الاقتصاد السياسي علم فريد ملفت للنظر، تبدأ الخلافات والصعوبات معه منذ الخطوة الأولى، أي منذ يطرح هذا السؤال البديهي: ما هو، بالضبط، غرض هذا العلم؟ إن العامل البسيط، الذي ليست لديه سوى فكرة مبهمة عن العلم الذي يلقنه الاقتصاد السياسي، يعزى عدم يقينه إلى النقص الحاصل في ثقافته الخاصة. غير أنه يشاطر، بمعنى من المعاني، سوء حظه كثيرا من العلماء والمثقفين الذين يكتبون مجلدات ضخمة، ويلقون في الجامعات عشرات المحاضرات أمام الشبان، حول الاقتصاد السياسي. إذ من واقع الأمر أن معظم أخصائيي الاقتصاد السياسي، ومهما بدا هذا أمرا غير قابل للتصديق، ليست لديهم سوى فكرة مشوشة للغاية عن الغرض الحقيقي للاقتصاد السياسي.
وبما أنه من مجريات الأمور، لدى السادة الأخصائيين، أن يشتغلوا على تعريفات، أي أن يفرغوا جوهر الأمور الأكثر تعقيدا، في بضع جمل مرتبة بشكل جيد، هيا بنا نستعلم، على سبيل التجربة، لدى احد الممثلين الرسميين للاقتصاد السياسي، ولنسأله عن الماهية الحقيقية لهذا العلم. فما الذي يقوله عنه يا ترى، عميد الأساتذة الألمان، والمؤلف الأوحد لعدد هائل لا يحصى من كتب الاقتصاد السياسي. ومؤسس المدرسة المدعوة «تاريخية»، الأستاذ فلهلم روخر؟ في كتابه الضخم الأول المسمى «أسس الاقتصاد السياسي: كتاب ومجموعة محاضرات موجهة إلى رجال الأعمال والطلاب» وهو كتاب صدر للمرة الأولى عام 1854، ثم أعيدت طباعته 23 مرة بعد ذاك، نقرأ في الفصل الثاني، المقطع السادس عشر ما يلي:
«نعني بالاقتصاد السياسي، نظرية تطور قوانين الاقتصاد القومي [5]، والحياة الاقتصادية القومية (فلسفة تاريخ الاقتصاد القومي كما يقول فون مانغولدت). وهذا العلم، مثله مثل كافة العلوم المتحدثة عن حياة أمة معينة، يرتبط من جهة بدراسة الفرد، ويمتد من جهة أخرى ليدرس الإنسانية جمعاء.»
فهل يفهم «رجال الأعمال والطلاب» الآن ما هو الاقتصاد السياسي، يا ترى؟ إنه، وبالتحديد... الاقتصاد السياسي! ما هي نظارات الشقوق؟ إنها النظارات التي ترينا الشقوق. ما هو حمار حمل الأثقال؟ إنه حمار نحمل فوقه الأثقال. ويا لها من طريقة تبسيطية تصلح لتعليم الأطفال كيفية استخدام كل هذه الأدوات [6]. إن المزعج في هذا هو أنه إذا تعذر فهم معنى الكلمات المطروحة، لا يمكن سلوك أي سبيل للتقدم إذا ما طرحت هذه الكلمات بطريقة مغايرة.
