[size=5][align=center]كان يا ما كان.. ذكريات عاشق لبلاد الألبان
تيرانا- د.حمزة زوبع
عشت في بلاد البلقان خمس سنوات وتمنيت لو بقيت فيها خمسين، قضيت معظمها في دولة ألبانيا؛ تلك الدولة المسلمة التي تقع إلى الشمال من دولة اليونان ذات العقيدة الأرثوذكسية، وإلى الشمال منها تقع كوسوفا بأغلبيتها المسلمة، والجبل الأسود بعرقياته المتنوعة، وفي الشرق تجاورها مقدونيا. أما إلى الغرب فألبانيا تطل على البحر الأدرياتيكي لتواجه مباشرة إيطاليا التي يمكن الوصول إليها في ساعتين عبر الأدرياتيكي.
في المطار.. مسافرون وأغنام
كان الانطباع الأول قبل سفري أنني مسافر إلى دولة أوربية وإن كانت متخلفة بالطبع عن بقية الدول، لكنني ما إن وطئت قدماي أرض المطار لم أستطع إلا أن أمسك بقلمي لأكتب عما رأيته، فلم يكن المطار سوى مساحة من الأرض "المسفلتة" التي تحيط بها بعض الأراضي الزراعية؛ حتى إنك لترى رعاة الأغنام وهم يجوبون حرم المطار الذي ليس له سور، وبالتالي من الممكن أن تشاهد بعض الأغنام وهي تسير جنبا إلى جنب الركاب وهم يقطعون طريقهم من الطائرة إلى بوابة الخروج.
وفي مكتب الجوازات لا شيء يدل على أننا في مطار كما هو معروف في أماكن عدة من العالم؛ فأنت لا ترى الشرطة بأعدادها الكبيرة، ولا تكاد تلحظ سوى اثنين من ضباط الجوازات أحدهما لا يجلس خلف مكتبه، الوجوه شاحبة وكأن دهرا مر عليها دون طعام أو شراب، الحديث مع أحدهم هو رحلة أخرى من العذاب؛ فاللغة الألبانية هي لغة الاتصال، إضافة إلى لغة الإشارة التي نجحنا بفضلها في اجتياز أول حاجز للدخول إلى قلب ألبانيا.
رحلة عذاب للعاصمة
على طول الطريق من المطار الوحيد في ألبانيا إلى قلب العاصمة تبدأ رحلة أخرى من العذاب رغم قصر المسافة كما تقول الخريطة؛ فالطريق -إن صح تسميته بذلك- لا تكاد تستقر عليه السيارة؛ فنحن أشبه ما نكون في أرجوحة تعلو بنا وتهبط، ونحن نصرخ في السائق الذي لا يعرف العربية ولا الإنجليزية ولا يعرف قيادة السيارات! نستصرخه أن يهدئ من سرعته، ولكننا نسلم في النهاية إلى القدر الذي دفع بنا إلى هذه التجربة.
على طول الطريق لا تكاد ترى أثرا للعمران البشري؛ فلا شيء سوى الزراعة وأشجار الزيتون والكاكا، وفلاحين يبدون كأنهم قادمون من قعر التاريخ، يشيرون إلينا ويلوحون بأيديهم، ويرطنون بكلمات عرفنا فيما بعد أنها عبارات الترحيب ودعوات بإقامة مريحة في الديار الألبانية.
عشوائية تذكرك بالعهود السالفة
نصف ساعة أو يزيد ونحن نقطع هذا الطريق، وكلما مر بعض الوقت منيت نفسي بأن العاصمة ستكون مختلفة، هكذا دائما العواصم في كل مكان حتى في أفريقيا، وصلنا العاصمة، ويا ليتني ما كنت منيت نفسي بشيء؛ فلغة الكلام تقف عاجزة ومشلولة عند وصف عاصمة ألبانيا، رغم أنني قرأت عنها قبل وصولي، لكن الواقع مختلف جدا: بنايات على طراز المساكن الشعبية تستقبلك عند مدخل العاصمة، حفر ومطبات، أرصفة متهالكة، لا يوجد إشارات مرور، عند التقاطعات تجد رجل مرور يبتسم للمارة؛ فليس ثمة سيارات تعبر الطرق.
