موقعة النهروان و أهواء المؤرخين
للاستاذ عبدالله القحطاني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى ، وصلاة وسلاماً على المصطفى وآله وصحبه أجمعين ، أما بعد:
هذه قراءة في جزءٍ من الفتنة التي ثارت بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم أكن لأتعرض لها لولا جرأة بعض المخالفين في الرأي خلال حوار دار بيننا وبينهم ، فتعرضوا لبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشتم والسباب ، وقد دعموا طعنهم بشيء مما ورد في بعض المصادر التأريخية الإسلامية .
هذه القراءة هدفها تحذير المسلمين من الخوض في هذه الفتنة المظلمة التي وقعت بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي مبنية على حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي شَرٍّ فَذَهَبَ اللَّهُ بِذَلِكَ الشَّرِّ وَجَاءَ بِالْخَيْرِ عَلَى يَدَيْكَ ، فَهَلْ بَعْدَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، تَأْتِيكُمْ مُشْتَبِهَةً كَوُجُوهِ الْبَقَرِ ، لا تَدْرُونَ أَيًّا مِنْ أَيٍّ . رواه أحمد
فإن كانت هذه الفتن مشتبهة على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يدروا أياً من أيٍّ ، فكيف تكون علينا نحن الذين أتينا في زمان بعيد عنهم ؟!
إنني لم أكن لأدخل في هذا الأمر لو لا أن جرَّني البعض إليه جرَّا ، فقمت بمحاولة للدفاع عن أصحاب رسول الله ، وأحتسب أجري على الله.
منهج البحث: ـ
هدفنا الأسمى هو توحيد أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ومنهجنا هو عدم التعرض لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحكام شخصية ، وإذا ذكرنا شيئاً من الأحكام فإنما هو نقلٌ لأقوال كبار الصحابة أنفسهم ، أو لأحد من كبار التابعين القريب لتلك الفترة ، والذي يؤخذ قوله بالقبول من جميع الأطراف ، وكذلك من مصادر يقبلها المخالف في الرأي ما استطعت ، وفي ذلك أولاً غمطٌ كبير للمصادر الإباضية رغم شهادة المخالفين لهم بالنـزاهة عن الكذب ، وثانياً في ذلك ترك للكثير من الحقائق والحجج التي لو اعتمدت عليها لأغنتني عن الكثير من النقل.
محور دراستنا هم أهل النهروان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذين تعرَّض لهم بعض المتهورين بالطعن والتفسيق ، وهذا يحتَّم علينا بطبيعة الحال التعرض للفتنة ، والدخول في متاهاتها ، نسأل الله أن يجعل لنا نوراً يمكننا من الخروج من ظلمائها سالمين .
سأحاول جاهداً أن أعرض فقط ما يكون ذكره ضرورةً من أحداث الفتنة ، والتي تعني أهل النهروان مباشرة .
مثار الفتنة: ـ
مثار الفتنة هو مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان ، ومطالبة بعض الصحابة بتعجيل القصاص من قَتَلته ، وهذا موضوع لن ندخل في تفصيلاته ، ولكن في خلافة الإمام علي ابن أبي طالب ، انشقَّ معاوية بن أبي سفيان ، ولم يسلِّم للإمام علي بن أبي طالب القياد ، واستأثر ببلاد الشام ، وكان مؤازره صحابي آخر هو عمرو بن العاص ، من جانب آخر خرج الصحابة طلحة والر على الإمام علي وانضمت إليهم أم المؤمنين عائشة ومعهم خلق كثير فتمت المواجهة في ما سمي بموقعة الجمل وقتل في هذه المعركة عدد كبير من المسلمين يقدَّر بالآلاف ، وكانت الغلبة للإمام علي ، فتوجه بعدها لإخضاع معاوية فكانت موقعة صفين حيث قُتل مرةً أخرى ألوفٌ من المسلمين ، وكاد جيش معاوية أن ينهزم لولا خروج عمرو بن العاص داهية العرب بخطة جديدة ، وهي رفع المصاحف طلباً للتحكيم ، فكانت أول نتيجة أن انقسم جيش علي إلى قسمين أحدهما يرى وجوب وقف القتال حقناً للدماء ، وآخر يتزعمه بعض الصحابة يرى أنَّ هذه من دواهي عمرو عندما رأى الهزيمة بين عينيه ، ونادَوا أنْ (لا حكم إلا لله) ؛ وحكم الله واضح في قتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله بانضوائها تحت راية الخليفة المنتخب ، ولكنْ مع ميل الإمام علي للرأي الثاني فإن رضوخه كان للرأي الحاقن للدماء ، وهنا نشبت الفتنة الجديدة وانقسم جيش الإمام علي ، فانحاز الكثير من الصحابة – وفيهم رجالٌ من أهل بدر وأهل بيعة الشجرة- وتبعهم خلقٌ كثير ممن لم يرتضوا التحكيم إلى منطقة تدعى حروراء ، ونصبوا إماماً جديداً عليهم بعد أن خلع الإمام عليّ البيعة من عنقه بارتضائه للتحكيم ، وذلك اتباعاً لقوله صلى الله عليه وسلم الذي ورد في صحيح مسلم في كتاب الإمارة : {..وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً }، وكانت الفتنة فعلي بن أبي طالب لم ير هؤلاء إلا فئة باغية اغتصبت الخلافة منه مثلهم في ذلك مثل معاوية ، فاقتتل جيش الإمام علي في موقعة النهروان ، وسقط من المسلمين مرةً ثالثةً أعداد كبيرة ، فيهم بقية الله في أرضه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا متفق عليه بين كلِّ المصادر التأريخية باختلاف مشاربها.
قراءة الأحداث: ـ
هذه فتنة عمياء ، اقتتل فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والحقُّ أنه لم يقم المسلمون بعدها إلا على ضلع أعوج ، فتحزبوا أحزاباً ومذاهب شتى ، كلٌ يتأول هذه الأحداث على طريقته والخلفية التأريخية التي ينظر من خلالها ، ولم يخل كاتبٌ من التحيُّز لفريق دون آخر ، وهذا ليس بالعجيب ، فهي كما وصفها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم فتنٌ كقطَع الليل المظلم ، كيف لنا أن نبصر فيها ، ولكن كانت هنالك سبيل السلامة ؛ تلك التي أصَّلها الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز بقوله (تلك دماءٌ طهَّر الله منها سيوفَنا ، أفلا نُطَهِّر منها ألسنتنا) ، والتي استلهمها من قوله تعالى {تلك أمةٌ قد خلتْ لها ما كسبتْ ولكمْ ما كسبتمْ ولا تُسألون عمَّا كانُوا يَعملون} وما أسلمها من طريق ! كيف لا ونحن لا نصل مُدَّ أحد أولئك الصحابة ولا نصيفه ، ولو أنفقنا مثل أحدٍ ذهبا ، وقد أحسن أبو عمرو بن العلاء في قوله (ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال)!
التحكيم ونتيجته المباشرة :ـ
الحكمان هما الصحابيان أبو موسى الأشعري يمثل علياً ، وعمرو بن العاص يمثل معاوية ، وكانت النتيجة المتَّفق عليها باختصار أن خدع عمرو الداهية أبا موسى الأشعري فجعله يصعد على المنبر فيخلع علياً من الخلافة ثمَّ انصرف عمرو وأهل الشام إلى معاويةَ وسلموا عليه بالخلافة كما تتفق كل المصادر على ذلك وقد أحسَّ جند الإمام علي بالندم لأنهم ضربوا عمرو بن العاص بالسوط فقط ولم يضربوه بالسيف في ذلك الموقف. (1)
علي ونتيجة التحكيم : ـ
لم يرض علي بن أبي طالب بنتيجة التحكيم ، فمما قاله في إحدى خطبه في أهل الكوفة-والرواية للطبري-( ألا إنَّ هذين الرجلين اللذين اخترتموهما حكمين قد نبذا حكم القرآن وراء ظهورهما ، وأحييا ما أمات القرآن ، واتبع كل واحد منهما هواه بغير هدى من الله ، فحكما بغير حجة بينة ، ولا سنَّةٍ ماضية ، واختلفا في حكمهما ، وكلاهما لم يرشد ، فبرئَ الله منهما ورسولُه وصالحُ المؤمنين)(2) ، وقد ذكر ذلك عينه في رسالته لأهل النهروان التي سننقلها لاحقاً في هذا الجواب.