لذا، سنحاول التوجه شطر عالم ألماني آخر، يقوم حاليا بتدريس الاقتصاد السياسي في جامعة برلين، إنه البروفيسور شمولر، عين ونور العلم الرسمي. يعطينا شمولر هذا، في «قاموس العلوم السياسية» -وهو مجلد ضخم وضعه عدد من الأساتذة الألمان، وأشرف عليه الأستاذان كونراد ولكسيس- في مقال حول الاقتصاد السياسي، الجواب التالي على السؤال القائل: ما هو الاقتصاد السياسي؟ إنه العلم الذي يبغي وصف وتعريف وتفسير الظواهر الاقتصادية، انطلاقا من أسبابها، ومن ثم فهمها ككل متماسك، شرط أن يكون الاقتصاد السياسي قد تم تعريفه قبل ذلك بشكل صحيح. في صلب هذا العلم، يمكننا العثور على الظواهر النموذجية التي تتكرر لدى الشعوب المتمدنة المعاصرة، وهي ظواهر تقسيم وتنظيم العمل، وتدوير وتوزيع العائدات، والمؤسسات الاقتصادية الاجتماعية التي، بالاستناد إلى بعض أشكال الحق الخاص والعام، وإذ تكون خاضعة لهيمنة قوى طبيعية متماثلة أو متشابهة، تؤدي إلى أحكام أو تخلق قوى متشابهة أو متماثلة وتقدم نوعا من الصورة الجامدة للعالم المتمدن الاقتصادي المعاصر، أي نوعا من القانون المتوسط لهذا العالم. انطلاقا من هنا، سعى هذا العلم بالتالي، هنا وهناك، إلى ملاحظة تنوعات مختلف الاقتصادات القومية فيما بينها، ومختلف أشكال التنظيم، لقد تساءل هذا العلم عن الترابط والتتابع الذين ظهرت عبرهما هذه الأشكال المختلفة، فتوصل بهذا على أن يقدم نفسه بوصفه التطور السببي لهذه الأشكال: واحدة بالانطلاق من الأخرى، ثم بوصفه التتابع التاريخي للمواقف الاقتصادية. وبهذا تمكن هذا العلم من مفصلة السمة الديناميكية حول السمة الجامدة. وتمكن منذ بداياته، وبفصل أحكام القيمة الأخلاقية-التاريخية، تمكن من أن يضع مثلا عليا، وحافظ على الدوام على وظيفته العملية هذه، إلى درجة معينة، وأخيرا تمكن على الدوام من وضع تعليمات عملية للحياة، إلى جانب النظرية.»
أووف... فلنستعد أنفاسنا!
ماهو الأمر إذن؟ مؤسسات اقتصادية اجتماعية –الحق الخاص والعام- القوى الطبيعية- متشابهة ومتماثلة- إحصاء- جامد- متحرك- قانون متوسط- تطور سببي- أحكام قيمة أخلاقية تاريخية... إن الإنسان العادي الفرد بين البشر الفانين، سيشعر بعد قراءة هذا كله كما لو أن دولاب طاحون يدور داخل رأسه. إن هذا الفرد، بسبب عطشه للمعرفة، وثقته العمياء في الحكمة الأستاذية، سيبذل جهدا كبيرا ليقرأ مرتين ثم مرات ثلاث، كل هذا الهراء عله يعثر على معنى له. إن أخشى ما نخشاه أن يضيع هذا الجهد. لأن ما يقد لنا في هذا الكلام كله، ليس سوى مجموعة من العبارات الجوفاء، وتجميعا مهترئا وخاويا، للكلمات. والواقع أن لهذا كله إشارة لا تخطئ أبدا: إن أي شخص يفكر بوضوح، ويسيطر تماما على أقواله، يمكنه أن يعبر عن نفسه بوضوح وبشكل مفهوم، أما الشخص الذي يعبر عن نفسه بشكل غامض ومدع، بالنسبة إلى أمور لا تمت بصلة إلى صافي الأفكار الفلسفية أو إلى تعقيدات الصوفية الدينية، فإنه مجرد شخص غير قادر على أن يرى بوضوح، بحيث يكون لديه ألف سبب وسبب يدفعه لتجنب الوضوح. ولسوف نرى لاحقا أنه ليس من قبيل الصدفة أن يلجا العلماء البرجوازيون إلى استخدام لغة غامضة ومشوشة، للتحدث عن جوهر الاقتصاد السياسي وماهيته، وأن هذه اللغة إنما تعبر عن تشوشهم الخاص، كما عن رفضهم المغرض والمتكالب لتوضيح المسألة بشكل حقيقي.
