عمان ما بعد النفط (1)
عاشت عمان كسائر الدول الخليجية بداياتها في اقتصاد اللؤلؤ والغوص، ولاسيما أنها امتازت بأطول السواحل في الخليج العربي، فكان ذلك داعيا للعمانيين في استثمار خيرات البحر لتحقيق الكفاف الاقتصادي، إلى أن ضجّ العالم، وصدح صوت الاكتشافات النفطية البادئة في أميركا في الخمسينات من القرن التاسع عشر الميلادي- والتي نشرت مسوحاتها الاستكشافية في البلاد العربية بحكم علاقاتها بها، بدأ الاكتشاف الأول للنفط في الخليج في السعودية عام 1939، وفي عمان عام 1969 بواسطة شركة ستي سيرفيسز.
والذي ميّز النفط عن باقي موارد الاقتصادية أنه زامن عصر الثورة العلمية والطفرة الصناعية والمعلوماتية التي زخرت بالاختراعات والكشوفات العملية التي كان لابد لها من طاقة تحركّها غير الطاقة البخارية والمائية والهوائية والبشرية والحيوانية والفحم الحجري، فعند اكتشافه ابتكر العلماء طريقة لاستثماره في جعله كمصدر طاقة، ولاسيما أنه يتميز بخفته وسرعة اشتعاله، وسهولة نقله من مكان إلى آخر، ورخص تكلفته مقارنه مع مصادر الطاقة الأخرى، ودخولها في الصناعات مثل النايلون والبلاستيك والمستحضرات التنظيفية والتجميلية وبعض الأطعمة، وهذا ما حوّل اهتمام إلى استخدام النفط كبديل لتلك الطاقات التي تكلّف المال والجهد.
ولأن الخليج من أخصب مناطق العالم بالنفط الخفيف وهو أجود أنواع النفط وأصفاه، لهذا ركّزت المسوح الاستكشافية الأميركية والبريطانية المنقبة عن النفط على منطقة الخليج، وركزت على توطيد علاقاتها معها، وقد ساعدها ذلك نفوذها الاقتصادي والسياسي في فرض وجودها في المنطقة، فأغلب الدول العربية هي في الأصل تابعة لأميركا وبريطانيا وفرنسا عسكريا – فحرصت على تملّك حصص وافرة من النفط في تلك البلدان عن طريق شركات عابرة القارات ومتعددة الجنسيات، بل واحتكارها لأدوات واختراعات استخراج النفط وصناعاتها يمثّل ضغطا أكبر في عمان والبلدان العربية، فبدونهم وبدون أدواتهم المستوردة لا يمكنهم استخراج النفط، ولكن على الرغم من هذا، ساهم ذلك في دخول الاستثمار ورفع كفاءة الخدمات في عمان وتحوّلها إلى دولة عصرية متمدنة، فارتفع مستوى التعليم والصحة والاقتصاد وزادت رقعة انتشارها أكثر من السابق.
إضافة إلى ذلك تحوّل اقتصاد عمان للنفط بنسب تفوق 80%، وزاد انعكاسها على دخول القطاعات الأخرى وزاد صرفها عليها مما حسّن جودتها وكمّها ورقعة انتشارها، وكذلك حوّلت نسبة كبيرة من أرباح النفط إلى القطاع العسكري فأصبح أكثر مصروفاتها في هذا القطاع حيث تدفعه الدولة للدول ذات النفوذ السياسي في حمايتها، فأثّر ذلك ظاهريا في زيادة الاستقرار الأمني في عمان، وانعكس ذلك على جوانب الحياة الاخرى وعلى حياة الشعب، فزاد نسبة الوعي بالتعليم وانتشار المدارس، وارتقى المجال الصحي نسبيا، وزادت رفاهية الشعب، وتحوّلت اتجاهات الشعب من الاقتصاد الحرفي البسيط إلى مهن ذات مستوى أفضل، وبعثت الدولة منهم الكثير إلى الخارج ليتلقوا التعليم الثانوي والعالي، وليعودوا إلى البلاد بكفاءات تخدم المسيرة العصرية الجديدة، فتعرّفوا على أنماط الحياة الأخرى وانفتحوا على القيم الغربية والشرقية، فعادوا إلى عمان محملين بها، وانعكست على طرائق حياتهم، فأصبحت تميل إلى الترف المادي والثقافة الاستهلاكية، وذلك لتوافر المادة، ولإغراء العرض في السوق المحلية والعالمية، إلا أن التحول الثقافي كان بطيئا جدا، فلازال المجتمع العماني محتفظ ببعض قيمه وإن كان ذلك لا يتعدى التجاهر فقط، وظهرت شريحة في المجتمع تنقسم إلى قسمين بينها الأصولي الذي يناشد بالعودة إلى الدين والزهد والتمسك بالعادات، ومنها الكوني الذي يقبل بالعصرنة ومال إلى التغريب أكثر من ميله إلى التحديث والتغيير.
