ربما أن المتتبع للتاريخ يدرك تمام الإدراك أن الأزمة الاقتصادية الاميركية الراهنة , او ما أطلق عليها تسمية " أزمة الرهن العقاري " , والتي تعيش انعكاساتها جميع دول العالم بلا استثناء بشكل او بآخر , وخصوصا الولايات المتحدة الاميركية " الدولة الرأسمالية الأكبر في التاريخ الحديث " , ليست باستثناء فريد في تاريخ الاقتصاد العالمي بشكل عام , والحديث على وجه التحديد , او أنها أزمة اقتصادية لم يشهد العالم مثيلا لها من قبل , مع أننا نستطيع أن نطلق عليها تسمية الحرب العالمية الاقتصادية الأولى في القرن الحادي والعشرون , لما ترتب عليها من اتحاد شبه عالمي لاحتوائها وتقليص أخطارها على الاقتصاد العالمي , وعليه فان ذلك يجعلنا نتصور أن العالم سيشهد مستقبلا العديد من الحروب والأزمات الاقتصادية المماثلة , ربما تكون أشرس بكثير مما يمر به العالم اليوم جراء الأزمة الراهنة 0
ولو عدنا بالتاريخ الى الوراء , سنجد أن العالم قد مر سابقا بمثل هذا النوع من التحولات والأزمات الاقتصادية العالمية , كما هو حال الأزمة الاقتصادية التي مرت بالإمبراطورية الرومانية في زمن الإمبراطور يوستنيانوس الأول ( 483 – 565 م ) , والأزمات البريطانية في الأعوام 1668 م و1720 م و 1945 م , وفي فرنسا في العام 1882 م والتي تسببت بانهيار مصرف الاتحاد العام الفرنسي وانهيار بورصتا ليون وباريس , وفي أوربا بالعام 1870م بسبب صعوبة السيطرة على النقد في الولايات المتحدة الاميركية , وفي الولايات المتحدة الاميركية في الفترة من 1878م - 1892 م والتي تسببت بارتفاع حالات الإفلاس الاقتصادي , وأزمة العام 1907 م والتي عرفت بأزمة الرعب في وول ستريت , وفي الأعوام 1929م والذي أطلق عليها تسمية الكساد العالمي الكبير , والذي أصاب المؤسسات الاقتصادية وأسواق المال العالمية سواء في أوروبا أو في الولايات المتحدة الأمريكية بالكساد والإفلاس , كذلك في العام 1987 م في نفس البورصة سالفة الذكر , وفي روسيا التي عانت من مثل هذه الأزمات كما حدث ذلك في الأعوام 1988 م و 1997 م جراء الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت أسيا , وبالطبع في الأزمات الاقتصادية سالفة الذكر لا تشكل سوى رصيد لا يذكر في سجل الأزمات الاقتصادية عبر التاريخ 0
و- من وجهة نظرنا الشخصية – فأن تلك الأزمات الاقتصادية السابقة واللاحقة لن تزيد عن كونها نتاج طبيعي لدورة التاريخ ككل , وامتداد حتمي يتكرر بطريقة او بأخرى , وذلك لتشكيل القوى العالمية المتنافسة اقتصاديا وجيواستراتيجيا خلال مرحلة تاريخية معينة , والمعروف في عالم الاقتصاد بان الاقتصاد الرأسمالي يتعرض بين الحين والآخر لما يسمى بالدورات الاقتصادية , وتسمى دورات كندارتيف نسبة إلى العالم كندارتيف , وتتراوح أعراضها ما بين الكساد الاقتصادي والركود , راجع - القاموس الاقتصادي - حسن النجفي - 1977 وللعلم فان من بينها – أي – تلك الأزمات الاقتصادية , ما يكون مصطنعا – أي - يقع في دائرة المؤامرة والافتعال والاحتيال والأعمال اللامشروعة , وذلك لأحداث تغيرات سياسة او اقتصادية ما , كما حدث جراء الثورتين الانجليزية (1640 -1649 م ) والفرنسية في العام 1789 م , والحوادث التي سبقت الثورة الروسية في العام 1917 م , ولمزيد من الاطلاع حول أمثلة تلك الأزمات ونتائجها وانعكاساتها العالمية راجع كتاب Federal Reseve Act The لليوستاس مولينز 0