بامكاننا فهم السبب في أن مفهوم الاقتصاد السياسي لا يمكن توضيحه بجلاء، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار واقع أن قدم أصل هذا المفهوم نفسه، مسألة تحتمل الكثير من التناقض في الآراء. فمن جهة نجد مؤرخا معروفا، وأستاذا سابقا للاقتصاد السياسي في جامعة باريس، هو أدولف بلانكي –أخو أغوست بلانكي، الاشتراكي الشهير والمناضل المعروف أيام كومونة باريس- يبدأ، مثلا، الفصل الأول من كتابه «تاريخ التطور الاقتصادي» الذي صدر عام 1837، بالعنوان التالي «الاقتصاد السياسي هو أقدم مما نتصور، إذا أن اليونانيين والرومان كان لديهم كذلك، اقتصادهم السياسي». هذا فيما نجد، من جهة أخرى، مؤرخين آخرين للاقتصاد السياسي، كالأستاذ السابق في جامعة برلين، أوجين دوهرنغ، يتوجهون نحو التأكيد على أن علم الاقتصاد السياسي هو أكثر حداثة مما يعتقد عادة، وأن هذا العلم لم يظهر في الواقع، إلا خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ثم، لكي نأتي على آراء الاشتراكيين، نذكر أن لاسال، يورد عام 1864، في مقدمة كتابه الجدالي الكلاسيكي ضد شولتز-وليتش «رأس المال والعمل» الملاحظة القائلة بأن «الاقتصاد السياسي علم هو الآن قيد البدء، وما زال يحتاج إلى إنجاز».
مقابل هذا نجد أن كارل ماركس قد أعطى لكتابه الاقتصاد الرئيسي «رأس المال» الذي ظهر جزؤه الأول بعد كتاب لاسال بثلاث سنوات، لينجز على نحو ما الأمل الذي أبداه هذا الأخير، العنوان الفرعي «نقد الاقتصاد السياسي». وعلى هذا النحو، يضع ماركس كتابه خارج نطاق الاقتصاد السياسي، إذن يعتبره –أي الاقتصاد السياسي- شيئا منجزا ومتحققا، يمارس عليه، بدوره، عملية النقد.
الاقتصاد السياسي علم قديم قدم تاريخ البشرية المدون، بالنسبة إلى البعض، وهو جديد لا يعود إلى أكثر من قرن ونصف من الزمان، بالنسبة إلى الآخرين، وهو بالنسبة إلى غيرهم علم ما يزال يعيش إرهاصاته الأولى، في نفس الوقت الذي يرى فيه فريق رابع، علما تم تجاوزه، وبات يليق به أن يدفن على أيدي النقد –ومن هذا كله يبدو واضحا أنه علم يثير مشكلة خاصة ومعقدة.
غير أننا سنكون ذوي إلهام سيء إن نحن طلبنا إلى أحد الممثلين الرسميين لهذا العلم أن يشرح لنا السبب في أن الاقتصاد السياسي لم يظهر، كما هو الآن الرأي السائد، إلا متأخرا، أي منذ ما لا يزيد عن القرن والنصف. فالأستاذ دوهرنغ سيفسر لنا، مثلا، بكلماته الخطابية الرنانة، أن اليونانيين والرومان القدامى، لم يكونوا قد توصلوا بعد إلى المفاهيم العلمية المتعلقة بالاقتصاد السياسي، وأنما كان لديهم مجرد أفكار «غير مسؤولة»، «سطحية»، «عادية للغاية»، مستقاة من التجربة اليومية، وان العصر الوسيط لم يعرف أي مفهوم علمي. بيد أن هذا التفسير الحاذق لا يجعلنا نخطو ولو خطوة واحدة إلى الأمام، خاصة وأن تصميماته حول العصر الوسيط لا يمكنها إلا أن تقربنا من جادة الخطأ.
