من كتاب "تأملات في الإسلام" ل "محمد راتب النابلسي" نقلت إلييكم هذه المقالة، وهي عبارة عن ملخص ل كلمة ألقاها الأستاذ الدكتور
في ندوة عالمية حول القدس الشريف...
القدس عر العصور التاريخية:
نحن، الأمة الإسلامية، نرجع في معتقداتنا وتصوراتنا، وفي قيمنا إلى ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- من وحي متلو وهو القرآن ومن وحي غير
متلو وهي السة المطهرة، التي هي بيان وتفصيل لمضمون القرآن، ونرجع إلى سيرته التي تعد تجسيدا عمليا لفهم النبي -صلى الله عليه وسلم - للقرآن
وحي السماء إلى الأرض.
أيها السادة والسيدات:
من هذهالمبادئ الخالدة، وتلك القيم السامية، انطلق أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ينشرون هذه الرسالة السماوية في الآفاق مجددين من خلالها
أهدافهم النبيلة، ومتخذين لهذه الأهداف النبيلة وسائل نبيلة من جنسها، فهذه وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه لأسامة قائد الجيش الإسلامي، قال له:
"لا تخونوا، ولا تغدروا، ولا تغلو، ولا تمثلو، ولا تقتلو طفلا، ولا شيخا كبيرا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا
شاة، ولا بقرة، ولا بعيرا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم بالصوامع، فدعوهم وما فرغول أنفسهم له... اندفعوا بسم الله".
وفي موقف سيدنا عمر بن الخطاب من أهل القدس، إن في وثيقة الأمان التي أعطاها لأهل القدس، وإن في حفاظه عل كنائس أهل الكتاب، أكبر دليل على
مدى التسامح الديني الذي يتحلى به ذلك الخليفة الراشد.
ولقد زار سيدنا-عمر رضي الله عنه- كنيسة القيامة، ولما حان وقت الصلاة، قال له البطريك: مكانك صل، فأبى عمر رضي الله عنه، وخرج يصلي خارج
الكنيسة، وبعد أن أتمها قال:
"يا شيخ، إنني لو أقمت الصلاة في كنيسة القيامة، لوضع المسلمون عليها أيديهم في حجة إقامتي الصلاة فيها، وإني لآبى أن أمهد السبيل لحرمانكم منها
وأنتم بها أحق وأولى".
وقال الدكتور غوستاف لوبون:
"وكان سلوك الفرنجة حين دخلو القدس غير سلوك الخليفة الكريم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- نحو النصارى، وقال كاهن مدينة لوبوي: عندما استولى
قومنا على أسوار القدس وبروجها، قطعوا رؤوس بعض المسلمين، وبقروا بطون بعضهم الآخر، فكان المسلمون يضطرون إلى القذف بأنفسهم من على الأسوار،
وحرق بعضهم في النار، فكانو يموتون بعد ذلك بعذاب طويل، وكان لا يرى في شوارع القدس وميادينها سوى أكداس من رؤوس المسلمين، وأيدهم وأرجلهم فلا
يمر المرء إلا على جثث قتلاهم، ولكن هذا لم يكن سوى بعض ما أصابهم".
ولم يكتف الفرسان الفرنجة بذلك، فعقدوا مؤتمرا أجمعوا فيه على إبادة جميع السكان الباقين الذين كان عددهم نحو ستين ألفا، فأفنوهم عن بكرة أبيهم في
ثمانية أيام، ولم يستثنوا منهم امرأة ولا ولدا ولا شيخا.
وبعد فتح القدس من قبل السلطان صلاح الدين، سمح للفرنجة بمغادرتها بعد جزية بسيطة عن كل شخص، وامتازت معاملة صلاح الدين بالإنسانية، فأعفى
عن كثيرين من دفع الجزية، وسمح للمسيحين الشرقيين بالبقاء في المدينة.
يقول الإمام الحافظ ابن كثير موضحا لنا عفو السلطان ورحمته بالمسيحيين بعد فتح المدينة المقدسة:
"وأطلق السلطان خلقا كثيرين منهم بنات الملوك بمن معهم من النساء والصبيان والرجال، وشفع في أناس كثيرين فعفا عنهم، وفرق بين السلطان جميع
ما قبض منهم من الذهب في العسكر، ولم يأخذ منه شيئا مما يقنى ويدخر وكان رحمه الله حليما، مقداما، شجاعا، رحيما".
