بزهو مبالغ فيه، حمل الغالي عضده كل ثقله و اتكأ على منضدة أفخم متجر في قلب القرية، وطلب مشروبا غازيا باردا، كان كنوع من الإحتفاء و الجزاء لنفسه على المجهود الجبار، و نجاحه الباهر الذي حققه باعتباره رئيسا للجنة تصفية الكلاب المتشردة في ربوع القرية.
لم يكن في الأمر مجازفة. فمواجهة مخلوقات ضعيفة متخلى عنها لا يمكن بأي حال مقارنتها مع مهام سابقة قام بها كمحارب في صفوف الجيش الفرنسي في ربوع متفرقة من العالم. وحتى فيما يخص هذه الأخيرة، فهو لا يذكر أنه عاش لحظات حرجة أو واجه مخاطر حقيقية. فالرؤساء كانوا دوما يضعونه في أماكن آمنة لحاجتهم الى خدماته الجليلة المتمثلة في إحاطتهم بكل ما يفكر به الجنود.
ما اعتبره واجهة داس من أجله كل شئ، و الوئام مع الآخرين لم يكن ليماثل لديه سحر الأضواء و عوالم الواجهة الدافئة. بل إن كل حواسه صارت كعقرب بوصلة منجذبة إلى اتجاه وحيد. ومسامعه لم يكن يتناهى إليها غير نداء كان يأتيه من مكان اسفل القمم. لكنه كان فوق السفوح.
يوم أنهى الخدمة العسكرية، ظل لسنوات طوال يستعيد كلمات الثناء و الإشادة التي تلقاها من رؤسائه. كان يحلو له أن يقف عند كل عبارة. و يستعيد ملامح الأشخاص ونبرات الأصوات وهي تمتدح أعماله. ويعمد أحيانا إلى رصد صداها ووقعها على الأشخاص الذين عاشوا تلك اللحظات التاريخية الخالدة. وينهي حديثه برثاء وندبة على انقضاء تلك الأيام. لكن نبوءته بكون خدماته هي من النوع الذي لا يعرف الكساد هاهي تتحقق أخيرا حين تم تعيينه كرئيس لتصفية الكلاب المتشردة. وقف امام المرآة ينظر لنفسه بفخر. رئيس ... ياله من اسم جميل براق..ا لا يهم أن يكون لزمن ومهمة عابرة. بل و لا يهم أن يكون مرتبطا بأمر تافه كتصفية الكلاب، فطول عمره كان يعتقد أن الكلاب أو ما شابهها هي التي رصعت سجلات أفخر و أعتى الفوارس. هل يزين صدره بالأوسمة و النياشين التي حصل عليها من قبل ؟ .. يسأل نفسه. لا شك ان ذلك سيضفي على مهمته الكثير من الرونق و الشاعرية. و لا شك أيضا أن ذلك المشهد سينطبع في ذاكرة الكثيرين .لا...لا.. المهم في هذه المأمورية هو الحاضر و المستقبل.
على عكس باقي أعضاء لجنته، صمم الغالي ألا تكون مهمته منتهية بزمن. بل يجب أن تكون مجرد درج داخل سلم شاهق العلو. و أن عليه ألا يقدم في النهاية مجرد جرد إحصائي لعدد الكلاب التي تم تصفيتها، بل عليه أن سكون قد ينجح في تقديم نفسه كخادم له كامل الإستعداد للتعاون حتى و إن تعلق الأمر بتصفية البشر. ولهذا ففي تعبيده لهذا المسار عليه أن يرسل رسائل كثيرة لرؤساء لا يجب أن يهتم ما إن كان ما ينجزه يعنيهم أم لا.
في كبد الليل كان يغادر بيته بعد تتبع نشرات الأخبار. وما كان يعنيه فيها هو النشرة الجوية. وبتحديد أدق، حركة الرياح التي كانت تحدد له الوجهة التي يجب أن يمضي فيها. كان الغالي يدرك أن هناك ثمة ألفة يمكن ان تنشأ بين بعض الناس وكلابها. و ان ذلك قد يدفعها للتستر عليها. إلا أنه كان يعي بالمقابل، أن أولئك إن نجحوا في إخفائها، فلن ينجحوا بالمقابل في منعها من النباح. ولذا وهو يسير في تلك المشاويرالليلية، كان يرهف السمع الذي يعرف أنه أمهر من يحسن استخدامه. فيلتقط موجات الريح ويشرحها، وحين كان يضبط صدى نباح، كان يضع فرضيات للمدى الذي قطعه الصوت. و تخمينات للأشخاص المحتمل أن يكونوا قد تستروا على كلاب مطلوبة للتصفية. وحين كان ينجح. لم يكن ينهي الأمر في عين المكان. بل كان يصر على تقديم الأشخاص رفقة كلابهم للسلطات. لم يكن يثنيه تدخل الأعيان و لا توسلات الناس ولا إغراءاتهم. بل إن ذلك كان يشعره بمتعة لا تعادلها متعة. ويترسخ يقينه بأن رياح الواجهة قد بدأت تهب عوالمه الشاحبة. و أنه لم يعد نكرة داخل عالم منس. وثناء الرؤساء زاده ثقة و تشجيعا للمضي قدما في تسلق سلم وجد صعوده أسهل بكثير مما توقعه.