الأستاذ شمولر بدوره، يقدم لنا تفسيرا طريف. ففي المقال المستقي من «قاموس العلوم السياسية» الذي أشرنا إليه أعلاه، يقدم لنا الأستاذ المذكور، الاعتبارات التالية:
«لقد لوحظت ووصفت، خلال قرون من الزمان، وقائع خاصة تتعلق بالاقتصاد الخاص والاجتماعي، ولقد تم الإقرار بالكثير من الحقائق الاقتصادية الخاصة، وكذلك جرى نقاش حول مسائل اقتصادية، كما حول النظم الأخلاقية والحقوقية. غير أن هذه المخططات الجزئية لم تؤد إلى خلق علم ما، إنما ابتداء من اللحظة التي حظيت فيها مسائل الاقتصاد السياسي، بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر، على أهمية لم يكن أحد يظنها حاصلة قبل ذاك. تتعلق بسلوك الدول وإداراتها، وحين بدأ عدد كبير من المؤلفين يبدون اهتمامهم بهذه المسائل، وحين بات من الضروري تلقينها للشبيبة الطالبية، وحين، في الوقت نفسه أدى الاتجاه العام للفكر العلمي إلى ربط مجمل المبادئ والحقائق المنبثقة عن الاقتصاد السياسي في بوتقة نظام مستقل تسيطر عليه بعض الأفكار الأساسية مثل النقد والتبادل، وسياسة الدولة الاقتصادية، والعمل وتقسيم العمل- وهو ما حاوله المؤلفون الرئيسيون في القرن الثامن عشر- في ذلك الوقت بالذات وجد الاقتصاد السياسي بوصفه علما مستقلا... »
والآن، إذا عمدنا إلى تلخيص المعنى الضيق لهذه الفقرة الطويلة، سنصل إلى استخلاص الدرس التالي: ثمة ملاحظات اقتصادية ظلت لزمن طويل مشتتة، ثم اجتمعت في علم مستقل حين شعرت «قيادة الدول وإدارتها» - أي الحكومة -، بضرورة هذا، وحين بات من الضروري تدريس الاقتصاد السياسي في الجامعات، من أجل هذه الغاية.... يا له من تفسير رائع وكلاسيكي بالنسبة إلى أستاذ ألماني! فبفضل « حاجة» هذه الحكومة العزيزة، أنشئ كرسي في الجامعة ثم هرع أستاذ ما لشغله. ثم بعد هذا، يتوجه بداهة خلق العلم المتلائم مع هذا الكرسي، وإلاّ ما الذي سيدرسه هذا الأستاذ يا ترى؟ إن هذا يذكرنا بمسؤول البروتوكول الذي ما انفك يؤكد أنه من الضروري بقاء الممالك... إذ ما الذي سيقوم به مثل هذا المسؤول من عمل، إن لم تكن ثمة ممالك؟ إذن، يتبدى لنا أن الاقتصاد السياسي قد ظهر كعلم انطلاقا من حاجات شعرت بها الدول الحديثة.
أي أن الاقتصاد السياسي ولد بناءا على طلب تقدمت به السلطات! إن الأستاذ شمولر يفكر بطريقة توحي بأن الحاجات المالية للأمراء، وأوامر الحكومات، تكفي لإنهاض علم جديد بأسره، من باطن الأرض، ولن يفوتنا هنا أن نذكر بأن الأستاذ شمولر ما هو سوى خادم مثقف لحكومات الريخ، وهو خادم يتولى – طوعا – باسم هذه الحكومات مهمة استحداث التبرير «العلمي» لمشروع ميزانية وزارة البحرية، أو لمشروع الجمارك أو الضرائب، هذا الرجل ليس أكثر من نسر يطير في ميادين العراك يعظ في زمن الحرب مستثيرا المشاعر الشوفينية ضد الشعوب، وداعيا إلى الوحشية الأخلاقية. إن مثل هذا المفهوم من العسير هضمه بالنسبة إلى باقي شعوب البشرية، أو بنسبة إلى كل أولئك الذين لا يقبضون من وزارة الخزانة. غير أن هذه النظرية تقدم لنا لغزا جديدا لنحله... فما الذي حدث لكي تشعر الدول الحديثة في القرن السابع عشر، وبشكل مفاجئ، كما يؤكد الأستاذ شمولر، بضرورة سلخ رعاياها الأعزاء تبعا للمبادئ العلمية، بينما كان كل أمر قد سار على ما يرام خلال قرون طويلة، تبعا للنمط البطريريكي ودون أية مبادئ كانت؟ ترى ألا يتوجه علينا هنا كذلك، أن نضع الأمور في نصابها، بحيث نتساءل عمّا إذا لم تكن هذه الحاجات الجديدة للخزائن الأميرية نفسها، مجرد نتيجة متواضعة لانقلاب تاريخي هائل، أدى إلى انبثاق علم الاقتصاد السياسي الجديد في أواسط القرن التاسع عشر؟
مهما يكن الأمر، من المؤكد أننا لا نعرف بعد متى ولماذا ظهر الاقتصاد السياسي، بالنظر إلى أن طائفة العلماء، لم تتمكن من تعليمنا فحوى الموضوع الذي يعالجه هذا العلم حقا.
