداث البنيوية السياسية والدينية والاجتماعية (القبلية) التي رسمت ملامح التاريخ القريب في كلا البلدين مع اختلاف النتائج التي آلت إليها كل دولة. لن أبالغ إذا قلت بأن دراسة هذين الأنموذجين تعد ضرورة هامة بالنظر إلى العلاقات المتأزمة دائما بين الأنظمة العربية وشعوبها, فالأحداث التي مرت بها اليمن الشقيق سياسيا ودينيا واجتماعيا قبليا بعد سقوط دولة الإمامة الزيدية 1962 هي ذاتها تلك الأحداث من محاورها الثلاثة التي شهدتها جارتها سلطنة عمان بعد نهاية دولة الإمامة الإباضية بوفاة محمد بن عبدالله الخليلي 1955.
على المستوى السياسي نجد أن الحركات السياسية اليسارية التي كان لها حضور فاعل في العقدين السادس والسابع من القرن المنصرم نشأت من زاوية فكرية واحدة في كلا البلدين, حيث استمرت الحركة اليسارية العمانية عشر سنوات شاهرة السلاح في وجه السلطة حتى تم القضاء عليها عام 1975م , إذا أضفنا ذلك التقارب الجغرافي للحركة اليسارية في الجنوب اليمني والحركة اليسارية في الجنوب العماني فإننا نستطيع القول بأن الحركة اليسارية في جنوب عمان ليست سوى امتدادا فكريا وربما تنظيمي للحركة اليسارية اليمنية في تلك المرحلة التي انتهت بالقضاء عليها في الجنوب العماني بينما انتهت في الجنوب اليمني إلى قيام فكرة الاندماج بين الجنوب والشمال, غير أن ذلك الاندماج ما لبث أن ران عليه شرخ الانفكاك بعد سنوات عجاف عاشها الرئيس اليمني بعيدا عن الفعل المؤسس لتطوير بنية الدولة الحديثة في اليمن, في حين نجد خفوتا كبيرا بل لم تصبح تلك الحركات اليسارية في عمان إلا من قبيل التاريخ, فلم يعد أحد من العمانيين يتأوه حالما بعودتها حتى على مستوى المؤسسين الذين احتضنوها فكريا وتنظيميا, فقد انخرطوا جميعا في سلك بناء الدولة العمانية الحديثة, فلم تعد تلك الأحداث الدرامية سوى حدث تاريخي رافقت نشأته وقيامه مرحلة عصيبة مرت بها سلطنة عمان على وجه الخصوص بينما كانت القومية العربية على وجه العموم في أوجها والمد الشيوعي في عنفوانه.
لم تكن تلك الحركة اليسارية في عمان ضعيفة بل كانت حركة مقاومة قوية جعلتها تقف في وجه السلطة أكثر من عشر سنوات مما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن الأفكار مهما توغلت في عمق الذاكرة الجماعية فإنه لن يكون من الصعوبة اجتثاثها بأفكار أكثر تقدمية تعطي مساحة واسعة من المشاركة السياسية الفاعلة إن كان ذلك على المستوى السياسي وبالتعايش الممزوج بالتسامح إن كان على المستوى الديني المعقد أو بالولاء الوطني إن كان على المستوى القبلي الاجتماعي.
إن المنهج الذي خطاه سلطان عمان في إعادة صياغة المنهج السياسي العماني جعل من تلك الحركة تنحسر انحسارا كبيرا بل جعلها تئد نفسها بنفسها بعد المقولة السلطانية السامية بعد انتهاء الحرب 1975 " عفا الله عما سلف" . هذه المقولة لم تكن سوى استنساخا للفكر النبوي بعد فتح مكة, أتبعتها خطوات عملية تمحورت في إشراك عناصر الحركة اليسارية في بناء الدولة العمانية الحديثة ووضعهم في مناصب قيادية عليا في الدولة.