فهذا رأي علي ويتضح فيه تقييمه للتحكيم من مبتدأه ، والعصمة لأنبياء الله فهو من هو عقلاً وحكمة لم يرض بنتيجة التحكيم ثُمَّ لم يرض عن أصحابه الذين لم يرتضوا بالتحكيم!.
مشاهير الصحابة من غير أهل النهروان يرون هذا الرأي أيضاً: ـ
ينقل الطبري أيضاً قول ابن عباس ( قَبَّحَ اللهُ رأيَ أبي موسى ! حذَّرتُه وأمرتُه بالرأي فما عقل ) ويستمر الطبري ليروي قول أبي موسى نفسه (حذَّرني ابن عبَّاس غدرةَ الفاسق ، ولكني اطمأننتُ إليه ، وظننتُ أنه لن يُؤثرَ شيئاً على نصيحة الأمة )(3)
الخلاصة في مسألة التحكيم: ـ
يتضح من استقراء النصوص السابقة ، أنَّ التحكيم خطة من عمرو ، استجاب لها الإمام علي رضوخاً لنداء الأغلبية من الناس ، أما علي والجمع الأكبر من الصحابة فكانوا جميعاً يدركون خطورتها ، ويكفي على ذلك دليلاً أنه كرَّم الله وجهه قرر مواصلة قتال معاوية بعد خدعة التحكيم مباشرة ، ورسالته لعبدالله بن وهب الراسبي عند الطبري خير شاهد على ذلك.
تقييم من ألسنة الصحابة والتابعين لمعاوية وعمرو: ـ
أما عمرو فيكفي ما نقلناه من كلام علي وابن عباس وأبي موسى فيه ، أما معاوية فإننا سننقل حكم جهة محايدة فيه ، فاسمع كلام الحسن البصري يقول ( أربع خصالٍ كُنَّ في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة لكانت موبقة : انتزاؤه على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الأمر من غير مشورة ، وفيهم بقايا الصحابة ، وذوو الفضيلة ، واستخلافه من بعده ابنه سكِّيراً خمِّيراً ، يلبس الحرير ويضرب الطنابير ، وادعاؤه زياداً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {الولد للفِراش ، وللعاهر الحَجَر} وقتاله حُجْراً وأصحاب حجر فياويلاً له من حجر وأصحاب حجر)(4) ، وحجر هو صحابي دُفن حياً لأنه أبى لعن علي على المنابر. (5)
إذاً فأهل النهروان ليسوا نشازاً في تقييمهم هذا وعدم رضاهم بمسلك معاوية.
عودٌ على بدء : ـ
قلنا أنَّ أهل النهروان هم بقية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من القراء والمجاهدين ، ومن نزل رتبة عنهم فهو من التابعين، فكان رأيهم الاستمرار في قتال معاوية حتى ينصاع لأمر الله ، وينضوي تحت لواء الإمام علي بن أبي طالب ، وكانوا يرون أن التحكيم خدعة دبَّرها عمرو بن العاص ، فنادوا أن لا حكم إلا لله ، وعندما تخلى عليٌ عن الخلافة ، أقاموا خليفة منهم كي لا يناموا ليلة من دون خليفة فيخالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان خليفتهم المنتخب هو الصحابي عبدالله بن وهب الراسبي فخاصمهم علي وسماهم (الخوارج) لأنهم خرجوا من جيشه ، فهو خروج سياسي ، وقاتلهم لذلك ، فلم تقم لعلي من بعد قتالهم قائمة إذ انتزع منه معاوية اليمن والحجاز ومصر ، وغارت خيله على الأنبار ، وقتلوا عماله ، فلم يعد يسمع له كلام أو يمتثل له أمر ، وهذا سرُّ كثرة شتمه وتقريعه لجنوده في أغلب خطبه من بعد ذلك ، ويكفيك مخاطبته لجنده الذين قتلوا أهل النهروان بقوله ( يا أشباهَ الرِّجال ولا رجال ، حلومُ الأطفال وعقولُربَّاتِالحِجال ، وددتُ أنِّي لم أرَكم ولم أَعرفكم!..) وهي من شهير خطبه التي لا تحتاج إلى تخريج ، ومن أراد متابعة ذلك فليرجع إلى نهج البلاغة أو أغلب كتب التاريخ التي تحدثت عن هذه الفتنة.
شخصياتٌ من أهل النهروان
عبدالله بن وهب الراسبي يعرفه الزركلي قائلاً: (كان ذا علم ورأي وفصاحة وشجاعة أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وشهد فتوح العراق مع سعد بن أبي وقاص ) (6) ، فهو صحابي - عالم - ذو رأي - خطيب فصيح - شجاع - جاهد في سبيل الله ، نصَّبه الصحابة إماماً عليهم بعد أن تنازل علي ، خوفاً من أن يستأثر بها معاوية الذي سبق كلام الحسن البصري فيه.
حرقوص بن زهير السعدي: ـ
حرقوص بن زهير كان أحد قادة جيوش الفتح أيام عمر ، فاتح الأهواز ، فقد جاء في أسد الغابة : ( إنَّ الهرمزان الفارسي صاحب خوزستان ، كفر ومنع ما قِبله ، واستعان بالأكراد ، فكثف جمعه ، فكتب سُلمى ومن معه إلى عتبة بن غزوان ، فكتب عتبة إلى عمر بن الخطاب ، فكتب إليه عمر يأمره بقصده ، وأمدَّ المسلمين بحرقوص بن زهير السعدي ، وكانت له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمَّره على القتال ، فاقتتل المسلمون والهرمزان ، فانهزم الهرمزان ، وفتح حرقوص سوق الأهواز ونزل بها ، وله أثر كبير في قتال الهرمزان)(7) فحرقوص هو صحابي ، فاتح الأهواز . إنه المجاهد الذي يختاره عمر - وما أدراك ما عمر في اختيار الرجال-من بين الصحابة كرجلٍ للمهمات الصعبة ، وما أشبهه بالقعقاع بن عمرو رضي الله عنه.
فلمصلحة مَن تتمُّ تشويه صور قادة الفتح الإسلامي في الأذهان من غير دليل ، بل بالافتراء الصريح؟!
وفي أهل النهروان صحابة آخرون : ـ
لقد اجتمعت بالنهروان بقية نادرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا يسع المجال لتعدادهم ونذكر منهم ههنا الصحابي زيد بن حصن الخاشع الأوَّاب ، وشجرة بن أوفى السلامي وهو من أهل بدر ، وعبدالله بن شجرة ويزيد بن عاصم وإخوته الأربعة وهم ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، أي أنهم من الذين رضي الله عنهم بنص الكتاب العزيز.