....
وبما أنه من مجريات الأمور، لدى السادة الأخصائيين، أن يشتغلوا على تعريفات، أي أن يفرغوا جوهر الأمور الأكثر تعقيدا، في بضع جمل مرتبة بشكل جيد، هيا بنا نستعلم، على سبيل التجربة، لدى احد الممثلين الرسميين للاقتصاد السياسي، ولنسأله عن الماهية الحقيقية لهذا العلم. فما الذي يقوله عنه يا ترى، عميد الأساتذة الألمان، والمؤلف الأوحد لعدد هائل لا يحصى من كتب الاقتصاد السياسي. ومؤسس المدرسة المدعوة «تاريخية»، الأستاذ فلهلم روخر؟ في كتابه الضخم الأول المسمى «أسس الاقتصاد السياسي: كتاب ومجموعة محاضرات موجهة إلى رجال الأعمال والطلاب» وهو كتاب صدر للمرة الأولى عام 1854، ثم أعيدت طباعته 23 مرة بعد ذاك، نقرأ في الفصل الثاني، المقطع السادس عشر ما يلي:
«نعني بالاقتصاد السياسي، نظرية تطور قوانين الاقتصاد القومي [5]، والحياة الاقتصادية القومية (فلسفة تاريخ الاقتصاد القومي كما يقول فون مانغولدت). وهذا العلم، مثله مثل كافة العلوم المتحدثة عن حياة أمة معينة، يرتبط من جهة بدراسة الفرد، ويمتد من جهة أخرى ليدرس الإنسانية جمعاء.»
فهل يفهم «رجال الأعمال والطلاب» الآن ما هو الاقتصاد السياسي، يا ترى؟ إنه، وبالتحديد... الاقتصاد السياسي! ما هي نظارات الشقوق؟ إنها النظارات التي ترينا الشقوق. ما هو حمار حمل الأثقال؟ إنه حمار نحمل فوقه الأثقال. ويا لها من طريقة تبسيطية تصلح لتعليم الأطفال كيفية استخدام كل هذه الأدوات [6]. إن المزعج في هذا هو أنه إذا تعذر فهم معنى الكلمات المطروحة، لا يمكن سلوك أي سبيل للتقدم إذا ما طرحت هذه الكلمات بطريقة مغايرة.
لذا، سنحاول التوجه شطر عالم ألماني آخر، يقوم حاليا بتدريس الاقتصاد السياسي في جامعة برلين، إنه البروفيسور شمولر، عين ونور العلم الرسمي. يعطينا شمولر هذا، في «قاموس العلوم السياسية» -وهو مجلد ضخم وضعه عدد من الأساتذة الألمان، وأشرف عليه الأستاذان كونراد ولكسيس- في مقال حول الاقتصاد السياسي، الجواب التالي على السؤال القائل: ما هو الاقتصاد السياسي؟ إنه العلم الذي يبغي وصف وتعريف وتفسير الظواهر الاقتصادية، انطلاقا من أسبابها، ومن ثم فهمها ككل متماسك، شرط أن يكون الاقتصاد السياسي قد تم تعريفه قبل ذلك بشكل صحيح. في صلب هذا العلم، يمكننا العثور على الظواهر النموذجية التي تتكرر لدى الشعوب المتمدنة المعاصرة، وهي ظواهر تقسيم وتنظيم العمل، وتدوير وتوزيع العائدات، والمؤسسات الاقتصادية الاجتماعية التي، بالاستناد إلى بعض أشكال الحق الخاص والعام، وإذ تكون خاضعة لهيمنة قوى طبيعية متماثلة أو متشابهة، تؤدي إلى أحكام أو تخلق قوى متشابهة أو متماثلة وتقدم نوعا من الصورة الجامدة للعالم المتمدن الاقتصادي المعاصر، أي نوعا من القانون المتوسط لهذا العالم. انطلاقا من هنا، سعى هذا العلم بالتالي، هنا وهناك، إلى ملاحظة تنوعات مختلف الاقتصادات القومية فيما بينها، ومختلف أشكال التنظيم، لقد تساءل هذا العلم عن الترابط والتتابع الذين ظهرت عبرهما هذه الأشكال المختلفة، فتوصل بهذا على أن يقدم نفسه بوصفه التطور السببي لهذه الأشكال: واحدة بالانطلاق من الأخرى، ثم بوصفه التتابع التاريخي للمواقف الاقتصادية. وبهذا تمكن هذا العلم من مفصلة السمة الديناميكية حول السمة الجامدة. وتمكن منذ بداياته، وبفصل أحكام القيمة الأخلاقية-التاريخية، تمكن من أن يضع مثلا عليا، وحافظ على الدوام على وظيفته العملية هذه، إلى درجة معينة، وأخيرا تمكن على الدوام من وضع تعليمات عملية للحياة، إلى جانب النظرية.»