قلت للسائق: انتظر قليلا على جانب الطريق، انتظرت طويلا لأحصي عدد السيارات التي ستقطع الطريق.. لم يمر سوى عربات الكارو التي تحمل بعض المتاع والأغراض التي لم أستطع أن أميزها، وسيارة من نوع "فيات" صغيرة تمر، ويقوم الشرطي بتحيتها تحية عسكرية، وعرفت فيما بعد أن راكبها كان قائدا كبيرا في شرطة العاصمة تيرانا.
الألبان يبكون عصر الشيوعية
العلم الألباني
في تيرانا العاصمة 1993 لا يوجد ما يعرف بالمحلات أو المتاجر، لا شيء سوى أكشاك متناثرة وبعض صالونات الحلاقة التي تذكر بفيلم "العزيمة" أو أفلام محمد عبد الوهاب، الحلاقون يقفون على أبواب الصالونات (ليست أبدا كذلك) يتحدثون مع المارة، وعندما تغرب الشمس تموت الحياة حتى في قلب العاصمة.
ذهبت إلى حيث سأسكن؛ مجموعة من المساكن الشعبية ذات المدخل الواحد والمخرج الواحد حتى يسهل محاصرة الناس وقمعهم إن أرادوا أن يعبروا عن آرائهم، شقة في الدور الخامس، لا مياه للشرب، وعليك أن تنزل من حيث تسكن لتملأ "الجراكن" أو تستأجر من يقوم بذلك نظير أجر زهيد، الكهرباء لا تكاد تعمل في الليل وإن كانت متوفرة بعض أوقات النهار.
بطيئة هي حركة الحياة، والناس من حولنا غير مبالين بشيء وكأنهم ينتظرون ما الذي سيحدث لهم أو بهم. لم أجد كثيرين ممن يرغبون في فعل شيء أو اتخاذ مبادرة، الناس ما زالوا يعيشون في عصر الشيوعية يبكون فراقها. ولم لا؟ فقد كان كل شيء موجودا، وتقوم الدولة مشكورة بتوفيره، أما اليوم وفي عصر الديمقراطية فلا يوجد شيء، حتى الدولة غير موجودة، وعلى المواطن أن يسلك طريقه للبحث عن الحياة التي لا تكاد تكون موجودة هنا بين الناس.
وبعضهم يدخلون المسجد بالأحذية
ذهبت إلى المسجد لعلي أجد بعض الحياة هناك، اقتربت من مسجد أدهم بك في قلب العاصمة التي تحتضن أيضا فندق تيرانا (الفندق الوحيد بالعاصمة)، وهو فندق متواضع من الدرجة الثالثة أو الرابعة، لكنه الفندق الكبير كما يطلقون عليه، وبينما نقترب من المسجد علا صوت أذان المغرب، كلمات المؤذن لا تكاد تكون مفهومة إلا قليلا منها. المهم أنه يؤذن في بلد غاب عنه الأذان أكثر من نصف قرن من الزمان. عند باب المسجد يتزاحم الناس ممن يبدون أنهم من الريف أو ممن يقطنون ضواحي العاصمة، عجبا ما رأيت؛ فناهيك عن ملابسهم الرثة وطواقي الرأس التي ترتفع شبرا فوق الرؤوس الأحذية التي ينتعلها البعض منهم ترجع إلى عصور قديمة. ولقد حصلت على إحداها من إحدى الأسواق، وهو أشبه بحذاء جحا ذي الطرف المدبب الملتوي والمفتوح من ناحية النعلين.
لم تتوقف المفاجآت عند حدود الزي أو صعوبة النطق بالأذان، ولكن ما إن ولجنا باب المسجد -كعادتنا- حتى خلعنا أحذيتنا، إلا أن فصيلا من هؤلاء القادمين الجدد لم يفعلوا، ليس خوفا من السرقة لكن لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون عند دخول المسجد. وبعد إقناع البعض بخلع أحذيتهم وتردد البعض وبقائهم خارج المسجد قلت: ليت الذين قاموا بخلع أحذيتهم ما فعلوا، فربما كان منظر الأحذية أرحم بكثير من رائحة الأقدام والجوارب!