على المستوى الديني فإن عمان أصبحت أكثر هدوءا بعد أن تم القضاء على معاقل المتشبثين بفكرالإمامة الإباضية عام 1965م , لنجد أن هذه المرحلة التاريخية في عهد السلطان من المراحل النادرة في تاريخ عمان من حيث انصهار وحدتها جنوبا وشمالا شرقا بغرب, إذ أن غالب الفترات التأريخية السابقة كان يعتريها التفكك وإن كانت عمان لم تشهد عنفا مذهبيا طوال فتراتها التاريخية , فلم يسجل لنا التاريخ العماني عنفا طائفيا بسبب الاختلاف المذهبي حتى في المراحل التأريخية التي كانت عمان تمثل فيها إمبراطورية عظمى, وإن حدث نادرا فهو بلا شك صنيع السياسة وليس الفكر الديني.
إضافة إلى ذلك فإننا نجد أن سلطنة عمان تغرد اليوم خارج سرب الإرهاب العالمي والمنظمات التكفيرية التي ترتع في العالم بالرغم من أنها الدولة الوحيدة ربما في العالم الإسلامي التي تحتضن ثلاثة مدارس إسلامية هامة ( الإباضية السنة الشيعة) مدارس متباينة تاريخيا وفكريا, بل حتى حاضرا فالصراع الشيعي السني الذي دخل معظم البلدان الإسلامية لم يكن له سوى خفي حنين في عمان, حيث تتعايش هذه المدارس الثلاثة تحت عباءة الدولة جنبا إلى جنب, في حين لا يوجد في اليمن سوى مدرستان لا يشكل المذهب الزيدي أكثر من عشر في المائة من عدد السكان. فالسلطان قابوس سلطان عمان نشأ في بيت متعدد المذاهب حيث أبوه رحمه الله ينتمي إلى المذهب الإباضي في حين أن السيدة أمه رحمها الله تنتمي إلى المذهب السني مما كان له أثر كبير في فهم الاختلاف المذهبي على أنه اختلاف قادر على التعايش والتسامح تحت مظلة الدولة الحديثة.على المستوى القبلي الاجتماعي فإن الهيكل القبلي الموجود في عمان لا يختلف كثيرا عن ذلك الموجود في اليمن الشقيق, فالحضور القبلي في شبه الجزيرة العربية بشكل عام يكاد يكون متأصلا بل مرتكزا على موروث ثقافي في بعض الأحيان, إضافة إلى أن التعدد العرقي الموجود في عمان ربما يشكل أكثر عمقا منه في اليمن, فعمان وإن كانت لغتها الرسمية اللغة العربية بيد أن لغات أخرى وأعراقا مختلفة تمثل بعدا ثقافيا هاما لا يمكن محوه من التاريخ العماني الماضي والقريب.
نستطيع القول بأن السلطان عمل جاهدا على تفتيت القيادات القبلية الفاعلة في العقد السابع والثامن من القرن العشرين بحيث لم تعد اليوم قادرة على إحداث أي خلل في التوازن السياسي في الدولة, إذ حل محل تلك القيادات الفاعلة (شبه أمراء) قيادات أخرى من ذات القبيلة مما ساهم في الحد من سطوة رؤوسها, ومن جانب آخر فالحقائب الوزارية في حكومة السلطان تنوعت بين مختلف الطبقات القبلية في عمان بغض النظر عن تقاطعات الإرث الثقافي أو الديني, بل لا نجد للأسرة الحاكمة في عمان وهي أسرة آل سعيد تمثيلا كبيرا في الدائرة السياسية كمثل ذلك الدور الذي تلعبه الأسر المالكة في بقية بلدان الخليج العربي, فليس سوى ثلاثة فقط ضمن منظومة الحكومة العمانية الفاعلة وهم نائب رئيس الدولة لشؤون مجلس الوزراء والممثل الخاص لصاحب الجلالة ووزير التراث والثقافة, وهو لا يعد شيئا إذا قارناه بدول مجلس التعاون الخليجي كدول يقوم دستورها على النظام الملكي الوراثي.