كل تلك التغييرات على المستوى الشعبي في كفة، واحصائيات استهلاك النفط التي تهدد احتياطه في كفة أخرى، حيث تشير الاحصاءات أن احتياطي النفط في عمان وصل إلى 0.41% من احتياطي العالم فقط، وتبلغ عمان المرتبة 23 عالميا في احتياطيها للنفط، حيث تعد من أقل الدول الخليجية نفطا بعد البحرين - هذا والخليج بإضافة العراق وإيران أخصب مناطق العالم نفطا - حيث تقوم شركات النفط العمانية بالمجازفة غالبا بأكثر من 80% من منتوجاتها النفطية لتصدره للخارج؛ لكي تحصل على الربح لاستثماره في سد احتياجات الدولة وسداد ديونها العالمية، وهذا ما سيشكل خطرا على احتياط الدولة في النفط، فهذا الصرف الهائل للنفط، وهذه المجازفات دون التفكير بالبعد المستقبلي يشكل خطرا على اقتصاديات الدولة ولاسيما أنها دولة نفطية، وثمانية أعشار اقتصادها هو نفط، وهو مصدر ناضب على حد قول بعض العلماء، وهذا سيسبب انهيار شبه كامل لاقتصادنا، وفوق هذا كله، ملكية استثمارات النفط غالبها تعود للأجانب، حيث أن نسب تملك عمان لاستثمارات النفط تعد قليلة جدا، وغالبها ملكيتها غير وطنية، وجزء كبير من أرباحها يخرج من البلاد، بسبب الضعف التكنولوجي في استخراج النفط، فيتحتم أن تكون يشارك الأجنبي بنسب كبيرة جدا أكبر من الحكومة، وهذه أديولوجيتها في حصول أكبر قدر من النفط من البلدان النامية لتكثر من مخزونها، فحين ينضب النفط تحتكر اقتصاده!
وفي ضوء تلك الأحوال فإننا يمكننا وضع نبوؤات حول الوضع العماني بعد نضوب النفط أو في حال حدوث أزمة علاقات دولية بين عمان والدول المستثمرة، انهيار أكثر عن نصف من ميزانية البلاد، يصاحبه انهيار التعليم والصحة والأمن، وتزداد الديون العالمية لعمان، لأنها ستسعى للاقتراض لسد العجز، وستقل القوة الشرائية للعملة العمانية، وستزيد الفجوة بين صانعي القرار والشعب، وستسود التحزبات السرية في عمان، ويزداد الفساد المالي والإداري، مما يلحقه مشكلات اجتماعية تهدد بنية المجتمع مثل البطالة والجريمة وستتفشى عمالة الأطفال، وناهيك أن البنية الثقافية للمجتمع قد تتأثر، فتتدهور اهتمامات المجتمع أكثر من الاهتمام بعلم والفكر والثقافة إلى الاهتمام بالمادة والوصول إلى الكفاف بسبب تفاقم الحاجة، وستكون عمان طعم لبسط النفوذ العالمي فيه من بريطانيا وأميركا بسبب تبعيتها الاقتصادية والعسكرية لهما.
ولتفادي هذا لابد أن تحتزم الدولة في إيجاد مصادر الدخل والتنويع الاقتصادية، وأن تكون جادة في خطاها، وأن تحيط باستراتيجياتها ورؤاها الاقتصادية بالتفاصيل العملية الكمية والكيفية والبدائل لها ، ولاسيما أننا في ظل عالم متغير، وأن توسّع آفاقها في خططها، وليس فقط بالاكتفاء بالتغني بشعارات فضفاضة متهاوية غير قابلة للقياس والتقييم، وكذلك أن تشرك الشعب في عملية التنمية وتسمع لرأيها ولاسيما أنه محور التنمية لا النخب فقط، وأن تحس الدولة بمسئولية اتجاهها، فحالما تحس الدولة بمسئولية اتجاه شعبها، ينعكس ذلك على أفرادها، فترى منهم المبادرات في مسيرة التنمية والصالح العام بدلا من المصلحة الفردية، وكذلك لابد من توسيع دائرة الحريات الاقتصادية المتاحة لكي لا تضيّق على مبادرات الشعب ولاسيما في الإبداعات في المشاريع الصغيرة والمتوسطة والكبيرة والثقة بقدرات الشعب، وإتاحة الحاضنات التكنولوجية والعلمية وتفعيله؛ لاستقطاب الأفكار والعقول المستثمرة لفكرها، وسماع الحكومة لآراء الشباب وأفكارهم التقنية في مجال الطاقة، وفتح التخصصات الجديدة و(صناعتها)، وتركيز الجهود بها، والجدية في متابعتها والسعي لتطويرها لنكون روادها، والاستفادة من تجارب الدول الأخرى، والوعي بثروات البلاد والاشتغال عليها، وكذلك لا نخلي مسئولية الشعب في المحاولة والمبادرة، فأي خلل يتحمل مسئوليته الطرفين.
ويمكن ذكر تجربة بسيطة لأميركا في استثمار الطاقة الحيوية في استخدام الطاقة روث الكلاب في أحد مدنها لتوليد الكهرباء، وكذلك غاز الميثان، وكذلك استغلال بريطانيا للطاقة الشمسية في الإنارة، واستغلال إسبانيا للمقومات البيئية لتكون الأولى في العالم سياحيا، وكذلك استثمار الفن في هوليوود وبوليوود في صناعة الدخل غير النفط، واستثمار الطاقة النووية في مجال إدارة الآلات وتوليد الكهرباء والعلاج، وكذلك استثمار الإبداعات التنكولوجية والرقمية وتوظيفها لإدارة الاقتصاد وتوليد الدخل من الإعلان والمنتوجات الإلكترونية والرقمية، وعمان ليست بقاصرة عن كل تلك، فلديها من الثروات ما تفوق تلك الدول من الطاقة الشمسية والمعادن والطاقة المائية بطول سواحلها، والطبيعة بمعطياتها ، وتوازيها الطاقة البشرية في ما تحمله من فكر وما تحمل جوارحهم من فن يمكن أن يخلق مجالات جديدة في تنويع الدخل التي قد تعد النفط مرحلة انتقالية لعصر أكثر رخاء ورفاهية وتطورا من اليوم، ولكن إذا مسكنا الخيط الذي يتحكم في نسيج المسألة كلها لرأينا أنها القيادات والخبرات الإدارية التي تحتاج إلى إعادة نظر في كفاءاتها ومدى مواكبتها للعصر
وهناك إلا أن كل تلك ممكن أن تتعرض لمعوقات من البنية الثقافية للمجتمع، تكمن في الثقافة الاستهلاكية للمجتمع التي عوّدت المجتمع على الاستهلاك والاستيراد بدلا من الإنتاج، وعلى الإتكالية على الحكومة بكل في غالب الأشياء وغياب المبادرة الفردية، والتحرّج من تقلّد بعض المهن وفق منظومة قيمية تفرض العار لبعض الأعمال، وكذلك المنظومة القيمية المتعلقة بالمرأة قللت مبادرات المرأة في المجتمع أدى تعطيل أفكار المجتمع، وكذلك البنية التعليمية المتأخرة أدت إلى تأخرنا في مجال العلمي والتقني التي تعين على الإبداع الصناعي والتقني، وهناك معيقات تتمثل في تركيب بنية المجتمع حيث تمثل الأمية عُشر سكان عمان، ناهيك عن الأمية التكنولوجية التي تعيق المجتمع في تطوير فكره واطلاعه على التجارب واستلهام أفكار جديدة لبناء مجتمعه، غير أن المستوى الاقتصادي وسياسات الاقتصادية في عمان قيّدت إمكانات الشعب وحدّدت طموحه في سد احتياجاته التي لم يستطع إلى اليوم !