أقام المؤذن الصلاة، وأحاطني من اليمين واليسار بعض من هؤلاء القادمين للمسجد لأول مرة؛ يتحركون، يتحدثون إلى بعضهم البعض باللغة الألبانية بالطبع. المهم لا تكاد تشعر بأنك في صلاة، وبعد الصلاة أدرك الإمام الألباني الشيخ حسن ذلك -وهو شيخ عجوز تخرج في الأزهر قبل نصف قرن، ولكنه بالقطع لم يمارس الخطابة ولا الوعظ؛ لأن الشيوعية حرمتهم حتى من الصلاة!!- فقام وأمسك بالميكروفون وقام يخطب في الناس معلقا على ما شاهده من حركات وحوارات ورائحة وصلاة بدون وضوء وأحيانا بالأحذية، لم نكن نفهم كلمة مما قال، ولكنه تحدث معنا -بلغة عربية لا تقل مأساوية عما سردته من قبل- وقال لنا: إنه تحدث إلى الناس ونهرهم وزجرهم وحذرهم من مغبة الكلام في الصلاة، وحثهم على الوضوء والطهارة قبل الصلاة.
ذهبت إلى السوق الكبيرة -كما يطلقون عليها- وهي سوق للخضار والفاكهة والحليب والجبن الأبيض، فلم أجد شيئا سوى بعض الفلاحين والفلاحات يفترشون الأرض وأمامهم حزم من الخضراوات مثل البقدونس والجرجير والفجل، وآخرين أمام سلال بها عنب أحمر وآخر أصفر، لا يكاد تعقد السوق في الصباح الباكر حتى تنفض مبكرا فالأشياء تنفد بسرعة، ولا يمكث باعة الحليب في السوق أكثر من نصف ساعة حتى يختطف الناس منهم ما جلبوه في سرعة البرق، وبعد أن تنفض السوق أنى لك أن تحصل على حليب، وعليك انتظار شروق شمس اليوم التالي.
عودة الروح لألبانيا
الذكريات كثيرة ومثيرة خصوصا في السنتين الأوليين من 1993 حتى 1995، ورويدا رويدا بدأت الروح تدب في شرايين الحياة الألبانية، ومع هذا الغذاء الروحي بدأت المساعدات تصل إلى أرض ألبانيا، لا يكاد يمر يوم إلا وهناك شحنة قادمة من هنا أو هناك، بعضها قادم من الشرق محمول على شكل مساعدات وهبات وتبرعات أخذت أشكالا تنموية مثل المدارس والمستوصفات ومراعي الأبقار والمشاريع التنموية الصغيرة التي اجتذبت المئات إليها، وبدأ الناس يشعرون بأن لهم إخوة حول العالم جاءوهم يحملون إليهم بعض الخير المكنون في صدور وقلوب المسلمين العرب.
وفي الوقت الذي كانت المساجد تعمر وتشيد، والكتاتيب تنتشر، والحفاظ يزداد عددهم.. كانت مكاتب العون والمساعدة والمستشفيات والمستوصفات تفتتح والمرضى المساكين يجدون دواءهم عند أطباء عرب ومسلمين.
تعدلت الأمور كثيرا، وسمعنا الأذان بلهجة عربية وإن خرج من حلوق ألبانية، واستمتعنا بتلاوة قرآنية من شباب تكاد تلمس نور الإيمان وهو يشع منهم، ومن كبار عاد إليهم الدين أو هم عادوا إليه؛ فأحيا موات القلوب وأثلج الصدور، وزادت صفوف المصلين، وانتشرت ورش النجارة، وعاد كثير من المصانع المعطلة إلى العمل.