أفرغ الغالي جرعة قوية في جوفه جعلت أنفاسه تنحبس، ووجهه أكثر امتقاعا. وانتابه سعال شديد مفاجئ جعل عينيه تحمران وتدمعان. وحين أدار وجهه نحو الشارع، بدا و كأنه تجمد و أصيب بالذهول، تلاه ما يشبه صدمة. ودون أن يعاود النظر إلى الداخل. وضع القنينة على المنضدة، و كفه الأخرى على جبهته التي اعتصرها بقوة وهو يتساءل : يالهي ...ا كيف نسيت أمر هذا الكلب ؟..
استنفر الغالي أعضاء لجنته الذين كانوا قد تناثروا متجاذبين الحديث مع رواد سور العاطلين الممتد في قلب القرية. وقبل ان يصلوا حيث كان، أدركوا أن حدثا جللا قد وقع. ودون أن يترك الغالي الظنون تذهب بهم بعيدا قال لهم آمرا: يجب أن تصفوا هذا الكلب فورا رميا بالرصاص.
تجمد الأعضاء غير مصدقين ما سمعوه. وغير متأكدين ما إن كان الأمر جديا أم انه كان يمزح فقط. لقد كان حمور هو كلب "أبو الحمير". الرجل الذي يشكل مع الناقلة التي يسوقها جسر القرية الوحيد الذي يربطها بالعالم. ولذا فكل الناس كانت تفخر بمعرفته وتتمنى لو تربطها به علاقة صداقة. كيف لا وتحية منه وهو يسوق الحافلة كانت تجعل الشخص المحيى من المشاهير، وخبرا تتداوله الألسن بحماس. كل ذلك جعل حمور كلبا من طينة مختلفة. فالكلاب الأخرى تقوم بمهام كثيرة، إلا أنها نادرا ما تنال ما تستحقه على أتعابها. لكن حمور هو الكلب الوحيد الذي عكس المعادلة. وبخلاف كل الكلاب الني تقوم بمهام الحراسة، كان حمور هو الكلب الذي يسهر كل من في القرية على راحته ويمنع أي أحد من إزعاجه أثناء نومه، أو الإعتداء عليه. و اعترافا بهذه الخدمات، فقد تخصص حمور بالمقابل بطرد كل الكلاب المتشردة و المتسكعين و المتسولين من ربوع القرية.
لم يشك الأعضاء في أن الغالي يجهل هذه المعطيات بسبب قصر مدة إقامته في القرية. غير أن ذلك لم يكن السبب الوحيد الذي جعلهم يعترضون على قرار تصفيته لحمور.. فالحرص على علاقة متميزة مع بوحمير كان يعني الاستفادة من خدماته الحيوية. فلا أحد منهم يكره الجلوس على المقاعد الأمامية في الحافلة أثناء سفره. كما أن لا احد منهم يستطيع أن يعتذر عن دعوات مجانية سخية و تناول وجبات غنية في محطات للاستراحة على طول مسار السفر . و لا أحد يريد ان يحرم من خدمات بوحمير المجانية لدى إرسال او التوصل بطرود و أغراض كان يمكن ان تكلف الكثير لو تمت عن طريق البريد. قال كبير الأعضاء للغالي: هل تعي جيدا ما أنت مقدم عليه ؟
اشتم الغالي رائحة غير عادية في السؤال و أجاب: ماذا تقصد ؟
- هذا كلب بوحمير. هل تعرف ذلك ؟
رد الغالي بنوع من الغطرسة: اسمع يا هذا لو أن بوحمير نفسه مسخ وصار كلبا فأنا لن أتردد لحظة في تصفيته.
عقب عضو آخر قائلا: على مهلك يا رجل. إننا لسنا في الجندية. ونافذتنا الوحيدة على العالم يفتحها بوحمير. لذا لا نملك سبلا أخرى.
عقب الغالي: يجب أن تبقوا حيث أنتم. كل شئ واضح. لدينا أوامر بتصفية الكلاب المتشردة. وهذا كلب متشرد.