أووف... فلنستعد أنفاسنا!
ماهو الأمر إذن؟ مؤسسات اقتصادية اجتماعية –الحق الخاص والعام- القوى الطبيعية- متشابهة ومتماثلة- إحصاء- جامد- متحرك- قانون متوسط- تطور سببي- أحكام قيمة أخلاقية تاريخية... إن الإنسان العادي الفرد بين البشر الفانين، سيشعر بعد قراءة هذا كله كما لو أن دولاب طاحون يدور داخل رأسه. إن هذا الفرد، بسبب عطشه للمعرفة، وثقته العمياء في الحكمة الأستاذية، سيبذل جهدا كبيرا ليقرأ مرتين ثم مرات ثلاث، كل هذا الهراء عله يعثر على معنى له. إن أخشى ما نخشاه أن يضيع هذا الجهد. لأن ما يقد لنا في هذا الكلام كله، ليس سوى مجموعة من العبارات الجوفاء، وتجميعا مهترئا وخاويا، للكلمات. والواقع أن لهذا كله إشارة لا تخطئ أبدا: إن أي شخص يفكر بوضوح، ويسيطر تماما على أقواله، يمكنه أن يعبر عن نفسه بوضوح وبشكل مفهوم، أما الشخص الذي يعبر عن نفسه بشكل غامض ومدع، بالنسبة إلى أمور لا تمت بصلة إلى صافي الأفكار الفلسفية أو إلى تعقيدات الصوفية الدينية، فإنه مجرد شخص غير قادر على أن يرى بوضوح، بحيث يكون لديه ألف سبب وسبب يدفعه لتجنب الوضوح. ولسوف نرى لاحقا أنه ليس من قبيل الصدفة أن يلجا العلماء البرجوازيون إلى استخدام لغة غامضة ومشوشة، للتحدث عن جوهر الاقتصاد السياسي وماهيته، وأن هذه اللغة إنما تعبر عن تشوشهم الخاص، كما عن رفضهم المغرض والمتكالب لتوضيح المسألة بشكل حقيقي.
بامكاننا فهم السبب في أن مفهوم الاقتصاد السياسي لا يمكن توضيحه بجلاء، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار واقع أن قدم أصل هذا المفهوم نفسه، مسألة تحتمل الكثير من التناقض في الآراء. فمن جهة نجد مؤرخا معروفا، وأستاذا سابقا للاقتصاد السياسي في جامعة باريس، هو أدولف بلانكي –أخو أغوست بلانكي، الاشتراكي الشهير والمناضل المعروف أيام كومونة باريس- يبدأ، مثلا، الفصل الأول من كتابه «تاريخ التطور الاقتصادي» الذي صدر عام 1837، بالعنوان التالي «الاقتصاد السياسي هو أقدم مما نتصور، إذا أن اليونانيين والرومان كان لديهم كذلك، اقتصادهم السياسي». هذا فيما نجد، من جهة أخرى، مؤرخين آخرين للاقتصاد السياسي، كالأستاذ السابق في جامعة برلين، أوجين دوهرنغ، يتوجهون نحو التأكيد على أن علم الاقتصاد السياسي هو أكثر حداثة مما يعتقد عادة، وأن هذا العلم لم يظهر في الواقع، إلا خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ثم، لكي نأتي على آراء الاشتراكيين، نذكر أن لاسال، يورد عام 1864، في مقدمة كتابه الجدالي الكلاسيكي ضد شولتز-وليتش «رأس المال والعمل» الملاحظة القائلة بأن «الاقتصاد السياسي علم هو الآن قيد البدء، وما زال يحتاج إلى إنجاز».