لقد قُتل جميع هؤلاء وغيرهم من الصحابة وآلاف من المسلمين في هذه الواقعة ، وعلى الإجمال فإن أهل النهروان كانوا من خيار أهل الأرض يومئذ وزهادهم ، فيهم من أهل بدر وممن بايع تحت الشجرة والقراء ، ومن خيار التابعين. (8)
هل كان أهل النهروان طلاب دنيا؟
أفضل إجابة على هذا السؤال هو عدم رضاهم بالتحكيم ، فهم طلاب موت في سبيل بقاء خليفة المسلمين المنتخب في منصبه ، وما أعظمَه من جهادٍ في سبيل الله ، أما وأن الخليفة المنتخب قد تنازل عن الخلافة راضياً بالتحكيم ، فإنهم قد اختاروا من يرتضون دينه بديلا عنه ، لإقامة شرع الله ودينه ، وقد ذكر المؤرخون خطبهم في أثناء البيعة ، وهي تؤكد حرص هؤلاء القوم على واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بل والمناداة إلى ترك دار الفتنة إلى بعض كور الجبال ، وهذا منصوص عليه في خطبة الإمام عبدالله بن وهب الراسبي قُبيل البيعة.(9)
نظرة أبي الحسن والحسين لأهل النهروان:ـ
برفض أهل النهروان للتحكيم ، واعتزالهم ، ثمَّ انتخابهم لإمام جديد خلفاً للإمام علي الذي رضي بالتحكيم أولاً ثمَّ رفض نتيجته ، فقد رأى أنَّ تنصيبهم لإمام جديد ما هو إلا مقاتلة له ، وهذا ما نصَّ عليه بقوله ( ولكنهم قومٌ قاتلونا فقاتلناهم) ، ولكنه مع هذا نفى عنهم الشرك والنفاق عندما أراد بعض المغرضين رميهم بذلك فقال (من الشرك فروُّا) ، وأوضح أنَّ المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا وهؤلاء بعكس ذلك. (10)
من الباديء في مجزرة الصحابة في النهروان ؟ ـ
سننقل ههنا رواية للطبري يروي فيها شيئا من التحرش بهؤلاء الصحابة المجاهدين ((قال أصحاب سعد (وهو سعد بن مسعود الثقفي ) لسعد : ما تريد من قتال هؤلاء ولم يأتك فيهم أمر ! خلِّهم فليذهبوا ، واكتب إلى أمير المؤمنين ، فإن أمرك باتباعهم اتبعهم ، وان كفاك غيرك كان في ذلك عافية لك ، فأبى عليهم ذلك)) (11) فأنت ترى تحرشَ هذا القائد بأهل النهروان ، ولك أن تتصور كيفية نقله للخبر بعد ذلك إلى علي بن أبي طالب ! فهل سيصور نفسه مبتدِأً العدوانَ عليهم؟! ، ولكن هذا لا يعني أبداً أن الإمام علي لم يكن صاحب القرار الأول في المجزرة فالكل يتفق على حضوره هنالك ساعة الواقعة.
جريمة تشويه صورة أهل النهروان في الأذهان :ـ
إنَّ خصم علي بن أبي طالب كانا داهيتي العرب عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان ، ولقد تمكنا من زرع عملاء لهم في صفوف جيش علي يبثون الفرقة ، ولقد تمكن بعضهم من الوصول إلى أن يكون من قادة جيش الإمام علي وناقلي الأخبار إليه ، ولقد أسهم هؤلاء إسهاماً عظيماً في إذكاء نار الفتنة ، وليِّ أعناق الأحاديث النبوية الشريفة لتكون موجهة لأصحاب النهروان فيكونوا هم الذين حذَّرت منهم الأحاديث الشريفة بأنهم يأتون في آخر الزمان ، يتركون أهل الأوثان ، ويقتلون أهل الإسلام ، يقرؤون القرآن فلا يجاوز حناجرهم ، وما ذلك بغريب فبعد مقتل عمَّار بن ياسر ، وخروج الكثير من جيش معاوية إلى جيش الإمام علي ، بعد أن قرع سمعهم الحديث (ويح عمار تقتله الفئة الباغية ) أشاع عمرو بن العاص مقولته (إنما قتله من خرج به) وهكذا تشوهت الحقيقة في أذهان كثير من العامة ، الذين عادوا أدراجهم إلى جيش معاوية.
ولقد بدأت كتابة التأريخ الإسلامي بعد ذلك ، تحت مسمع الدولة الأموية -السلطة الجديدة -وبصرها ، وأهل النهروان ومن بقي منهم هم من كان يرى ضرورة عدم مهادنة جرثومة(12)هذه الدولة ،فسلَّطت عليهم يدها الباطشة ، وإعلامها الهادر عسى أن تأتي عليهم فلا تبقي لهم أثرا ، ولم تكن الدولة العباسية بأرحم من ذلك.
لقد صوِّر أهل النهروان على أنهم الخوارج المتوحشون ، الذين يجب قتلهم واستئصالهم ، وقد أتقنت الدولة الأموية ومِن بعدها الدولة العباسية تتبُّع من بقي من آثارهم ، فتتبعتا كلَّ من رأى عدم شرعيتهما في كلِّ أرض وقطر ؛ وأوسعوا قتلاً وتعذيبا.
لقد صوَّر الكثير من المؤرخين أهلَ النهروان وبقاياهم وحوشاً مسعورةً تتلذذ ببقر البطون وقتل الناس ، فترى بعد تعريف كلِّ واحدٍ منهم (زائغٌ مبتدع) وإن كان صحابياً مجاهدا ، وما هي بدعته ؟ إنَّها لم تكن إلا قوله : لا حكم إلا لله ، ومتى كان هذا القول بدعةً وضلالة؟.
وأنت أيها القارئ الكريم قد رأيت قول علي وابن عباس بل وقول أبي موسى وهو أحد الحكمين في التحكيم ذاته.
تلفيق التهم بهؤلاء الصحابة ومن بقي منهم: ـ
1ـ من ذلك وأخطره استغلال لفظة (الخوارج) في غير محلها ، فهي تسمية أطلقها عليهم الإمام علي بن أبي طالب لتمييزهم ممَّن بقي عنده ، ولم تكن تلك سُبَّة وإلا لما استخدمها أهل النهروان أنفسهم ، فخروجهم من جيش علي حقيقة تأريخية ، ولا عيب فيها ، فهي رفضٌ لفكرة التحكيم التي ثبت فشلها عملياً ولم يقبل نتيجتها حتى الإمام علي، فهو خروجٌ سياسي ، ولكن المؤسف أن يتجرأ عليهم اللاحقون من أهل الأهواء ، الذين لم يسلم من تزويرهم أحد حتى من لحق من أئمة المذاهب فألَّفوا الأحاديث في شتمهم ، وتحذير الأمة منهم كالحديث المكذوب على الإمام الشافعي وأنه أخطر من إبليس ، وغيره من أئمة المذاهب الإسلامية ، في الوقت الذي تؤلف فيه الأحاديث لإطراء المتهاونين في دينهم المقصرين فيه ، رغم ورود أحاديث صحيحة تقذعهم كقوله صلى الله عليه وسلم في معاوية (لا أشبع الله بطنه) (13) ، ألئك الذين لم يسلموا إلا فَرَقاً من السيف ، قبيل انتقال الرسول الكريم إلى الرفيق الأعلى بعد أن أوسعوه هجاءً بأشعارهم وقتالا بسيوفهم ، لقد صُوِّر بعض هؤلاء مثلاً بأنه كان من كتَبَة الوحي رغم أنه كان من الطلقاء الذين أسلموا عام الفتح ؛ فأي وحي هذا الذي كتبه ؟! لقد كانت حَمْلة مسعورة لتشويهه الحقائق في أذهان العامة ، وتحوير التأريخ ، وما أعظم الفرية على رجالٍ من أهل بدر وبيعة الشجرة ومن ماثلهم في الفضل والشرف حتى سُمِّيَ خروجهم لإقامة حكم الله خروجاً من الدِّين، وما التطاول على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج من الدين إلا طامة كبرى ، ومصيبة عظمى تقذف بقائليها في المهالك ، وهي تهمة لم يقمْ عليها الدليل ، ولا تسندها الحُجَّة ، وهل يكون اعتزالُ الفتنةِ خروجاً من الدين ، في الوقت الذي لا يُعَدّ اغتصابُ الخلافة من الخليفة الشرعي المنتخب خروجاً من الدين؟.