لقد اشتهر المسلمون الظافرون في الواقع بالاستقامة، والإنسانية، فبينما كان الفرنج منذ سنوات يخوضون في دماء ضحاياهم المسلمين، يقتلون كل من
يصادفونهم من الرجال والنساء والأطفال، سواء في بيوتهم، أو في مساجدهم، ولم يسلم منهم أحد، حتى اللاجئون إلى المسجد الأقصى وامتلأت الشوارع
بجثث القتلى... وسالت أنهار الدم فيها.
بينما الفرنج يفعلون تلك الأعمال الوحشية، لم تتعرض أي دار من دور بيت المقدس للنهب من قبل جنود المسليمين، ولم يحل بأحد من الأشخاص مكروه، بل
صار رجال الشرطة المسلمون يطوفون الشوارع والأبواب، تنفيذا لأوامر السلطان صلاح الدين، لمنع كل اعتداء يحتمل وقوعه عل المسيحيين، وقد تأثر الملك
العادل لمنظر بؤس الأسرى فطلب إلى أخيه صلاح الدين إطلاق سراح ألف أسير، فوهبهم له فأطلق العادل سراحهم على الفور، وأعلن صلاح الدين: أنه سوف
يطلق سراح كل شيخ، وكل امرأة عجوز.
وأقبل نساء الفرنج، وقد امتلأت عيونهن بالدموع، فسألن صلاح الدين أين يكون مصيرهن بعد أن وقع أزواجهن وآباؤهن في الأسر؟ فأجاب صلاح الدين أنه وعد
بإطلاق سراح كل من في الأسر من أزواجهن وبذل للأرامل واليتامى من خزانته العطايا كل حسب حالته، فكانت رحمته وعطفه على نقيض أفعال الغزاة الفرنج.
لقد شهد المؤرخون المسيحيون -المعاصرون وغير المعاصرين- بكرم أخلاق صلاح الدين، وسماحته، وبأن صلاح الدين عامل النساء الفرنجيات معاملة حميدة، وسمح
لهن بالخروج من بيت المقدس معززات مكرمات، ومعهن أموالهن، وأتباعهن وحشمهن.
وكانت زوجة الملك جاي لوز جنان الأسير موجودة في بيت المقدس فطلبت من صلاح الدين السماح لها بمصاحبة زوجها في الأسر في نابلس فأذن لها.
كذلك طلبت الأميرة (أتينت) أرملة أرناط من صلاح الدين الخروج كما طلبت إطلاق سراح ابنها من زوجها الأول، فأكرمها السلطان، وسمح لها بالسفر، ثم أطلق
سراح ابنها.
أما اليتامى والشيوخ والأرامل من الفرنجة، فإن صلاح الدين لم يكتف بإطلاق سراحهم دون فداء، بل منحهم أيضا مساعدات مالية من ماله الخاص.
وهكذا بدا الفارق عظيما بين صلاح الدين عندما استولى على بيت المقدس سنة 1187م وبين ما فعله الفرنجة بالمدينة وأهلها المسليمين عندما سقطت في
أيديهم سنة 1099م، فذبحوا من صادفوه فيها من المسليمين وكتب المؤرخ المسيحي ابن العبري يقول:
"ولبث في البلد اسبوعا يقتلون فيه المسليمين بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفا".
على أن الخطر الذي هدد أولئك الفرنجة من بيت المقدس، لم يأت من جانب المسليمين، وإنما أتى من جانب إخوانهم الفرنجة أنفسهم، إذ لم يكادوا يدخلون حدود إمارة طرابلس
الصليبية حتى انقض عليهم بعض أفراد الفرنجة واعتدوا عليهم، وعندئذ اتجه أولئك المشردون شمالا صوب مدينة طرابلس ذاتها، ولكن أهل طرابلس خشوا على أنفسهم وعلى
مدينتهم من تلك الجموع الخاوية الوفاض، فأغلقوا أبواب مدينتهم في وجوههم ورفضوا أن يستضيفوا إخوانهم في محنتهم؛ ليخففوا عنهم بعض آلامهم، بل إن أهل طرابلس نهبوا
ما بقي مع بعضهم من أموال تركها لهم صلاح الدين، وهكذا لم يجد أهل بيت المقدس من إخوانهم الفرنجة جزءا من المعاملة الرحيمة التي لقوها من صلاح الدين، فذهب بعضهم
إلى أنطاكية، حيث وجدوا مقرا ومقاما إلى حين.
وهكذا نجد أن التدين الصحيح، يجعل من الإنسان كائنا يفيض رحمة وإنصافا، ومروءة، وما أحوج العالم اليوم إلى قيم إنسانية، تكون سياجا يرشد القوة المدمرة التي أبدعها عقل
الإنسان.