مقابل هذا نجد أن كارل ماركس قد أعطى لكتابه الاقتصاد الرئيسي «رأس المال» الذي ظهر جزؤه الأول بعد كتاب لاسال بثلاث سنوات، لينجز على نحو ما الأمل الذي أبداه هذا الأخير، العنوان الفرعي «نقد الاقتصاد السياسي». وعلى هذا النحو، يضع ماركس كتابه خارج نطاق الاقتصاد السياسي، إذن يعتبره –أي الاقتصاد السياسي- شيئا منجزا ومتحققا، يمارس عليه، بدوره، عملية النقد.
الاقتصاد السياسي علم قديم قدم تاريخ البشرية المدون، بالنسبة إلى البعض، وهو جديد لا يعود إلى أكثر من قرن ونصف من الزمان، بالنسبة إلى الآخرين، وهو بالنسبة إلى غيرهم علم ما يزال يعيش إرهاصاته الأولى، في نفس الوقت الذي يرى فيه فريق رابع، علما تم تجاوزه، وبات يليق به أن يدفن على أيدي النقد –ومن هذا كله يبدو واضحا أنه علم يثير مشكلة خاصة ومعقدة.
غير أننا سنكون ذوي إلهام سيء إن نحن طلبنا إلى أحد الممثلين الرسميين لهذا العلم أن يشرح لنا السبب في أن الاقتصاد السياسي لم يظهر، كما هو الآن الرأي السائد، إلا متأخرا، أي منذ ما لا يزيد عن القرن والنصف. فالأستاذ دوهرنغ سيفسر لنا، مثلا، بكلماته الخطابية الرنانة، أن اليونانيين والرومان القدامى، لم يكونوا قد توصلوا بعد إلى المفاهيم العلمية المتعلقة بالاقتصاد السياسي، وأنما كان لديهم مجرد أفكار «غير مسؤولة»، «سطحية»، «عادية للغاية»، مستقاة من التجربة اليومية، وان العصر الوسيط لم يعرف أي مفهوم علمي. بيد أن هذا التفسير الحاذق لا يجعلنا نخطو ولو خطوة واحدة إلى الأمام، خاصة وأن تصميماته حول العصر الوسيط لا يمكنها إلا أن تقربنا من جادة الخطأ.