النجاح الذي حققه السلطان قابوس على المستويات الثلاثة السياسية والدينية والقبلية يحتاج إلى دراسات ترصد الخطوات العملية التي قام بها صاحب الجلالة في سبيل استمرار بناء الدولة الحديثة بالرغم من قلة الموارد المالية
أنموذجان من أهم النماذج الرئيسة في عالم الأنظمة السياسية في الوطن العربي من منطلق التشابه الكبير في الأحداث البنيوية السياسية والدينية والاجتماعية (القبلية) التي رسمت ملامح التاريخ القريب في كلا البلدين مع اختلاف النتائج التي آلت إليها كل دولة. لن أبالغ إذا قلت بأن دراسة هذين الأنموذجين تعد ضرورة هامة بالنظر إلى العلاقات المتأزمة دائما بين الأنظمة العربية وشعوبها, فالأحداث التي مرت بها اليمن الشقيق سياسيا ودينيا واجتماعيا قبليا بعد سقوط دولة الإمامة الزيدية 1962 هي ذاتها تلك الأحداث من محاورها الثلاثة التي شهدتها جارتها سلطنة عمان بعد نهاية دولة الإمامة الإباضية بوفاة محمد بن عبدالله الخليلي 1955.
على المستوى السياسي نجد أن الحركات السياسية اليسارية التي كان لها حضور فاعل في العقدين السادس والسابع من القرن المنصرم نشأت من زاوية فكرية واحدة في كلا البلدين, حيث استمرت الحركة اليسارية العمانية عشر سنوات شاهرة السلاح في وجه السلطة حتى تم القضاء عليها عام 1975م , إذا أضفنا ذلك التقارب الجغرافي للحركة اليسارية في الجنوب اليمني والحركة اليسارية في الجنوب العماني فإننا نستطيع القول بأن الحركة اليسارية في جنوب عمان ليست سوى امتدادا فكريا وربما تنظيمي للحركة اليسارية اليمنية في تلك المرحلة التي انتهت بالقضاء عليها في الجنوب العماني بينما انتهت في الجنوب اليمني إلى قيام فكرة الاندماج بين الجنوب والشمال, غير أن ذلك الاندماج ما لبث أن ران عليه شرخ الانفكاك بعد سنوات عجاف عاشها الرئيس اليمني بعيدا عن الفعل المؤسس لتطوير بنية الدولة الحديثة في اليمن, في حين نجد خفوتا كبيرا بل لم تصبح تلك الحركات اليسارية في عمان إلا من قبيل التاريخ, فلم يعد أحد من العمانيين يتأوه حالما بعودتها حتى على مستوى المؤسسين الذين احتضنوها فكريا وتنظيميا, فقد انخرطوا جميعا في سلك بناء الدولة العمانية الحديثة, فلم تعد تلك الأحداث الدرامية سوى حدث تاريخي رافقت نشأته وقيامه مرحلة عصيبة مرت بها سلطنة عمان على وجه الخصوص بينما كانت القومية العربية على وجه العموم في أوجها والمد الشيوعي في عنفوانه.
لم تكن تلك الحركة اليسارية في عمان ضعيفة بل كانت حركة مقاومة قوية جعلتها تقف في وجه السلطة أكثر من عشر سنوات مما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن الأفكار مهما توغلت في عمق الذاكرة الجماعية فإنه لن يكون من الصعوبة اجتثاثها بأفكار أكثر تقدمية تعطي مساحة واسعة من المشاركة السياسية الفاعلة إن كان ذلك على المستوى السياسي وبالتعايش الممزوج بالتسامح إن كان على المستوى الديني المعقد أو بالولاء الوطني إن كان على المستوى القبلي الاجتماعي.
إن المنهج الذي خطاه سلطان عمان في إعادة صياغة المنهج السياسي العماني جعل من تلك الحركة تنحسر انحسارا كبيرا بل جعلها تئد نفسها بنفسها بعد المقولة السلطانية السامية بعد انتهاء الحرب 1975 " عفا الله عما سلف" . هذه المقولة لم تكن سوى استنساخا للفكر النبوي بعد فتح مكة, أتبعتها خطوات عملية تمحورت في إشراك عناصر الحركة اليسارية في بناء الدولة العمانية الحديثة ووضعهم في مناصب قيادية عليا في الدولة.
