الإثنين,آذار 06, 2006
قابوس يرغب في منصب صاحب الرسالة ويسعى إلى الحب فلا يدع أحداً يخاف منه
أحمد الجارالله
قيل لي قبل خمس وثلاثين سنة هل انت مستعد لمقابلة السلطان قابوس الذي ارتقى لتوه عرش بلاده? لم اتردد يومها بالموافقة, فتلك البلاد كانت مجاهل للبعيدين عنها, ولا تعرف عنها الا اليسير السطحي كالسحر والسحرة, والخرافات التي لا اول لها ولا آخر.. المهم اني قبلت العرض وذهبت الى عمان واذكر ان تلك البلاد كانت ادغالا بلا شجر, يسكنها شعب يعيش بعيدا عن نور الحياة المعاصرة. لا شوارع فيها, لا مظاهر جمال, روائح الاسماك النتنة تجتاح الاسواق المتخصصة, وتختلط برائحة الحلوى العمانية, وكذلك برائحة البخور العماني الذي يستخرج من اللبان في الباطنة وهي شبه ميناء وسوق يتجمع فيه الناس.. في هذا المكان وقفت احادث رجلا طاعنا في السن, وقلت له" انني رجل من الكويت يزور بلدكم, هل لديك ذكريات عن بلادنا? التفت الي الرجل واستنشق من علبة خاصة كمية من »النشوق« هي كوكتيل من انواع الدخان, وبنفس قوي وعميق, وبعدها فتح عينيه وسألني عن الكويت وعن بعض عوائلها, كما سألني عن تجارة اللؤلؤ فيها, رغم اننا دخلنا الثلث الاخير من القرن العشرين, وعما اذا كانت مزدهرة ونشطة, وسألني عن احوال التهريب الى اسواق الهند.. ضحكت من اسئلة الرجل القديمة, وقلت له: اليوم اصبحت التجارة تجارة نفط, ولم تعد لدينا تجارة لؤلؤ الا للزينة, اي لصناعة المجوهرات التي تتحلى بها النساء. تعجب الرجل من كلامي وايضاحاتي, وظن ان عجلة الزمن قد توقفت عنده, وعند بوابة مسقط, التي كان الحاكم يغلقها في السابعة مساء, ويأمر الناس بعد ذلك ان يحملوا الفوانيس وهم يتجولون في شوارع المدينة. ومن جهتي فانني اذكر ان المدينة لم يكن فيها فندق ولا شوارع ولا شيء من المظاهر الحضارية المفرحة. يومها سكنت في معسكر عائد لشركة بترولية مكون من بيوت جاهزة من الخشب, واشكر حتى اليوم مدير هذه الشركة الذي كان يتطوع لتجهيز طعام الفطور والغداء لي, اما طعام العشاء فقد كان وجبة خفيفة يتبعها النوم المبكر, حيث لا كهرباء, ولا حياة ليلية تحت ضوء القمر.
في تلك الحقبة الزمنية الابتدائية, وما يحيطها من تعقيدات دخلت على السلطان قابوس بن سعيد في بيت متواضع يحف به أهل بلده.. دخلت على سلطان شاب انيق, ولكن ببساطة متناهية, فحذاؤه عادي بسيط ومن صناعة صينية او يابانية, لم اعد اذكر, وملابسه نظيفة, وباقترابي منه لاحظت انه يتمتع ببشرة سمراء, ولحية سوداء وعيون واسعة كعيون الصقر ما شاء الله, تتنقل بتوتر ذكي بين اليسار واليمين لمسح الاتجاهات, ولتعكس ما في فكر صاحبها وما يريد.