ومنها بالطبع ما يتكون نتيجة بعض الظواهر الاقتصادية السائدة في جميع الاقتصادات الرأسمالية , ومنها ما ينتج عن الأزمات والكوارث الطبيعية كالزلازل والفيضانات والتي تتسبب بخسائر جسيمة في الاقتصاد , والسياسية كالتدخلات الإنسانية والحروب القومية والعالمية , كالحرب العالميتين الأولى والثانية , وردات الفعل المضادة للتصرفات السياسية العالمية , كما حدث نتيجة أحداث الحادي عشر من سبتمبر من العام 2001 م - انظر كتاب ما بعد الامبراطورية لايمانويل تود - , واليوم ببروز روسيا من جديد على الساحة الدولية كدولة منافسة لأحادية القطب , مما أشعل من جديد – وان أنكر البعض ذلك - , الحرب الباردة , وما يمكن أن يترتب على ذلك من إعادة ظاهرة التسلح العالمي بعواقبه الوخيمة على الاقتصاد العالمي 0
وكون الاقتصاد اليوم هو اقتصاد قاري عالمي تديره العولمة – أي – شبكات الاعتماد المتبادل , وتحركه الشركات العملاقة الكبرى العابرة للقومية عن بعد , فانه من المنطق أن تنعكس نتائجه الايجابية والسلبية على مختلف دول العالم في حال إصابته او تأثره بحدث ما , فليس في الجغرافيا الاقتصادية او العولمة التجارية اليوم ما يدل على استقلالية المنتجات الوطنية او المحلية , او نقاءها من نكهة العولمة الاقتصادية العابرة للقارات , او حتى سلامة الاقتصاديات العالمية البعيدة عن موقع الأزمات من التأثر بها , او الصغيرة الغير محسوبة على الاقتصاد العالمي او الأسواق العالمية , بل على العكس , فالكل أصبح يعيش في قرية صغيرة جدا , ويتسوق من نفس " السوبر ماركت العالمي الكبير " , وفي هذا السياق جادل كل من كارل ماركس وفريدريك انغلز بان ( كل الصناعات الوطنية الراسخة من القدم قد دمرت او أنها في طريقها الى الدمار 0000 وبدلا من العزلة القديمة المحلية والوطنية والاكتفاء الذاتي , لدينا تفاعل متصل في كل اتجاه , انه الاعتماد العالمي الشائع بين الأمم ) , انظر – كارل ماركس وفردريك انغلز , البيان الشيوعي , مطبعة جامعة أكسفورد 1992 م _ وقد ظهر هذا البيان لأول مرة في العام 1848م 0
وانطلاقا مما سبق ذكره , فإننا نشخص للازمة الاقتصادية الراهنة ونتائجها وانعكاساتها , ومن منظور تاريخي سياسي بالتالي :-
أولا :- أن العالم اليوم يمر بمفترق طريق رئيسي نحو بناء منظومة القوى العالمية خلال القرن الحادي والعشرون , و- بمعنى آخر – انه يعيش فترة من التقلبات السياسية والاقتصادية العالمية الناتجة عن الحتمية التاريخية للصراع الجيواستراتيجي على العالم , وما الأزمة الاقتصادية الاميركية الراهنة سوى نتاج انعكاسات وتوجهات مختلفة منها ما هو داخلي وآخر خارجي , ستحول دون استمرار الهيمنة والسيادة الاميركية على العالم , وكما يقول الفيلسوف البريطاني جون غراي بان ( ما يجري في الأسواق يخطف الأبصار ويشد انتباهنا جميعا , غير أن هذا الغليان أكثر من مجرد أزمة مالية كبيرة ، ما نراه اليوم هو تحول