التبشير والكعكة الألبانية
عادت الحياة، وكما نسعى نحن يسعى غيرنا، وفي بلد مثل ألبانيا لا يمكن للفاتيكان أن يسكت أو يصمت طويلا، فافتتح له سفارة وانتشرت جمعيات التبشير والتنصير لشعب بفطرته مسلم، لكن ولم لا؟ فالكل يريد قطعة من الكعكة الألبانية، والمساعدات الأوربية مرهونة بفتح الباب على مصراعيه أمام المبشرين.
كانت المعادلة صعبة؛ فالجمعيات الإسلامية لا تكاد تصل إلى الرقم 10، بينما الأخرى تتخطى 200؛ أي أكثر من 20 ضعفا، فشِل الآخرون في تحويل قبلة الألبان، فلجئوا إلى حيلة أخرى: لماذا لا يستعينون برجال الأعمال من الطليان واليونانيين وغيرهم الاستثمار في اللحم البشري الألباني عبر فتح كباريهات وكازينوهات ومراقص، وعبر نشر الرذيلة التي قد تغري الكثيرين بمردودها.. وكما ازداد عدد المساجد زرعت تيرانا العاصمة وحدها بآلاف المقاهي والكازينوهات، وانتشرت الملاهي الليلية وصالات الديسكو، وعرفت ألبانيا الموضة والزي القصير والسهر والرقص والخمور والمافيا.
الألبان مدرسة الإسلام الأوربي
تغيرت أوضاع، وتبدلت أحوال، وغاب رجل المرور، وانتشرت علامات المرور، ورصفت الطرق، وانتشرت المحال الفخمة والماركات العالمية، ولكن المسلمين في ألبانيا لم يتوهوا في زحمة الأحداث.. قاوموا -ولا يزالون- وتصدوا للكثير من الحملات، ولكنهم كانوا دائما يقولون: نحن في بلد أوربي لا نستطيع إلا أن نكون هناك، وعلينا أن نعمل كما يعمل الآخرون، لا تستطيع الدولة أن تفرض قانونا إلا بأغلبية، والأغلبية ملك لتيارات اشتراكية وريثة الشيوعية، ولكننا -كما كان يقول شيخ الإسلام في ألبانيا المجاهد الشيخ صبري كوتشي مفتي البلاد- علينا ألا نستثير الآخرين، نحن محاصرون من كل صوب، وعلينا أن نعمل ونجتهد على طريقتنا وليس على طريقتكم (العرب).
ذكر الله عال في البلد المحاصر
الحياة الاجتماعية في ألبانيا بسيطة كما نحن في المشرق العربي؛ فالأسرة مترابطة، والفضيلة متواجدة، والود موصول، والحب يعمر القلوب، والبساطة عنوان، والكرم دأب وممارسة غير مصطنعة، والتاريخ دائما حاضر يستدعى للتدليل على الأصول المسلمة لتلك الأسرة أو هاتيك العائلة، الأفراح مثل أفراح الفلاحين في محافظات مصر في الوجه البحري، موسيقى شعبية ومواويل يصدح بها المغنون، والرقص ليس فيه إباحية؛ بل كما يرقص أهل الصعيد في مصر أو كرقص الدبكة في لبنان، الزي محتشم ومحترم وتاريخي، كل ذلك كان الأبرز، ولكن تحولت الأشياء، وتبدلت الحياة، وتغيرت الأذواق، وإن تمسك البعض بالقديم؛ فرياح التغيير أشد وطأة وأكبر تأثيرا.
الذي بقي من ألبانيا هو التاريخ والعادات التي يجدها الزائر في الريف والمحافظات الخارجية، صوت الأذان في المساجد الآن يعطيك فكرة عن هذا الدين الذي سيبقى طويلا حتى وإن غاب لبعض الوقت، المراكز الإسلامية والمستوصفات الخيرية والمدارس المجانية والكتاتيب وبعض المصانع التي أقامها المتبرعون لاحتواء العاطلين من شباب ألبانيا.. كلها شهود عدول على تغير الحياة في بلد أطلق عليها في يوم ما أنه البلد الملحد الوحيد في العالم.