2ـ ومن ذلك التشويه المتعمَّد أيضاً تأليف القصص في وحشية أهل النهروان وسذاجتهم ، وقتلهم للمسلمين في الوقت الذي يعتذرون لأهل الخنازير عن قتل خنازيرهم ، وهذه القصص منتشرة في كتب التأريخ وأغلبها كذبها هو أوضح ما فيها ! ، ولو سلَّمنا جدلاً بصحتها فإن تصرف البعض (إن صحَّ) لا يدلُّ على الكلِّ ، ومن الغباء والظلم سحب خطأ فرد أو أفراد على الجماعة كلِّها ، والله تعالى يقول (ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى ) ويقول (كلُّ نفسٍ بما كسبت رهينة) ، وإلا فمن الحُمق والغباء أن يأتي حاقد ليُحَمِّلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطاء بعض الصحابة ، كما فعل خالد بن الوليد وآخر لعلَّه أسامة بن زيد ، الذَين تبرأ الرسول صلى الله عليه وسلم مما فعلا مباشرة فقال صلى الله عليه وسلم {اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد } (من رواية البخاري )، وقال للآخر {ماذا تقول للا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة } (من رواية مسلم).
أليس من الظلم اليوم أن ننسب الحركات المتطرفة في بعض الدول الإسلامية التي تقتل الناس من غير جرمٍ اكتسبوه ، أليس من الظلم أن ننسبها إلى المذاهب الإسلامية التي ينتمون إليها أصلاً فنقول هؤلاء شافعية أو مالكية مثلاً رغم أنهم يبرأوون من أفعالهم ؟!! فهذه بتلك.
زَيْغُ النجديةِ والصفريةِ وأمثالِهم: ـ
بعد مجزرة الصحابة بالنهروان ، تمَّ تتبع من بقي من الناس الذين يمتون إلى هؤلاء فكراً ، في كلِّ أرض لإبادتهم ، وتزعمت هذه الحملة بطبيعة الحال الدولةُ التي خرج ضدها هؤلاء واقرأ إن شئت أفعال زياد بن أبيه فيهم ؛ ويكفيك أنه كان يصلب نسائهم عرايا (14) ، فكانت هنالك ردة فعلٍ مُجْرمةٍ لدى بعض هؤلاء فأفتوا بشرك مخالفيهم ؛ فاستحلوا دماءهموأموالهم وحرَّموا مناكحتهم ، كالنجدية أتباع نجدة بن عامر الحنفي أهل اليمامة (الرِّياض حالياً) ، ومثلهم الأزارقة أتباع نافع بن الأزرق ، والصفرية أصحاب زياد ابن الأصفر ، وما كان من بقية أهل النهروان الثابتين على الإنصاف إلا أن أعلنوا البراءة منهم وذلك مدون في ما كتبوه وحفظته كتب التأريخ فلتراجع كتب الإباضية في هذا لأن قولهم حجةٌ عليهم ، وهذا سرُّ تسمية هؤلاء البغاة للإباضية بالقَعَدَة ، أي أنهم قعدوا عمَّا سوَّلته لهم أنفسهم بأنه جهاد ، وما هو إلا ردَّة فعل للانتقام من كلِّ المسلمين ، وهو شبيه بما يحدث في كثير من بقاع العالم الإسلامي اليوم.
إنَّ الإباضية يبرأوون على كلِّ حال من كلِّ إنسان لوَّث يده متعمداً بدماء المسلمين الطاهرة الزكية ، أو استحلَّ دمائهم ، أياً كان ، فالناس عند الله محاسبون بأعمالهم لا بأنسابهم .
الأعجب في الأمر أن تجاهلا عظيماً وغضاً للطرف يجري عمَّا صنعه معاوية ومن جاء بعده ، وقد ذكرنا مقولة الحسن البصري فيه وتقتيله لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والصالحين من الأمة ، والأخبار الموثوقة في هذا كثيرة مؤلمة ؛ فمنها ما رواه ابن جرير الطبري وابن الأثير واللفظ له ، في قتل معاوية لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ( وكان سبب موته أنه كان قد عظم شأنه عند أهل الشام ، ومالوا إليه لما عنده من آثار أبيه ، ولغنائه في بلاد الروم ، ولشدَّة بأسه ، فخافه معاوية وخشي منه ، وأمر أُثال النصراني أن يحتال في قتله ، وضمن له أن يضع عنه خراجه ما عاش! ، وأن يوليه جباية خراج حِمص ! ، فلما قدِم عبد الرحمن من الروم دسَّ إليه ابن أُثال شربة مسمومة مع بعض مماليكه ، فشربها ، فمات بحمص ، فوفَّى له معاوية بما ضمن له) فهل معاوية مستثنى من قوله تعالى { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدَّ له عذابا عظيما}(15) ، أما الأحاديث التي وردت في فضائل معاوية فارجع للحافظ الذهبي في (سير أعلام النبلاء) لتعلم بطلانها.(16)
المناظرة بين ابن عباس وأهل النهروان : ـ
الصحابي عبدالله بن عباس انتدبه علي ابن ابي طالب لمناظرة أهل النهروان ، وتختلف المصادر هاهنا فمنها ما يقول حجَّهم ومنه ما يقول حجُّوه ، وقد ذكرنا ما رواه الطبري من مقولة ابن عباس في التحكيم ، فرأيه رأي أهل النهروان ، والمصادر الإباضية تورد رسالة شديدة اللهجة من علي إلى ابن عباس ومما يقوله فيها ( وقد بلغني عنك أنَّك تقول : ((بعثني علي إلى قوم لأخاصمهم فخصموني بما كنت أخصم به الناس)) ، فلعمري لئن كنت تعلم أني قتلت الخوارج ظلماً وماليتني على قتلهم ، ورضيت به ، فأنت شريكي في قتلهم ، وإن كنت تضمر لي أمراً وتظهرُ خلافه ، فلقد شقيت في الدنيا والآخرة…) ثمَّ تذكر المصادر الإباضية جواب ابن عباس لعلي ، وبه تفصيل للمناظرة ، وما تمَّ فيها وحجج الفريقين واضحة ولا يهم أين وردت وإنما المهم قوة الحجة ونصاعة البرهان ، في أي مصدرٍ كانت ، وأنت تعلم الآن أنَّ من أهل النهروان من هو لا يقل فضلاً عن ابن عباس بل هنالك من هو أطول منه صحبة وقد شهد بدرا .(17) وقد أشار الطبري إلى اقتناع ابن عباس برأي أهل النهروان في قوله : (فدخل علي الكوفة ، ونزلوا بحروراء ، فبعث إليهم عبدالله بن عباس ، فرجع ولم يصنع شيئا ، فخرج إليهم علي فكلَّمهم حتى وقع الرِّضا بينه وبينهم) (18) ، فقوله (فرجع ولم يصنع شيئاً ) لا يحتاج إلى شرح ، ومما يدلُّ على اقتناع ابن عباس بما ذهب إليه أهل بدر والسابقين من أصحاب رسول الله من أهل النهروان ، هو اعتزاله للفتنة ورجوعه إلى مكة المكرمة وقد ترك العمل الذي وكله به ابن عمه علي بعد أن اتهمه بالاختلاس وحاشا ابن عباس عن ذلك ولكنها الفتنة العمياء والوشاية المغرِّضة ، التي أوقعت بينه وبين علي كما أوقعت بين علي والصحابة من أهل النهروان من بعد، وقد كتب ابن عباس إلى علي ( أما بعد فقد فهمت تعظيمك مرزاة ما بلغك عني إني رزئته من أهل هذه البلاد ، فابعث إلى عملك من أحببت فإني ظاعنٌ عنه والسلام) (19) ، ولو كان ابن عباس يرى بطلان رأيهم لما وسعه ترك قتالهم ، وقد فعل ذلك أبو موسى الأشعري فرحل من الشام إلى مكة المكرمة.(20)
الأحاديث التي صرفت ظلماً في أهل النهروان: ـ
لنفرض جدلاً أن أهل النهروان كانوا على خطأ في اجتهادهم للخروج من زمرة جيش الإمام علي ، واستخلافهم إماماً جديداً ، هل فعلهم هذا كافٍ للحكم بخروجهم من الملة وإن صلّوا وصاموا ؟! وهل في ذلك دليل على أن تبقى ذرياتهم خارجة عن الدين إلى يوم القيامة ؟! لا أظن أن عاقلاً يتبنى هذا الزعم غير المنطقي ، ومع ذلك فلقد لويت أعناق كثير من الأحاديث ، واستغلت في معرض القدح في أهل النهروان ، وهي كثيرة ومتفرقة في المساند ، ولكنَّ معانيها مجتمعة لا تخرج عن ما في الأحاديث التالية:
- <LI class=MsoNormal dir=rtl>أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْسِمُ قِسْمًا أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ فَقَالَ وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ فَقَالَ دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ فَمَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى نَضِيِّهِ وَهُوَ قِدْحُهُ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى قُذَذِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ وَيَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ فَأُتِيَ بِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي نَعَتَهُ. رواية البخاري <LI class=MsoNormal dir=rtl>يَأْتِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. رواية البخاري <LI class=MsoNormal dir=rtl>بَعَثَ عَلِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذُهَيْبَةٍ فَقَسَمَهَا بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ الْأَقْرَعِ ابْنِ حَابِسٍ الْحَنْظَلِيِّ ثُمَّ الْمُجَاشِعِيِّ وَعُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيِّ وَزَيْدٍ الطَّائِيِّ ثُمَّ أَحَدِ بَنِي نَبْهَانَ وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلَاثَةَ الْعَامِرِيِّ ثُمَّ أَحَدِ بَنِي كِلَابٍ فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالْأَنْصَارُ قَالُوا يُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ وَيَدَعُنَا قَالَ إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ فَأَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ نَاتِئُ الْجَبِينِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقٌ فَقَالَ اتَّقِ اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ إِذَا عَصَيْتُ أَيَأْمَنُنِي اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَلَا تَأْمَنُونِي فَسَأَلَهُ رَجُلٌ قَتْلَهُ أَحْسِبُهُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَمَنَعَهُ فَلَمَّا وَلَّى قَالَ إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا أَوْ فِي عَقِبِ هَذَا قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ لَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ * وفي رواية أخرى قتل ثمود. رواية البخاري <LI class=MsoNormal dir=rtl>عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عَلِيٍّ رَضِي اللَّه عَنْه فَقَالَ إِنِّي دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا عَائِشَةُ رَضِي اللَّه عَنْهَا فَقَالَ يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ كَيْفَ أَنْتَ وَقَوْمَ كَذَا وَكَذَا قَالَ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ قَوْمٌ يَخْرُجُونَ مِنَ الْمَشْرِقِ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ فَمِنْهُمْ رَجُلٌ مُخْدَجُ الْيَدِ كَأَنَّ يَدَيْهِ ثَدْيُ حَبَشِيَّةٍ . رواية أحمد
- يَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ يُسِيئُونَ الْأَعْمَالَ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ قَالَ يَزِيدُ لَا أَعْلَمُ إِلَّا قَالَ يَحْقِرُ أَحَدَكُمْ عَمَلَهُ مِنْ عَمَلِهِمْ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ فَإِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ فَطُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَطُوبَى لِمَنْ قَتَلُوهُ كُلَّمَا طَلَعَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قَطَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَرَدَّدَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِشْرِينَ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ وَأَنَا أَسْمَعُ *رواية أحمد
أولا: أضيف إلى بعضها شروح الرواة ، ونظراتهم الخاصة ، وهي تسخير بيِّن لمراد الحديث ، مثل (حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ) لمناصرة طائفة على أخرى ،فهي ليست من صُلب الحديث ، وإنما هي – إن صحَّت - دعوى فريق ليُبررَ موقفه ، ولا تُقبلُ لِفضِّ خصام ، وسيأتيك البيان ببراءة الصحابة أهل النهروان من ذلك.
ثانياً: ذو الثدية ، صوَّره بعض المتهورين ظلماً على أنه هو حرقوص بن زهير السعدي ، الذي لم يُبنَ على دليل ، بل هو من الكذب المعارض للدليل البيِّن ، والحجة الساطعة ، وإليك البيان:
حرقوص بن زهير السعدي الصحابي المفترى عليه: ـ
إنَّ الجرأة على فاتح الأهواز حرقوص بن زهير على أنه ذو الثدية ، لهو من الكذب على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم :
فأولا: لم يرد في أي من الصحاح ولو إشارة واحدة على أنَّ ذا الثدية كان حرقوص بن زهير السعدي ، مع أن كتب الصحاح لم تدوَّن إلا بعد النهروان ، ومؤكد أنها ستشير إليه اسماً لو صحَّ الخبر ، وإنما هذه الفرية من تلفيقات المأجورين الحاقدين على أهل النهروان .
ثانياً: لقد ذكرنا مكانة حرقوص عند عمر رضي الله عنه ، واختياره له من بين الصحابة لنجدة المسلمين ، وفتح الأهواز ، ونحن نعلم مدى دقة عمر في اختيار قادته؟!، فكيف يستعين عمر على الجهاد وهو ذروة سنام الإسلام برجلٍ ذلك شأنه وتلك علامته التي يزعمون؟ وهل سيفعل ذلك عمر عن جهل وهو صاحب الفراسة ، خصوصاً وأن عمر هو الذي همَّ بقتل ذي الخويصرة في بعض الروايات.
ثالثاً: كيف يتسامح الصحابة في بقائه بينهم ، وقيادته لهم ، حتى يوم النهروان وهو هذا شأنه؟
رابعاً: يخرج من ضئضئه أي من نسله ومعدنه وحرقوص لم يكن من نسل ومعدن ذي الخويصرة.
خامساً: الحديث يذكر أنه أسود اللون ، وإن كان لون البشرة ليس بنقيصة ، فإن حرقوص عربي من بني سعد من جزيرة العرب ، ولم يكن إفريقيّاً.
فلمصلحة مَن يشوِّه البعض صور عظماء هذه الأمة من الصحابة الفاتحين الذين ماتوا من أجل أن تحيا الخلافة الراشدة ، وفي المقابل نرى دفاعاً مستميتاً عن من أنزل الله فيه قوله {ومنهم من عاهد اللهَ لإن آتانا من فضله لَنَصَّدَّقَن..} ؟
نظرة تحليلية للأحاديث: ـ
الأحاديث تذكر أنَّ هؤلاء القوم صفاتهم كالتالي: ـ
ـ يأتون في آخر الزمان.
ـ يخرجون على فُرقةٍ من الناس.
ـ يخرجون من المشرق ؛ وانظر إلى حديث {اللَّهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا }، لتعرف هذه المنطقة! الحديث في البخاري في كتاب الجمعة وفي كتاب الفتن ، وسنن الترمذي في كتاب المناقب ، وعند أحمد في مسند المكثرين من الصحابة.
ـ يقرؤون القرآن ولا يجاوز تراقيهم.
ـ يسيئون الأعمال فمثلاً يكفِّرون المسلمين ويسارعون إلى إخراجهم من الملة.
ـ يقتلون المسلمين ويتركون عبدة الأوثان.