قال عضو ثالث: ماذا قلت ؟ حمور كلب متشرد ؟
- هل لديك فهم آخر؟
قال كبير الأعضاء: هل تعرف يا رجل أن ما ينفق على حمور في يوم واحد يفوق ما تنفقه انت على أسرتك في أسبوع ؟
أحس الغالي بالإهانة ورد بحزم: أعرف سبب حرصكم على حياة حمور، لكني لن أتزحزح عن موقفي. هذا كلب متشرد ويجب أن يصفى.
عقب عضو آخر: هلا أوضحت لنا فهمك لمعنى تشرد الكلاب؟
عدل الغالي من نبرة صوته وقال: الكلب المتشرد هو أي كلب لا صاحب له. وحتى في وجود هذا الأخير يكون عاجزا عن إطعامه وتطبيبه.
انتفض كبير الأعضاء محتجا بطريقة جلبت انتباه كل من في مركز القرية و قال صارخا : استغفر ربك يا رجل .ثب إليه. إنك بهذا الفهم ستجعلنا نصفي حتى البشر. ثم و الله لو شرحنا بطنك و بطن حمور لوجدنا أمعاءه أكثر صفاء من أمعائك بسبب جودة ما يأكله. أبعد كل هذا تصف حمور بكلب متشرد؟
كسرت صرخات الشيخ الطوق الذي جعل مصير حمور حصريا على أعضاء لجنة تصفية الكلاب المتشردة. فاندفع رواد حلقات سور العاطلين للانضمام الى الجدل. بل إن الصدى انتقل الى كل ربوع القرية. فخرجت النسوة مسرعات ليتابعن المستجدات وهن واقفات على الربى المطلة على مركز القرية. فيما شوهد الأطفال يتدفقون من كل صوب قادمين من أحياء القرية ليتابعوا عن كثب مصير ذلك المخلوق الذي كان يجعلهم كل مساء يكتشفون دونيتهم. محتارين بين أن يتمنوا أعدامه أم يتوسلوا لله من أجل إنقاذ حياته.
وجد الغالي نفسه فجأة كمن يحاول ان يسبح معاكسا جريان نهر عظيم.غير أن خوفه و ارتباكه سرعان ما تبدد حين التقط خيطا دفينا من وقائع قصة حمور. وعوضه شعور بالثقة منبعثة من يقين مستند على حقيقة مفادها أن السادة ينتشون حين يتم تلطيخ الرموز التي يقدسها البسطاء. و أن المرء بقدر ما يحصده من سخط في الأسفل، يحصل مقابلا له على تكريم و تشريف في الأعلى. تأكد للغالي أن ما حصل عليه من اعتبار لحد الان من الأطوار السابقة لحملته قد لا يعد شيئا أمام ما يمكن ان يحصل عليه من إعدام حمور. ثم ماذا بإمكان هؤلاء التافهين أن يفعلوه ؟ في السابق أيام الجندية كان الأمر خطيرا فعلا. هو يذكر أن اشخاصا كانوا يلعبون مثل أدواره انتهت حياتهم بشكل غامض. وكل التحريات و التحقيقات لم تثبت سوى أن أولئك ماتوا بنيران صديقة و ليست معادية. لكن الأمر الان مختلف جدا.
تأمل الغالي الوجوه طويلا. و البعض اعتقد أن شيئا ما تغير فيه. وحين هدأت ثائرة الناس خاطب كبير الأعضاء : لو أنك انتسبت من قبل للجندية لكان لي معك قصة أخرى، أما و أنت على هذا الحال، فسأتجاهل عصيانك و أترفع عن مؤاخذتك.
أجاب الشيخ: صدق من قال إن ما من حقود على المرء أشد وطأة على ذلك الذي يمارس نفس حرفته. لكن في حالتك أنت فهي كراهية من طرف وحيد. و أنا سأنوب عن ذلك المخلوق الوديع في كراهيتك. بل و أنصب نفسي حاجزا بينك وبين حمور.
تعالت أصوات غاضبة من هنا وهناك مخاطبة كبير الأعضاء : لا ... لن تكون لوحدك. وليمر الرصاص عبر أجسادنا قبل أن يخترق جسد حمور.