بدأت الحديث مع هذا الرجل القادم الى منطقة من التاريخ المنسي, والمطلوب منه ان يعمل في المستحيل, وخرجنا يومها بأول كلام عن بلاد كانت جد مجهولة, وفي مكان جغرافي حالك الظلام, مرمي في المجهول وفي عدم الاكتراث .. الحديث تناولته وكالات الانباء باهتمام كبير, ذلك ان الدنيا كانت تريد ان تتعرف على قابوس, الرجل الذي دخل تاريخاً ليس تاريخه, وكيف سيتعامل مع كل هذا الظلام الذي يغرقه ويغرق ما حوله. الشعب العماني, ورغم ظروفه القاسية في تلك الايام, استقبل سلطانه استقبالاً حافلاً, اثر السلطان به وتأثر منه, وقال عنه في آخر حديث له مع »السياسة« انه وضعه في مكان صاحب الرسالة وليس صاحب السلطة التي يستخدمها للضبط والربط, وفي مكانة المتماهي مع شعبه بحيث اصبح يهب يومه وحياته للذين رفعوا له الاعلام الحمراء والخضراء, يوم دخل عاصمة ملكه لاول مرة منذ خمس وثلاثين سنة.. استطاع خلالها ان يحقق جزءاً كبيراً من حلمه لعمان ذلك اليوم الذي اطل منه من تلك الطائرة الصغيرة حين حطت في ذاك المطار الصغير المحاط بأنواع الفقر واشكاله.. لقد اشرنا إلى عيون الصقر التي يحملها, والتي استعدت الى التحليق في عالم الانجاز والعمل وتحقيق احلام الشاب الآتي الى زمان غير زمانه من اجل ان يحوله ويغيره, ويؤهله ويعيد انتسابه الى العصر.
اللحية السوداء تحولت الآن الى بيضاء, تركها صاحبها على سجيتها, وتركها على بياضها. وعندما تسأل السلطان قابوس الآن: هل حققت كل احلامك واحلام الذين دمعت عيونهم اثناء استقبالهم لك قبل خمس وثلاثين سنة حين رأوك معهم وبينهم وفي صفوفهم? عندما تسأل السلطان قابوس هذا السؤال الآن, يجيبك بقوله: ما زالت امامي رسالة عمل اريد ان انجزها لارض عمان ولأهل عمان, متوكلاً على الله في ذلك, والذي اذا اعتمد الناس عليه ما خابت ظنونهم.
أتذكر كثيراً كل تلك المتغيرات التي طرأت على عمان منذ خمس وثلاثين سنة مع هذا الرجل الذي يرى نفسه صاحب رسالة اكثر مما هو صاحب سلطة.. الرجل الذي يقول ان السلطان الذي يخافه الناس يحيط به المنافقون واصحاب المصالح, وان السلطان السوي هو الذي يحبه الناس ويحترمونه.
قابوس يرغب في منصب صاحب الرسالة ويسعى إلى الحب فلا يدع أحداً يخاف منه
أحمد الجارالله
قيل لي قبل خمس وثلاثين سنة هل انت مستعد لمقابلة السلطان قابوس الذي ارتقى لتوه عرش بلاده? لم اتردد يومها بالموافقة, فتلك البلاد كانت مجاهل للبعيدين عنها, ولا تعرف عنها الا اليسير السطحي كالسحر والسحرة, والخرافات التي لا اول لها ولا آخر.. المهم اني قبلت العرض وذهبت الى عمان واذكر ان تلك البلاد كانت ادغالا بلا شجر, يسكنها شعب يعيش بعيدا عن نور الحياة المعاصرة. لا شوارع فيها, لا مظاهر جمال, روائح الاسماك النتنة تجتاح الاسواق المتخصصة, وتختلط برائحة الحلوى العمانية, وكذلك برائحة البخور العماني الذي يستخرج من اللبان في الباطنة وهي شبه ميناء وسوق يتجمع فيه الناس.. في هذا المكان وقفت احادث رجلا طاعنا في السن, وقلت له" انني رجل من الكويت يزور بلدكم, هل لديك ذكريات عن بلادنا? التفت الي الرجل واستنشق من علبة خاصة كمية من »النشوق« هي كوكتيل من انواع الدخان, وبنفس قوي وعميق, وبعدها فتح عينيه وسألني عن الكويت وعن بعض عوائلها, كما سألني عن تجارة اللؤلؤ فيها, رغم اننا دخلنا الثلث الاخير من القرن العشرين, وعما اذا كانت مزدهرة ونشطة, وسألني عن احوال التهريب الى اسواق الهند.. ضحكت من اسئلة الرجل القديمة, وقلت له: اليوم اصبحت التجارة تجارة نفط, ولم تعد لدينا تجارة لؤلؤ الا للزينة, اي لصناعة المجوهرات التي تتحلى بها النساء. تعجب الرجل من كلامي وايضاحاتي, وظن ان عجلة الزمن قد توقفت عنده, وعند بوابة مسقط, التي كان الحاكم يغلقها في السابعة مساء, ويأمر الناس بعد ذلك ان يحملوا الفوانيس وهم يتجولون في شوارع المدينة. ومن جهتي فانني اذكر ان المدينة لم يكن فيها فندق ولا شوارع ولا شيء من المظاهر الحضارية المفرحة. يومها سكنت في معسكر عائد لشركة بترولية مكون من بيوت جاهزة من الخشب, واشكر حتى اليوم مدير هذه الشركة الذي كان يتطوع لتجهيز طعام الفطور والغداء لي, اما طعام العشاء فقد كان وجبة خفيفة يتبعها النوم المبكر, حيث لا كهرباء, ولا حياة ليلية تحت ضوء القمر.