على المستوى الديني فإن عمان أصبحت أكثر هدوءا بعد أن تم القضاء على معاقل المتشبثين بفكرالإمامة الإباضية عام 1965م , لنجد أن هذه المرحلة التاريخية في عهد السلطان من المراحل النادرة في تاريخ عمان من حيث انصهار وحدتها جنوبا وشمالا شرقا بغرب, إذ أن غالب الفترات التأريخية السابقة كان يعتريها التفكك وإن كانت عمان لم تشهد عنفا مذهبيا طوال فتراتها التاريخية , فلم يسجل لنا التاريخ العماني عنفا طائفيا بسبب الاختلاف المذهبي حتى في المراحل التأريخية التي كانت عمان تمثل فيها إمبراطورية عظمى, وإن حدث نادرا فهو بلا شك صنيع السياسة وليس الفكر الديني.
إضافة إلى ذلك فإننا نجد أن سلطنة عمان تغرد اليوم خارج سرب الإرهاب العالمي والمنظمات التكفيرية التي ترتع في العالم بالرغم من أنها الدولة الوحيدة ربما في العالم الإسلامي التي تحتضن ثلاثة مدارس إسلامية هامة ( الإباضية السنة الشيعة) مدارس متباينة تاريخيا وفكريا, بل حتى حاضرا فالصراع الشيعي السني الذي دخل معظم البلدان الإسلامية لم يكن له سوى خفي حنين في عمان, حيث تتعايش هذه المدارس الثلاثة تحت عباءة الدولة جنبا إلى جنب, في حين لا يوجد في اليمن سوى مدرستان لا يشكل المذهب الزيدي أكثر من عشر في المائة من عدد السكان. فالسلطان قابوس سلطان عمان نشأ في بيت متعدد المذاهب حيث أبوه رحمه الله ينتمي إلى المذهب الإباضي في حين أن السيدة أمه رحمها الله تنتمي إلى المذهب السني مما كان له أثر كبير في فهم الاختلاف المذهبي على أنه اختلاف قادر على التعايش والتسامح تحت مظلة الدولة الحديثة.على المستوى القبلي الاجتماعي فإن الهيكل القبلي الموجود في عمان لا يختلف كثيرا عن ذلك الموجود في اليمن الشقيق, فالحضور القبلي في شبه الجزيرة العربية بشكل عام يكاد يكون متأصلا بل مرتكزا على موروث ثقافي في بعض الأحيان, إضافة إلى أن التعدد العرقي الموجود في عمان ربما يشكل أكثر عمقا منه في اليمن, فعمان وإن كانت لغتها الرسمية اللغة العربية بيد أن لغات أخرى وأعراقا مختلفة تمثل بعدا ثقافيا هاما لا يمكن محوه من التاريخ العماني الماضي والقريب.
نستطيع القول بأن السلطان عمل جاهدا على تفتيت القيادات القبلية الفاعلة في العقد السابع والثامن من القرن العشرين بحيث لم تعد اليوم قادرة على إحداث أي خلل في التوازن السياسي في الدولة, إذ حل محل تلك القيادات الفاعلة (شبه أمراء) قيادات أخرى من ذات القبيلة مما ساهم في الحد من سطوة رؤوسها, ومن جانب آخر فالحقائب الوزارية في حكومة السلطان تنوعت بين مختلف الطبقات القبلية في عمان بغض النظر عن تقاطعات الإرث الثقافي أو الديني, بل لا نجد للأسرة الحاكمة في عمان وهي أسرة آل سعيد تمثيلا كبيرا في الدائرة السياسية كمثل ذلك الدور الذي تلعبه الأسر المالكة في بقية بلدان الخليج العربي, فليس سوى ثلاثة فقط ضمن منظومة الحكومة العمانية الفاعلة وهم نائب رئيس الدولة لشؤون مجلس الوزراء والممثل الخاص لصاحب الجلالة ووزير التراث والثقافة, وهو لا يعد شيئا إذا قارناه بدول مجلس التعاون الخليجي كدول يقوم دستورها على النظام الملكي الوراثي.
النجاح الذي حققه السلطان قابوس على المستويات الثلاثة السياسية والدينية والقبلية يحتاج إلى دراسات ترصد الخطوات العملية التي قام بها صاحب الجلالة في سبيل استمرار بناء الدولة الحديثة بالرغم من قلة الموارد المالية
منقول من الحارة العمانية
تعليق