تاريخي لا رجعة عنه في موازين القوى العالمية , فأن عصر القيادة الأميركية للعالم قد ولى إلى غير رجعة , لقد سقط جراء هذه العاصفة نموذج كامل للحكم وإدارة الاقتصاد في تغير يشبه في آثاره إلى حد بعيد آثار انهيار الاتحاد السوفيتي, فما يجري في واشنطن يعني نهاية شكل واحد من أشكال الرأسمالية هو الشكل الغريب والمتقلب الذي وجد في أميركا خلال السنوات العشرين الماضية ، هذه التجربة المالية والمصرفية القائمة على سياسة عدم التدخل هي بالذات ما سقط وتلاشى ) 0
كذلك وقد أشار لنفس الفكرة السابقة أحد أبرز الفلاسفة والمفكرين الأميركيين المعاصرين , ففي مقال بعنوان " انهيار أميركا كمؤسسة " نشرته مجلة نيوزويك , كتب فرانسيس فوكوياما يقول :- ( إن الولايات المتحدة لن تنعم بوضعها الذي ظلت تتمتع به حتى الآن كقوة مهيمنة على العالم , وهو ما أكده الغزو الروسي لجمهورية جورجيا في 7 أغسطس من هذا العام , وأضاف أن قدرة أميركا على صياغة الاقتصاد الدولي عبر الاتفاقيات التجارية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ستضعف وستتضاءل معها موارد البلاد المالية , كما أن المفاهيم والنصائح وحتى المعونات التي تقدمها للعالم لن تحظى بذلك الترحيب الذي تتلقاه الآن ) 0
ثانيا :- إن الأزمة الاقتصادية العالمية التي تأثرت بها جل دول العالم , وانطلقت من الولايات المتحدة الاميركية , ليست سوى مجرد دورة اقتصادية حتمية وطبيعية لتحرير قيود وأغلال الاقتصاد العالمي من احتكار بعض القوى الرأسمالية الكبرى , ولو تسبب ذلك بانهيار الاقتصاد العالمي ككل , فانه لابد أن يحدث لتتشكل من خلالها المنظومة الاقتصادية العالمية خلال القرن الحادي والعشرون , بحيث ستنهار بعض المؤسسات الاقتصادية العالمية الكبرى في الولايات المتحدة الاميركية وأوربا على حساب أخرى في أسيا كاليابان والصين على سبيل المثال لا الحصر , والتي نتوقع أن يتدرج اقتصادها بالصعود خلال الشهور القليلة القادمة , وهو ما سيترتب عليه تلقائيا إعادة تشكيل القوى الكبرى " اقتصاديا على اقل تقدير " على الخارطة الجيواستراتيجية العالمية القادمة خلال القرن الحادي والعشرون0
ثالثا :- سيجتاز العالم عاجلا أم آجلا هذه الأزمة الاقتصادية الخانقة , كما تجاوز غيرها خلال فترة زمنية قصيرة وبشكل تدريجي , وذلك بعودة الاستقرار الى الأسواق العالمية , - وبتصوري الشخصي – بان الاقتصاد العالمي سيتعافى من آثارها وأعراضها الجانبية الكارثية في مدة زمنية قياسية , ربما يكون أقصاها نهاية العام 2009 م , أما بالنسبة للولايات المتحدة الاميركية فان الخيار الذي تواجهه اليوم – على حد تعبير أستاذ الاقتصاد السياسي الاميركي فرانسيس فوكوياما - يذهب إلى أبعد من خطة الإنقاذ أو حملة الانتخابات الرئاسية , فالنموذج الأميركي يقف على المحك على نحو مؤلم في وقت تبدو فيه النماذج الأخرى الصيني منها أو الروسي أكثر جاذبية 0