وما يمكن أن يتناسب من هذه الأوصاف مع أهل النهروان هو ثانيها ، وهو أنهم يخرجون على فرقة من الناس ، وهي تنطبق ليس عليهم أنفسهم وإنما تنطبق على كلِّ فِرق الفتنة : أهل الجمل وأهل صفين ، أما الأوصاف الباقية فهي لا تتناسب معهم إطلاقاً للأسباب التالية:
- <LI class=MsoNormal dir=rtl>تذكر أنهم يأتون في آخر الزمان ، وأهل النهروان لم يكونوا في آخر الزمان . <LI class=MsoNormal dir=rtl>تذكر أنهم يتركون قتال أهل الأوثان ، ويقتلون أهل الإسلام ، وأهل النهروان قد قتلوا وهم على مصاحفهم ، بينما قد قاتلوا أهل الأوثان بشهادة الجميع ، ويكفي أنَّ منهم من قاتل مشركي قريش في معركة بدر الكبرى ، ومنهم فاتح الأهواز ، وقادة الأجناد في فتوح العراق. <LI class=MsoNormal dir=rtl>ثبت أن معاوية وعمرو بن العاص قاتلوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل ولقد قتل جيش معاوية عمار بن ياسر الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم {وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ } (من رواية البخاري) . فلماذا ينصرف الخروج على عبدالله بن وهب وقومه ولا ينصرف على معاوية وقومه وكلٌ له شرف الصحبة ، بل صحبة أولئك أطول ؟! لا غرابة أن يسمي الإمام علي أهل النهروان بالخوارج ليميزهم عن جيشه ، ولكن الغرابة أن تستغل هذه التسمية بعد ذلك لهوى في الأنفس لملمز هؤلاء الصحابة بالخروج عن الدين ، وبين الخروجين فرق شاسع.! فلماذا مثلاً يطلق لفظ الخوارج على هؤلاء الصحابة اليوم بينما لم يطلق هذا الوصف على أم المؤمنين عائشة ومن معها من الصحابة ساعة خروجهم على علي في موقعة الجمل؟ ولماذا يكون أولئك مجتهدين مأجورين في اجتهادهم وأهل النهروان مجتهدين مأزورين ؟ فما هو مقياس الحكم ههنا؟ <LI class=MsoNormal dir=rtl>لماذا يتجرأ البعض على هؤلاء الصحابة بالفسوق من الدِّين لأن علياً قاتلهم ، وفي نفس الوقت يترحمون على معاوية وعمرو الذين ثبت قتالهم للمسلمين وخروجهم على علي وقتلهم لعمار بن ياسر ؟!، وقد ذكرنا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في معاوية ونقَلنا قول الحسن البصري فيه ، وكذلك تسمية عمرو بن العاص بالفاسق والغادر من ألسنة الصحابة كابن عباس وأبي موسى الأشعري(21) <LI class=MsoNormal dir=rtl>ثبت أن القرآن كان يصدِّعُ أكباد هؤلاء القوم من الصحابة والتابعين ، وينير قلوبهم ، هربوا من اتباع الهوى واطرحوا زهرة الحياة الدنيا ، راغبين فيما عند الله ، وشوهد من مخالفيهم من كان لا يصل القرآن إلى لسانه فضلا عن الحنجرة ، فالأولى بالأهواء والبدع تارك القرآن ومخالفه. <LI class=MsoNormal dir=rtl>نحن نعلم أن هؤلاء القوم كانوا يناصبون الدولة المغتصبة للخلافة العداء ، فمن هذا الذي يتوقع أن يسكت إعلام الأمويين الهادر عن تشويه صورهم وتضليل سبيلهم ؟ وهل من تشويه أكبر من ليِّ أعناق الأحاديث - في وقت كثر فيه الوضع على رسول الله صلى الله عليه وسلم - ضدَّ هؤلاء الذين كانوا يريدون للخلافة الراشدة أن تعود ؛ تلك التي كان عليها الصدِّيق والفاروق. <LI class=MsoNormal dir=rtl>يشهد العدو والصديق على نزاهة أهل النهروان وبعدهم وأنفتهم عن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولن يضير الصحابي عبدالله بن وهب الراسبي ولا غيره ما يقوله عنه أولئك الذين لا يأبهون بالكلمة وأثرها عليهم أنفسهم عند الله ، وقد ثبت ودُّ الإمام علي بن أبي طالب لهم ومكاتبته إياهم فقد وردت أكثر من رسالة من الإمام علي إليهم بعد تحكيم الحكمين تعترف بصحة رأيهم وسلامة منهجهم ومنها هذه عند الطبري (بسم الله الرحمن الرحيم من علي أمير المؤمنين ، إلى زيد بن حصين وعبدالله بن وهب ومن معهما من الناس . أما بعد ، فإن هذين الرجلين اللذين ارتضينا حكمهما قد خالفا كتاب الله ، واتبعا أهواءهما بغير هدى من الله ، فلم يعملا بالسنة ، ولم ينفذا للقرآن حكما ، فبرئ الله ورسوله منهما والمؤمنون ! فإذا بلغكم كتابي هذا فأقبِلوا فإنَّا سائرون إلى عدونا وعدوكم ، ونحن على الأمر الأول الذي كنَّا عليه . والسلام)(22) <LI class=MsoNormal dir=rtl>من صفات المذكورين في الحديث :{يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم} فهم وبكل وضوحٍ منافقون ، وقد شهد الإمام علي لأهل النهروان وبعد قتاله لهم بأنهم ليسوا منافقين كما روى ذلك ابن أبي شيبة .(10)
- لقد ثبت أن الإمام علي قال ( لا تقاتلوا الخوارج من بعدي) أي الخارجين عن جيشه ، ولو كان هؤلاء هم الخارجين عن الدين لما وسعه أن يسقط عنهم القتل ، خصوصاً وأن الرسول الكريم يقول في حق الفئة التي ستخرج عن الدين (فَإِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ ثُمَّ إِذَا خَرَجُوا فَاقْتُلُوهُمْ فَطُوبَى لِمَنْ قَتَلَهُمْ وَطُوبَى لِمَنْ قَتَلُوهُ )
التأريخ الإسلامي : ـ
إننا نؤمن بأن التأريخ الإسلامي من بعد الخلافة الراشدة لحقه تشويه كثير من الأقلام المأجورة ، التي لم تتحرج حتى عن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لتنصر رأيها ، أو الاتجاه السياسي الذي تناصره ، ولقد ذكر بعضهم في مقدمات كتبهم أنهم كتبوا ما كتبوا بناء على طلب الوالي أو الخليفة أو الوزير الفلاني ، واسمع إلى المبالغات في الألقاب التي يهيلونها على هؤلاء الساسة والتي تصل إلى حدِّ الغلو ، فهل يتصور عاقل أن المُدَوَّن في هذه الكتب سيكون فيه ما يسيء إلى صاحب الطلب ؟!(ولقد حفظ التأريخ أخباراً كثيرة شاهدة على ذلك ، لعل أوَّلها الحملة التي قادها معاوية بن أبي سفيان بنفسه وجنَّد لها جنوده ، من محدِّثين وقصَّاصين ، ليصنعوا مناقب لبعض رجال الصحابة يقابلون بها سيرة الإمام علي بن أبي طالب ومناقبه ، وهذا أمر مشهور نقله (علي بن محمد المدائني)مفصَّلا في كتاب (المغازي والسيرة النبوية) ، ونقل عن الإمام محمد الباقر بتفصيل أقل وأوجزه (نفطويه) و(الطبري) و(ابن الأثير) بجملة أو جملتين .. وبهذا حُمِّل التاريخ صوراً دخيلة عليه ، وبتأثير مباشر من السلطة.
ومن تلك الأخبار ، ومن أكثرها دلالة ، ما هو واضحٌ جداً في مغازي الزهري ، والزهري قد حدَّث بنفسه أنَّ أمير مكة خالد القسري قد أمره بكتابة المغازي والسيرة ، قال : فقلت له : إنَّه يمرُّ بي الشيء من سيرة عليّ بن أبي طالب فأذكره ؟ قال : لا إلا أن تراه في قعر الجحيم!
فإذا قرأت الآن مغازي الزهري _ وقد جمعها عبد الرزَّاق في مصنفه _ رأيته حريصاً على تلك التعليمات كلَّ الحرص) (23)
وإذا وجد أحدهم متَنفساً بين الأسطر تراه يذكر شيئاً من الحقيقة ثمَّ ما يلبثُ أن يدمغها بحكم جائر من عنده ليوافق هوى السلطات الجائرة ، فترى أحدهم يتخبط أيما تخبط عند كتابة الوقائع وتدوين الأحداث ، فمثلاً يبدي إعجابه بورع ونزاهة أبي حمزة المختار بن عوف الشاري وعدله وإنصافه بين الناس بعد طرده لولاة بني أمية والذين يذكر مخالفتهم لشرع الله لأنه يدون ما يدوِّنه في الدولة العباسية مثلاً التي تتلذذ بذكر مساويء الأمويين ، ثمَّ إذا ذكر قتل بني أمية لهم يقول (وطهرَّ الله الأرض من فتنتهم ) لأن السلطة الجديدة أيضاً ترى هؤلاء أهل فتنة لأنهم لا يُقِرون بشرعيتها ، واسمع إلى ابن خلدون في مقدمته إذ يقول: ( وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً وسمينا ، ولم يعرضوها على أصولها ، ولا قاسوها بأشباهها ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات ، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار ، فضلواعن الحق ، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط)(24)
مثال على الاضطراب في رواية أحداث النهروان:ـ
يروي الكثير من مؤرخي تلك الحقبة أن أهل النهروان عندما قاتلهم أشياع علي كأنهم قيل لهم موتوا فماتوا ، وأن علي بن أبي طالب قال لجيشه (والله لا يُقتلُ منكم عشرة ، ولا يبقى منهم عشرة ) (25) ، فيزعمون أن ذلك كان ، ولكن العجب أنهم يروون أن الخوارج انقسموا من بعد ذلك إلى فرق كثيرة تصل إلى اثنتي عشرة فرقة وتزيد في أحيان أخرى ، ونحن نتساءل: من أين أتت هذه الفرق إن كان الناجون لا يزيدون على عشرة؟ ثمَّ إنَّ الاضطراب يبلغ أقصاه عندما يذكرون حربهم لمعاوية (بشهر زور ) سنة 41 هـ ، فهزموا جيشه حتى أخذ يستغيث بأهل الكوفة لنجدته . فمن أين خرج هذا الجيش الذي استطاع هزيمة معاوية؟ فلا مناص لمن يحترم عقله أن تكون الحقيقة كامنة في أحد أمرين:
الأول: كذِب المؤرخين ، فعدد القتلى ليس كما وصفوا ، وكلام علي الذي أوردوه مختَلَق.
الثاني: أن دعوة هؤلاء القوم كانت تأسر ألباب الناس ، فتنتشر بين المسلمين انتشار النار في الهشيم ، فيكثر عددهم بسرعة رغم الحصار المفروض عليهم ، ولا يوجد عاقل يظن أن المسلمين مغفَّلين يركضون وراء كلِّ ناعق ، فكيف إذا كان المؤرخون يصورون الخوارج على أنهم رعاع ليسوا بأصحاب حُجَّة؟!
أمثلة على الخلف الصالح من أهل النهروان:ـ
لقد بقيت من أهل النهروان بقية ، وأعجب بفكرهم الكثير من الناس ، وعليك أن تتصور ما كانت عليه دولة بني أمية – إلا في لمحاتٍ من الدهر – من بعدٍ عن منهج الله ، وقتل لعباد الله ، فخرج عليها هؤلاء مطالبين بالعودة إلى ما كان عليه السلف الصالح ، فضربوا أروع الأمثلة للتضحية في هذا السبيل ، وقد سلب أدبهم الراقي ألباب الأدباء والمفكرين في هذا العصر ، فكتبوا مقرِّضين له معجبين بشجاعتهم في ذات الله ، وليس هذا المجال مجال تفصيل ، وإنما سنذكر مثَلَينِ من هؤلاء الأعلام ، ومن أراد الاستزادة فعليه بكتب التاريخ والأدب قديمها وحديثها:
1.ندر من يجرؤ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في عهد عبيد الله بن زياد الذي لا يوجد مؤرخ إلا يذكر فسقه ، واستخفافه بدماء المسلمين ، ولكن هذا هو عروة بن أديَّة يقف بين يديه ؛ وكان عبيدالله في رهان فقال له (خمسٌ كنَّ في الأمم قبلنا فقد صرن فينا {أتبنون بكل ريعٍ آيةًتعبثون. وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون . وإذا بطشتم بطشتم جبارين} فلما سمع ابن زياد ذلك ترك رهانه ، واضمر لعروة الشرَّ ، فهرب ، غير أنَّ ابن زياد تمكن من القبض عليه وقتله!! ، وبعث ابن زياد ألفي رجل على رأسهم ابن حصن التميمي لقتال أبي بلال أخي عروة ، فهزمهم أبو بلال وهو في أربعين رجلا! ، وفي ذلك يقول الشاعر:
أألفـا مؤمِـنٍ في مازعمتـــــــــم ويقتلهم بآسَـكَ أربعونــــــــا
كذبتم ليس ذاك كما زعمتم ولـكنَّ الخوارجَ مؤمنونـــــــــا
هي الفئة القليـلة قد علمتم على الفئة الكثيرة يُنصرونا(26)
يزيد بن عبدالملك خليفة المسلمين !! حكم ديار الإسلام أربع سنوات ، اشتهر باللهو والخلاعة والتشبيب بالنساء ، شُغِفَ بجاريتين إحداهما خُبابة والأخرى سلامة ، وقد غنت خُبابةُ يوماً:
بين التراقي واللهاة حرارةٌ ما تطمئنُ ولا تسوغ فتبردُ
فطرب يزيد السكران ثمَّ قال : أريد أن أطير ! فقالت له خُبابة : فعلى من تدع الأمة ؟ قال: عليك ؛ فخرج بعض خدمه وهو يقول : سخنت عينك فما أسخفك!.وكان موتها سبب موته ، فقد اعتلَّ بعدها ولم يظهر للناس ، ولم يدفنها أياماً جزعاً عليها ، ومات بعدها بأيامٍ قلائل!
فكان قائد تحرير مكة والمدينة من أيدي هؤلاء المتهتِّكين أبو حمزة المختار بن عوف الشاري يقول : أقعدَ خُبابة عن يمينه وسلامة عن يساره ، ثمَّ قال : أريد أن أطير ، فطار إلى لعنة الله وأليم عِقابه.(27)
فمن أولى هذين بأن يُعاب ، وهل يُعَدُّ تغيير المنكر على الفَسَقَةِ غشماً وخروجاً عن الإسلام؟!
الحاجة إلى موسوعة تأريخية إسلامية:ـ
إنَّ التأريخ الإسلامي يحتاج إلى قراءة منصفة ، تعيد كتابته وتصفيته ، خصوصاً اليوم بعد أن تبين للجميع كيف تُلصقُ بالكثير من الأحزاب والاتجاهات تهمٌ هي منها بريئة براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام .
كتابة التأريخ الإسلامي ، كثيراً ما تأثرت بعوامل أقواها إرضاء السلطات ، والخوف من القمع ، وغالباً ما تكون الاتجاهات المذهبية والفكرية هي المنطلق لأغلب مَن دَوَّن للأحداث وخصوصاً أحداث الفتن ، وهذه طامة عانى منها الإسلام كثيرا ، والمخرج في نظري المتواضع يكون :
أولاً : في توعية الناس بخطورة تكفير المسلمين وتضليلهم من غير حجة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار ، وتنبيههم لسقطات المؤرخين التي لم ينج منها إلا من رحم الله .
ثانياً: على كلِّ من أراد الخوض في غمار أحداث التأريخ الإسلامي وغيره أن يضع نصب عينيه قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} وقوله صلى الله عليه وسلم { كفى بالمرء كذباً أن يحدِّث بكل ما سمع}رواية مسلم.