توقفت فجأة سيارة فارهة بالقرب من الحلقة. هرول الغالي اتجاهها. انفتحت النافذة فانحنى الغالي راسما زاوية قائمة كاملة. ثم تبادل بعض الكلمات مع السائق الذي فتح الباب وخرج. توجه اتجاه الحلقة. أسرع أعضاء اللجنة لتحيته. ثم قال مخاطبا الجمع: أراكم قد منحتم للموضوع أكثر مما يستحق. هذه الحملة في النهاية لصالحكم. فأنتم أدرى بالخطر الذي يمكن ان تمثله الكلاب المتشردة. أما بخصوص حمور، فالامر بسيط جدا. على اللجنة ان تنتظر عودة بوحمير من المدينةـ ولتعرض عليه امره. فإن رغب في بقاء حمور، فعليه أن يقوم ببعض الإجراءات البسيطة. هذا كل شئ. ولن تفوتني الفرصة لكي أنوه بما يقوم به الغالي
تبادل الحاضرون النظرات، وتراجع كل واحد حيث كان. وظل البعض ينظر لحمور الذي لا يدري شيئا مما يجري حوله. لكنه استيقظ فجأة. تمطى. نبح بعد ان التقط صدى أزيز الناقلة القادمة من البعيد. ثم انطلق يعدو للقاء الحافلة كما فعل طوال حياته. وعند المنعرج ما قبل الأخير من دخول القرية، ضغط بوحمير على المنبه ضغطا متواصلا جعل الصوت يصل جل أرجاء القرية. وهرول من التقطه لتتبع وقائع الفصل الأخير من حياة كائن لم يكن عاديا. حام حمور حول الناقلة حين توقفت. وحين ترجل بوحمير علق به وتوجه صحبته الى حيث بائعة الخبز. وهما في منتصف المسافة، تقدم الغالي بأدب جم مقدما أعضاء لجنة تصفية الكلاب له. و آنذاك أدرك بوحمير سر تواجد تلك الحشود بذلك العدد الكبير في مركز القرية. قال الغالي : سيدي، يمكن لحمور أن ينعم بحياته بإجراء بسيط من قبلكم.
نظر بوحمير لحمور الذي كان لا يزال يعيش فرحة عودة بوحمير من المدينة ويحرك ذيله بنشاط. ثم ألقى نظرة على الجمهور الغفير الذي كان ينتظر سماع رده. ثم رفع عينيه ليشاهد النسوة الواقفات أعلى الربوة المطلة على المحطة، وعاد لينظر إلى الأرض. و أخيرا قال: أنتم تعرفون جيدا أني لا أستطيع أن اقوم بهذا. لأني لا أجد الوقت لذلك. و إذا كان لا بد من قتل حمور، فأرجو ان يتم ذلك في غيابي.
ارتسمت على الوجوه ملامح غامضة، ونطق بعضها بالحزن. و انطلق آخرون لحمل الخبر محققين سبقا، ولم يستطع الغالي أن يخفي ابتسامة ماكرة عنون بها نصرا آخر جديدا.
لم ينم تلك الليلة. كان منتشيا. لم يحس بالجوع رغم انه لم يأكل شيئا. ولم يحس بالتعب أو الرغبة في النوم رغم أنه لم يهدا طوال اليوم. أمضى الليلة يفكر في الطريقة المثلى التي يجب أن يموت بها حمور. لم يكن خاف عنه أن حمور هو مجرد كلب ككل الكلاب. لكنه بشكل ما شيئ له أن يكون اكثر من ذلك. إذ يجده قد تجسدت فيه أشياء ترمز لرؤى الآخرين، وبالتالي فموته هو موت لتلك الرؤى. إلا أن هذا ليس كل شئ. فهو لم ينس أنه أهين بسبب أمعاء حمور، سواء كان ذلك عن قصد أو عن غيره. وهو لهذا السبب يجد أن الأمر أصبح مسألة شخصية تهمه وتهم حمور. لهذا فتلك الأمعاء يجب أن تتقطع وتتفتت. وهذا أقل ما يقبل به. ولذلك، وخلافا للطريقة التي تم بها تصفية جميع الكلاب، فحمور يجب أن يموت بطريقة مختلفة.
في صباح استثنائي جدا، تجمع كل أعضاء لجنة تصفية الكلاب المتشردة في مركز القرية. وعلى عكس المظهر الذي خاض به الغالي أطوار الحملة، فقد تخلى عن لباسه العسكري وارتدى جلبابا أبيض، وبلغة صفراء مع حرصه على أن يكون في اتم اناقته من خلال حلق وجهه ورش ملابسه بكمية كبيرة من عطر فاخر. تجمهر الرجال و الأطفال حول حمور الذي كان لا يزال نائما. اشتم رائحة غير عادية. فتح عينيه. نظر إلى المتحلقين حوله في البدء. ثم خف يشم قطعة لحم كانت بالقرب منه. بردد في البداية. ثم شرع في التهامها. انتابه الألم فجاة. حاول ان يبقي ما بجوفه. سال من فمه لعاب كثيف. وقف. حاول من جديد أن يطرح شيئا. لم يتمكن. انتابته ارتعاشة قوية جعلته يفقد توازنه. سقط. تمالك نفسه ووقف من جديد. نظر حواليه. لا يبدو انه قد رأى شيئا. سقط. تزايد الأحساس بالألم. وقف ومد قوائمه للأمام. تلاشت قواه ولم تستطع قوائمه تحمل ثقل جسده. سقط ولم ينهض. مات حمور. اغتيل حمور.