وختاما ففما لابد أن نذكره هنا , كما نهبنا عليه في عدد من المقالات والتحليلات السابقة , ونتيجة للحوادث والتغيرات العالمية التي بدأت تظهر على السطح بشكل متوالي , وهو أن السنوات القليلة المتبقية من العقد الأول للقرن الحادي والعشرون ستكون حاسمة ومصيرية في عدد من الجوانب ذات الارتباط العالمي العولمي المتبادل , فاقتصاديا ستبدأ عدد من القوى الاقتصادية العالمية بالتراجع والانكماش بشكل تدريجي , وذلك نتيجة لعدد من التحولات الدولية المرتبطة بالاقتصاد العالمي , بداية بمصادر الطاقة الحيوية والصراع على احتواء واحتكار مصادرها الطبيعية , على حساب قوى أخرى كانت مهمشة وغير محسوبة كقوى عظمى قبل ذلك , كما سيتغير النظام السياسي العالمي تدريجيا نحو نظام حكم الكثرة الناتج عن تراجع القطبية الاميركية , وبالتالي ستتبدل الخارطة الجيواستراتيجية العالمية بشكل ملفت للنظر , وخصوصا من خلال بروز عدد من القوى النامية كقوى منافسة يحسب لها ألف حساب على الصعيد العالمي , - انظر مقالنا الحتمية التاريخية للصراع الجيواستراتيجي على العالم - , أما عسكريا ففما يتوقع أن يكون خلال هذه الفترة هو ظهور عدد من التحالفات العسكرية ذات الطابع الدفاعي الاستراتيجي , وخصوصا في القارة الأسيوية , وهو ما سيزيد من خطر نشوب عدد من الحروب ذات الطابع الاستفزازي " عروض العضلات العسكرية " خلال القرن الحادي والعشرون , انظر مقالنا – الفوضى القادمة في السياسات العسكرية , ومقال كوارث المستقبل " انتصار العقيدة العسكرية 0
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
كاتب مستقل " صحيفة الوطن " سلطنة عمان
مشرف عام الواحة السياسية والدراسات السياسية والجيواستراتيجية بمنتديات المعهد العربي للبحوث والدراسات الإستراتيجية – الأردن
المقال منشور الى الان في المواقع التالية / 0000
مركز الخليج للابحاث بدولة الامارات
صحيفة الوطن بسلطنة عمان
صحيفة الحوار المتمدن ( الموقع الشخصي )
صحيفة الساعة السورية الالكترونية
صحيفة المثقف
صحيفة الحقيقة الدولية
صحيفة العالمية الاميركية
صحيفة المدى العراقية
موقع المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية بالاردن
منتديات واتا - يتبع الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب
ولو عدنا بالتاريخ الى الوراء , سنجد أن العالم قد مر سابقا بمثل هذا النوع من التحولات والأزمات الاقتصادية العالمية , كما هو حال الأزمة الاقتصادية التي مرت بالإمبراطورية الرومانية في زمن الإمبراطور يوستنيانوس الأول ( 483 – 565 م ) , والأزمات البريطانية في الأعوام 1668 م و1720 م و 1945 م , وفي فرنسا في العام 1882 م والتي تسببت بانهيار مصرف الاتحاد العام الفرنسي وانهيار بورصتا ليون وباريس , وفي أوربا بالعام 1870م بسبب صعوبة السيطرة على النقد في الولايات المتحدة الاميركية , وفي الولايات المتحدة الاميركية في الفترة من 1878م - 1892 م والتي تسببت بارتفاع حالات الإفلاس الاقتصادي , وأزمة العام 1907 م والتي عرفت بأزمة الرعب في وول ستريت , وفي الأعوام 1929م والذي أطلق عليها تسمية الكساد العالمي الكبير , والذي أصاب المؤسسات الاقتصادية وأسواق المال العالمية سواء في أوروبا أو في الولايات المتحدة الأمريكية بالكساد والإفلاس , كذلك في العام 1987 م في نفس البورصة سالفة الذكر , وفي روسيا التي عانت من مثل هذه الأزمات كما حدث ذلك في الأعوام 1988 م و 1997 م جراء الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت أسيا , وبالطبع في الأزمات الاقتصادية سالفة الذكر لا تشكل سوى رصيد لا يذكر في سجل الأزمات الاقتصادية عبر التاريخ 0
