قد يلفتكم في بادئ الأمر الجناس اللفظي في مصلحة المصطلحات، إلا أن المسألة أكبر من مجرد جناس عابر، ففي تينك الكلمتين تتشعّب قضايا فلسفية وعلمية، وتمتد إلى الأديولوجيات والعقائد التي يعتنقها العالم، فتكون مصدر اتفاق أونفاق أوحرب بين الإنسان وأخيه الإنسان، أو بينه وبين المادة، أو بينه وبين الأفكار.
ويُعرّف المصطلح على أنه كلمة تحوي على دلالة معينة متفق عليها في موضع ما، وهي كإيجاد وعاء لأفكار متناثرة تُجمع شتاتها، وتُختزل في لفظ واحد، وغالبا ما تكون تلك العملية ببحث عن وثن جامد ناقص يجسّد معنى ما سائحاً في فضاء الأفكار اللامحدود، إلا أنه تكمن فائدة ذلك الاختزال والتجريد في وضع أسس بعض العلوم ومفاهيمها، وللاتفاق في مواقف زمكانية معينة.
أما مصطلح (مَصْلَحَة) الذي نقصده على وزن (فعللة) من الفعل (مَصْلَحَ)، أي أكسب الشيء صفة المصلحة وجعله للمنفعة، والمصدر منه ( التًّمَصْلُح)، وعندما نتحدث عن مصلحة المصطلحات فإننا نقصد بذلك: إكساب الكلمات دلالات معينة بما تقتضيه المنفعة في ظرف ما.
ظهرت المصطلحات منذ وجود الإنسان على الأرض – بغض النظر إن كانت وحياً أو اكتسابا - حيث احتاج لأن يتواصل مع بني جنسه عن طريق استخدام مقاطع صوتية يختزل بها أفكاره ليوصلها إلى الآخرين ولكي يعبّر عن فيض من الأفكار والمشاعر التي يختزنها، إلا أن تلك كانت المقاطع الصوتية تتسم بالمحدودية؛ لأنها لا تحوي كل ما يريد إيصاله، فما تلك إلا صورة مصغّرة للأصل، كالفرق بين الحقيقة والصورة من الحقيقة.
وبعد أن تزايد عدد البشر، وتعقّدت الحياة، وتطورت وسائل الإنتاج، وبرز التخصص، وظهرت التكتلات وتعددت الأحزاب في شتى المجالات أكانت الاجتماعية (بالمصاهرة)، والسياسية (التنظيمية)، الاقتصادية (فرق العمل والإنتاج)، والثقافية (قيم ولغة وعقائد)، فكان لابد أن تمتاز كل من تلك الأحزاب بلغة ومفاهيم تميّزها عن الأحزاب الأخرى تحدّدها فيما بينها وتتفق على معاييرها وأهدافها لكي تحقق سير مصلحة الحزب.
وأحيانا يكون تلك المصطلحات متشابهة لفظيا بين تلك الأحزاب، ولكن دلالات تلك الكلمة تختلف من حزب إلى حزب على حسب استخداماتها ومنفعتها، وعلى حسب المجال والتخصص، فتعريف العين مثلا يختلف عند الأطباء عن الجنود عن البحارة ... وقد كانوا يختلفون في الحزب الواحد عن مفهوم مصطلح ما فينشئ الخصام والاستغلال، وقد تكون سببا للألفة والاتفاق.
وأحيانا قد يستغل واضع تلك المفاهيم الجهلة في الوصول إلى مآربه، وقد يكون ذلك في حدود جماعته ، وقد يمتد إلى التعامل مع الجماعات الأخرى، ولكي أضرب مثالا على ذلك في المجتمع العماني: عند بعض السحرة كلمة (الاستخدام) بمعنى أن يمارس عليه السحر فيكون خادمه ومطيعه، ولكن الشائع في معنى كلمة (الاستخدام) هو الاستعمال أو جعله وسيلة، فيقول الساحر (الذي لم يكشف للآخرين أنه ساحر) للمتقدم للعمل في دكانه: سأستخدمك للعمل، ويُمضيه عقدا على ذلك، فيتفاجئ العامل المسكين أنه تورّط بطقوس وأعمال ذلك الساحر عليه، وعندما يحتج عليه، يقول له الساحر: أنت وافقت منذ البدء، وليست مسئوليتي إن لم تفهمني!
هذا الاستغلال عُرف منذ فجر الوجود الإنساني، وكان باسم المنفعة، باسم الحاجة، باسم الفكر، باسم اللغة ، باسم العرف ، وباسم القانون، باسم الدين، وباسم الله أحيانا، وبرع في ذلك الساسة والمفكرين والعلماء وأصحاب الرؤوس الأموال وأصحاب النفوذ، وذلك لتحديد المصطلحات لتسيير وتحديد المناهج ووضع الخطوط العريضة للممارسات البشرية المادية والفكرية والروحية، فللمنفعة والحاجة مفاهيم، وللفكر مفاهيم، وللعلم مفاهيم ، وللعرف مفاهيم، والدين مفاهيم، ولله وضع البشر مفاهيم!
