أولئك منا الذين تابعوا عن كثب نشاطات داعش وبياناتها في الاشهر الاخيرة قد لاحظوا بما لايقبل الشك ان قادتها نادرا ما يتحدثون عن المستقبل. فقد اعتدنا على سماع محاولاتهم المثيرة للشفقة لتفسير همجية و وحشية داعش و افعالها المخزية في العراق و سوريا على انها اتت في ايطار (الجهاد) و الدفاع عن المسلمين في كل مكان و الصمود امام ما يدعون انه عدوان المجتمع الدولي الغاشم ضدهم.
و لكن الملفت للانتباه حقا هو ان (شيوخ) داعش نادرا ما يتطرقون الى ما تتمحور حوله (رؤيتهم) للمستقبل بالضبط و سبب ذلك واضح و هو ان القاعدة و جميع الجماعات المنبثقة منها ليس لها اي تطلعات للمستقبل.
فبعد مرور اكثر من عام و نصف على تأسيس ما كانت تسمى انذاك بالدولة الاسلامية في العراق و الشام ، ادرك العالم بأكمله طبيعة و حقيقة ما تدعى الان الدولة الاسلامية (داعش). فمن الصعب علينا أن نتصور أن هناك أي انسان في اي مكان على الارض لم تتضح له صورة داعش القبيحة. فالبشرية باسرها تدرك ان الشيء الوحيد الذي تجيده القاعدة هي اعمال العنف و التي ترتكبها من اجل العنف و لا شيئ غيره.
فألحاق اكبر قدر من الالم والمعاناة بأكبر عدد من الناس هو العمل الوحيد الذي اجادته القاعدة سابقا و هو الشيئ الوحيد الذي تجيده داعش الان. وهو النشاط الوحيد الذي تمارسه و خاصة في الموصل والذي يمثل ويجسد جوهر نظرتها السوداوية والمتشائمة للمستقبل.
فقد أثبتت داعش مرارا و تكرارا أنها تتقن عملية التخطيط لاختيار المستشفى او المسجد او الكنيسة التي ستكون هدفا للهجوم او التفجير، و هي حتما لديها خبرة طويلة في كيفية تحويل المناسبات السعيدة مثل حفلات العرس الى مأتم في غمضة عين. ومع ذلك، فان احداث الدمار والخراب يختلف تماما عن عملية بناء وتجهيز القدرات لمواجهة العدد الكبير من التحديات التي تواجه البشر في شتى انحاء العالم في عالمنا هذا. ويجب ان لا تفوتنا هنا حقيقة اخرى يدركها الجميع و هي ان الهدم اسهل بكثير من البناء.
و من ثم فهو ليس من الصعب على اعضاء داعش ان يستغلوا سذاجة شاب – او شابة - فيقنعوه بأن ليس هنالك من معنى أفضل لحياته أو عمل انبل من أن ينهي حياته بنفسه - وحياة العديد من الاخرين - وبابشع الطرق. و لكن هنالك فرق كبير ما بين تلك الحيل الدنيئة و ما بين توفير الفرص لشباب المجتمع و ترسيخ روح المواطنة فيهم و التي تجعلهم يقبلون على اداء دور هام في تأسيس مجتمع مستقر ومزدهر و ان ذلك سوف يعود عليهم بالفائدة .
في السياق نفسه ، فأن الفساد أو انعدام الكفاءة و التقصير في تلبية أبسط احتياجات الناس الذين من المفترض ان (الدولة) مكلفة بحماية مصالحهم هو شئ، لكن التجاهل التام لأمن و سلامة و حياة البشر الذي اظهرته داعش في الموصل و اماكن اخرى باستمرار هو شيئ اخر تماما. من الواضح أن داعش وضعت طموحاتها و اهدافها السياسية قبل كل شيء و قد تسبب هذا في ان الشعبين العراقي و السوري المغلوب على امرهما دفعا ثمنا غاليا.