و- من وجهة نظرنا الشخصية – فأن تلك الأزمات الاقتصادية السابقة واللاحقة لن تزيد عن كونها نتاج طبيعي لدورة التاريخ ككل , وامتداد حتمي يتكرر بطريقة او بأخرى , وذلك لتشكيل القوى العالمية المتنافسة اقتصاديا وجيواستراتيجيا خلال مرحلة تاريخية معينة , والمعروف في عالم الاقتصاد بان الاقتصاد الرأسمالي يتعرض بين الحين والآخر لما يسمى بالدورات الاقتصادية , وتسمى دورات كندارتيف نسبة إلى العالم كندارتيف , وتتراوح أعراضها ما بين الكساد الاقتصادي والركود , راجع - القاموس الاقتصادي - حسن النجفي - 1977 وللعلم فان من بينها – أي – تلك الأزمات الاقتصادية , ما يكون مصطنعا – أي - يقع في دائرة المؤامرة والافتعال والاحتيال والأعمال اللامشروعة , وذلك لأحداث تغيرات سياسة او اقتصادية ما , كما حدث جراء الثورتين الانجليزية (1640 -1649 م ) والفرنسية في العام 1789 م , والحوادث التي سبقت الثورة الروسية في العام 1917 م , ولمزيد من الاطلاع حول أمثلة تلك الأزمات ونتائجها وانعكاساتها العالمية راجع كتاب Federal Reseve Act The لليوستاس مولينز 0
ومنها بالطبع ما يتكون نتيجة بعض الظواهر الاقتصادية السائدة في جميع الاقتصادات الرأسمالية , ومنها ما ينتج عن الأزمات والكوارث الطبيعية كالزلازل والفيضانات والتي تتسبب بخسائر جسيمة في الاقتصاد , والسياسية كالتدخلات الإنسانية والحروب القومية والعالمية , كالحرب العالميتين الأولى والثانية , وردات الفعل المضادة للتصرفات السياسية العالمية , كما حدث نتيجة أحداث الحادي عشر من سبتمبر من العام 2001 م - انظر كتاب ما بعد الامبراطورية لايمانويل تود - , واليوم ببروز روسيا من جديد على الساحة الدولية كدولة منافسة لأحادية القطب , مما أشعل من جديد – وان أنكر البعض ذلك - , الحرب الباردة , وما يمكن أن يترتب على ذلك من إعادة ظاهرة التسلح العالمي بعواقبه الوخيمة على الاقتصاد العالمي 0
وكون الاقتصاد اليوم هو اقتصاد قاري عالمي تديره العولمة – أي – شبكات الاعتماد المتبادل , وتحركه الشركات العملاقة الكبرى العابرة للقومية عن بعد , فانه من المنطق أن تنعكس نتائجه الايجابية والسلبية على مختلف دول العالم في حال إصابته او تأثره بحدث ما , فليس في الجغرافيا الاقتصادية او العولمة التجارية اليوم ما يدل على استقلالية المنتجات الوطنية او المحلية , او نقاءها من نكهة العولمة الاقتصادية العابرة للقارات , او حتى سلامة الاقتصاديات العالمية البعيدة عن موقع الأزمات من التأثر بها , او الصغيرة الغير محسوبة على الاقتصاد العالمي او الأسواق العالمية , بل على العكس , فالكل أصبح يعيش في قرية صغيرة جدا , ويتسوق من نفس " السوبر ماركت العالمي الكبير " , وفي هذا السياق جادل كل من كارل ماركس وفريدريك انغلز بان ( كل الصناعات الوطنية الراسخة من القدم قد دمرت او أنها في طريقها الى الدمار 0000 وبدلا من العزلة القديمة المحلية والوطنية والاكتفاء الذاتي , لدينا تفاعل متصل في كل اتجاه , انه الاعتماد العالمي الشائع بين الأمم ) , انظر – كارل ماركس وفردريك انغلز , البيان الشيوعي , مطبعة جامعة أكسفورد 1992 م _ وقد ظهر هذا البيان لأول مرة في العام 1848م 0