في ندوة عالمية حول القدس الشريف...
القدس عر العصور التاريخية:
نحن، الأمة الإسلامية، نرجع في معتقداتنا وتصوراتنا، وفي قيمنا إلى ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- من وحي متلو وهو القرآن ومن وحي غير
متلو وهي السة المطهرة، التي هي بيان وتفصيل لمضمون القرآن، ونرجع إلى سيرته التي تعد تجسيدا عمليا لفهم النبي -صلى الله عليه وسلم - للقرآن
وحي السماء إلى الأرض.
أيها السادة والسيدات:
من هذهالمبادئ الخالدة، وتلك القيم السامية، انطلق أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ينشرون هذه الرسالة السماوية في الآفاق مجددين من خلالها
أهدافهم النبيلة، ومتخذين لهذه الأهداف النبيلة وسائل نبيلة من جنسها، فهذه وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه لأسامة قائد الجيش الإسلامي، قال له:
"لا تخونوا، ولا تغدروا، ولا تغلو، ولا تمثلو، ولا تقتلو طفلا، ولا شيخا كبيرا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا
شاة، ولا بقرة، ولا بعيرا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم بالصوامع، فدعوهم وما فرغول أنفسهم له... اندفعوا بسم الله".
وفي موقف سيدنا عمر بن الخطاب من أهل القدس، إن في وثيقة الأمان التي أعطاها لأهل القدس، وإن في حفاظه عل كنائس أهل الكتاب، أكبر دليل على
مدى التسامح الديني الذي يتحلى به ذلك الخليفة الراشد.
ولقد زار سيدنا-عمر رضي الله عنه- كنيسة القيامة، ولما حان وقت الصلاة، قال له البطريك: مكانك صل، فأبى عمر رضي الله عنه، وخرج يصلي خارج
الكنيسة، وبعد أن أتمها قال:
"يا شيخ، إنني لو أقمت الصلاة في كنيسة القيامة، لوضع المسلمون عليها أيديهم في حجة إقامتي الصلاة فيها، وإني لآبى أن أمهد السبيل لحرمانكم منها
وأنتم بها أحق وأولى".
وقال الدكتور غوستاف لوبون:
"وكان سلوك الفرنجة حين دخلو القدس غير سلوك الخليفة الكريم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- نحو النصارى، وقال كاهن مدينة لوبوي: عندما استولى
قومنا على أسوار القدس وبروجها، قطعوا رؤوس بعض المسلمين، وبقروا بطون بعضهم الآخر، فكان المسلمون يضطرون إلى القذف بأنفسهم من على الأسوار،
وحرق بعضهم في النار، فكانو يموتون بعد ذلك بعذاب طويل، وكان لا يرى في شوارع القدس وميادينها سوى أكداس من رؤوس المسلمين، وأيدهم وأرجلهم فلا
يمر المرء إلا على جثث قتلاهم، ولكن هذا لم يكن سوى بعض ما أصابهم".
ولم يكتف الفرسان الفرنجة بذلك، فعقدوا مؤتمرا أجمعوا فيه على إبادة جميع السكان الباقين الذين كان عددهم نحو ستين ألفا، فأفنوهم عن بكرة أبيهم في
ثمانية أيام، ولم يستثنوا منهم امرأة ولا ولدا ولا شيخا.
وبعد فتح القدس من قبل السلطان صلاح الدين، سمح للفرنجة بمغادرتها بعد جزية بسيطة عن كل شخص، وامتازت معاملة صلاح الدين بالإنسانية، فأعفى
عن كثيرين من دفع الجزية، وسمح للمسيحين الشرقيين بالبقاء في المدينة.
يقول الإمام الحافظ ابن كثير موضحا لنا عفو السلطان ورحمته بالمسيحيين بعد فتح المدينة المقدسة:
"وأطلق السلطان خلقا كثيرين منهم بنات الملوك بمن معهم من النساء والصبيان والرجال، وشفع في أناس كثيرين فعفا عنهم، وفرق بين السلطان جميع
ما قبض منهم من الذهب في العسكر، ولم يأخذ منه شيئا مما يقنى ويدخر وكان رحمه الله حليما، مقداما، شجاعا، رحيما".