في تلك الحقبة الزمنية الابتدائية, وما يحيطها من تعقيدات دخلت على السلطان قابوس بن سعيد في بيت متواضع يحف به أهل بلده.. دخلت على سلطان شاب انيق, ولكن ببساطة متناهية, فحذاؤه عادي بسيط ومن صناعة صينية او يابانية, لم اعد اذكر, وملابسه نظيفة, وباقترابي منه لاحظت انه يتمتع ببشرة سمراء, ولحية سوداء وعيون واسعة كعيون الصقر ما شاء الله, تتنقل بتوتر ذكي بين اليسار واليمين لمسح الاتجاهات, ولتعكس ما في فكر صاحبها وما يريد.
بدأت الحديث مع هذا الرجل القادم الى منطقة من التاريخ المنسي, والمطلوب منه ان يعمل في المستحيل, وخرجنا يومها بأول كلام عن بلاد كانت جد مجهولة, وفي مكان جغرافي حالك الظلام, مرمي في المجهول وفي عدم الاكتراث .. الحديث تناولته وكالات الانباء باهتمام كبير, ذلك ان الدنيا كانت تريد ان تتعرف على قابوس, الرجل الذي دخل تاريخاً ليس تاريخه, وكيف سيتعامل مع كل هذا الظلام الذي يغرقه ويغرق ما حوله. الشعب العماني, ورغم ظروفه القاسية في تلك الايام, استقبل سلطانه استقبالاً حافلاً, اثر السلطان به وتأثر منه, وقال عنه في آخر حديث له مع »السياسة« انه وضعه في مكان صاحب الرسالة وليس صاحب السلطة التي يستخدمها للضبط والربط, وفي مكانة المتماهي مع شعبه بحيث اصبح يهب يومه وحياته للذين رفعوا له الاعلام الحمراء والخضراء, يوم دخل عاصمة ملكه لاول مرة منذ خمس وثلاثين سنة.. استطاع خلالها ان يحقق جزءاً كبيراً من حلمه لعمان ذلك اليوم الذي اطل منه من تلك الطائرة الصغيرة حين حطت في ذاك المطار الصغير المحاط بأنواع الفقر واشكاله.. لقد اشرنا إلى عيون الصقر التي يحملها, والتي استعدت الى التحليق في عالم الانجاز والعمل وتحقيق احلام الشاب الآتي الى زمان غير زمانه من اجل ان يحوله ويغيره, ويؤهله ويعيد انتسابه الى العصر.
اللحية السوداء تحولت الآن الى بيضاء, تركها صاحبها على سجيتها, وتركها على بياضها. وعندما تسأل السلطان قابوس الآن: هل حققت كل احلامك واحلام الذين دمعت عيونهم اثناء استقبالهم لك قبل خمس وثلاثين سنة حين رأوك معهم وبينهم وفي صفوفهم? عندما تسأل السلطان قابوس هذا السؤال الآن, يجيبك بقوله: ما زالت امامي رسالة عمل اريد ان انجزها لارض عمان ولأهل عمان, متوكلاً على الله في ذلك, والذي اذا اعتمد الناس عليه ما خابت ظنونهم.
أتذكر كثيراً كل تلك المتغيرات التي طرأت على عمان منذ خمس وثلاثين سنة مع هذا الرجل الذي يرى نفسه صاحب رسالة اكثر مما هو صاحب سلطة.. الرجل الذي يقول ان السلطان الذي يخافه الناس يحيط به المنافقون واصحاب المصالح, وان السلطان السوي هو الذي يحبه الناس ويحترمونه.
تعليق