لم يكن في الأمر مجازفة. فمواجهة مخلوقات ضعيفة متخلى عنها لا يمكن بأي حال مقارنتها مع مهام سابقة قام بها كمحارب في صفوف الجيش الفرنسي في ربوع متفرقة من العالم. وحتى فيما يخص هذه الأخيرة، فهو لا يذكر أنه عاش لحظات حرجة أو واجه مخاطر حقيقية. فالرؤساء كانوا دوما يضعونه في أماكن آمنة لحاجتهم الى خدماته الجليلة المتمثلة في إحاطتهم بكل ما يفكر به الجنود.
ما اعتبره واجهة داس من أجله كل شئ، و الوئام مع الآخرين لم يكن ليماثل لديه سحر الأضواء و عوالم الواجهة الدافئة. بل إن كل حواسه صارت كعقرب بوصلة منجذبة إلى اتجاه وحيد. ومسامعه لم يكن يتناهى إليها غير نداء كان يأتيه من مكان اسفل القمم. لكنه كان فوق السفوح.
يوم أنهى الخدمة العسكرية، ظل لسنوات طوال يستعيد كلمات الثناء و الإشادة التي تلقاها من رؤسائه. كان يحلو له أن يقف عند كل عبارة. و يستعيد ملامح الأشخاص ونبرات الأصوات وهي تمتدح أعماله. ويعمد أحيانا إلى رصد صداها ووقعها على الأشخاص الذين عاشوا تلك اللحظات التاريخية الخالدة. وينهي حديثه برثاء وندبة على انقضاء تلك الأيام. لكن نبوءته بكون خدماته هي من النوع الذي لا يعرف الكساد هاهي تتحقق أخيرا حين تم تعيينه كرئيس لتصفية الكلاب المتشردة. وقف امام المرآة ينظر لنفسه بفخر. رئيس ... ياله من اسم جميل براق..ا لا يهم أن يكون لزمن ومهمة عابرة. بل و لا يهم أن يكون مرتبطا بأمر تافه كتصفية الكلاب، فطول عمره كان يعتقد أن الكلاب أو ما شابهها هي التي رصعت سجلات أفخر و أعتى الفوارس. هل يزين صدره بالأوسمة و النياشين التي حصل عليها من قبل ؟ .. يسأل نفسه. لا شك ان ذلك سيضفي على مهمته الكثير من الرونق و الشاعرية. و لا شك أيضا أن ذلك المشهد سينطبع في ذاكرة الكثيرين .لا...لا.. المهم في هذه المأمورية هو الحاضر و المستقبل.
على عكس باقي أعضاء لجنته، صمم الغالي ألا تكون مهمته منتهية بزمن. بل يجب أن تكون مجرد درج داخل سلم شاهق العلو. و أن عليه ألا يقدم في النهاية مجرد جرد إحصائي لعدد الكلاب التي تم تصفيتها، بل عليه أن سكون قد ينجح في تقديم نفسه كخادم له كامل الإستعداد للتعاون حتى و إن تعلق الأمر بتصفية البشر. ولهذا ففي تعبيده لهذا المسار عليه أن يرسل رسائل كثيرة لرؤساء لا يجب أن يهتم ما إن كان ما ينجزه يعنيهم أم لا.
في كبد الليل كان يغادر بيته بعد تتبع نشرات الأخبار. وما كان يعنيه فيها هو النشرة الجوية. وبتحديد أدق، حركة الرياح التي كانت تحدد له الوجهة التي يجب أن يمضي فيها. كان الغالي يدرك أن هناك ثمة ألفة يمكن ان تنشأ بين بعض الناس وكلابها. و ان ذلك قد يدفعها للتستر عليها. إلا أنه كان يعي بالمقابل، أن أولئك إن نجحوا في إخفائها، فلن ينجحوا بالمقابل في منعها من النباح. ولذا وهو يسير في تلك المشاويرالليلية، كان يرهف السمع الذي يعرف أنه أمهر من يحسن استخدامه. فيلتقط موجات الريح ويشرحها، وحين كان يضبط صدى نباح، كان يضع فرضيات للمدى الذي قطعه الصوت. و تخمينات للأشخاص المحتمل أن يكونوا قد تستروا على كلاب مطلوبة للتصفية. وحين كان ينجح. لم يكن ينهي الأمر في عين المكان. بل كان يصر على تقديم الأشخاص رفقة كلابهم للسلطات. لم يكن يثنيه تدخل الأعيان و لا توسلات الناس ولا إغراءاتهم. بل إن ذلك كان يشعره بمتعة لا تعادلها متعة. ويترسخ يقينه بأن رياح الواجهة قد بدأت تهب عوالمه الشاحبة. و أنه لم يعد نكرة داخل عالم منس. وثناء الرؤساء زاده ثقة و تشجيعا للمضي قدما في تسلق سلم وجد صعوده أسهل بكثير مما توقعه.