الأستاذ شمولر بدوره، يقدم لنا تفسيرا طريف. ففي المقال المستقي من «قاموس العلوم السياسية» الذي أشرنا إليه أعلاه، يقدم لنا الأستاذ المذكور، الاعتبارات التالية:
«لقد لوحظت ووصفت، خلال قرون من الزمان، وقائع خاصة تتعلق بالاقتصاد الخاص والاجتماعي، ولقد تم الإقرار بالكثير من الحقائق الاقتصادية الخاصة، وكذلك جرى نقاش حول مسائل اقتصادية، كما حول النظم الأخلاقية والحقوقية. غير أن هذه المخططات الجزئية لم تؤد إلى خلق علم ما، إنما ابتداء من اللحظة التي حظيت فيها مسائل الاقتصاد السياسي، بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر، على أهمية لم يكن أحد يظنها حاصلة قبل ذاك. تتعلق بسلوك الدول وإداراتها، وحين بدأ عدد كبير من المؤلفين يبدون اهتمامهم بهذه المسائل، وحين بات من الضروري تلقينها للشبيبة الطالبية، وحين، في الوقت نفسه أدى الاتجاه العام للفكر العلمي إلى ربط مجمل المبادئ والحقائق المنبثقة عن الاقتصاد السياسي في بوتقة نظام مستقل تسيطر عليه بعض الأفكار الأساسية مثل النقد والتبادل، وسياسة الدولة الاقتصادية، والعمل وتقسيم العمل- وهو ما حاوله المؤلفون الرئيسيون في القرن الثامن عشر- في ذلك الوقت بالذات وجد الاقتصاد السياسي بوصفه علما مستقلا... »
والآن، إذا عمدنا إلى تلخيص المعنى الضيق لهذه الفقرة الطويلة، سنصل إلى استخلاص الدرس التالي: ثمة ملاحظات اقتصادية ظلت لزمن طويل مشتتة، ثم اجتمعت في علم مستقل حين شعرت «قيادة الدول وإدارتها» - أي الحكومة -، بضرورة هذا، وحين بات من الضروري تدريس الاقتصاد السياسي في الجامعات، من أجل هذه الغاية.... يا له من تفسير رائع وكلاسيكي بالنسبة إلى أستاذ ألماني! فبفضل « حاجة» هذه الحكومة العزيزة، أنشئ كرسي في الجامعة ثم هرع أستاذ ما لشغله. ثم بعد هذا، يتوجه بداهة خلق العلم المتلائم مع هذا الكرسي، وإلاّ ما الذي سيدرسه هذا الأستاذ يا ترى؟ إن هذا يذكرنا بمسؤول البروتوكول الذي ما انفك يؤكد أنه من الضروري بقاء الممالك... إذ ما الذي سيقوم به مثل هذا المسؤول من عمل، إن لم تكن ثمة ممالك؟ إذن، يتبدى لنا أن الاقتصاد السياسي قد ظهر كعلم انطلاقا من حاجات شعرت بها الدول الحديثة.
أي أن الاقتصاد السياسي ولد بناءا على طلب تقدمت به السلطات! إن الأستاذ شمولر يفكر بطريقة توحي بأن الحاجات المالية للأمراء، وأوامر الحكومات، تكفي لإنهاض علم جديد بأسره، من باطن الأرض، ولن يفوتنا هنا أن نذكر بأن الأستاذ شمولر ما هو سوى خادم مثقف لحكومات الريخ، وهو خادم يتولى – طوعا – باسم هذه الحكومات مهمة استحداث التبرير «العلمي» لمشروع ميزانية وزارة البحرية، أو لمشروع الجمارك أو الضرائب، هذا الرجل ليس أكثر من نسر يطير في ميادين العراك يعظ في زمن الحرب مستثيرا المشاعر الشوفينية ضد الشعوب، وداعيا إلى الوحشية الأخلاقية. إن مثل هذا المفهوم من العسير هضمه بالنسبة إلى باقي شعوب البشرية، أو بنسبة إلى كل أولئك الذين لا يقبضون من وزارة الخزانة. غير أن هذه النظرية تقدم لنا لغزا جديدا لنحله... فما الذي حدث لكي تشعر الدول الحديثة في القرن السابع عشر، وبشكل مفاجئ، كما يؤكد الأستاذ شمولر، بضرورة سلخ رعاياها الأعزاء تبعا للمبادئ العلمية، بينما كان كل أمر قد سار على ما يرام خلال قرون طويلة، تبعا للنمط البطريريكي ودون أية مبادئ كانت؟ ترى ألا يتوجه علينا هنا كذلك، أن نضع الأمور في نصابها، بحيث نتساءل عمّا إذا لم تكن هذه الحاجات الجديدة للخزائن الأميرية نفسها، مجرد نتيجة متواضعة لانقلاب تاريخي هائل، أدى إلى انبثاق علم الاقتصاد السياسي الجديد في أواسط القرن التاسع عشر؟
مهما يكن الأمر، من المؤكد أننا لا نعرف بعد متى ولماذا ظهر الاقتصاد السياسي، بالنظر إلى أن طائفة العلماء، لم تتمكن من تعليمنا فحوى الموضوع الذي يعالجه هذا العلم حقا.
....
تعليق