ثالثاً: إننا نستصرخ أعلام الأمة من المؤرخين أن يجتمعوا من كلِّ مذهب إسلامي يشاركهم في ذلك أساطين علوم الحديث النبوي الشريف ليُدونوا موسوعة للتأريخ الإسلامي ، قوامها تقوى الله ، ليس هدفها إرضاء الأذواق ، ولا نُصرة مذهب على آخر ، ولا تشويه التأريخ الإسلامي ، وإنما إخراج الحقائق ناصعة بيِّنة . الأحاديث النبوية بها ثابتة ، والأخبار موثَّقة . يُنَبِّهوا على الفتن ، وخطورة الخوض فيها ، بل ويستخلصوا منها العبرة والدرس كي لا يقع اللاحق في ما وقع فيه السابق ، وبهذا نكون قد استفدنا من سردنا لأخبار الفتن التي وقعت بين المسلمين. إننا لا ندعو مطلقاً لتشويه تأريخ الأمة فهو ميراثنا الحضاري ، ولكننا ننادي بإنصاف كلِّ من ظلمه كُتَّاب التأريخ ، فتحقيق كثير من المسلَّمات التأريخية الخاطئة سيكون له أثره الفاعل في العمل على وحدة صفِّ الأمة المسلمة ، ونحن نعلم أن يختبئ في أعطاف الأمة من لا يريد ذلك !.
الخـاتمــة : ـ
الفتنة التي قامت بين أصحاب رسول الله كانت فتنة عمياء ، ذهب ضحيتها الكثير من المسلمين ، وكانت نتيجتها القاسية ذهاب الخلافة الراشدة وقيام الملك العضوض ، إنَّ خوضنا نحن اللاحقين في غمار هذه الفتنة ، لنصوِّب أو نخطيء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهو ضربٌ من المخاطرة ، وسعيٌ في طريق دامس الظلام ، والسلامة السكوت والبعد عن تضليل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عملاً بقوله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام : { لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ } ، والخطر الأعظم هو في تضليل تلك الكوكبة المخلصة التي اعتزلت الفتنة على جسر النهروان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذين كان فيهم من أهل بدر ومن أهل بيعة الشجرة ، فأقاموا دينهم ، وماتوا على مصاحفهم .
إنَّ المسلم الحصيف هو من يشغل نفسه بما يقرِّبه من الله زلفى ، ويتدبَّر ما يسمع ، فيعمل بأحسنه ، ولا يخوض في ما ليس له به علم .
أيها المسلمون إنَّ وصفنا للواقع الإسلامي بأنّه مؤلم لهو تبسيط ومواساة لأنفسنا لما نحن فيه ضياع ، إنَّ الحكمة تقتضي أن نبحث عن ما يؤلف الصفَّ فنعمل على إشاعته ، ونعترف بالخلاف وحتميَّته ، فكفانا فُرقَةً وشتاتا.
سبحانك اللهم وبحمدك ، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
ملحق
ابن تيمية وقوله في الإمام علي :
من المفارقات أن من أثار هذا الموضوع هو أحد الحشوية الوهابية ، الذين أحيوا فكر ابن تيمية الحراني ، ومما قاله لي أنه هو له الإمام علي وأنا لي حرقوص ، وهذا أمر مضحك فإمامه الحراني قد خطأ الإمام علي في سبعة عشر موضعاً يرى أنه خالف فيها نص الكتاب ، وقال عنه : إنه كان مخذولاً ، وإنه قاتل للرئاسة لا للديانة وقد ذكر ذلك في كتابه المنهاج(28) ومما قاله (وليس علينا أن نبايع عاجزاً عن العدل علياً ولا تاركاً له ، فأئمة السنة يسلمون أنه ما كان القتال مأموراً به ولا واجباً ولا مستحباً) ويقول (ولا رأي أعظم ذماً من رأي أريق به دم ألوف مؤلفة من المسلمين ، ولم يكن في قتلهم مصلحة للمسلمين لا في دينهم ولا دنياهم بل نقص الخير عمَّا كان وزاد الشر على ما كان ) وابن تيمية لا نستشهد برأيه فهو متخبط في أغلب أمره ، وهو في قوله الأخير هذا لا يقول ما يقوله إلا دفاعاً عن قومه أهل الشام الذين بغوا على الخليفة المبايَع فقاتلهم الإمام علي تنفيذا لحكم الله بعد أن أبوا الانصياع إلى الحق لقوله سبحانه (فقاتلوا التي تبغي) ، ولكننا ذكرنا ذلك ليرى القارئ الكريم مدى التخبط الذي يعمه فيه هؤلاء القوم ، وكيف يفلح في أقواله وأفعاله من آذنه الله بالحرب بسبب عدائه لأولياء الله ؟ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
رجب 1418 للهجرة المباركة.
المراجع:
تنبيه: الأسهل مراجعة الأحداث عند الطبري تبعاً لسنوات وقوعها ، وهي هنا سنة 37للهجرة ، لأن اختلاف الطبعات تعني في كثير من الأحيان اختلاف الصفحات.
1. تاريخ الطبري/المجلد الثالث/113 تنبيه: الأسهل مراجعة الأحداث عند الطبري تبعاً لسنوات وقوعها ، وهي هنا سنة 37للهجرة ، لأن اختلاف الطبعات تعني في كثير من الأحيان اختلاف الصفحات.
2. المرجع السابق ص116
3. المرجع السابق ص113
4. ابن الأثير 3/242 ، والبداية والنهاية 8/130
5. لتفصيل القصة راجع ابن الأثير 3/234-242 ، والبداية والنهاية 8/50-55 ، والخلافة والملك لأبي الأعلى المودودي 1/ 105 ، وتاريخ الطبري 4/190-207 ، والاستيعاب لابن عبد البر 1 /135 ، وابن خلدون 3 / 14.
6. الأعلام للزركلي4/288
7. أسد الغابة المجلد الأول ص 474 - 475 وأشار إلى تاريخ الطبري 4/76
8. لتتبع أسماء الصحابة من أهل النهروان يراجَع كتاب الجواهر المنتقاة لأبي القاسم بن إبراهيم البرادي ، ت 750هـ ، والكتاب مخطوط في دار الكتب المصرية بالقاهرة . تحت رقم 21791ب
9. الطبري 3/115
10. نص الرواية عند ابن أبي شيبة في المصنَّف 37942
11. الطبري3/116
12. الجرثومة لغة الأصل
1. صحيح مسلم (4/2010 برقم 2604) وكذلك (2/1114 برقم 1480)
14. نشأة الحركة الإباضية للدكتور عوض خليفات ص 64 ،وقد ذكر المصادر.
15. ابن جرير الطبري في تأريخه 3/202 وابن الأثير في الكامل 3/453
16. الحافظ الذهبي في (سير أعلام النبلاء) 3/132 ، وارجع للأحاديث الثابتة في صحيح مسلم التي تقدح في معاوية (4/2010 برقم 2604) وكذلك (2/1114 برقم 1480) ، وكذلك شربه للخمر في مسند الإمام أحمد بسندٍ رجاله رجال مسلم (5/347) ، أما إذا أردت تفصيلا للموضوع ، ولتعلم الذين عناهم الحديث{اللهَ اللهَ في أصحابي } وغيره في هذا الباب ، فارجع إلى دراسة الشيخ حسن السَّقاف في تحقيقه لكتاب (دفع شُبه التشبيه بأكفِّ التنـزيه ) لابن الجوزي ص 235-243(الطبعة الثالثة).
17. لقد نقل الرسالتين بكاملهما الدكتور محمد صالح ناصر في كتابه (منهج الدعوة عند الإباضية ) فلتراجع هناك ، وكذلك ذُكرت المناظرة وأجوبة الطرفين في العقود الفضية في الأصول الإباضية لسالم بن حمد الحارثي ص 50-59 وقد ذكر مصدرها.
18. الطبري 3/114
19. ابن الأثير ، الكامل ، المجلد الثالث
20. الطبري 3/113
21. ابن جرير الطبري في تأريخه 3/113 ، وكذلك عند غيره في أحداث سنة37 هـ
22. الطبري 3/117
23. مجلة المنهاج ، بيروت ،العدد الرابع - السنة الأولى - شتاء 1417هـ ، منتدى المنهاج ، ص263.
24. ابن خلدون ، المقدمة ، ص 9-10.
25. د.حسن إبراهيم حسن ، تاريخ الإسلام ج1 ص 309 ، طبعة دار الجيل .
26. الطبري ج6 ص 175
27. المسعودي ، مروج الذهب ، ج3 ص 175 ، الفخري ص 118 – 119.
تعليق