هاهو الأذان يصدح في قلب العاصمة تيرانا، يا أيها التاريخ سجل، في هذه الأرض البعيدة النائية المحاصرة ما زال وسيظل ذكر الله عاليا. [/align][/size]
تيرانا- د.حمزة زوبع
عشت في بلاد البلقان خمس سنوات وتمنيت لو بقيت فيها خمسين، قضيت معظمها في دولة ألبانيا؛ تلك الدولة المسلمة التي تقع إلى الشمال من دولة اليونان ذات العقيدة الأرثوذكسية، وإلى الشمال منها تقع كوسوفا بأغلبيتها المسلمة، والجبل الأسود بعرقياته المتنوعة، وفي الشرق تجاورها مقدونيا. أما إلى الغرب فألبانيا تطل على البحر الأدرياتيكي لتواجه مباشرة إيطاليا التي يمكن الوصول إليها في ساعتين عبر الأدرياتيكي.
في المطار.. مسافرون وأغنام
كان الانطباع الأول قبل سفري أنني مسافر إلى دولة أوربية وإن كانت متخلفة بالطبع عن بقية الدول، لكنني ما إن وطئت قدماي أرض المطار لم أستطع إلا أن أمسك بقلمي لأكتب عما رأيته، فلم يكن المطار سوى مساحة من الأرض "المسفلتة" التي تحيط بها بعض الأراضي الزراعية؛ حتى إنك لترى رعاة الأغنام وهم يجوبون حرم المطار الذي ليس له سور، وبالتالي من الممكن أن تشاهد بعض الأغنام وهي تسير جنبا إلى جنب الركاب وهم يقطعون طريقهم من الطائرة إلى بوابة الخروج.
وفي مكتب الجوازات لا شيء يدل على أننا في مطار كما هو معروف في أماكن عدة من العالم؛ فأنت لا ترى الشرطة بأعدادها الكبيرة، ولا تكاد تلحظ سوى اثنين من ضباط الجوازات أحدهما لا يجلس خلف مكتبه، الوجوه شاحبة وكأن دهرا مر عليها دون طعام أو شراب، الحديث مع أحدهم هو رحلة أخرى من العذاب؛ فاللغة الألبانية هي لغة الاتصال، إضافة إلى لغة الإشارة التي نجحنا بفضلها في اجتياز أول حاجز للدخول إلى قلب ألبانيا.
رحلة عذاب للعاصمة
على طول الطريق من المطار الوحيد في ألبانيا إلى قلب العاصمة تبدأ رحلة أخرى من العذاب رغم قصر المسافة كما تقول الخريطة؛ فالطريق -إن صح تسميته بذلك- لا تكاد تستقر عليه السيارة؛ فنحن أشبه ما نكون في أرجوحة تعلو بنا وتهبط، ونحن نصرخ في السائق الذي لا يعرف العربية ولا الإنجليزية ولا يعرف قيادة السيارات! نستصرخه أن يهدئ من سرعته، ولكننا نسلم في النهاية إلى القدر الذي دفع بنا إلى هذه التجربة.
على طول الطريق لا تكاد ترى أثرا للعمران البشري؛ فلا شيء سوى الزراعة وأشجار الزيتون والكاكا، وفلاحين يبدون كأنهم قادمون من قعر التاريخ، يشيرون إلينا ويلوحون بأيديهم، ويرطنون بكلمات عرفنا فيما بعد أنها عبارات الترحيب ودعوات بإقامة مريحة في الديار الألبانية.
عشوائية تذكرك بالعهود السالفة
نصف ساعة أو يزيد ونحن نقطع هذا الطريق، وكلما مر بعض الوقت منيت نفسي بأن العاصمة ستكون مختلفة، هكذا دائما العواصم في كل مكان حتى في أفريقيا، وصلنا العاصمة، ويا ليتني ما كنت منيت نفسي بشيء؛ فلغة الكلام تقف عاجزة ومشلولة عند وصف عاصمة ألبانيا، رغم أنني قرأت عنها قبل وصولي، لكن الواقع مختلف جدا: بنايات على طراز المساكن الشعبية تستقبلك عند مدخل العاصمة، حفر ومطبات، أرصفة متهالكة، لا يوجد إشارات مرور، عند التقاطعات تجد رجل مرور يبتسم للمارة؛ فليس ثمة سيارات تعبر الطرق.