وانطلاقا مما سبق ذكره , فإننا نشخص للازمة الاقتصادية الراهنة ونتائجها وانعكاساتها , ومن منظور تاريخي سياسي بالتالي :-
أولا :- أن العالم اليوم يمر بمفترق طريق رئيسي نحو بناء منظومة القوى العالمية خلال القرن الحادي والعشرون , و- بمعنى آخر – انه يعيش فترة من التقلبات السياسية والاقتصادية العالمية الناتجة عن الحتمية التاريخية للصراع الجيواستراتيجي على العالم , وما الأزمة الاقتصادية الاميركية الراهنة سوى نتاج انعكاسات وتوجهات مختلفة منها ما هو داخلي وآخر خارجي , ستحول دون استمرار الهيمنة والسيادة الاميركية على العالم , وكما يقول الفيلسوف البريطاني جون غراي بان ( ما يجري في الأسواق يخطف الأبصار ويشد انتباهنا جميعا , غير أن هذا الغليان أكثر من مجرد أزمة مالية كبيرة ، ما نراه اليوم هو تحول تاريخي لا رجعة عنه في موازين القوى العالمية , فأن عصر القيادة الأميركية للعالم قد ولى إلى غير رجعة , لقد سقط جراء هذه العاصفة نموذج كامل للحكم وإدارة الاقتصاد في تغير يشبه في آثاره إلى حد بعيد آثار انهيار الاتحاد السوفيتي, فما يجري في واشنطن يعني نهاية شكل واحد من أشكال الرأسمالية هو الشكل الغريب والمتقلب الذي وجد في أميركا خلال السنوات العشرين الماضية ، هذه التجربة المالية والمصرفية القائمة على سياسة عدم التدخل هي بالذات ما سقط وتلاشى ) 0
كذلك وقد أشار لنفس الفكرة السابقة أحد أبرز الفلاسفة والمفكرين الأميركيين المعاصرين , ففي مقال بعنوان " انهيار أميركا كمؤسسة " نشرته مجلة نيوزويك , كتب فرانسيس فوكوياما يقول :- ( إن الولايات المتحدة لن تنعم بوضعها الذي ظلت تتمتع به حتى الآن كقوة مهيمنة على العالم , وهو ما أكده الغزو الروسي لجمهورية جورجيا في 7 أغسطس من هذا العام , وأضاف أن قدرة أميركا على صياغة الاقتصاد الدولي عبر الاتفاقيات التجارية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ستضعف وستتضاءل معها موارد البلاد المالية , كما أن المفاهيم والنصائح وحتى المعونات التي تقدمها للعالم لن تحظى بذلك الترحيب الذي تتلقاه الآن ) 0
ثانيا :- إن الأزمة الاقتصادية العالمية التي تأثرت بها جل دول العالم , وانطلقت من الولايات المتحدة الاميركية , ليست سوى مجرد دورة اقتصادية حتمية وطبيعية لتحرير قيود وأغلال الاقتصاد العالمي من احتكار بعض القوى الرأسمالية الكبرى , ولو تسبب ذلك بانهيار الاقتصاد العالمي ككل , فانه لابد أن يحدث لتتشكل من خلالها المنظومة الاقتصادية العالمية خلال القرن الحادي والعشرون , بحيث ستنهار بعض المؤسسات الاقتصادية العالمية الكبرى في الولايات المتحدة الاميركية وأوربا على حساب أخرى في أسيا كاليابان والصين على سبيل المثال لا الحصر , والتي نتوقع أن يتدرج اقتصادها بالصعود خلال الشهور القليلة القادمة , وهو ما سيترتب عليه تلقائيا إعادة تشكيل القوى الكبرى " اقتصاديا على اقل تقدير " على الخارطة الجيواستراتيجية العالمية القادمة خلال القرن الحادي والعشرون0