ونختم بأن نقول أن المسألة أكبر من مجرد توفير مصدر يسد الاحتياجات الاقتصادية بعد النفط، هي مسألة ( تبعية )،وتخلف علمي وسياسي واقتصادي تؤدي إلى تخلف اجتماعي يهدم البنية الاجتماعية للمجتمع وتبث فيه المشكلات، فلابد من تخطيط محكم لتلك المرحلة، وإرادة قوية تأخذ الأمور بجدية أكبر نحو الصالح العام بدلا من الخاص، فالمتضرر الأول والأخير غالبا هو الجميع أكان شعبا أو حاكما، فلا داع أن نتجج بقلة الموارد فعمان غنية، ولكن تحتاج إلى عقول مبدعة تفكر، وإلى قيادات تحسن توجيه تلك العقول بحيث تضمن مصلحة البلاد، والكرامة والحرية لأفرادها.
ابتهاج يونس
وهناك إلا أن كل تلك ممكن أن تتعرض لمعوقات من البنية الثقافية للمجتمع، تكمن في الثقافة الاستهلاكية للمجتمع التي عوّدت المجتمع على الاستهلاك والاستيراد بدلا من الإنتاج، وعلى الإتكالية على الحكومة بكل في غالب الأشياء وغياب المبادرة الفردية، والتحرّج من تقلّد بعض المهن وفق منظومة قيمية تفرض العار لبعض الأعمال، وكذلك المنظومة القيمية المتعلقة بالمرأة قللت مبادرات المرأة في المجتمع أدى تعطيل أفكار المجتمع، وكذلك البنية التعليمية المتأخرة أدت إلى تأخرنا في مجال العلمي والتقني التي تعين على الإبداع الصناعي والتقني، وهناك معيقات تتمثل في تركيب بنية المجتمع حيث تمثل الأمية عُشر سكان عمان، ناهيك عن الأمية التكنولوجية التي تعيق المجتمع في تطوير فكره واطلاعه على التجارب واستلهام أفكار جديدة لبناء مجتمعه، غير أن المستوى الاقتصادي وسياسات الاقتصادية في عمان قيّدت إمكانات الشعب وحدّدت طموحه في سد احتياجاته التي لم يستطع إلى اليوم !
ونختم بأن نقول أن المسألة أكبر من مجرد توفير مصدر يسد الاحتياجات الاقتصادية بعد النفط، هي مسألة ( تبعية )،وتخلف علمي وسياسي واقتصادي تؤدي إلى تخلف اجتماعي يهدم البنية الاجتماعية للمجتمع وتبث فيه المشكلات، فلابد من تخطيط محكم لتلك المرحلة، وإرادة قوية تأخذ الأمور بجدية أكبر نحو الصالح العام بدلا من الخاص، فالمتضرر الأول والأخير غالبا هو الجميع أكان شعبا أو حاكما، فلا داع أن نتجج بقلة الموارد فعمان غنية، ولكن تحتاج إلى عقول مبدعة تفكر، وإلى قيادات تحسن توجيه تلك العقول بحيث تضمن مصلحة البلاد، والكرامة والحرية لأفرادها.
ابتهاج يونس
تعليق