قلت للسائق: انتظر قليلا على جانب الطريق، انتظرت طويلا لأحصي عدد السيارات التي ستقطع الطريق.. لم يمر سوى عربات الكارو التي تحمل بعض المتاع والأغراض التي لم أستطع أن أميزها، وسيارة من نوع "فيات" صغيرة تمر، ويقوم الشرطي بتحيتها تحية عسكرية، وعرفت فيما بعد أن راكبها كان قائدا كبيرا في شرطة العاصمة تيرانا.
الألبان يبكون عصر الشيوعية
العلم الألباني
في تيرانا العاصمة 1993 لا يوجد ما يعرف بالمحلات أو المتاجر، لا شيء سوى أكشاك متناثرة وبعض صالونات الحلاقة التي تذكر بفيلم "العزيمة" أو أفلام محمد عبد الوهاب، الحلاقون يقفون على أبواب الصالونات (ليست أبدا كذلك) يتحدثون مع المارة، وعندما تغرب الشمس تموت الحياة حتى في قلب العاصمة.
ذهبت إلى حيث سأسكن؛ مجموعة من المساكن الشعبية ذات المدخل الواحد والمخرج الواحد حتى يسهل محاصرة الناس وقمعهم إن أرادوا أن يعبروا عن آرائهم، شقة في الدور الخامس، لا مياه للشرب، وعليك أن تنزل من حيث تسكن لتملأ "الجراكن" أو تستأجر من يقوم بذلك نظير أجر زهيد، الكهرباء لا تكاد تعمل في الليل وإن كانت متوفرة بعض أوقات النهار.
بطيئة هي حركة الحياة، والناس من حولنا غير مبالين بشيء وكأنهم ينتظرون ما الذي سيحدث لهم أو بهم. لم أجد كثيرين ممن يرغبون في فعل شيء أو اتخاذ مبادرة، الناس ما زالوا يعيشون في عصر الشيوعية يبكون فراقها. ولم لا؟ فقد كان كل شيء موجودا، وتقوم الدولة مشكورة بتوفيره، أما اليوم وفي عصر الديمقراطية فلا يوجد شيء، حتى الدولة غير موجودة، وعلى المواطن أن يسلك طريقه للبحث عن الحياة التي لا تكاد تكون موجودة هنا بين الناس.
وبعضهم يدخلون المسجد بالأحذية
ذهبت إلى المسجد لعلي أجد بعض الحياة هناك، اقتربت من مسجد أدهم بك في قلب العاصمة التي تحتضن أيضا فندق تيرانا (الفندق الوحيد بالعاصمة)، وهو فندق متواضع من الدرجة الثالثة أو الرابعة، لكنه الفندق الكبير كما يطلقون عليه، وبينما نقترب من المسجد علا صوت أذان المغرب، كلمات المؤذن لا تكاد تكون مفهومة إلا قليلا منها. المهم أنه يؤذن في بلد غاب عنه الأذان أكثر من نصف قرن من الزمان. عند باب المسجد يتزاحم الناس ممن يبدون أنهم من الريف أو ممن يقطنون ضواحي العاصمة، عجبا ما رأيت؛ فناهيك عن ملابسهم الرثة وطواقي الرأس التي ترتفع شبرا فوق الرؤوس الأحذية التي ينتعلها البعض منهم ترجع إلى عصور قديمة. ولقد حصلت على إحداها من إحدى الأسواق، وهو أشبه بحذاء جحا ذي الطرف المدبب الملتوي والمفتوح من ناحية النعلين.
لم تتوقف المفاجآت عند حدود الزي أو صعوبة النطق بالأذان، ولكن ما إن ولجنا باب المسجد -كعادتنا- حتى خلعنا أحذيتنا، إلا أن فصيلا من هؤلاء القادمين الجدد لم يفعلوا، ليس خوفا من السرقة لكن لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون عند دخول المسجد. وبعد إقناع البعض بخلع أحذيتهم وتردد البعض وبقائهم خارج المسجد قلت: ليت الذين قاموا بخلع أحذيتهم ما فعلوا، فربما كان منظر الأحذية أرحم بكثير من رائحة الأقدام والجوارب!
أقام المؤذن الصلاة، وأحاطني من اليمين واليسار بعض من هؤلاء القادمين للمسجد لأول مرة؛ يتحركون، يتحدثون إلى بعضهم البعض باللغة الألبانية بالطبع. المهم لا تكاد تشعر بأنك في صلاة، وبعد الصلاة أدرك الإمام الألباني الشيخ حسن ذلك -وهو شيخ عجوز تخرج في الأزهر قبل نصف قرن، ولكنه بالقطع لم يمارس الخطابة ولا الوعظ؛ لأن الشيوعية حرمتهم حتى من الصلاة!!- فقام وأمسك بالميكروفون وقام يخطب في الناس معلقا على ما شاهده من حركات وحوارات ورائحة وصلاة بدون وضوء وأحيانا بالأحذية، لم نكن نفهم كلمة مما قال، ولكنه تحدث معنا -بلغة عربية لا تقل مأساوية عما سردته من قبل- وقال لنا: إنه تحدث إلى الناس ونهرهم وزجرهم وحذرهم من مغبة الكلام في الصلاة، وحثهم على الوضوء والطهارة قبل الصلاة.
ذهبت إلى السوق الكبيرة -كما يطلقون عليها- وهي سوق للخضار والفاكهة والحليب والجبن الأبيض، فلم أجد شيئا سوى بعض الفلاحين والفلاحات يفترشون الأرض وأمامهم حزم من الخضراوات مثل البقدونس والجرجير والفجل، وآخرين أمام سلال بها عنب أحمر وآخر أصفر، لا يكاد تعقد السوق في الصباح الباكر حتى تنفض مبكرا فالأشياء تنفد بسرعة، ولا يمكث باعة الحليب في السوق أكثر من نصف ساعة حتى يختطف الناس منهم ما جلبوه في سرعة البرق، وبعد أن تنفض السوق أنى لك أن تحصل على حليب، وعليك انتظار شروق شمس اليوم التالي.
عودة الروح لألبانيا
الذكريات كثيرة ومثيرة خصوصا في السنتين الأوليين من 1993 حتى 1995، ورويدا رويدا بدأت الروح تدب في شرايين الحياة الألبانية، ومع هذا الغذاء الروحي بدأت المساعدات تصل إلى أرض ألبانيا، لا يكاد يمر يوم إلا وهناك شحنة قادمة من هنا أو هناك، بعضها قادم من الشرق محمول على شكل مساعدات وهبات وتبرعات أخذت أشكالا تنموية مثل المدارس والمستوصفات ومراعي الأبقار والمشاريع التنموية الصغيرة التي اجتذبت المئات إليها، وبدأ الناس يشعرون بأن لهم إخوة حول العالم جاءوهم يحملون إليهم بعض الخير المكنون في صدور وقلوب المسلمين العرب.
وفي الوقت الذي كانت المساجد تعمر وتشيد، والكتاتيب تنتشر، والحفاظ يزداد عددهم.. كانت مكاتب العون والمساعدة والمستشفيات والمستوصفات تفتتح والمرضى المساكين يجدون دواءهم عند أطباء عرب ومسلمين.
تعدلت الأمور كثيرا، وسمعنا الأذان بلهجة عربية وإن خرج من حلوق ألبانية، واستمتعنا بتلاوة قرآنية من شباب تكاد تلمس نور الإيمان وهو يشع منهم، ومن كبار عاد إليهم الدين أو هم عادوا إليه؛ فأحيا موات القلوب وأثلج الصدور، وزادت صفوف المصلين، وانتشرت ورش النجارة، وعاد كثير من المصانع المعطلة إلى العمل.
التبشير والكعكة الألبانية
عادت الحياة، وكما نسعى نحن يسعى غيرنا، وفي بلد مثل ألبانيا لا يمكن للفاتيكان أن يسكت أو يصمت طويلا، فافتتح له سفارة وانتشرت جمعيات التبشير والتنصير لشعب بفطرته مسلم، لكن ولم لا؟ فالكل يريد قطعة من الكعكة الألبانية، والمساعدات الأوربية مرهونة بفتح الباب على مصراعيه أمام المبشرين.
كانت المعادلة صعبة؛ فالجمعيات الإسلامية لا تكاد تصل إلى الرقم 10، بينما الأخرى تتخطى 200؛ أي أكثر من 20 ضعفا، فشِل الآخرون في تحويل قبلة الألبان، فلجئوا إلى حيلة أخرى: لماذا لا يستعينون برجال الأعمال من الطليان واليونانيين وغيرهم الاستثمار في اللحم البشري الألباني عبر فتح كباريهات وكازينوهات ومراقص، وعبر نشر الرذيلة التي قد تغري الكثيرين بمردودها.. وكما ازداد عدد المساجد زرعت تيرانا العاصمة وحدها بآلاف المقاهي والكازينوهات، وانتشرت الملاهي الليلية وصالات الديسكو، وعرفت ألبانيا الموضة والزي القصير والسهر والرقص والخمور والمافيا.
الألبان مدرسة الإسلام الأوربي
تغيرت أوضاع، وتبدلت أحوال، وغاب رجل المرور، وانتشرت علامات المرور، ورصفت الطرق، وانتشرت المحال الفخمة والماركات العالمية، ولكن المسلمين في ألبانيا لم يتوهوا في زحمة الأحداث.. قاوموا -ولا يزالون- وتصدوا للكثير من الحملات، ولكنهم كانوا دائما يقولون: نحن في بلد أوربي لا نستطيع إلا أن نكون هناك، وعلينا أن نعمل كما يعمل الآخرون، لا تستطيع الدولة أن تفرض قانونا إلا بأغلبية، والأغلبية ملك لتيارات اشتراكية وريثة الشيوعية، ولكننا -كما كان يقول شيخ الإسلام في ألبانيا المجاهد الشيخ صبري كوتشي مفتي البلاد- علينا ألا نستثير الآخرين، نحن محاصرون من كل صوب، وعلينا أن نعمل ونجتهد على طريقتنا وليس على طريقتكم (العرب).
ذكر الله عال في البلد المحاصر
الحياة الاجتماعية في ألبانيا بسيطة كما نحن في المشرق العربي؛ فالأسرة مترابطة، والفضيلة متواجدة، والود موصول، والحب يعمر القلوب، والبساطة عنوان، والكرم دأب وممارسة غير مصطنعة، والتاريخ دائما حاضر يستدعى للتدليل على الأصول المسلمة لتلك الأسرة أو هاتيك العائلة، الأفراح مثل أفراح الفلاحين في محافظات مصر في الوجه البحري، موسيقى شعبية ومواويل يصدح بها المغنون، والرقص ليس فيه إباحية؛ بل كما يرقص أهل الصعيد في مصر أو كرقص الدبكة في لبنان، الزي محتشم ومحترم وتاريخي، كل ذلك كان الأبرز، ولكن تحولت الأشياء، وتبدلت الحياة، وتغيرت الأذواق، وإن تمسك البعض بالقديم؛ فرياح التغيير أشد وطأة وأكبر تأثيرا.
الذي بقي من ألبانيا هو التاريخ والعادات التي يجدها الزائر في الريف والمحافظات الخارجية، صوت الأذان في المساجد الآن يعطيك فكرة عن هذا الدين الذي سيبقى طويلا حتى وإن غاب لبعض الوقت، المراكز الإسلامية والمستوصفات الخيرية والمدارس المجانية والكتاتيب وبعض المصانع التي أقامها المتبرعون لاحتواء العاطلين من شباب ألبانيا.. كلها شهود عدول على تغير الحياة في بلد أطلق عليها في يوم ما أنه البلد الملحد الوحيد في العالم.
هاهو الأذان يصدح في قلب العاصمة تيرانا، يا أيها التاريخ سجل، في هذه الأرض البعيدة النائية المحاصرة ما زال وسيظل ذكر الله عاليا. [/align][/size]