أفرغ الغالي جرعة قوية في جوفه جعلت أنفاسه تنحبس، ووجهه أكثر امتقاعا. وانتابه سعال شديد مفاجئ جعل عينيه تحمران وتدمعان. وحين أدار وجهه نحو الشارع، بدا و كأنه تجمد و أصيب بالذهول، تلاه ما يشبه صدمة. ودون أن يعاود النظر إلى الداخل. وضع القنينة على المنضدة، و كفه الأخرى على جبهته التي اعتصرها بقوة وهو يتساءل : يالهي ...ا كيف نسيت أمر هذا الكلب ؟..
استنفر الغالي أعضاء لجنته الذين كانوا قد تناثروا متجاذبين الحديث مع رواد سور العاطلين الممتد في قلب القرية. وقبل ان يصلوا حيث كان، أدركوا أن حدثا جللا قد وقع. ودون أن يترك الغالي الظنون تذهب بهم بعيدا قال لهم آمرا: يجب أن تصفوا هذا الكلب فورا رميا بالرصاص.
تجمد الأعضاء غير مصدقين ما سمعوه. وغير متأكدين ما إن كان الأمر جديا أم انه كان يمزح فقط. لقد كان حمور هو كلب "أبو الحمير". الرجل الذي يشكل مع الناقلة التي يسوقها جسر القرية الوحيد الذي يربطها بالعالم. ولذا فكل الناس كانت تفخر بمعرفته وتتمنى لو تربطها به علاقة صداقة. كيف لا وتحية منه وهو يسوق الحافلة كانت تجعل الشخص المحيى من المشاهير، وخبرا تتداوله الألسن بحماس. كل ذلك جعل حمور كلبا من طينة مختلفة. فالكلاب الأخرى تقوم بمهام كثيرة، إلا أنها نادرا ما تنال ما تستحقه على أتعابها. لكن حمور هو الكلب الوحيد الذي عكس المعادلة. وبخلاف كل الكلاب الني تقوم بمهام الحراسة، كان حمور هو الكلب الذي يسهر كل من في القرية على راحته ويمنع أي أحد من إزعاجه أثناء نومه، أو الإعتداء عليه. و اعترافا بهذه الخدمات، فقد تخصص حمور بالمقابل بطرد كل الكلاب المتشردة و المتسكعين و المتسولين من ربوع القرية.
لم يشك الأعضاء في أن الغالي يجهل هذه المعطيات بسبب قصر مدة إقامته في القرية. غير أن ذلك لم يكن السبب الوحيد الذي جعلهم يعترضون على قرار تصفيته لحمور.. فالحرص على علاقة متميزة مع بوحمير كان يعني الاستفادة من خدماته الحيوية. فلا أحد منهم يكره الجلوس على المقاعد الأمامية في الحافلة أثناء سفره. كما أن لا احد منهم يستطيع أن يعتذر عن دعوات مجانية سخية و تناول وجبات غنية في محطات للاستراحة على طول مسار السفر . و لا أحد يريد ان يحرم من خدمات بوحمير المجانية لدى إرسال او التوصل بطرود و أغراض كان يمكن ان تكلف الكثير لو تمت عن طريق البريد. قال كبير الأعضاء للغالي: هل تعي جيدا ما أنت مقدم عليه ؟
اشتم الغالي رائحة غير عادية في السؤال و أجاب: ماذا تقصد ؟
- هذا كلب بوحمير. هل تعرف ذلك ؟
رد الغالي بنوع من الغطرسة: اسمع يا هذا لو أن بوحمير نفسه مسخ وصار كلبا فأنا لن أتردد لحظة في تصفيته.
عقب عضو آخر قائلا: على مهلك يا رجل. إننا لسنا في الجندية. ونافذتنا الوحيدة على العالم يفتحها بوحمير. لذا لا نملك سبلا أخرى.
عقب الغالي: يجب أن تبقوا حيث أنتم. كل شئ واضح. لدينا أوامر بتصفية الكلاب المتشردة. وهذا كلب متشرد.
قال عضو ثالث: ماذا قلت ؟ حمور كلب متشرد ؟
- هل لديك فهم آخر؟
قال كبير الأعضاء: هل تعرف يا رجل أن ما ينفق على حمور في يوم واحد يفوق ما تنفقه انت على أسرتك في أسبوع ؟
أحس الغالي بالإهانة ورد بحزم: أعرف سبب حرصكم على حياة حمور، لكني لن أتزحزح عن موقفي. هذا كلب متشرد ويجب أن يصفى.
عقب عضو آخر: هلا أوضحت لنا فهمك لمعنى تشرد الكلاب؟
عدل الغالي من نبرة صوته وقال: الكلب المتشرد هو أي كلب لا صاحب له. وحتى في وجود هذا الأخير يكون عاجزا عن إطعامه وتطبيبه.
انتفض كبير الأعضاء محتجا بطريقة جلبت انتباه كل من في مركز القرية و قال صارخا : استغفر ربك يا رجل .ثب إليه. إنك بهذا الفهم ستجعلنا نصفي حتى البشر. ثم و الله لو شرحنا بطنك و بطن حمور لوجدنا أمعاءه أكثر صفاء من أمعائك بسبب جودة ما يأكله. أبعد كل هذا تصف حمور بكلب متشرد؟
كسرت صرخات الشيخ الطوق الذي جعل مصير حمور حصريا على أعضاء لجنة تصفية الكلاب المتشردة. فاندفع رواد حلقات سور العاطلين للانضمام الى الجدل. بل إن الصدى انتقل الى كل ربوع القرية. فخرجت النسوة مسرعات ليتابعن المستجدات وهن واقفات على الربى المطلة على مركز القرية. فيما شوهد الأطفال يتدفقون من كل صوب قادمين من أحياء القرية ليتابعوا عن كثب مصير ذلك المخلوق الذي كان يجعلهم كل مساء يكتشفون دونيتهم. محتارين بين أن يتمنوا أعدامه أم يتوسلوا لله من أجل إنقاذ حياته.
وجد الغالي نفسه فجأة كمن يحاول ان يسبح معاكسا جريان نهر عظيم.غير أن خوفه و ارتباكه سرعان ما تبدد حين التقط خيطا دفينا من وقائع قصة حمور. وعوضه شعور بالثقة منبعثة من يقين مستند على حقيقة مفادها أن السادة ينتشون حين يتم تلطيخ الرموز التي يقدسها البسطاء. و أن المرء بقدر ما يحصده من سخط في الأسفل، يحصل مقابلا له على تكريم و تشريف في الأعلى. تأكد للغالي أن ما حصل عليه من اعتبار لحد الان من الأطوار السابقة لحملته قد لا يعد شيئا أمام ما يمكن ان يحصل عليه من إعدام حمور. ثم ماذا بإمكان هؤلاء التافهين أن يفعلوه ؟ في السابق أيام الجندية كان الأمر خطيرا فعلا. هو يذكر أن اشخاصا كانوا يلعبون مثل أدواره انتهت حياتهم بشكل غامض. وكل التحريات و التحقيقات لم تثبت سوى أن أولئك ماتوا بنيران صديقة و ليست معادية. لكن الأمر الان مختلف جدا.
تأمل الغالي الوجوه طويلا. و البعض اعتقد أن شيئا ما تغير فيه. وحين هدأت ثائرة الناس خاطب كبير الأعضاء : لو أنك انتسبت من قبل للجندية لكان لي معك قصة أخرى، أما و أنت على هذا الحال، فسأتجاهل عصيانك و أترفع عن مؤاخذتك.
أجاب الشيخ: صدق من قال إن ما من حقود على المرء أشد وطأة على ذلك الذي يمارس نفس حرفته. لكن في حالتك أنت فهي كراهية من طرف وحيد. و أنا سأنوب عن ذلك المخلوق الوديع في كراهيتك. بل و أنصب نفسي حاجزا بينك وبين حمور.
تعالت أصوات غاضبة من هنا وهناك مخاطبة كبير الأعضاء : لا ... لن تكون لوحدك. وليمر الرصاص عبر أجسادنا قبل أن يخترق جسد حمور.
توقفت فجأة سيارة فارهة بالقرب من الحلقة. هرول الغالي اتجاهها. انفتحت النافذة فانحنى الغالي راسما زاوية قائمة كاملة. ثم تبادل بعض الكلمات مع السائق الذي فتح الباب وخرج. توجه اتجاه الحلقة. أسرع أعضاء اللجنة لتحيته. ثم قال مخاطبا الجمع: أراكم قد منحتم للموضوع أكثر مما يستحق. هذه الحملة في النهاية لصالحكم. فأنتم أدرى بالخطر الذي يمكن ان تمثله الكلاب المتشردة. أما بخصوص حمور، فالامر بسيط جدا. على اللجنة ان تنتظر عودة بوحمير من المدينةـ ولتعرض عليه امره. فإن رغب في بقاء حمور، فعليه أن يقوم ببعض الإجراءات البسيطة. هذا كل شئ. ولن تفوتني الفرصة لكي أنوه بما يقوم به الغالي
تبادل الحاضرون النظرات، وتراجع كل واحد حيث كان. وظل البعض ينظر لحمور الذي لا يدري شيئا مما يجري حوله. لكنه استيقظ فجأة. تمطى. نبح بعد ان التقط صدى أزيز الناقلة القادمة من البعيد. ثم انطلق يعدو للقاء الحافلة كما فعل طوال حياته. وعند المنعرج ما قبل الأخير من دخول القرية، ضغط بوحمير على المنبه ضغطا متواصلا جعل الصوت يصل جل أرجاء القرية. وهرول من التقطه لتتبع وقائع الفصل الأخير من حياة كائن لم يكن عاديا. حام حمور حول الناقلة حين توقفت. وحين ترجل بوحمير علق به وتوجه صحبته الى حيث بائعة الخبز. وهما في منتصف المسافة، تقدم الغالي بأدب جم مقدما أعضاء لجنة تصفية الكلاب له. و آنذاك أدرك بوحمير سر تواجد تلك الحشود بذلك العدد الكبير في مركز القرية. قال الغالي : سيدي، يمكن لحمور أن ينعم بحياته بإجراء بسيط من قبلكم.
نظر بوحمير لحمور الذي كان لا يزال يعيش فرحة عودة بوحمير من المدينة ويحرك ذيله بنشاط. ثم ألقى نظرة على الجمهور الغفير الذي كان ينتظر سماع رده. ثم رفع عينيه ليشاهد النسوة الواقفات أعلى الربوة المطلة على المحطة، وعاد لينظر إلى الأرض. و أخيرا قال: أنتم تعرفون جيدا أني لا أستطيع أن اقوم بهذا. لأني لا أجد الوقت لذلك. و إذا كان لا بد من قتل حمور، فأرجو ان يتم ذلك في غيابي.
ارتسمت على الوجوه ملامح غامضة، ونطق بعضها بالحزن. و انطلق آخرون لحمل الخبر محققين سبقا، ولم يستطع الغالي أن يخفي ابتسامة ماكرة عنون بها نصرا آخر جديدا.
لم ينم تلك الليلة. كان منتشيا. لم يحس بالجوع رغم انه لم يأكل شيئا. ولم يحس بالتعب أو الرغبة في النوم رغم أنه لم يهدا طوال اليوم. أمضى الليلة يفكر في الطريقة المثلى التي يجب أن يموت بها حمور. لم يكن خاف عنه أن حمور هو مجرد كلب ككل الكلاب. لكنه بشكل ما شيئ له أن يكون اكثر من ذلك. إذ يجده قد تجسدت فيه أشياء ترمز لرؤى الآخرين، وبالتالي فموته هو موت لتلك الرؤى. إلا أن هذا ليس كل شئ. فهو لم ينس أنه أهين بسبب أمعاء حمور، سواء كان ذلك عن قصد أو عن غيره. وهو لهذا السبب يجد أن الأمر أصبح مسألة شخصية تهمه وتهم حمور. لهذا فتلك الأمعاء يجب أن تتقطع وتتفتت. وهذا أقل ما يقبل به. ولذلك، وخلافا للطريقة التي تم بها تصفية جميع الكلاب، فحمور يجب أن يموت بطريقة مختلفة.
في صباح استثنائي جدا، تجمع كل أعضاء لجنة تصفية الكلاب المتشردة في مركز القرية. وعلى عكس المظهر الذي خاض به الغالي أطوار الحملة، فقد تخلى عن لباسه العسكري وارتدى جلبابا أبيض، وبلغة صفراء مع حرصه على أن يكون في اتم اناقته من خلال حلق وجهه ورش ملابسه بكمية كبيرة من عطر فاخر. تجمهر الرجال و الأطفال حول حمور الذي كان لا يزال نائما. اشتم رائحة غير عادية. فتح عينيه. نظر إلى المتحلقين حوله في البدء. ثم خف يشم قطعة لحم كانت بالقرب منه. بردد في البداية. ثم شرع في التهامها. انتابه الألم فجاة. حاول ان يبقي ما بجوفه. سال من فمه لعاب كثيف. وقف. حاول من جديد أن يطرح شيئا. لم يتمكن. انتابته ارتعاشة قوية جعلته يفقد توازنه. سقط. تمالك نفسه ووقف من جديد. نظر حواليه. لا يبدو انه قد رأى شيئا. سقط. تزايد الأحساس بالألم. وقف ومد قوائمه للأمام. تلاشت قواه ولم تستطع قوائمه تحمل ثقل جسده. سقط ولم ينهض. مات حمور. اغتيل حمور.
تعليق