واليوم نلاحظ هذا الاستغلال تزايد وتفاقم بسبب تعقد النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية، وتعدد المصطلحات في كل مجال وفي كل علم وفي كل فكرة إلى حد التضارب والتناقض أحيانا، فأصبح الإنسان تائها اليوم بين كل تلك المصطلحات؛ لأن كل مصطلح أصبح تتفرع منه أفكار وأديويوجيات مختلفة قد تتناسب معه وقد لا، فأصبح الإنسان ينتابه الشك عندما يسمع مصطلحا ما، بسبب تنوع معانيها ودلالتها - وخشية أن يوظفها في المكان الخاطئ، وخشية الإقصاء من الطرف الآخر، وخشية أن يتم استغلال جهله للمعنى الآخر للمصطلح.
وليس أدل على ذلك إلا بمثال الاستغلال السياسي التي تتسفسط فيه نخب إسرائيل بالمصطلحات في اتفاقياتها، وتتلاعب بالألفاظ حيث أنها تحمل معنى ظاهريا شائعا في الوسط السياسي، ولكنها بحنكة لغوية تتوارى بالمصطلح لمعنى آخر يحقق مآربها، ولكي نذكر مثالا على ذلك، موقف بشار الأسد عندما قالوا له أن يوقّع على اتفاقية للأرض السورية، فقال فيما معناه: قبل الإمضاء علي أن أعرف معنى كل مصطلح فيه، لأن كلمة تحوي على دلالات متنوعة قد لا تكون ضمن الدلالات التي أقصدها، فكلمة الأرض قد لا يُقصد بها البقعة الجغرافية، فقد يُقصد بها المكان والتاريخ والأمجاد والثقافة والسياسة وحضارة الشعب.
وعلى الصعيد الاقتصادي، فقد تستغل المصطلحات الاقتصادية للتواري بمعنى آخر بحنكة لغوية لتحقيق الربح باستغلال جهل الطرف الآخر، ونرى ذلك كل يوم في المحلات الصغيرة التي تغش باستخدام أسماء الماركات الأخرى، وباستخدام الكلمات التجارية في غير مواضعها في العقود التجارية، ويتم الإمضاء عليها، فيكتشف التاجر أنه كان مغفلا في لعبة السوق.
وفي حياتنا الاجتماعية نرى الخلط الواضح بين المصطلحات، ومظاهر السفسطة واضحة في استخدامها، وذلك لتحقيق مصالح الأشخاص، كأن يخلط المصطلح الديني بالمصطلح العرفي، وأن يستخدم المصطلح الديني لتبرير موقف اجتماعي يعطي معنى مخالفا لمعناه الديني، ويتم التخبط في التحليل والتحريم ويضيع الاحترام، وتبقى المصالح هي المنتصرة، في التعصبات العرقية والدينية والثقافية.
كذلك في الفكر والعلم، نلاحظ أن التعصب الفكري والعقائد الأديولوجية التي تفرض مصطلحاتها كمسلمات وبديهيات كونية تزعم أن من يخالفها يُعد متخلف عقليا وبه خلل عقلي، وكل ذلك الإقصاء لتحتكر العلم والفكر، ولتكسب فكرتهم العلمية أو الفلسفية شهرة، ولكي تسيطر على فكر العالم باسم مفكر واحد وفكرة واحدة ومسلمات واحدة، وكأن علمهم هو الكامل الذي لا نقص به، وكان عقولهم هم الوحيدة هي المكتملة ولهذا لابد أن نتبعهم، ولا يجوز لنا أن نفكّر وننقد لأننا لا نملك تلك العقلية التي يملكونها!
والأدهى من ذلك، يؤخذ اسم الله لكي يدعمّوا مصطلحاتهم، بدعوى أنهم وصلوا للحقيقة الكونية بوضع تلك المسلمات والأفكار ليصلوا إلى مآربهم أكان بحسن نية أو غيره، ويحددّون المعرفة الإلهية بمصطلحاتهم البشرية الناقصة التي لا تحوي الحق الإلهي وجماله شيئا، يقصون أفكار الناس بكل غرور بدعوى أنهم المصطفين من عباد الله - الذين لا مثيل لهم - ومن حقهم تسيير عقول الناس.
وهكذا هي قصة مصلحة المصطلحات البشر، اختزلناها في هذا المقال الناقص الذي لا يحوي إلا على فُتاتها، الذي بها استغل الإنسان أخيه الإنسان بنعمة النطق والعقل والتي لا تمثّل إلا وسائل لتسخير حياته ليس إلا، ولكنها حتما ليست الغاية، فالمصطلح اليوم يحوي دلالات عديدة ومتنوعة، فلابد على الإنسان الاضطلاع والتثقف بالثقافة العالمية والاجتماعية المحلية لشمل دلالات المصطلح الواحد، ومعرفة كيفية استخدامها في المكان المناسب والوقت المناسب، وقد يخترع الإنسان مصطلحات خاصة به تعبّر عن توجهاته واستخداماته، ولكن الأهم أن يستغلها بالشكل الأخلاقي الصحيح، لا أن يخدع الناس بها، ويستغل جهلهم.
الإنسان هو صانع المصطلحات، والمصطلحات ما هي إلا لبوس مادية فارغة لفيض ذواتنا، والكمال والحق والجمال يعجز عن وصفه كلمة بشرية، فالكلام حاجة، والصمت كمال، فصمتا فلا أواني تحوينا!
ما وراء العقل
تعليق