لقد اشتهر المسلمون الظافرون في الواقع بالاستقامة، والإنسانية، فبينما كان الفرنج منذ سنوات يخوضون في دماء ضحاياهم المسلمين، يقتلون كل من
يصادفونهم من الرجال والنساء والأطفال، سواء في بيوتهم، أو في مساجدهم، ولم يسلم منهم أحد، حتى اللاجئون إلى المسجد الأقصى وامتلأت الشوارع
بجثث القتلى... وسالت أنهار الدم فيها.
بينما الفرنج يفعلون تلك الأعمال الوحشية، لم تتعرض أي دار من دور بيت المقدس للنهب من قبل جنود المسليمين، ولم يحل بأحد من الأشخاص مكروه، بل
صار رجال الشرطة المسلمون يطوفون الشوارع والأبواب، تنفيذا لأوامر السلطان صلاح الدين، لمنع كل اعتداء يحتمل وقوعه عل المسيحيين، وقد تأثر الملك
العادل لمنظر بؤس الأسرى فطلب إلى أخيه صلاح الدين إطلاق سراح ألف أسير، فوهبهم له فأطلق العادل سراحهم على الفور، وأعلن صلاح الدين: أنه سوف
يطلق سراح كل شيخ، وكل امرأة عجوز.
وأقبل نساء الفرنج، وقد امتلأت عيونهن بالدموع، فسألن صلاح الدين أين يكون مصيرهن بعد أن وقع أزواجهن وآباؤهن في الأسر؟ فأجاب صلاح الدين أنه وعد
بإطلاق سراح كل من في الأسر من أزواجهن وبذل للأرامل واليتامى من خزانته العطايا كل حسب حالته، فكانت رحمته وعطفه على نقيض أفعال الغزاة الفرنج.
لقد شهد المؤرخون المسيحيون -المعاصرون وغير المعاصرين- بكرم أخلاق صلاح الدين، وسماحته، وبأن صلاح الدين عامل النساء الفرنجيات معاملة حميدة، وسمح
لهن بالخروج من بيت المقدس معززات مكرمات، ومعهن أموالهن، وأتباعهن وحشمهن.
وكانت زوجة الملك جاي لوز جنان الأسير موجودة في بيت المقدس فطلبت من صلاح الدين السماح لها بمصاحبة زوجها في الأسر في نابلس فأذن لها.
كذلك طلبت الأميرة (أتينت) أرملة أرناط من صلاح الدين الخروج كما طلبت إطلاق سراح ابنها من زوجها الأول، فأكرمها السلطان، وسمح لها بالسفر، ثم أطلق
سراح ابنها.
أما اليتامى والشيوخ والأرامل من الفرنجة، فإن صلاح الدين لم يكتف بإطلاق سراحهم دون فداء، بل منحهم أيضا مساعدات مالية من ماله الخاص.
وهكذا بدا الفارق عظيما بين صلاح الدين عندما استولى على بيت المقدس سنة 1187م وبين ما فعله الفرنجة بالمدينة وأهلها المسليمين عندما سقطت في
أيديهم سنة 1099م، فذبحوا من صادفوه فيها من المسليمين وكتب المؤرخ المسيحي ابن العبري يقول:
"ولبث في البلد اسبوعا يقتلون فيه المسليمين بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفا".
على أن الخطر الذي هدد أولئك الفرنجة من بيت المقدس، لم يأت من جانب المسليمين، وإنما أتى من جانب إخوانهم الفرنجة أنفسهم، إذ لم يكادوا يدخلون حدود إمارة طرابلس
الصليبية حتى انقض عليهم بعض أفراد الفرنجة واعتدوا عليهم، وعندئذ اتجه أولئك المشردون شمالا صوب مدينة طرابلس ذاتها، ولكن أهل طرابلس خشوا على أنفسهم وعلى
مدينتهم من تلك الجموع الخاوية الوفاض، فأغلقوا أبواب مدينتهم في وجوههم ورفضوا أن يستضيفوا إخوانهم في محنتهم؛ ليخففوا عنهم بعض آلامهم، بل إن أهل طرابلس نهبوا
ما بقي مع بعضهم من أموال تركها لهم صلاح الدين، وهكذا لم يجد أهل بيت المقدس من إخوانهم الفرنجة جزءا من المعاملة الرحيمة التي لقوها من صلاح الدين، فذهب بعضهم
إلى أنطاكية، حيث وجدوا مقرا ومقاما إلى حين.
وهكذا نجد أن التدين الصحيح، يجعل من الإنسان كائنا يفيض رحمة وإنصافا، ومروءة، وما أحوج العالم اليوم إلى قيم إنسانية، تكون سياجا يرشد القوة المدمرة التي أبدعها عقل
الإنسان.
تعليق