ثالثا :- سيجتاز العالم عاجلا أم آجلا هذه الأزمة الاقتصادية الخانقة , كما تجاوز غيرها خلال فترة زمنية قصيرة وبشكل تدريجي , وذلك بعودة الاستقرار الى الأسواق العالمية , - وبتصوري الشخصي – بان الاقتصاد العالمي سيتعافى من آثارها وأعراضها الجانبية الكارثية في مدة زمنية قياسية , ربما يكون أقصاها نهاية العام 2009 م , أما بالنسبة للولايات المتحدة الاميركية فان الخيار الذي تواجهه اليوم – على حد تعبير أستاذ الاقتصاد السياسي الاميركي فرانسيس فوكوياما - يذهب إلى أبعد من خطة الإنقاذ أو حملة الانتخابات الرئاسية , فالنموذج الأميركي يقف على المحك على نحو مؤلم في وقت تبدو فيه النماذج الأخرى الصيني منها أو الروسي أكثر جاذبية 0
وختاما ففما لابد أن نذكره هنا , كما نهبنا عليه في عدد من المقالات والتحليلات السابقة , ونتيجة للحوادث والتغيرات العالمية التي بدأت تظهر على السطح بشكل متوالي , وهو أن السنوات القليلة المتبقية من العقد الأول للقرن الحادي والعشرون ستكون حاسمة ومصيرية في عدد من الجوانب ذات الارتباط العالمي العولمي المتبادل , فاقتصاديا ستبدأ عدد من القوى الاقتصادية العالمية بالتراجع والانكماش بشكل تدريجي , وذلك نتيجة لعدد من التحولات الدولية المرتبطة بالاقتصاد العالمي , بداية بمصادر الطاقة الحيوية والصراع على احتواء واحتكار مصادرها الطبيعية , على حساب قوى أخرى كانت مهمشة وغير محسوبة كقوى عظمى قبل ذلك , كما سيتغير النظام السياسي العالمي تدريجيا نحو نظام حكم الكثرة الناتج عن تراجع القطبية الاميركية , وبالتالي ستتبدل الخارطة الجيواستراتيجية العالمية بشكل ملفت للنظر , وخصوصا من خلال بروز عدد من القوى النامية كقوى منافسة يحسب لها ألف حساب على الصعيد العالمي , - انظر مقالنا الحتمية التاريخية للصراع الجيواستراتيجي على العالم - , أما عسكريا ففما يتوقع أن يكون خلال هذه الفترة هو ظهور عدد من التحالفات العسكرية ذات الطابع الدفاعي الاستراتيجي , وخصوصا في القارة الأسيوية , وهو ما سيزيد من خطر نشوب عدد من الحروب ذات الطابع الاستفزازي " عروض العضلات العسكرية " خلال القرن الحادي والعشرون , انظر مقالنا – الفوضى القادمة في السياسات العسكرية , ومقال كوارث المستقبل " انتصار العقيدة العسكرية 0
باحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية
كاتب مستقل " صحيفة الوطن " سلطنة عمان
مشرف عام الواحة السياسية والدراسات السياسية والجيواستراتيجية بمنتديات المعهد العربي للبحوث والدراسات الإستراتيجية – الأردن
المقال منشور الى الان في المواقع التالية / 0000
مركز الخليج للابحاث بدولة الامارات
صحيفة الوطن بسلطنة عمان
صحيفة الحوار المتمدن ( الموقع الشخصي )
صحيفة الساعة السورية الالكترونية
صحيفة المثقف
صحيفة الحقيقة الدولية
صحيفة العالمية الاميركية
صحيفة المدى العراقية
موقع المعهد العربي للبحوث والدراسات الاستراتيجية بالاردن
منتديات واتا - يتبع الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب