[align=center]قريت هذا التقرير في مجلة طائر الشمال وعجبني كثير
فحبيت انقله لكم ...
رحلة الى عقل السلطان قابوس بن سعيد
ترتبط الزعامة في العالم الثالث وفي عالمنا العربي علي وجه الخصوص بالصياح، والخُطب الرنانة، وإثارة مشاعر الهياج لدى الجماهير، ومخاطبة عواطفها الساذجة، والدخول عُنوة إلى مركز صناعة القرار الهستيري الذي يجعل الجماهير تحارب طواحين الهواء دون أن تكون هناك معركة.
قلة نادرة من الزعماء اختارت طريقا وَعْرْاً وشاقا وصعبا فهو مجازفة إذا رفضت الجماهير صوت العقل، وتململت من الهدوء، وضاق صدرها بلغة التسامح المناقضة والمناهضة للهوس الجماهيري في كل مكان وزمان يتجمع فيه الناس حشودا كأنهم في ساحة رومانية ينتظرون مصارعة البطل مع الأسود الجائعة، أو مع الثيران في عصرنا الحديث، خاصة في إسبانيا.
انحازت الجماهير لمهاتير محمد فقد رأت فيه مستقبلها وأحلامها وتطور بلدها وحكمة زعيمها.
وانحازت الجماهير لنيلسون مانديلا رغم أن صوته الخافت يكاد لا يصل إلى الملايين التي ترقص وتقرع الطبول وتبحث عن لقمة خبز لعشاء أولادها.
يصنع الزعيمُ دولةً أو تصنع الدولةُ الزعيمَ، تلك هي معضلة الحكم في كل مكان وزمان.
في عجالة قد تخل بأهمية الرحلة إلى عقل رجل تتفاعل داخله أحلام لا يدري المرء إنْ كانت نتيجة طبيعية لقدرته على النفاذ لخيالات الجماهير فيقرأ أحلامها أم هي تفاعلات كل مراحل النضال بدءا من توحيد شبه دولة منقسمة ومتفرقة وشاسعة المساحة وشديدة الفقر وهامشية أو غير موجودة لدى صناع القرار الدولي، وليس انتهاء بدولة عصرية عمرها القابوسي ست وثلاثون سنة!
ماذا يدور في عقل هذا الرجل؟
عاشق لعُمان كأنه في حالة حب وهيام لا تفرق بين كل تضاريس محبوبته، فعبري كصلالة، ونزوى كمسقط، وجبالها كوديانها، وبَدّوُها كحَضَرِها، وأغنياؤها كفقرائها.
ليس لديه وقت للابتسامة فالتطور ساحة حرب، والنهوض بالدولة معركة شائكة ضد هوى النفس فيعز على الابتسامة أن تبقى على المُحَيّا لثوان معدودة فيتذكر صاحبها أنه في ساحة الوغى، وأن حلم الشاب الأسمر وهو يتأمل منذ أربعة عقود من فوق جبل مشهداً قادما لم يتحقق كله بعد رغم أن المنصف المشاهد العقلاني والواقعي لا يتردد في الاعتراف بأن ما قام به السلطان قابوس بن سعيد معجزة بكل المقاييس.
في خطابه الأول في التاسع من أغسطس عام 1970 يضع السلطان قابوس يده على أساس توحيد الأمة، ويكبر وهو ما زال شابا يافعا لم تبرد البندقية في يده بعد:
تتجه أفكارنا إلى اخواننا الذين أجبرتهم ظروف الماضي التعس إلى النزوح خارج الوطن.
أما الذين لم يكونوا موالين لوالدي في الماضي أقول: عفا الله عما سلف .. عفا الله عما سلف.
العظماء فقط هم الذين يبنون أوطانهم على التسامح، وهم الذين لا يفرقون بين مواطني الداخل ومواطني الخارج.
صورة المجتمع العماني في أول كلمة لزعيمه، فماذا كانت النتيجة؟
تحققت فعلا دولة التسامح، وعندما ضرب الارهاب والتطرف والطائفية دولا عربية قريبة من سلطنة عمان أو بعيدة عنها، لم يتمكن هذا الداء الخبيث من الاقتراب أو لمس الثوب العماني الطاهر، فالطائفية منبوذة، والتطرف سيجد حسما وصرامة ورفضا من الناس قبل قائدهم، والارهاب سيصطدم بأبواب موصدة ولو تسلل خفية فلن يجد عمانيا بانتظاره.
القائد الحر يسعد عندما يحكم شعبا حرا، أما المستبد فَيَوّد، كما يقول عبد الرحمن الكواكبي في كتابه ( طبائع الاستبداد ) أن تكون رعيته كالغنم درا وطاعة.
يقول السلطان قابوس في نفس الخطاب:
أولى الممنوعات التي أمرنا برفعها، إنني أرغب أن يكون مواطنو هذه البلاد أحرارا في التنقل في داخل البلاد والسفر إلى خارجها بدون قيود.
هنا تظهر عبقرية الفكر القيادي للسلطان قابوس بن سعيد، فهو يرفض أن يحكم شعبا غير حر، وأناسا لا يغادرون وطنهم إلا بتصريحات من صاحب الأمر والنهي.
كيف تمكن هذا الرجل من صناعة الحلم، ثم تَبنّيه، ثم الوقوف في مكان مجهول للعالم كله، وفيه نقص في الأموال والخيرات والثروات والمياه ليعلن منذ اليوم الأول لحُكمه بداية انشاء دولة عصرية داخل دولة لا تشكل ملامح واضحة، بل داخل أركانها الأربعة تقف ثلاث مدارس فقط تشهد أن عصر ما قبل قابوس كان مخاصما للعلم ومعاديا للتقدم ومستأنسا للوحدة والعزلة والسقوط من ذاكرة التاريخ وخرائط الجغرافيا؟
لكن السلطان قابوس كان يعلم أن لحلمه شروطا قاسية للتحقيق، وأن توحيد الوطن لن يكون كاملا قبل أن تصبح ظفار كمسقط تماما، تسيران جنبا إلى جنب في دولة موحدة لا يفرق قائدها بين منطقة وأخرى، وأن تَسَلُّط القوى الغريبة والأجنبية على مقدرات الشعب في ظفار لن يستمر طويلا.
في العيد الوطني الثاني يُظهر السلطان قابوس قدرَتَه على رسم المشهد العماني المتفائل قبله بسنوات طويلة، فبعد أن تحدث عن التواضع كَسِمَةٍ مميزة للعمانيين، يقول بأنه لابد من وقفة نحاسب فيها النفوس ونراجع الأمور.
رجل يعرف أن العظماء فقط هم الذين يتوقفون بين ألفينة والأخرى، ولا تأخذهم العزة بالمنصب، فيحاسب نفسه، ويراجع مواقفه، ويعيد مشاهدة ما حققه قبل أن يطلق عليها انجازات ومكتسبات.
وهنا، وبعد مرور عامين فقط يطلق السلطان قابوس زفرة ألم شديدة وموجعة وهو يقول بأنه يرى من بيته الصغير في صلالة المشهد الأكثر تأثيرا، فكان همه الأول واهتمامه الأكبر في التعليم .. والتعليم .. والتعليم ولو في ظل شجرة وفقا للتعبير الذي استخدمه السلطان قابوس نفسه.
وحتى يقطع الطريقَ على أيّ مناقشات وجدال وحيرة عن متطلبات الدولة الناشئة في المجال التعليمي يصرحُ منطلقا من أكثر الأفكار إيماناً والتصاقا بالعلم وأسباب التقدم بأنه يغض الطرف عن المتطلبات، فالمهم هو التعليم.
لو جاء محلل سياسي وتربوي ومؤرخ ودارس للعلوم الانسانية وعالم بثقافات
الشعوب وتطورها وشروط النهضة، ثم حَجَبْتَ عنه أربعة وثلاثين عاما، وتركته يستشف ويتنبأ ويرسم صورة لسلطنة عُمان من خلال العامين الأولين فإن الاحتمال الأكبر هو نجاحه في رسم الخط البياني لتطور تلك النهضة العمانية المباركة.
في العام الثالث وفي افتتاح مجمع الوزارات يضع السلطان قابوس يده على الداء في العالم الثالث برمته، ويقرر انسحاب سلطنة عُمان من تلك الفوضى في التطور التي ميزت تجارب دول كثيرة فيقول: إن أي عمل لا يقصد به المصلحة العامة ولا يقوم أساسا على خطة مدروسة هو عمل معرض للفشل وضياع الوقت والجهود ومن هنا كان تركيزنا على وضع الخطط والقيام بالتجارب في شتى ميادين العمل من أجل بلادنا.
في العيد الوطني الثالث تبدو نبرة حزن في أحاديث السلطان، لكنه لا يفقد رباطة الجأش، وتظل كلماته مهذبة ووديعة ولو أخفت جبالا من الأسى والغضب.
إنه لا يهاجم بضراوة هؤلاء الذين تم تضليلهم، بل ويفترض أنهم أبرياء، ويستخدم في وصفهم احتراما لهم ما يطلقون هم أنفسهم على حركتهم ( جبهة تحرير عُمان والجزيرة العربية )، ويكرر من موقع قوة بعدما التف شعبه حوله بأن الله عفا عما سلف.
أخلاق رفيعة ليس لديها وقت للتوقف عند لحظات الغضب لدفعه في اتجاه كراهية الآخر، إنما هي مسؤولية قائد يدعو خصومه للتوحد في وطن واحد هو في حاجة إليهم جميعا.
قائد يحفظ لخصومه عزة النفس والكرامة، فيطلب منهم أن يساهموا لنيّل شرف الواجب تجاه الوطن.
هل كان يخفى على قائد مثل السلطان قابوس أهم شروط النهضة العمرانية والوحدة الاقليمية وربط البلاد كلها في تناغم جغرافي يتحدى قسوة الطبيعة التي فصلت أبناء البلد بوديانها وصحرائها وجبالها الشاهقة وطرقها الوعرة ؟
قطعا لا، فالسلطان قابوس كان يعرف أن التحدي الأكبر يبدأ من هنا .. من صناعة شبكة مواصلات وتعبيد الطرق وانفاق أموال طائلة ولكن بحساب دقيق لتسهيل طُرق الاتصال وجعل الوطن الكبير في مساحته أكثر سهولة ويسرا في الانسياب الطُرقي ، وادخال مشاعر المواطنة في مساحة جغرافية لا يبتعد جزء فيها عن الآخر زمنا
ولو باعدت بينهما المسافات مكانا!
في العام الثالث لا ينسى السلطان أن عُمان دولة تطل على الماء، وأن الأفق تَبين فيه ملامحُ ملوحة من بحر لا نهائي. إنه محيط وبحر وخليج. إنه نافذة تطل على العالم وتدعو إلى التعرف على دولة كان أسطولها البحري في زمان الأزمنة يجوب البحار، ويخيف الأعداء، ويأتي بالثروات السمكية، ويقف بالمرصاد لمن يتربص بتلك الدولة الكبيرة قبل أن تستكين، وتبيت بياتا طويلا، ويبحث عنها مؤرخو المنطقة فتبهت صورتها في أذهانهم وأقلامهم كأن الماضي ابتلعها في جوفه.
في العام الثالث يقرر السلطان قابوس بن سعيد اعلان سلطنة عمان دولة بحرية كما كانت، وتقارب المرحلة النهائية من ميناء قابوس على الانتهاء، ويعمل العمانيون على ضلعين آخرين يطلان على اللانهائي .. أي نافذة البحر فيستقبل ميناء ريسوت البواخر الكبيرة، ويتم تحسين ميناء صور.
في العام الثالث تحمل النهضة الوليدة تحديا جويا يماثل مطار السيب الدولي بمطارات العالم الكبيرة.
في الجانب الآخر يراقب الماركسيون بأيديولوجياتهم المنادية بالمساواة تطبيق أفكار لم تدر بذهن أي منهم، فقائد الثورة لا يفرق بين صغير وكبير، وبين غني وفقير، ويقول السلطان قابوس: ... فالمساواة تفرض أن يكون الكل أخوة في ظل العدالة الاجتماعية الاسلامية والميزة والتفاضل بمقدار الاخلاص والكفاءة في العمل المثمر البَنّاء والكل مدعوون إلى التنافس الشريف في خدمة هذا الوطن العزيز.
مفاجأة لم تكن في الحسبان، وتم سحب البساط من تحت أقدام أفكار تريد أن تستبدل بواقع خيالا لا يستطيع كارل ماركس أن يُطَبقه ولو قاد جبهة تحرير عُمان من عدن بمساعدة لينين نفسه!
السلطان قابوس يبشر بالمساواة والعدالة وحقوق العمال ولكن من منطلق إيماني بالرسل والأنبياء، وبتوكل على الله، العلي القدير، فالدين هنا يحمي النهضة، ويساند ثورة رجل مؤمن بمقدرات شعبه.
الدين هنا لا يخدم رجعية كما صورتها وسائل الاعلام آنئذ القادمة عبر الأثير، وهو ليس أفيون الشعب، لكنه دافع للثورة والتطور والمساواة والعمل على عدالة اجتماعية قائمة على تكريم إنسان كرمه الله.
الانسان العماني الطيب يريد أن يعرف موقف قائده من الصراع العربي/الصهيوني بعدما شككت قوى المناوئة في استقلالية القرار العُماني.
هنا يُطَمْئِن السلطان قابوس أبناءَ شعبه أن الحق لا يتجزأ، وأن من يبحث عن استقلالية وطنه لا يمكن إلا أن يكون مع الاستقلال في كل مكان.
ثم يقول: إننا جزء من الأمة العربية تربطنا وحدة الهدف والمصير قبل أن يجمعنا ميثاق جامعة الدول العربية.
ويؤيد السلطان قابوس استعادة جميع الأراضي العربية التي اغتصبها العدو بالقوة والغدر والارهاب.
وفي العيد الوطني الرابع يقطع شكوك القوى المناوئة في الخارج التي تزايد على وطنية القرار العُماني، فيؤكد مشاركة الشعب العماني في معركة الأمة العربية ضد العدو الصهيوني، ويفجر طاقة الفخر لدى العمانيين أنهم شاركوا في المعارك ضد العدوان الصهيوني.
المعارك التي خاضتها القوى الماركسية في الجنوب ضد حكم السلطان قابوس لم تمنعه من التحرك في اتجاهين يُسْكِت كل واحد منهما مزايدات الثوار.
الاتجاه الأول وهو تأكيد هوية العُمانيين دينيا وعربيا وعُمانيا، والثاني عدم اعطاء الفرصة لخصوم سلطنة عمان لتعطيل أي مرحلة من مراحل النهضة بحجة أن قوى البلد المالية والنفطية والسكانية مجندة لحساب معركة الثأر مع العدو، فهي في الحقيقة معركة التنمية.
في العيد العاشر يصارح السلطان شعبه بحقيقة كانت غائبة عن الكثيرين وهي أن الدولة كانت عندما بدأت النهضة فقيرة إلى حد مدقع، لكنها غنية بالأحلام والارادة الصلبة والعزيمة القوية.
موارد مالية قليلة لا تكفي لايقاظ دولة غابت عن العالم زمنا طويلا. معارك في الجنوب تستنزف مدخرات قليلة من ميزانية متواضعة لدولة شبه فقيرة. ألم أقل بأن العظماء فقط هم القادرون على تحقيق أكثر الاحلام ايغالا في المستحيل؟
في العيد العشرين يقف السلطان قابوس أمام شعبه بكل تواضع ويتحدث رغم المعجزة التي حققها بأن الطريق طويل، وأن الانسان هو غاية التنمية.
في العيد الثلاثين يعلن هذا القائد العاشق لعُمان وشعبها وأرضها وترابها وسمائها ومائها وخامة الطهارة النقية في أصالة أبنائها أنه قد تم توطيد أركان الدولة العصرية.
مسيرة تستدر من العيون دموع الفرح، ولا يزال السلطان قابوس بن سعيد يحلم .. ويحلم .. ويحلم ، وتكبر بلده كلما حقق واحدا من أحلامه.[/align]
فحبيت انقله لكم ...
رحلة الى عقل السلطان قابوس بن سعيد
ترتبط الزعامة في العالم الثالث وفي عالمنا العربي علي وجه الخصوص بالصياح، والخُطب الرنانة، وإثارة مشاعر الهياج لدى الجماهير، ومخاطبة عواطفها الساذجة، والدخول عُنوة إلى مركز صناعة القرار الهستيري الذي يجعل الجماهير تحارب طواحين الهواء دون أن تكون هناك معركة.
قلة نادرة من الزعماء اختارت طريقا وَعْرْاً وشاقا وصعبا فهو مجازفة إذا رفضت الجماهير صوت العقل، وتململت من الهدوء، وضاق صدرها بلغة التسامح المناقضة والمناهضة للهوس الجماهيري في كل مكان وزمان يتجمع فيه الناس حشودا كأنهم في ساحة رومانية ينتظرون مصارعة البطل مع الأسود الجائعة، أو مع الثيران في عصرنا الحديث، خاصة في إسبانيا.
انحازت الجماهير لمهاتير محمد فقد رأت فيه مستقبلها وأحلامها وتطور بلدها وحكمة زعيمها.
وانحازت الجماهير لنيلسون مانديلا رغم أن صوته الخافت يكاد لا يصل إلى الملايين التي ترقص وتقرع الطبول وتبحث عن لقمة خبز لعشاء أولادها.
يصنع الزعيمُ دولةً أو تصنع الدولةُ الزعيمَ، تلك هي معضلة الحكم في كل مكان وزمان.
في عجالة قد تخل بأهمية الرحلة إلى عقل رجل تتفاعل داخله أحلام لا يدري المرء إنْ كانت نتيجة طبيعية لقدرته على النفاذ لخيالات الجماهير فيقرأ أحلامها أم هي تفاعلات كل مراحل النضال بدءا من توحيد شبه دولة منقسمة ومتفرقة وشاسعة المساحة وشديدة الفقر وهامشية أو غير موجودة لدى صناع القرار الدولي، وليس انتهاء بدولة عصرية عمرها القابوسي ست وثلاثون سنة!
ماذا يدور في عقل هذا الرجل؟
عاشق لعُمان كأنه في حالة حب وهيام لا تفرق بين كل تضاريس محبوبته، فعبري كصلالة، ونزوى كمسقط، وجبالها كوديانها، وبَدّوُها كحَضَرِها، وأغنياؤها كفقرائها.
ليس لديه وقت للابتسامة فالتطور ساحة حرب، والنهوض بالدولة معركة شائكة ضد هوى النفس فيعز على الابتسامة أن تبقى على المُحَيّا لثوان معدودة فيتذكر صاحبها أنه في ساحة الوغى، وأن حلم الشاب الأسمر وهو يتأمل منذ أربعة عقود من فوق جبل مشهداً قادما لم يتحقق كله بعد رغم أن المنصف المشاهد العقلاني والواقعي لا يتردد في الاعتراف بأن ما قام به السلطان قابوس بن سعيد معجزة بكل المقاييس.
في خطابه الأول في التاسع من أغسطس عام 1970 يضع السلطان قابوس يده على أساس توحيد الأمة، ويكبر وهو ما زال شابا يافعا لم تبرد البندقية في يده بعد:
تتجه أفكارنا إلى اخواننا الذين أجبرتهم ظروف الماضي التعس إلى النزوح خارج الوطن.
أما الذين لم يكونوا موالين لوالدي في الماضي أقول: عفا الله عما سلف .. عفا الله عما سلف.
العظماء فقط هم الذين يبنون أوطانهم على التسامح، وهم الذين لا يفرقون بين مواطني الداخل ومواطني الخارج.
صورة المجتمع العماني في أول كلمة لزعيمه، فماذا كانت النتيجة؟
تحققت فعلا دولة التسامح، وعندما ضرب الارهاب والتطرف والطائفية دولا عربية قريبة من سلطنة عمان أو بعيدة عنها، لم يتمكن هذا الداء الخبيث من الاقتراب أو لمس الثوب العماني الطاهر، فالطائفية منبوذة، والتطرف سيجد حسما وصرامة ورفضا من الناس قبل قائدهم، والارهاب سيصطدم بأبواب موصدة ولو تسلل خفية فلن يجد عمانيا بانتظاره.
القائد الحر يسعد عندما يحكم شعبا حرا، أما المستبد فَيَوّد، كما يقول عبد الرحمن الكواكبي في كتابه ( طبائع الاستبداد ) أن تكون رعيته كالغنم درا وطاعة.
يقول السلطان قابوس في نفس الخطاب:
أولى الممنوعات التي أمرنا برفعها، إنني أرغب أن يكون مواطنو هذه البلاد أحرارا في التنقل في داخل البلاد والسفر إلى خارجها بدون قيود.
هنا تظهر عبقرية الفكر القيادي للسلطان قابوس بن سعيد، فهو يرفض أن يحكم شعبا غير حر، وأناسا لا يغادرون وطنهم إلا بتصريحات من صاحب الأمر والنهي.
كيف تمكن هذا الرجل من صناعة الحلم، ثم تَبنّيه، ثم الوقوف في مكان مجهول للعالم كله، وفيه نقص في الأموال والخيرات والثروات والمياه ليعلن منذ اليوم الأول لحُكمه بداية انشاء دولة عصرية داخل دولة لا تشكل ملامح واضحة، بل داخل أركانها الأربعة تقف ثلاث مدارس فقط تشهد أن عصر ما قبل قابوس كان مخاصما للعلم ومعاديا للتقدم ومستأنسا للوحدة والعزلة والسقوط من ذاكرة التاريخ وخرائط الجغرافيا؟
لكن السلطان قابوس كان يعلم أن لحلمه شروطا قاسية للتحقيق، وأن توحيد الوطن لن يكون كاملا قبل أن تصبح ظفار كمسقط تماما، تسيران جنبا إلى جنب في دولة موحدة لا يفرق قائدها بين منطقة وأخرى، وأن تَسَلُّط القوى الغريبة والأجنبية على مقدرات الشعب في ظفار لن يستمر طويلا.
في العيد الوطني الثاني يُظهر السلطان قابوس قدرَتَه على رسم المشهد العماني المتفائل قبله بسنوات طويلة، فبعد أن تحدث عن التواضع كَسِمَةٍ مميزة للعمانيين، يقول بأنه لابد من وقفة نحاسب فيها النفوس ونراجع الأمور.
رجل يعرف أن العظماء فقط هم الذين يتوقفون بين ألفينة والأخرى، ولا تأخذهم العزة بالمنصب، فيحاسب نفسه، ويراجع مواقفه، ويعيد مشاهدة ما حققه قبل أن يطلق عليها انجازات ومكتسبات.
وهنا، وبعد مرور عامين فقط يطلق السلطان قابوس زفرة ألم شديدة وموجعة وهو يقول بأنه يرى من بيته الصغير في صلالة المشهد الأكثر تأثيرا، فكان همه الأول واهتمامه الأكبر في التعليم .. والتعليم .. والتعليم ولو في ظل شجرة وفقا للتعبير الذي استخدمه السلطان قابوس نفسه.
وحتى يقطع الطريقَ على أيّ مناقشات وجدال وحيرة عن متطلبات الدولة الناشئة في المجال التعليمي يصرحُ منطلقا من أكثر الأفكار إيماناً والتصاقا بالعلم وأسباب التقدم بأنه يغض الطرف عن المتطلبات، فالمهم هو التعليم.
لو جاء محلل سياسي وتربوي ومؤرخ ودارس للعلوم الانسانية وعالم بثقافات
الشعوب وتطورها وشروط النهضة، ثم حَجَبْتَ عنه أربعة وثلاثين عاما، وتركته يستشف ويتنبأ ويرسم صورة لسلطنة عُمان من خلال العامين الأولين فإن الاحتمال الأكبر هو نجاحه في رسم الخط البياني لتطور تلك النهضة العمانية المباركة.
في العام الثالث وفي افتتاح مجمع الوزارات يضع السلطان قابوس يده على الداء في العالم الثالث برمته، ويقرر انسحاب سلطنة عُمان من تلك الفوضى في التطور التي ميزت تجارب دول كثيرة فيقول: إن أي عمل لا يقصد به المصلحة العامة ولا يقوم أساسا على خطة مدروسة هو عمل معرض للفشل وضياع الوقت والجهود ومن هنا كان تركيزنا على وضع الخطط والقيام بالتجارب في شتى ميادين العمل من أجل بلادنا.
في العيد الوطني الثالث تبدو نبرة حزن في أحاديث السلطان، لكنه لا يفقد رباطة الجأش، وتظل كلماته مهذبة ووديعة ولو أخفت جبالا من الأسى والغضب.
إنه لا يهاجم بضراوة هؤلاء الذين تم تضليلهم، بل ويفترض أنهم أبرياء، ويستخدم في وصفهم احتراما لهم ما يطلقون هم أنفسهم على حركتهم ( جبهة تحرير عُمان والجزيرة العربية )، ويكرر من موقع قوة بعدما التف شعبه حوله بأن الله عفا عما سلف.
أخلاق رفيعة ليس لديها وقت للتوقف عند لحظات الغضب لدفعه في اتجاه كراهية الآخر، إنما هي مسؤولية قائد يدعو خصومه للتوحد في وطن واحد هو في حاجة إليهم جميعا.
قائد يحفظ لخصومه عزة النفس والكرامة، فيطلب منهم أن يساهموا لنيّل شرف الواجب تجاه الوطن.
هل كان يخفى على قائد مثل السلطان قابوس أهم شروط النهضة العمرانية والوحدة الاقليمية وربط البلاد كلها في تناغم جغرافي يتحدى قسوة الطبيعة التي فصلت أبناء البلد بوديانها وصحرائها وجبالها الشاهقة وطرقها الوعرة ؟
قطعا لا، فالسلطان قابوس كان يعرف أن التحدي الأكبر يبدأ من هنا .. من صناعة شبكة مواصلات وتعبيد الطرق وانفاق أموال طائلة ولكن بحساب دقيق لتسهيل طُرق الاتصال وجعل الوطن الكبير في مساحته أكثر سهولة ويسرا في الانسياب الطُرقي ، وادخال مشاعر المواطنة في مساحة جغرافية لا يبتعد جزء فيها عن الآخر زمنا
ولو باعدت بينهما المسافات مكانا!
في العام الثالث لا ينسى السلطان أن عُمان دولة تطل على الماء، وأن الأفق تَبين فيه ملامحُ ملوحة من بحر لا نهائي. إنه محيط وبحر وخليج. إنه نافذة تطل على العالم وتدعو إلى التعرف على دولة كان أسطولها البحري في زمان الأزمنة يجوب البحار، ويخيف الأعداء، ويأتي بالثروات السمكية، ويقف بالمرصاد لمن يتربص بتلك الدولة الكبيرة قبل أن تستكين، وتبيت بياتا طويلا، ويبحث عنها مؤرخو المنطقة فتبهت صورتها في أذهانهم وأقلامهم كأن الماضي ابتلعها في جوفه.
في العام الثالث يقرر السلطان قابوس بن سعيد اعلان سلطنة عمان دولة بحرية كما كانت، وتقارب المرحلة النهائية من ميناء قابوس على الانتهاء، ويعمل العمانيون على ضلعين آخرين يطلان على اللانهائي .. أي نافذة البحر فيستقبل ميناء ريسوت البواخر الكبيرة، ويتم تحسين ميناء صور.
في العام الثالث تحمل النهضة الوليدة تحديا جويا يماثل مطار السيب الدولي بمطارات العالم الكبيرة.
في الجانب الآخر يراقب الماركسيون بأيديولوجياتهم المنادية بالمساواة تطبيق أفكار لم تدر بذهن أي منهم، فقائد الثورة لا يفرق بين صغير وكبير، وبين غني وفقير، ويقول السلطان قابوس: ... فالمساواة تفرض أن يكون الكل أخوة في ظل العدالة الاجتماعية الاسلامية والميزة والتفاضل بمقدار الاخلاص والكفاءة في العمل المثمر البَنّاء والكل مدعوون إلى التنافس الشريف في خدمة هذا الوطن العزيز.
مفاجأة لم تكن في الحسبان، وتم سحب البساط من تحت أقدام أفكار تريد أن تستبدل بواقع خيالا لا يستطيع كارل ماركس أن يُطَبقه ولو قاد جبهة تحرير عُمان من عدن بمساعدة لينين نفسه!
السلطان قابوس يبشر بالمساواة والعدالة وحقوق العمال ولكن من منطلق إيماني بالرسل والأنبياء، وبتوكل على الله، العلي القدير، فالدين هنا يحمي النهضة، ويساند ثورة رجل مؤمن بمقدرات شعبه.
الدين هنا لا يخدم رجعية كما صورتها وسائل الاعلام آنئذ القادمة عبر الأثير، وهو ليس أفيون الشعب، لكنه دافع للثورة والتطور والمساواة والعمل على عدالة اجتماعية قائمة على تكريم إنسان كرمه الله.
الانسان العماني الطيب يريد أن يعرف موقف قائده من الصراع العربي/الصهيوني بعدما شككت قوى المناوئة في استقلالية القرار العُماني.
هنا يُطَمْئِن السلطان قابوس أبناءَ شعبه أن الحق لا يتجزأ، وأن من يبحث عن استقلالية وطنه لا يمكن إلا أن يكون مع الاستقلال في كل مكان.
ثم يقول: إننا جزء من الأمة العربية تربطنا وحدة الهدف والمصير قبل أن يجمعنا ميثاق جامعة الدول العربية.
ويؤيد السلطان قابوس استعادة جميع الأراضي العربية التي اغتصبها العدو بالقوة والغدر والارهاب.
وفي العيد الوطني الرابع يقطع شكوك القوى المناوئة في الخارج التي تزايد على وطنية القرار العُماني، فيؤكد مشاركة الشعب العماني في معركة الأمة العربية ضد العدو الصهيوني، ويفجر طاقة الفخر لدى العمانيين أنهم شاركوا في المعارك ضد العدوان الصهيوني.
المعارك التي خاضتها القوى الماركسية في الجنوب ضد حكم السلطان قابوس لم تمنعه من التحرك في اتجاهين يُسْكِت كل واحد منهما مزايدات الثوار.
الاتجاه الأول وهو تأكيد هوية العُمانيين دينيا وعربيا وعُمانيا، والثاني عدم اعطاء الفرصة لخصوم سلطنة عمان لتعطيل أي مرحلة من مراحل النهضة بحجة أن قوى البلد المالية والنفطية والسكانية مجندة لحساب معركة الثأر مع العدو، فهي في الحقيقة معركة التنمية.
في العيد العاشر يصارح السلطان شعبه بحقيقة كانت غائبة عن الكثيرين وهي أن الدولة كانت عندما بدأت النهضة فقيرة إلى حد مدقع، لكنها غنية بالأحلام والارادة الصلبة والعزيمة القوية.
موارد مالية قليلة لا تكفي لايقاظ دولة غابت عن العالم زمنا طويلا. معارك في الجنوب تستنزف مدخرات قليلة من ميزانية متواضعة لدولة شبه فقيرة. ألم أقل بأن العظماء فقط هم القادرون على تحقيق أكثر الاحلام ايغالا في المستحيل؟
في العيد العشرين يقف السلطان قابوس أمام شعبه بكل تواضع ويتحدث رغم المعجزة التي حققها بأن الطريق طويل، وأن الانسان هو غاية التنمية.
في العيد الثلاثين يعلن هذا القائد العاشق لعُمان وشعبها وأرضها وترابها وسمائها ومائها وخامة الطهارة النقية في أصالة أبنائها أنه قد تم توطيد أركان الدولة العصرية.
مسيرة تستدر من العيون دموع الفرح، ولا يزال السلطان قابوس بن سعيد يحلم .. ويحلم .. ويحلم ، وتكبر بلده كلما حقق واحدا من أحلامه.[/align]
تعليق