مرة اخرى، فهو ليس امرا مثيرا للتعجب أن مجموعة تشارك تنظيم القاعدة في ايمانها بثقافة الموت التي تروج لها كما هو حال داعش، لم تتخذ الاجراءات اللازمة لكي توفر لاهالي الموصل احتياجاتهم الغذائية و الرعاية الصحية الكافية. وبالمثل، فإن المرء لا يتوقع ان تنظيم القاعدة او من هم على شاكلته و الذي يكرس جميع طاقاته تجاه التخريب والدمار أن يوسع من نطاق نشاطاته الضيق لكي تشمل التخفيف من معاناة الناس. ومع ذلك فإن منع المساعدات الإنسانية الدولية من الوصول إلى من هم في امس الحاجة إليها، مثل العراقيين الايزيديين - و الذين خيروا ما بين الفرار من منازلم او الموت - يتطلب مستوى فريدا من نوعه من الانحلال الخلقي و الذي يحول قلب الانسان الى حجر او ارض يابسة.
و خلافا لادعاءاتهم بأنهم ملتزمون بمكارم الأخلاق والقيم العليا ، الا ان رفض داعش الالتزام بأبسط طبائع الإنسانية اثار تساؤلات كثيرة حول ما هي منظومة القيم هذه التي تحث على مثل هكذا افعال مؤسفة. كما ان انتهاكهم الممنهج لاعراض نساء و بنات سوريا و العراق من خلال خطفهن من ديارهن واغتصابهن و بيعهن في الاسواق العامة مقابل مبالغ بخسة يسلط الضوء على احدى صفات داعش المميزة و هي النفاق.
ففي الوقت التي تعمل فيه اغلب الدول والحكومات بشكل دؤوب سعيا لأيجاد حلول و طرق جديدة للتعامل مع الظروف الاقتصادية الصعبة التي قد اثرت على العالم بأكمله، و تحاول التقليص من الاضرار الاجتماعية التي عادة ما ترافق التغيرات المتعلقة بالحداثة، فرغت داعش وقتها للتعامل مع قضايا ذات اهمية قصوى مثل حظر الاستماع للموسقى و منع الناس من استخدام لفظ داعش و التدخين !!!!
و بينما تنفق الحكومات حول العالم مبالغ كبيرة على التعليم من باب أن تفوق الاطفال سوف يكون له دور اساسي في تحديد مستقبل الوطن -- استنزفت داعش ما يعتبره الكثيرون اهم ثروات اي دولة الا و هم الاجيال القادمة من خلال تجنيدها للأطفال و اكراههم على الانضمام الى كوادرها لكي يقوموا بتنفيذ هجماتها الجبانة على المدنيين العراقيين. وقد أجبرت تلك الاساليب المؤسفة العديد من اولياء الامور على سحب أطفالهم من المدارس.
و كدليل آخر عن أولويات داعش الملتوية ، وفي خضم معاناة شعب العراق و اثناء محاولته التشافي من الصراعات و العنف المستمر ، جعلت داعش حياة العراقيين اكثر تعقيدا و زادت من حدة عدم الاستقرار في البلاد من خلال التهديد بشن هجمات خارج حدود العراق ضد بعض الدول المجاورة.
الولايات المتحدة والمجتمع الدولي يبذلان قصارى جهدهما لضمان أن شعب العراق لن يصبح رهينة لداعش و رؤيتها الرجعية. ولكن بالرغم من ذلك فأن وحشية داعش وعجزها المطلق عن ادارة شؤون العراقيين الذين وقعوا تحت سيطرتها، قدمت لنا دليلا حيا يوضح حقيقة الحياة تحت حكم القاعدة فيما لو اتيحت لها الفرصة لكي (تحكم) في اي مكان. فأي كابوس مرعب سيكون!
فهد
فريق التواصل الإلكتروني
وزارة الخارجية الأمريكية
تعليق