أتعهد لكم بنقل كتابا كل شهر حتى أمد هذا المنتدى الرائع بمجموعة من الكتب وأتمنى من إدارة المنتدى بمساعدتى فى أرشفتها أو تكوين مكتبة بالمنتدى.... أراه عمل يستحق الوقوف معه .... ضوء يوجهنا إلى إنشاء مكتبة وحث الاعضاء لمرافقة الكتاب
واليوم أبتدىء بكتاب مترجم للعربية للراحل أدوارد سعيد تحت عنوان ( العالم والنص والناقد ) وهو باللغة الانجليزية ولان صفحاته كثيرة جدا فسوف أجزئه إلى أجزاء أو فصول
واليوم أبتدىء بكتاب مترجم للعربية للراحل أدوارد سعيد تحت عنوان ( العالم والنص والناقد ) وهو باللغة الانجليزية ولان صفحاته كثيرة جدا فسوف أجزئه إلى أجزاء أو فصول
إليكم الجزء الاول
العالــــــم
والنـــص والناقــــــــد
العنوان الأصلي للكتاب:
The World, The Text, And The Critic
Edward W. Said
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
2000
تأليف : أدوارد سعيد
ترجمة : عبدالكريم محفوض
العالــــــم
والنـــص والناقــــــــد
العنوان الأصلي للكتاب:
The World, The Text, And The Critic
Edward W. Said
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
2000
تأليف : أدوارد سعيد
ترجمة : عبدالكريم محفوض
تمهيد
النقد الدنيوي
إن ممارسة النقد في هذه الأيام تتخذ لها أربعة أشكال رئيسية. فالأولى هو النقد العملي الذي نجده في مراجعة الكتب وفي الصحافة الأدبية. والثاني هو التاريخ الأدبي الأكاديمي الذي ينحدر إلينا من الاختصاصات التي كانت قائمة في القرن التاسع عشر كدراسة الأدب الكلاسيكي والفيلولوجيا وتاريخ الحضارة. والثالث هو التقويم والتأويل من زاوية أدبية، وعلى الرغم من أن هذا الشكل بالأساس عمل أكاديمي فإنه، على نقيض سلفيه، ليس مقصوراً على المحترفين وعلى أولئك الكتاب الذين يبرزون من حين إلى آخر. فالتقويم هو الشيء الذي يعلّمه ويمارسه أساتذة الأدب في الجامعة مع العلم أن المستفيدين منه بأبسط المعاني هم كل تلك الملايين من الناس ممن تعلموا في الصف كيفية قراءة قصيدة، وكيفية الاستمتاع بالتعقيد الذي تنطوي عليه فكرة ميتافيزيقية، وكيفية وجوب تصورهم أن للأدب واللغة الرمزية ثمة سمات فريدة يستحيل تقليصها إلى موعظة أخلاقية أو سياسية بسيطة. وأما الشكل الرابع فهو "النظرية الأدبية" التي هي بمثابة مضمار جديد نسبياً، فهذه النظرية برزت كميدان لافت للنظر بالنسبة للبحث الأكاديمي والشعبي في الولايات المتحدة في وقت لاحق لبروزها في أوربا: فأناس كوالتر بينيامين والفتى جورج لوكاش، مثلاً، قاما بعملهما النظري في باكورات سنوات هذا القرن، كما كتبا بلهجة معروفة ولو أنها مثار جدل على أوسع نطاق. ولكن النظرية الأدبية لم تبلغ مرحلة النضج، على الرغم من الدراسات الريادية التي أنجزها كانيث بيرك قبل الحرب العالمية الثانية بزمن طويل، إلا في عقد السبعينات (1970) وذلك من جراء الاهتمام المتعمد الملحوظ بالنماذج الأوربية السباقة (من أمثال البنيوية ودلالات الألفاظ والتفكيك).
فالمقالات المجموعة ضمن هذا الكتاب تستمد وجودها من هذه الأشكال الأربعة كلها، حتى لو كان ميدانا مراجعة الكتب في الصحف والتقويم الأدبي في الصف بعيدين البعد كله عن التمثيل المباشر هنا. ولكن واقع الحال يتجسد في أن الجهود الحثيثة التي بذلتها طيلة اثني عشر عاماً (1969- 1981) في كتابة هذه المقالات ساقتني للتعامل مع كل الأنواع الأربعة التي تتألف منها الممارسة النقدية الأدبية. وذلك بالطبع شيء عادي جداً، وصحيح قوله أيضاً عن معظم نقاد الأدب في هذه الأيام.
ولئن كانت هنالك من مساهمة يساهم بها ما دعوته في هذا الكتاب بالنقد أو الوعي النقدي، فهي محاولة تخطي حدود الأشكال الأربعة كما جاء تحديدها أعلاه. وإن هذا الجهد ليسم (إن لم يسم نجاحه) العمل النقدي الذي تضطلع بعبئه هذه المقالات كما يسم، فضلاً عن ذلك، الأعمال والاصطلاحات التي تدين المقالات بوجودها لها.
إن الوضع السائد في النقد الآن قد بلغ الحد الذي جعل كل شكل من الأشكال الأربعة يمثل بحد ذاته تخصصاً (على الرغم من نشوز النظرية الأدبية بعض الشيء) وميداناً محدداً جداً من ميادين الجهد الفكري. وإن من المفروض، علاوة على ذلك، أن يوجد الأدب وكل الدراسات الإنسانية في صميم الثقافة (أو ثقافتنا كما يقال عنها في بعض الأحيان)، وأن تحظى الثقافة، من خلالهما، بشرف السمو والتعزيز، وأن تبقى ممارسة الثقافة الرفيعة ذات الخطوة الرسمية هامشية أيضاً حيال الهموم السياسية الخطيرة التي يعيشها المجتمع -ولا سيما في تلك النسخة الثقافية التي يغرسها في الأذهان المثقفون المحترفون والنقاد الأدبيون.
وهذا الواقع أدى إلى قيام عبادة الخبرة الاحترافية ذات الأثر المخزي على العموم.
فالخبرة كانت، بالنسبة لطبقة أهل الفكر، خدمة تسدى، لا بل وتباع، للسلطة المركزية في المجتمع بشكل عادي، وهذه هي خيانة الكتبة المأمورين “Trahison des clercs” التي تحدث عنها جوليان بيندا في العشرينات. فالخبرة في الشؤون الخارجية، على سبيل المثال، كانت في العادة تعني إضفاء مسحة الشرعية على مسلك السياسة الخارجية، لا بل والأقرب إلى الصواب أن نقول أنها كانت استثماراً مطولاً لإعادة تعزيز دور الخبراء في الشؤون الخارجية(1). وإن مثل هذا القول الصحيح عن نقاد الأدب والكتاب الإنسانيين المحترفين، عدا أن خبرتهم قائمة على أساس عدم التدخل فيما دعاه فيكو بمنتهى الروعة بعالم الأمم- أي ذلك العالم الذي يمكن دعوته أيضاً، بمنتهى البساطة، "بالعالم أو الدنيا". فنحن نقول لتلاميذنا وعموم جماهيرنا بأننا ندافع عن الآداب الكلاسيكية، مفخرة الثقافة الليبرالية ودرر الأدب النفيسة، حتى في الوقت الذي نكشف فيه عن أنفسنا بأننا صامتون (ولربما عاجزون) حيال العالم التاريخي والاجتماعي الذي تحدث فيه كل هذه الأشياء.
إن المدى الذي يصل إليه الطلاق بين مؤسسة الميدان الثقافي وخبرته وبين صلاتهما الحقيقية بمؤسسة السلطة قد تجلى لي على أوضح ما يكون من خلال حديث مع صديق جامعي قديم كان يعمل في وزارة الدفاع لفترة من الزمن خلال حرب فيتنام. فوفتها كان القصف على أشده، وكنت أحاول بكل سذاجة أن أفهم نوعية ذلك الشخص الذي كان بمقدوره أن يأمر يومياً طائرات ب- 52 بإلقاء القنابل على بلد آسيوي بعيد بحجة المصلحة الأمريكية في الدفاع عن الحرية وإيقاف المد الشيوعي. "يا صاحبي"، قال صديقي، "إن الوزير كائن بشري عديد المكونات: فهو لا ينطبق على الصورة التي ربما حملتها في ذهنك عن السفاح الإمبريالي المتوحش. إذ في المرة الأخيرة التي كنت فيها بمكتبه شاهدت على طاولته رواية (الرباعية الاسكندرانية) لدوريل". ومن ثم توقف عن الحديث بكل مكر وكأنه كان يريد أن يترك لوجود تلك الرواية على الطاولة أن يعود وحده علي بتأثيره البغيض. ولكن المغزى الأدهى لحكاية صديقي كان مفاده أنه ما من إنسان قرأ رواية ما، واستعذبها على أرجح الظن، كان بوسعه أن يكون ذلك السفاح المتوحش الذي قد يتصوره المرء(2). وبعد مضي عدة سنوات تخطر على بالي هذه النادرة التي تتقاذفها كلها الشكوك (وأنا لم أعد أتذكر رد فعلي على ذلك الربط المبهم بين دوريل وبين إصدار الأوامر بالقصف في الستينات) وتقع علي وقع الصاعقة كونها الشيء النموذجي عما يحدث بالفعل على أرض الواقع: فالكتاب الإنسانيون والمفكرون يقبلون الفكرة التي مفادها أن بمقدورك أن تقرأ أحسن القصص وأن تقتل وتشوه البشر في آن واحد معاً لأن باب العالم الثقافي مفتوح على مصراعيه أمام ذلك النوع الخاص من التعمية، ولأن الأنواع الثقافية ليس من المفروض أن تتدخل في تلك الأمور التي لا تصادق المنظومة الاجتماعية على تدخلها بها. وإن الشيء الذي ينجلي من تلك النادرة هو الفصل المستحب بين البيروقراطي الرفيع المقام وبين قارئ الروايات ذوات القيمة المشكوك بها والمكانة المحددة.
وخلال أواخر الستينات (1960) طرحت نفسها النظرية الأدبية بمزاعم جديدة. فالجذور الفكرية للنظرية الأدبية في أوربا كانت طافحة بالتمرد، وهذا عين الصواب على ما أظن.
إن الجامعة التقليدية وهيمنة الحتمية والوضعية وتجسيد الإيديولوجيا البورجوازية "للمنزع الإنساني" والحواجز الصارمة بين الاختصاصات الأكاديمية: كلها جعلت النظرية الأدبية تطرح نفسها على أنها ردود أفعال عنيفة على كل هذه الأمور التي عملت على ترابط الأسلاف النافذين للمنظّر الأدبي الحالي من أمثال سوسور ولوكاش وباتيل وليفي شتراوس وفرويد ونيتشه وماركس. لقد طرحت نفسها تلك النظرية بأنها مركب يعتزم الإحاطة بكل الإقطاعات الصغيرة في قلب عالم الإنتاج الفكري، وكان الأمل المنشود البيّن أن من الممكن، بالنتيجة، توحيد كل ميادين النشاط البشري، فضلاً عن المعاش معها كوحدة.
ولكن ثمة شيء طرأ، ولربما بشكل لا مناص منه. فالنظرية الأدبية الأمريكية انكفأت من حركة تدخلية جاسرة عبر تخوم التخصص في أواخر السبعينات ودخلت في تيه "النصيّة" وهي تجر معها أحدث رواد النصية الثورية الأوربية كديريدا وفوكو اللذين كانا يدأبان، هما نفساهما، بمنتهى الأسف، على تشجيع تقديس تلك النظرية للأشياء وصقلها عبر الأطلسي. وهكذا فليس من المبالغة في شيء أن نقول بأن النظرية الأدبية الأمريكية، أو حتى الأوربية، صارت تتقبل الآن مبدأ عدم التدخل وبلا أي تحفظ، وبأن طريقتها الخاصة في اقتناص موضوعها (وفق صيغة آلثوسر) لا تعني أبداً اقتناص أي شيء دنيوي أو ظرفي أو ملوث اجتماعياً.
وهكذا صارت النصية بمثابة النقيض الحقيقي لما يمكن دعوته بالتاريخ بعد تنحيته جانباً والحلول محله. فالرأي الذي يعتبر أن النصية صار لها وجود لرأي صائب، بيد أنها وبالطريقة نفسها لم تبرز في أي مكان محدد أو في أي زمان معين. إنها استنبات، ولكن لا بفعل أي إنسان على الإطلاق ولا في أي زمان بتاتاً، وإن من الممكن قراءتها وتأويلها، غير أن المفهوم روتينياً أن القراءة والتأويل يحدثان على نحو مغلوط، وهكذا فإن من الممكن تمديد لائحة الأمثلة إلى ما لا نهاية، ولكن بيت القصيد يبقى على ما هو عليه. فالنظرية الأدبية، بالشكل الذي تجري فيه ممارستها اليوم في الأكاديمية الأمريكية، عزلت النصية في أغلب الأحوال عن الظروف والأحداث والحواس الجسدية التي جعلت منها شيئاً ممكناً، وأحالتها إلى شيء واضح جراء اعتبارها نتيجة للعمل البشري.
فحتى لو قبلنا (كما أقبل أساساً أنا) الأدلة التي طرحها هيدن وايت- ومنها أنه ما من سبيل قط لتجاوز النصوص ابتغاء وعي التاريخ "الحقيقي" بشكل مباشر- فإن من الممكن أيضاً أن نقول أن مثل هذا الإدعاء يجب ألا ينسخ الاهتمام بتلك الأحداث والظروف التي نجمت عن النصوص نفسها والتي عبرت عنها النصوص. وإن تلك الأحداث والظروف ما هي إلا نصية أيضاً (فكل روايات وحكايات كونراد تقريباً تطرح لنا وضعاً -من مثل زمرة من الأصدقاء ممن يجلسون على متن سفينة ويستمعون إلى حكاية ما- يفضي إلى السرد الذي يشكل النص)، فضلاً عن أن الكثير مما يدور في النصوص يلمح إلى النصوص في الوقت نفسه، أي يتقرب بنفسه منها على نحو مباشر. فموقفي هو القول بأن النصوص دنيوية، وهي أحداث إلى حد ما، وهي فوق كل هذا وذاك قسط من العالم الاجتماعي والحياة البشرية، وقسط بالتأكيد من اللحظات التاريخية التي احتلت مكانها فيها وفسرتها حتى حين يبدو عليها التنكر لذلك كله.
إن النظرية الأدبية، نظرية اليسار أو اليمين سواء بسواء، قد أدارت ظهرها لكل هذه الأشياء، وهذا الموقف يمكن اعتباره، كما أرى، انتصاراً لأخلاق الاحترافية، ولكن ليس من المصادفة في شيء أن يقترن بروز فلسفة أضيق مما ينبغي، أي فلسفة النصية البحتة وعدم التدخل النقدي، مع سطوع نجم الريغانية( )، أو بعبارة أخرى، مع حرب باردة جديدة وتفاقم التعسكر ونفقات الدفاع، والانجراف الهائل باتجاه اليمين في أمور تمس الاقتصاد والخدمات الاجتماعية والأيدي العاملة المنظمة(4)، فالنقد المعاصر، في عزوفه عن الدنيا بقضها وقضيضها كرمى لنص تكتنفه الشكوك والمغالطات إلى حد لا يتصوره العقل، تخلى عن جمهوره، عن أهالي المجتمع الحديث الذين تركوا تحت رحمة قوى السوق "الحرة" والشركات المتعددة الجنسيات ومضاربات الشهوات الاستهلاكية. وها نحن الآن نشهد ترعرع رطانة طنانة كي تحجب، بتعقيداتها المرعبة، الوقائع الاجتماعية وكي تشجع، ويا للغرابة، دراسة "أنماط التمييز" بشكل بعيد جداً عن الحياة اليومية في مرحلة انحسار القوة الأمريكية.
فالنقد لم يعد بوسعه التعاون مع هذه المغامرة التجارية، أو التظاهر بتجاهلها لأن ممارسة النقد لا تعني البتة إضفاء مسحة من الشرعية على الوضع الحالي أو الالتحاق بركب طبقة كهنوتية من البطاركة والميتافيزيقيين الدوغماتيين. إن كل مقالة في هذا الكتاب تؤكد على الترابط بين النصوص وبين الوقائع الوجودية للحياة البشرية والسياسة والمجتمعات والأحداث. فالوقائع المتعلقة بالقوة والسلطة -والمتعلقة أيضاً بضروب المقاومة التي يبديها الرجال والنساء والحركات الاجتماعية والسلطات والمعتقدات التقليدية- هي الوقائع التي تجعل من النصوص أمراً ممكناً، وهي التي تطرحها لقراء تلك النصوص، وهي التي تستقطب اهتمام النقاد. ولذلك فإنني أقترح أن تكون هذه الوقائع مثار اهتمام النقد والوعي النقدي.
وعند هذا الحد صار من الواضح ولا بد أن هذا النوع من النقد لا يمكن ممارسته إلا خلف وخارج إطار الإجماع المتحكم بهذا الميدان اليوم في تلك الأشكال الأربعة المقبولة التي جئت على ذكرها آنفاً. ومع ذلك فلئن كانت هذه المهمة هي مهمة النقد في الزمن الحالي، ألا وهي الوقوف بين الثقافة السائدة وبين الأشكال التجميعية للمنظومات النقدية، فهنالك شيء من العزاء إن نحن تذكرنا أن هذا المآل كان في الوقت نفسه مآل الوعي النقدي في الماضي القريب
***
ما من قارئ قرأ كتاب "المحاكاة" (Mimesis) لإرخ أورباخ، وهو واحد من أهم الكتب وأكثرها إثارة للإعجاب، وكتاب من أنفس الكتب التي ظهرت على وجه الأرض عن النقد الأدبي، وإلا ودغدغت مشاعره الظروف التي أحاطت بالكتابة الفعلية لهذا الكتاب.
فلقد لمح أورباخ عرضاً تقريباً إلى هذه الظروف في الأسطر الأخيرة من الخاتمة التي تمثل شرحاً موجزاً جداً لعلم المنهج (ميثودولوجيا) عما صار في خاتمة المطاف عملاً بارزاً ذا ألمعية أدبية.
إذ بعد أن يشير أورباخ إلى أنه ما كان بوسعه أن يتعامل مع كل الأشياء المكتوبة من قبل عن الأدب الغربي، وفيه، لتحقيق طموحه في دراسة مستفيضة مثل "تصوير الواقع في الأدب الغربي" يردف قائلاً:
[وقد أذكر أيضاً أن كتابة الكتاب كانت خلال الحرب وفي استانبول، حيث أن المكتبات غير مؤهلة لإجراء الدراسات الأوربية. وبما أن الاتصالات الدولية كانت معوّقة كان لزاماً علي أن أستغني عن كل الدوريات تقريباً، وعن كل أحدث الاستقصاءات تقريباً أيضاً، كما كان لزاماً علي في بعض الحالات الاستغناء عن طباعة نصوصي طباعة موثوقة. ونظراً لذلك فإن من الممكن وحتى من المحتمل أن أكون قد تجاهلت بعض الأشياء التي كان يتوجب علي أن أمعن النظر فيها، وأن أكون قد أكدت أحياناً على شيء دحضه أو عدله البحث الحديث... ولكن من الناحية الأخرى فإن من الممكن جداً أن يكون الكتاب مديناً بوجوده لهذا النقص نفسه المتمثل بغياب مكتبة غنية ومتخصصة.
فلو أتيح لي أن أتعرف على كل ذلك العمل الذي تم إنجازه عن موضوعات عديدة جداً، لما توصلت على الأرجح إلى اتخاذ قرار بالكتابة](5).
إن مأساة هذا الشيء البسيط من التواضع أمر ملفت للنظر وذلك لأن أورباخ يتحدث، أولاً، بلهجة هادئة تخفي الكثير من آلامه في منفاه. فلقد كان لاجئاً يهودياً هارباً من أوربا النازية، وكان باحثاً أوربياً في ذلك التراث العريق الذي يدور حول دراسة (الأدب الرومانسي الألماني).
ولذلك فقد كان هنا في استانبول يائساً من أي اتصال له مع المرتكزات الأساسية السياسية والثقافية والأدبية التي كان يستند عليها ذلك التراث الهائل. وفي كتابة "المحاكاة" لم يكن يمارس، كما يلمح إلينا في عمل لاحق، احترافه فقط على الرغم من كل المعوقات: بل كان ينجز عملاً ثقافياً، وحضارياً حتى، وسرمدياً ذا أهمية قصوى. فالشيء الذي جازف به ما كان مجرد احتمال ظهوره في كتابته ضحلاً، متخلفاً عن العصر، مخطئاً وذا طموح سخيف (إذ من هو ذلك الإنسان ذو العقل السليم الذي يضطلع بعبء مشروع ضخم جداً ضخامة موضوع الأدب الغربي بأسره؟). ولقد جازف أيضاً، من الناحية الأخرى، باحتمال عدم الكتابة والوقوع بالنتيجة فريسة المخاطر الحقيقية للمنفى: أي انعدام النصوص والموروثات والتواصلات التي تشكل شبكة ثقافة ما. فالمنفي الأوربي يصبح، لدى انعدام الوجود الفعلي للثقافة كما تتمثل مادياً بالمكتبات ومؤسسات البحث ووجود كتب أخرى وباحثين آخرين، منبوذاً ومرتبكاً وبعيداً كل البعد عن الحس والأمة والمناخ.
وحين يختار أورباخ أن يذكر استانبول كمكان منفاه فإنه يضيف بذلك شحنة مأساوية أخرى على ظهور كتاب "المحاكاة" بشكل فعلي. فبالنسبة لأي أوربي متمرس أساساً بالآداب الرومانية زمن القرون الوسطى وزمن الانبعاث الحضاري، بالشكل الذي كانه أورباخ، فإن استانبول لا تجسّد ضمناً مكاناً خارج أوربا بتلك البساطة وحسب. فاستانبول تمثل التركي المرعب، والإسلام أيضاً، أي بعبع الديار المسيحية والرمز المجسّم لتلك الردة الدينية المشرقية الكبيرة. لقد كانت تركيا، طيلة العصر الكلاسيكي للثقافة الأوربية، هي المشرق كله ممثلاً بالإسلام العدواني المروّع(6). بيد أن هذا لم يكن كل شيء. فالمشرق والإسلام كانا يمثلان أقصى درجات الغربة عن أوربا ويمثلان التصدي لأوربا والموروث الأوربي المتجسد باللاتينية المسيحية، فضلاً عن التصدي للسلطة المزعومة للكنيسة والمنزع الإنساني في التعليم والجماعة الثقافية الواحدة. لقد بقيت تركيا والإسلام، طيلة قرون وقرون، سيفاً مصلتاً على أوربا كوحش مركب عملاق يهدد أوربا بالدمار، إن وجود منفي أوربي في استانبول وقت الفاشية في أوربا كان يعني شكلاً صارماً ومهيلاً جداً من أشكال النفي عن أوربا.
ومع ذلك فإن أورباخ يكشف علانية سر تلك المفارقة التي مفادها أن بعده بالتحديد عن موطنه -بكل المعاني التي تنطوي عليها هذه العبارة- هو الشيء الذي أتاح له فرصة ذلك الإنجاز الرائع لكتاب "المحاكاة". فكيف تراه انقلب المنفى من تحد أو مخاطرة، لا بل ومن صدمة عنيفة لذاته الأوربية، إلى مهمة إيجابية، ومهمة سيكون نجاحها عملاً ثقافياً ذا أهمية فائقة؟
إن الجواب على هذا السؤال موجود في المقالة التي كتبها أورباخ في خريف حياته بعنوان "فيلولوجيا الأدب العالمي". فالقسط الأكبر من هذه المقالة يحبك تلك الفكرة التي ظهرت على أوضح ما يكون للوهلة الأولى في كتاب "المحاكاة"، والتي من الممكن تقديرها سلفاً في الاهتمام الباكر الذي أولاه أورباخ لفيكو، ومفادها أن العمل الفيلولوجي يتعامل مع الإنسانية جمعاء ويتخطى الحدود القومية. فكما يقول: "إن موطننا الفيلولوجي هو المعمورة، إذ لم يعد بوسعه البقاء ضمن إطار الأمة". ولكن مقالته تبين أن موطنه الدنيوي هو الثقافة الأوربية. بيد أنه، وكأنما يتذكر اقتلاعه من جذوره الأوربية ومنفاه في المشرق، يضيف قائلاً: "إن أثمن قسط من إرث الفيلولوجي، والقسط الذي لا غنى عنه، لا يزال يكمن في إرث وثقافة أمته ذاتها. وإن عمله لن يكون مجدياً قولاً وفعلاً إلا حين ينفصل أولاً عن هذا الإرث ومن ثم يتخطاه"(7) وهكذا فابتغاء التوكيد على القيمة المستحبة التي تكمن في الانفصال عن الموطن يستشهد أورباخ بفقرة مما يقوله هوغو في كتاب "التهذيب" للقديس فيكتور-:
ولذلك فإن مصدراً عظيماً من مصادر الفضيلة بالنسبة للذهن المتمرس هو أن يتعلم بادئ ذي بدء، ورويدا رويداً، تبدل موقفه من الأشياء المنظورة والعابرة كي يتمكن لاحقاً من أن يخلفها كلها وراءه. فالإنسان الذي يرى موطنه أثيراً على نفسه هو إنسان غفل طري العود، والإنسان الذي ينظر إلى أية تربة وكأنها تربة موطنه فهو إنسان قوي، وأما الإنسان الكامل فهو ذلك الإنسان الذي يرى العالم بأسره غريباً عليه. (إن النص اللاتيني بهذا الخصوص على أوضح ما يكون إذ يقول:
perfectus vero cui mundus totus exilium est).
وهذا هو كل ما يقتبسه أورباخ من هوغو، في حين أن بقية الفقرة تتواصل على المنوال نفسه:
إن صاحب النفس الوديعة يركز حبه على بقعة واحدة من العالم، في حين أن الإنسان القوي يوسع حبه كي يشمل الأمكنة كافة، ولكن الإنسان الكامل هو من يخمد جذوة حبه. وأنا معتاد منذ أيام الصبا على أن أقيم في بلاد غريبة، وإنني لأدرك عمق الحزن الذي يشعر به الذهن أحياناً لدى مغادرة الموقد الضيق في كوخ أحد الفلاحين، وأدرك أيضاً عمق الإزدراء الصريح الذي يكنّه الذهن للمواقد الرخامية وللقاعات المزدانة بألواح الخشب الفاخر(8).
إن أورباخ يقرن بين عقيدة هوغو حيال المنفى وبين فكرتي الفاقة والبلد الأجنبي (paupertass- terra aliena) ، على الرغم من أنه في الكلمات الأخيرة من مقالته يؤكد على أن شرعة التقشف الكامنة في التشرد المتعمد هي "وسيلة جيدة أيضاً للإنسان الذي يتمنى أن يحظى بحب لائق للعالم". وهكذا فعند هذه النقطة تتجلى خاتمة أورباخ في كتاب "المحاكاة": "من الممكن تماماً أن يكون الكتاب مديناً بوجوده لنفس هذا النقص المتمثل بانعدام وجود مكتبة غنية ومتخصصة". وبكلمات أخرى كان الكتاب مديناً بوجوده لنفس تلك الحقيقة التي مفادها أن المنفى والتشرد كانا في المشرق لا في المغرب الأوربي. ولئن كان الواقع على هذا النحو فإن كتاب "المحاكاة" نفسه لن يكون كما كان الظن فيه مراراً وتكراراً، مجرد توكيد للتراث الثقافي الغربي وحسب، وإنما سيكون أيضاً عملاً مبنياً على اغتراب هام وحقيقي عن ذلك التراث، وعملاً لا يستمد شروط وظروف وجوده مباشرة من تلك الثقافة التي يصفها بمثل ذلك النوع من التبصر والألمعية النادرين، بل يستمدها على الأرجح من ابتعاد معضل عنها. وعلاوة على ذلك يشتط أورباخ إلى حد القول، كما يروي لنا في فصل سابق من فصول "المحاكاة"، بأنه لو حاول القيام بعمل دراسي كامل وبالطريقة التقليدية لما كان بمقدوره أن يكتب ذلك الكتاب: إذ لكانت الثقافة نفسها، بمؤسساتها الرسمية والمأذونة، قد منعت إقدام رجل واحد على إنجاز مهمة بهذه الجسارة. فمن هنا جاءت القيمة التنفيذية للمنفى، تلك القيمة التي استطاع أورباخ تحويلها واستغلالها لتنفيذ عمل مجد.
وهيا بنا الآن نعيد النظر بفكرة المكان، تلك الفكرة التي تمكن من خلالها إنسان مثل أورباخ أن يشعر في استانبول، طيلة فترة تبعده عن مكانه الطبيعي، بأنه بعيد عن مكانه ومنفي ومتغرب، إن أقرب وصف للمكان قد يحدده على أنه الأمة، إذ أن فكرة الأمة، أي فكرة جماعة ثقافية قومية ككينونة ذات سيادة وذات مكان محدد قبالة غيره من الأمكنة الأخرى، تحظى بالتأكيد بأكمل درجات التحقيق في تلك الحدود الشاسعة المرسومة بين أوربا والمشرق- ألا وهي تلك الحدود الحافلة بموروث طويل وتعيس في أغلب الأحيان في الفكر الأوربي(9). ولكن فكرة المكان هذه لا تغطي الفروق الدقيقة القائمة بالأساس بين التوكيد والتلاؤم والانتماء والتوحد والتجمع، أي كل ما ينجم عن عبارة "في الموطن، أو في المكان المناسب".
وفي هذا الكتاب سوف أستخدم كلمة "ثقافة" للإِشارة إلى بيئة وعملية وهيمنة مطمور فيها الأفراد (في ظروفهم الخاصة) وأعمالهم، فضلاً عن أنهم في الوقت نفسه تحت المراقبة من فوق بواسطة البنية الفوقية، ومن تحت بواسطة سلسلة كاملة من المواقف الميثودولوجية.
ولذلك ففي الثقافة وحدها نستطيع العثور على كل سلسلة المعاني والأفكار التي تنقلها لنا عبارات من أمثال "الانتماء إلى مكان، أو في مكان مناسب، وكون المرء في موطنه وفي مكانه المناسبين".
إن فكرة الثقافة لفكرة فضفاضة بالطبع. ولكن الثقافة، ككتلة منهجية ذات دلالة سياسية واجتماعية وتاريخية أيضاً، فضفاضة بدورها كفكرتها، والدليل على ذلك يقوم في معجم كروبر كلوكون عن معاني كلمة الثقافة في ميدان علم الاجتماع(10). بيد أنني سأتفادى ذكر تفاصيل هذه المعاني المتكاثر بعضها من بعض، وأكتفي بالتطرق مباشرة إلى ما أظنه يخدم أهدافي هنا على أفضل ما يرام. فالثقافة يتم استخدامها، في المقام الأول، لا لتحديد الشيء الذي ينتمي إليه المرء وحسب، وإنما لتحديد الشيء الذي يمتلكه المرء، ناهيك عن تحديدها أيضاً، فضلاً عن عملية الامتلاك السالفة الذكر، ذلك الحد الفاصل الذي تحتدم عليه معركة ضارية بين مفهوم الشيء الدخيل على الثقافة ومفهوم الشيء الذي من صلبها هي، فهذه الأشياء ليست مثار جدل البتة: إذ إن معظم الناس الذين يستغلون مقولة الثقافة يوافقون عليها ولا بد، مثلما يوافق عليها أورباخ في خاتمة كتابه حين يتحدث عن وجوده في استانبول بعيداً عن بيئته الثقافية المألوفة. بعيداً عن صلب مواد البحث والبيئة المعتادة.
ولكن، في المقام الثاني، هنالك بعد أكثر تشويقاً لفكرة الثقافة هذه ألا وهو تملكها الامتلاك، أي بما معناه أن الثقافة بمقدورها، بفضل موقعها الرفيع أو السامي، أن تجيز وتهيمن وتحلّل وتحرّم، وأن تخفض منزلة شيء ما أو أن ترفع من مقامه، الأمر الذي يعني بوجيز العبارة: قدرة الثقافة على أن تكون وسيلة، أو ربما الوسيلة الأساسية، للإتيان بالتمييز القاطع في قلب مضمارها هي وفيما خلف ذلك المضمار أيضاً، فهذه الفكرة هي الفكرة الجلية في الاستشراق الفرنسي، على سبيل المثال، كشيء متميز عن الاستشراق الانكليزي، وهذا بدوره يلعب دوراً رئيسياً في عمل إيرنست رينان ولويس ماسينون وريموند شواب الذين يمثلون أكابر الباحثين، والذين سيكون عملهم موضع التقويم في الجزء الأخير من هذا الكتاب.
وحين يتحدث أورباخ عن عدم قدرته على كتابة كتاب مثل "المحاكاة" لو أنه بقي في أوربا، فإنه يشير بالتحديد إلى تلك الشبكة المتصالبة المتألفة من تقنيات البحث ومن القوانين الأخلاقية- وهي الشبكة التي من خلالها تفرض الثقافة السائدة على الباحث الفرد قوانينها المتعلقة بكيفية إجراء الدراسة الأدبية. ومع ذلك فحتى هذا النوع من الفرض ليس إلا مظهراً ثانوياً من مظاهر قدرة الثقافة على السيطرة على العمل وعلى تجويزه. وأما الشيء الأهم في الثقافة فهو أنها منظومة من القيم التي ترشح إلى تحت كي تغمر بقطراتها كل شيء تقريباً ضمن نطاقها هي، وإلى حد البلل. ولكن المفارقة العجيبة تكمن في أن الثقافة تتحكم من فوق دون أن تكون، في الوقت نفسه، متاحة لأي شيء ولأي إنسان تتحكم به. وواقع الحال في عصرنا هذا، عصر المواقف المتأنية عن وسائل الإعلام، أن الإصرار الإيديولوجي، الذي تصر عليه هذه الثقافة أو تلك لاستقطاب الانتباه إليها على أنها سامية قد حل به الوهن وحلّت محله ثقافة صارت قوانينها ومعاييرها خفية إلى ذلك الحد الذي صارت تبدو فيه بأنها "طبيعية وموضوعية وحقيقية".
إن المرء ليفترض، من منطلق تاريخي، أن الثقافة كانت دائماً تعني ضمناً التسلسلات الهرمية وذلك لأنها عزلت الخاصة عن العامة، الأمير عمن هم أقل تميزاً وهكذا دواليك.
وعلاوة على ذلك فقد جعلت بعض الأساليب والأنماط الفكرية تطغى على ما عداها. ولكن توجهها كان على الدوام يتمثل بالتحرك إلى تحت من ذروة القوة والتميز كي تنثر وتنشر وتوسع نفسها على أوسع نطاق ممكن. فالثقافة في شكلها النفعي هي تلك الثقافة التي يتحدث عنها ماثيو آرنولد في كتابه المعنون بـ "الثقافة والفوضى". باعتبارها تثير في أشياعها حماسة متقدة:
إن جهابذة الثقافة هم أولئك الرجال المتحمسون لنشر أفضل معلومات وأفضل أفكار زمانهم، ولتيسير سيادتها ونقلها من هذا الطرف في المجتمع إلى ذاك، وهم أولئك الرجال المجتهدون لتشذيب المعرفة من كل ما كان فظاً سقيماً عسيراً عويصاً احترافياً ومنّاعاً، بغية إضفاء مسحة إنسانية عليه وجعله مجدياً خارج إطار زمرة المصقولين والمتعلمين شريطة استبقائه بين أفضل معلومات وأفكار الزمان [هذا هو بالتأكيد التعريف الذي ساقه آرنولد للثقافة] وجعله، من ثم، مصدراً حقيقياً للطلاوة والنور.(11)
· إن السؤال الذي تطرحه هنا حماسة آرنولد للثقافة هو العلاقة بين الثقافة والمجتمع فهو يحاول أن يبرهن على أن المجتمع هو الأساس المادي والفعلي الذي تحاول الثقافة أن توسع هيمنتها عليه من خلال جهابذة الثقافة. ولذلك فإن العلاقة المثلى بين الثقافة والمجتمع ما هي إلا علاقة تطابق يغطي الأول فيها الثاني. بيد أن الأمر الذي يتجاهله قراء آرنولد مراراً وتكراراً هو أن آرنولد يتصور هذا الطموح الذي تطمح إليه الثقافة لبسط هيمنتها على المجتمع إن هو بالأساس إلا طموح ديدنه الصراع: أي أن أفضل المعلومات وأفضل الأفكار عليها أن تتبارى مع كل الإيديولوجيات والفلسفات والعقائد والتصورات والقيم المتضاربة فيما بين بعضها بعضاً، علاوة على أن التبصر الذي كان لدى آرنولد كان مؤاده أن الشيء الذي يحدق به الخطر في المجتمع ليس مجرد صقل الأفراد، أو تطوير زمرة من الإحساسات المرهفة، أو بعث الاهتمام بالآداب الكلاسيكية، وإنما كان إحكام الهيمنة المطلقة، بعد نوالها والظفر بها، لزمرة من الأفكار المتماثلة التي يدعوها آرنولد توقيراً لها بالثقافة، على غيرها من الأفكار الأخرى في المجتمع.
ومع ذلك فالشيء الذي لا يزال على صلة وثيقة بالموضوع هو توجيه السؤال إلى آرنولد عن مكان حدوث هذا الصراع من أجل الهيمنة. فإذا قلنا بأنه يحدث في المجتمع نكون قد اقتربنا من الجواب، على ما أظن، ولكن يبقى علينا أن نحدد مكانه في المجتمع، وقصارى القول فإن اهتمام آرنولد يدور حول مجتمع محدد إجمالاً على أنه، مثلاً، أمة -إنكلترا، فرنسا، ألمانيا، ولكن الأكثر إمتاعاً من هذا هو أن آرنولد يتصور المجتمع على ما يبدو وكأنه عملية ولربما كينونة عرضة للانقياد والهيمنة، لا بل وللاقتناص أيضاً، وإن ما كان يفهمه آرنولد على الدوام هو أن المرء حين يكون قادراً على تسليط مجموعة أو منظومة من الأفكار المدعوة "بالثقافة" على المجتمع يعني أن يكون ذلك المرء قد أدرك أن المراهنات التي يراهن عليها هي تشبّه المجتمع بالثقافة، وبالتالي احتياز سلطة مرعبة جداً. ولذلك ليس من باب المصادفة في شيء أن يلزق آرنولد، في خاتمة كتابه "الثقافة والفوضى"، الثقافة المظفرة بالدولة، ما دامت الثقافة هي أفضل ذات المرء والدولة تحقيق لتلك الذات في الواقع المادي. وهكذا فإن قوة الثقافة ليست، على نحو كامن، بأقل من قوة الدولة في شيء. وإن آرنولد ليس على أي شيء من الغموض حيال هذه النقطة إذ إنه يتحدث، أول ما يتحدث، عن معارضته المطلقة لأمور من أمثال "الإضرابات والمظاهرات، كائناً ما كان نبل القضية، وبعدئذ يمضي قدماً ليبرهن على أن مثل هذه "الفوضى" ، كالإضرابات والمظاهرات، تتحدى سلطة الدولة التي شأنها، أخلاقياً وسياسياً وجمالياً، شأن الإضرابات والمظاهرات:
إن الدولة التي يكون فيها القانون حازماً وآمراً، تكون المسيرة الراسخة والمستقرة للنظام العام شرطاً لازماً كي يحقق المرء النضج لكل ما هو ثمين ودائم الآن، أو كي يوطد الأسس لكل ما هو ثمين ودائم في المستقبل.
ولذلك فنحن نرى أن إطار الدولة ونظامها الخارجي، كائناً من يكون الإنسان الذي يدير الدولة، شيء واحد مقدس، وبناء على ذلك فإن الثقافة من ألدّ أعداء الفوضى، بالنظر لتلك الآمال والمخططات التي ترعاها الدولة، والتي تعلمنا الثقافة أن نرعاها أيضاً.
إن التواكل في ذهن آرنولد بين الثقافة، أي السيادة الراسخة للثقافة على المجتمع (كل ما هو ثمين ودائم)، وبين إطار الدولة ونظامها الخارجي شبه اللاهوتي، أمر واضح تماماً، وهذا التواكل يوحي بتطابق السلطة تطابقاً تواظب على حبكه بلاغة آرنولد وتفكيره. فلكي يكون المرء مع الثقافة وفيها، يعني أن يكون في الدولة ومعها بطريقة ولاء قسري. ومع هذا التشابه، تشابه الثقافة مع الإطار الخارجي للدولة، تأتي ثمة أشياء أخرى كالثقة والعهد وحس الأكثرية وكل شبكة المعاني التي نقرنها بعبارة "الموطن" والانتماء والجماعة. فخارج سلسلة هذه المعاني- وذلك لأن الخارج هو ما يحدد الداخل في هذه الحالة- تقف الفوضى والمحرومون ثقافياً شرعاً، أي تلك العناصر التي تعارض الثقافة والدولة: ألا وهم المشردون، بمنتهى الاختصار.
ليس في نيتي هنا أن أبحث بالتفصيل تلك المضامين التي تنطوي على أهمية قصوى، والتي تتجلى في التعليقات الختامية لآرنولد على الثقافة. ولكن من الجدير بنا أن نصرّ، على الأقل، على بعض تلك المضامين في إطار أعرض من الإطار الذي وضعها فيه آرنولد. فحتى لو كانت الثقافة هي المثل الأعلى بالنسبة لآرنولد، يجب النظر إليها بنفس هذا المنظار من أجل الشيء الذي ينتفي منها ومن أجل الشيء الذي تنتصر عليه حين تكون موضع تقديس الدولة ومن أجل حقها بذلك التقديس حين تكون واقعية. وهذا يعني أن الثقافة عبارة عن منظومة من التمييزات والتقويمات- الجمالية أساساً على الأرجح- كما قال ليونيل تريلينغ، بيد أنها ليست أقل قهراً ولذلك السبب نفسه(13) لأن شريحة من الدولة تكون قادرة على التشبه بها، كما يعني أن الثقافة عبارة عن منظومة من النفايات المشترعة من الأعلى ولكن قوانينها مسنونة من خلال جماعتها السياسية، وبتلك المنظومة يمكن رصد أمور من أمثال الفوضى والشغب واللاعقلانية والدونية والذوق السقيم واللا أخلاقية، ويمكن نبذها واستبقاؤها هناك بواسطة سلطة الدولة ومؤسساتها.
إذ لو صحّ القول بأن الثقافة، من ناحية أولى، هي العقيدة الإيجابية لأفضل ما يستخلصه الفكر ويعرفه، فهي أيضاً من ناحية أخرى بمثابة العقيدة السلبية التفاضلية لكل ما ليس بأفضل.
ولئن كنا قد تعلمنا مع ميشيل فوكو أن ننظر إلى الثقافة نظرتنا إلى سيرورة متشحة بالمؤسسات، وسيرورة تستبقي مناسباً كل ما تراه مناسباً لها، فقد رأينا فوكو أيضاً وهو يبين كيف أن آخريات معينة، آخرين معينين، قد استبقوا صامتين، خوارج، أو استبقوا -في الحالة التي درس فيها قانون العقوبات والكبت الجنسي- مدجنين لصالح الاستعمال في قلب الثقافة.
وحتى لو رغبنا بتفنيد كل ما وجده فوكو من النفايات التي نفتها الثقافة الأوربية الكلاسيكية لكل ما وسمته قانونياً بالمعتوه أو اللاعقلاني، وحتى لو لم نقتنع بأن الموقف المتناقض الذي وقفته تلك الثقافة من مسألة الجنس بتشجيعه وكبته في آن واحد معاً كان موقفاً معمماً بالشكل الذي يتصوره فيه فوكو، فإننا سوف نقتنع ولا بد بأن جدلية تحصين الذات وتوكيد الذات التي تحقق من خلالها الثقافة هيمنتها على المجتمع والدولة، لهي جدلية معتمدة عل تلك الممارسة الدائمة التي تمارسها الثقافة لعزل ذاتها عن كل ما تتصوره لا يمت بصلة إلى ذاتها هي. وأما الأسلوب الذي يتم به هذا العزل فهو على الدوام وضع الثقافة المدعومة فوق الآخر. وهذه المقولة ليست بأي حال من الأحوال مقولة ميتافيزيقية كما سيدل على ذلك للتو مثلان إنكليزيان من أمثلة القرن التاسع عشر. وهذان المثلان كلاهما على علاقة بالتعليق الذي سقته من قبل عن أورباخ، ألا وهو أن الثقافة عليها أن تتعامل بحس عدواني لصالح الأمة والوطن والجماعة والانتماء. فالمثل الأول موجود في محضر جلسة رسمية لماكولي في عام 1835 عن التربية الهندية إذ يقول:
ليس لي أية معرفة لا بالسنسكريتية ولا بالعربية، ولكنني فعلت ما بوسعي لتكوين تقويم دقيق لقيمة كل منهما. لقد قرأت ترجمات لأشهر الأعمال العربية والسنسكريتية. ولقد تحادثت، هنا وفي الوطن، مع أناس متميزيين بكفاءاتهم في اللغات الشرقية. وإنني على استعداد للنظر إلى التعليم الشرقي بالتقويم الذي جاء به المستشرقون أنفسهم. بيد أنني ما وجدت واحداً منهم بمقدوره أن يدحض حقيقة كون رف واحد من مكتبة أوربية جيدة يساوي كل الأدب المحلي للهند والجزيرة العربية. إن السمو الجوهري للأدب الغربي محط الإقرار التام فعلاً من قبل أولئك الأعضاء الذين يشكلون اللجنة والذين يدعمون الخطة الشرقية في التعليم.... وليس من المبالغة أن نقول أن كل المعلومات التاريخية المجموعة في اللغة السنسكريتية أقل قيمة مما قد يوجد في تلك الملخصات المبتذلة والمستخدمة في المدارس الإعدادية في إنكلترا، وفي كل فرع من فروع الفلسفة الأخلاقية والمادية نجد أن المكان النسبي لهاتين الأمتين هو نفسه تقريباً.(14)
إن هذا القول ليس مجرد تعبير عن رأي وحسب. لا، ولا يمكن استبعاده، كما استبعد ديريدا في كتابه grammatology ليفي شتراوس، كشاهد نصي عن التشرنق العرقي. وإن ذلك القول، في الواقع، لدليل على التشرنق العرقي بل وعلى أكثر من ذلك لأن رأي ماكولي ما هو إلا تصور غارق في صميم التشرنق العرقي وذو نتائج مؤكدة. إذ إن ماكولي كان يتحدث من موقع السلطة حيث كان بوسعه ترجمة تصوراته إلى قرار يأمر سكان شبه قارة بأسرها أن يذعنوا للدراسة بلغة غير لغتهم الأم.
وهذا ما حدث في حقيقة الأمر. وهذا الموقف بدوره ما عزز لدى الثقافة أمام نفسها مشروعية تصرفها من جراء توفيره سابقة، وواقعة، جرتا الشعور بالتفوق والقعود في دست السلطة إلى الانغمار في كل من بلاغة الانتماء، أو الكينونة "في الوطن" إن جاز التعبير، ومن بلاغة الإدارة ايضاً: كي تحل الواحدة منهما محل الأخرى بمنتهى البداهة.
وثمة مثل ثان يتعلق بالهند أيضاً. فحين تناول بالدراسة إيريك ستوكس، بحدة ذهن تستحق الإعجاب، أهمية الفلسفة النفعية للحكم البريطاني في الهند، يتعجب المرء في كتاب ستوكس المعنون بـ "النفعيون الإنكليز والهند" من الكيفية التي تتمكن بها زمرة قليلة من المفكرين نسبياً –من بينها بينتام بالطبع والثنائي ميل- من الإتيان بالحجج لتعزيز مذهب فلسفي واستكماله لحكم الهند، مذهب ينطوي في بعض جوانبه على تشابه لا يرقى إليه الشك مع آراء آرنولد وماكولي في الثقافة الأوربية من أنها أسمى من كل ما عداها. فها هو جون ستيوارت ميل يحتل اليوم بين (نفعيي البيت الهندي) منزلة ثقافية مرموقة إلى الحد الذي جعل آراءه عن الحرية والحكومة التمثيلية تدور على ألسنة أجيال وأجيال على أنها المقولة الثقافية الليبرالية المتطورة حول هذه القضايا. ولكن عن ميل كان على ستوكس أن يقول ما يلي:"لقد أفاد جون ستيوارت في كتيبه [عن الحرية] قائلاً بدقة متناهية أن مبادئ الحرية مقصود تطبيقها حصراً على تلك البلدان التي تطورت تطوراً كافياً في مضمار الحضارة ليكون بمقدورها تسوية شؤونها بالبحث العقلاني. وعلاوة على ذلك كان مخلصاً لأبيه في تشبثه بالاعتقاد أن الهند ما كان بالإمكان حكمها وقتذاك إلا بشكل استبدادي. ولكن على الرغم من أنه كان يرفض، هو نفسه، تطبيق تعاليم الحرية والحكومة التمثيلية في الهند، فإن حفنة ضئيلة من الليبراليين الراديكاليين وجمهرة متكاثرة من المثقفين الهنود لم يضعوا أمثال هذه القيود.(15) إن لمحة خاطفة على آخر فصل في الحكومة التمثيلية- ناهيك عن التطرق إلى المقطع الوارد في المجلد الثالث من مقالات وبحوث حيث يتحدث عن تغييب الحقوق بالنسبة للبرابرة- توضح بمنتهى الجلاء رأي ميل اذي قال فيه أن ما كان عليه أن يقوله عن هذا الأمر لا يمكن تطبيقه بالفعل على الهند، والسبب بالأساس أن رأي ثقافته بحضارة الهند هو أنها لم تكن وقتها قد بلغت بعد درجة التطور المطلوب.
إن تاريخ الفكر الغربي بأسره إبان القرن التاسع عشر مليء بأمثال هذه التخرصات والتمييزات بين ما هو مناسب لنا وما هو مناسب لهم، إذ إن الأُول مصنفون بأنهم في الداخل، في المكان الصحيح، مألوفون، منتمون، وباختصار فهم فوق، والمثاني مصنفون على أنهم في الخارج، ثنوى، شواذ، تبّع، وباختصار فهم تحت. فمن هذه التمييزات، التي حظيت بسطوتها من خلال الثقافة، ما كان بوسع أي امرئ أن يتفلت منها حتى ماركس- كما ستبين للتو قراءة مقالاته عن الهند والمشرق(16). إن الاسم الوطني الثقافي الكبير للثقافة الأوربية على أنها المعيار الممتاز حمل معه زمرة مرعبة من التمييزات بين ما لنا وما لهم، بين الملائم وغير الملائم، وبين الأوربي وغير الأوربي، وبين الأعلى والأدنى: فهذه هي التمييزات التي يقع عليها المرء في أي مكان في موضوعات وأشباه موضوعات من أمثال علم اللغة والتاريخ ونظرية العرق والفلسفة والأنتروبولوجيا، لا بل وحتى البيولوجيا. ولكن السبب الرئيسي لمجيئي على ذكر هذه الأمور هنا يكمن في الإشارة إلى أنه في نقل ثقافة ما ودوامها هناك عملية متواصلة من التعزيز، من خلالها تضيف الثقافة السائدة إلى نفسها الامتيازات المقصورة عليها والمتأتية لها من جراء إحساسها بالهوية الوطنية، بقوتها كأداة بيد الدولة، أو حليف لها أو فرع منها، بصواب موقفها، بمظاهرها الخارجية وتوكيداتها لذاتها، والأهم من هذا كله إحساسها بمبرر قوتها كمنتصر على كافة الأشياء التي لاتمت لها بأية صلة.
وما من سبب يدعو للشك في أن الثقافات كلها تتحرك بهذه الطريقة، وما من سبب يدعو للشك في أنها كلها عموماً تميل إلى تحقيق الظفر من خلال تعزيز هيمنتها. ومن الجدير بالذكر أنها كلها تعزز هيمنتها بطرق شتى وبمنتهى الوضوح. وإنني لأعتقد أن صحيح القول يكمن في أن بعضها أكثر فاعلية عملياً من الأخريات حين يتعلق الأمر ببعض الأنواع الخاصة بالأعمال البوليسية. بيد أن هذا الواقع من اختصاص علماء الأنتروبولوجيا المقارنة، وليس ميداناً جديراً بالمغامرة هنا للإتيان بتعميمات عريضة عليه. فمثار اهتمامي هو الإشارة إلى أن الثقافة إن كانت تمارس أنواع الضغط الذي جئت على ذكره، وإن كانت تخلق المناخ، لا بل والجماعة التي تتيح للناس الشعور بالانتماء، عندها إذاً يجب أن يكون صحيحاً أيضاً أن مقاومة الثقافة كانت موجودة على الدوام. وفي أغلب الأحيان تتخذ تلك المقاومة شكل العداء الصريح لأسباب دينية أو اجتماعية أو سياسية (وثمة مظهر واحد من مظاهر هذا العداء موصوف على نحو جيد بقلم إيريك هوبزبوم في كتابه "الثوار البدائيون"). ولقد جاء هذا العداء على الأغلب من أفراد أو مجموعات أعلنت عنهم الثقافة جهاراً أنهم من خارج إطارها أو أنهم من مستوى أدنى منها (والسلسلة هنا واسعة بالطبع، من كبش الفداء الشعائري وصولاً إلى النبي المعزال، ومن المنبوذ اجتماعياً إلى الفنان الحاكم، ومن الطبقة العاملة إلى المفكر المتغرب). وهنالك شيء كبير من الصدق في قناعة جوليان بيندا بأن المثقف أو المتعلم (clerc) ، كان بطريقة أو أخرى هو الذي يجسّد القيم والأفكار والفعاليات التي تتسامى وتعترض سبيل العبء الاجتماعي المفروض من قبل الدولة القومية وثقافتها الوطنية.
ومن المؤكد أن ما يقوله بيندا عن المثقفين (المسؤولين عن التصدي بطرق مقصورة على مهنة الثقافة وحدها) يتماشى تماماً مع شخصية سقراط بالشكل الذي تبدو فيه في "محاورات أفلاطون"، أو مع معارضة فولتير للكنيسة، أو مع فكرة غرامشي، الأحدث عهداً، عن المثقف الدستوري المتحالف مع طبقة صاعدة ضد هيمنة طبقة حاكمة. فحتى آرنولد يتحدث عن "الأغراب" في كتاب "الثقافة والفوضى" ويصفهم بأنهم أولئك "الأشخاص المنقادون أساساً، لا بروحهم الطبقية، بل بروح عمومية رحيمة، وهي الروح التي يربطها مباشرة بثقافة مثالية ولا يربطها، على ما يبدو، بتلك الثقافة التي زاوج لاحقاً بينها وبين الدولة. وأما من الناحية الأخرى فإن بيندا مخطئ بالتأكيد حين يعزو الكثير جداً من القوة الاجتماعية للمثقف المعزال الذي تأتيه القوة، وفقاً لما يقوله بيندا، من صوته المنفرد ومن معارضته للمشاعر الجماعية المنظمة. ولكن إذا سلمنا جدلاً أن المصير التاريخي لمشاعر جماعية من أمثال "بلدي مصيب أو مخطئ، ونحن بيض ولذلك ننتمي إلى عرق أسمى من عرق السود، وأن الثقافة الأوربية أو الإسلامية أو الهندوسية أسمى من كل الثقافات الأخرى" هو المسؤول عن تخشين الفرد وتوحيشه، قد يكون عندئذ من الصحيح أن الوعي الفردي المنعزل، المعارض للبيئة المحيطة والمتحالف مع الطبقات والحركات والقيم المناوئة، هو صوت معزول وخارج المكان الصحيح ولكنه حيز كبير جداً من ذلك المكان وواقف بمنتهى الوعي ضد العقيدة السائدة لمناصرة مجموعة من القيم المعروفة جهاراً بأنها عمومية أو رحيمة، ومجموعة تذكي مقاومة محلية هامة ضد هيمنة ثقافة واحدة. وواقع الحال يدل أيضاً على أن المثقفين، وبموافقة كل من بيندا وغرامشي، مفيدون غاية الفائدة في تفعيل الهيمنة. وهذه الحقيقة ما هي بالطبع إلا خيانة المتعلمين المأمورين “Trahison de clercs” ، إذ إن مساهمتهم غير اللائقة في الوصول بالمشاعر السياسية إلى حد الكمال هي الشيء الذي يشكل بمنتهى الأسف نفس جوهر خيانتهم الجماعية المعاصرة. وأما بالنسبة لفكر غرامشي، الأكثر تعقيداً من سابقه، فإن مثقفين معينين مثل كروس جديرون بالدراسة (ولربما بالحسد) لأنهم جعلوا أفكارهم تبدو وكأنها تعابير عن إرادة جماعية.
وهذا كله يبين لنا، إذاً، وضع الوعي الفردي في صميم نقطة حساسة، علاوة على أن هذا الوعي في تلك النقطة الحساسة هو ما يحاول استكشافه هذا الكتاب وبالشكل الذي أدعوه فيه بالنقد. فالعقل الفردي يدوّن، من ناحية أولى، جماعية الكل أو البيئة أو الموقف الذي يجد نفسه فيه وهو على أتم إدراك بذلك. ومن ناحية ثانية، ونظراً لهذا الإدراك بالتحديد- أي وضع الذات في موضع دنيوي، رد فعل حاس تجاه الثقافة المهيمنة- فإن الوعي الفردي ليس مجرد طفل للثقافة بكل بداهة وبساطة، ولكنه فاعل فيها اجتماعياً وتاريخياً. وبسبب تلك النظرة، التي تقدم الظرف والتمايز في المكان الذي لم يكن فيه من قبل سوى المجاراة والانتماء، هنالك مسافة، أو ذلك الشيء الذي يمكننا دعوته بالنقد فمعرفة التاريخ وإدراك أهمية الظرف الاجتماعي وقدرة تحليلية على الإتيان بالفروق: هي الأمور التي كلها تقض مضاجع السلطة شبه الدينية مخافة أن تجد لها مراحاً داخل الوطن وبين ظهرانيي الشعب، وأن تتعزز من قبل قوى معروفة وقيم مستحبة، وأن تتحصن ضد العالم الخارجي.
ولكن اسمحوا لنا الآن، ومن باب التكرار، أن نقول: أن الوعي النقدي جزء من عالمه الاجتماعي الفعلي وجزء من تلك الكتلة الواقعية التي يستوطنها الوعي، وليس له بحال من الأحوال أي مهرب لا من هذا ولا من ذاك. فعلى الرغم من أن أورباخ، بالشكل الذي صورناه فيه، كان بعيداً عن أوربا فإن عمله مستنقع في واقع أوربا، شأنه بذلك تماماً شأن مساهمة ظروف منفاه الخاصة في نقوه أوربا نقاهة نقدية ملموسة. وهكذا فلنا في أورباخ مثل عن بنوته لثقافته الأم، ومثل في الوقت نفسه عن تبنيه لها بسبب المنفى، من خلال الوعي النقدي واستبحار العمل. وهكذا علينا الآن أن ننظر نظرة أدق إلى التعاون بين البنوة والتبني( )- ذلك التعاون الذي يستقر في صميم الوعي النقدي.
***
إن صلات البنوة والتبني وفيرة في التاريخ الثقافي الحديث. فثمة أنموذج قوي جداً ومثلث الأجزاء، مثلاً، يضرب بجذوره في مجموعة كبيرة جداً من كتاب مؤخر القرن التاسع عشر ومقدم القرن العشرين، حيث ترد فيه صورة عن عجز الحافز عن التوالد- عجز المقدرة عن إنجاب الأطفال أو استيلادهم- مصورة بتلك الطريقة التي تمثله على أنه حالة عامة ابتلي بها المجتمع والثقافة على حد سواء، ناهيك عن بلوى رجال ونساء معينيين. إن "يوليسيس والأرض القفر" مثالان مشهوران على وجه التخصيص، بيد أن هنالك دليلاً مماثلاً أيضاً يوجد في "ممات في البندقية، أو في مآل كل بني البشر، أو في وجود الغامض، أو في البحث عن الزمن المفقود، أو في أشعار مالارمي وهو بكينز"، علاوة على وجوده في معظم كتابات أوسكار وايلد وفي رواية "نوسترومو". وإذا أضفنا إلى هذه اللائحة السطوة الموثقة جداً لنظرية التحليل النفسي لفرويد، التي يسلّم جدلاً أحد أبرز وأهم جوانبها بكمون النتيجة القاتلة في حمل الأطفال، لتكون لدينا انطباع واضح بقلة عدد القضايا الشائكة والعويصة عموماً بمقدار ما ينطوي عليه ما كنا قد حسبناه على الأرجح بأنه مجرد تواصل طبيعي بين جيل وآخر. وحتى في عمل عظيم يعود فكرياً وسياسياً إلى عالم مختلف من عوالم الكتابة الرصينة -ألا وهو كتاب لوكاش المعنون بـ "التاريخ والوعي الطبقي"- تنطرح فيه الأطروحة نفسها تماماً ألا وهي مصاعب البنوة الطبيعية واستحالتها في خاتمة المطاف: وذلك لأن تصور التجسيد، كما يقول لوكاش، ما هو إلا تغرّب الرجال عمن ينجبون، وانسجاماً منه مع القساوة الصارمة والمطلقة لتصوره هذا فهو يعني بهذه المقولة أن كل نواتج العمل البشري، بما في ذلك الأطفال، تعيش حالة من البعزقة والعزلة المطلقة بعضها عن بعض، وبالتالي فهي مجمّدة ضمن فئة الأشياء الأنطولوجية وكأن المقصود بها أن تجعل حتى العلاقات الطبيعية شيئاً مستحيلاً عملياً.
فالأزواج العقيمون والأطفال اليتامى والولادات الجهيضة والعزاب من النساء والرجال الذين لا ينجبون يحتلون، بإصرار عجيب، عالم العصرانية الرفيعة، وكلهم على الإطلاق يوحون بمصاعب البنوة(17). ولكن لا يقل أهمية عن هذا في نظري ذلك الجزء الثاني من الأنموذج الذي يمثل النتيجة المنطقية للجزء الأول، والذي يتمثل في الضغط لاستحداث طرائق جديدة، ومغايرة، لتصور العلاقات البشرية. فلئن كان التناسل البيولوجي في غاية العسر أو في غاية القبح، فهل هنالك طريقة أخرى يتمكن بها الرجال والنساء من خلق أواصر اجتماعية فيما بين بعضهم بعضاً كي تحل محل تلك العلاقات التي تربط بين أعضاء نفس الأسرة عبر الأجيال؟
وثمة جواب مثالي مطروح على لسان ت. س. إليوت في الفترة اللاحقة مباشرة لظهور قصيدة "الأرض القفر". فمثله الأعلى في تلك الآونة صار لانسيلوت أندروز، أي ذلك الرجل الذي يبدو نثره وأسلوبه التعبدي لإليوت يسموان على الأسلوب الشخصي حتى لواعظ مسيحي مثل (دون) الذي كان معروفاً بحماسته وفعاليته الشديدتين. وإن تلك النقلة السريعة التي ينتقلها إليوت من (دون) إلى أندروز، والتي تكمن على ما أظن خلف النقلة التي انتقلها إدراك إليوت من النظرة الدنيوية التي تطفح بها أشعاره في قصائد "بروفروك وجيرونشين والأرض القفر" إلى شعر التدين والهداية في "أربعاء الرماد وقصائد إيريال"، نراه يقول شيئاً يشبه مايلي: إن جدب الحياة العصرية وقفرها وعقمها لظاهرة تجعل من البنوة بديلاً لا يدركه العقل على الأقل، وبديلاً لا يمكن بلوغة على الأكثر. فالمرء ليس بوسعه أن يفكر في التواصل بلغة بيولوجية لأن هذا المنحى يمثل الافتراض الذي ربما حظي بالتوثيق السريع من خلال الفشل الحديث لأول زواج لإليوت، والذي حظي في الوقت نفسه من ذهن إليوت بالتطبيق على نطاق أوسع من سابقه بكثير(18). وأما البدائل الوحيدة الأخرى فقد بدا أنها متاحة من خلال المؤسسات والنقابات والجمعيات التي لم يكن وجودها الاجتماعي موثقاً بالبيولوجيا، بل بالعضوية فيها، وهكذا فإن لانسيلوت أندروز، بالنسبة لإليوت، يبلّغ بكتابته عن حضور الكنيسة الانكليزية حضوراً يطوق الأشياء كافة إذ إن "الكنيسة شيء ممثل لأسمى روح لإنكلترا في الزمان و... جوهرة الحنكة الإدارية الكهنوتية". فأندروز كان يتضرع إذاً، مع هوكر، إلى سلطة أسمى من البروتستانتية البسيطة.
فهذان الرجلان كلاهما كانا:
على قدم المساواة مع خصومهما الأوربيين وكان بمقدورهما السمو بكنيستهما إلى موقع أعلى من موقع الطائفة المحلية المنشقة. لقد كانا أبوي كنيسة وطنية وكانا أوربيين.
هيا وقارنوا بين موعظة أندروز وموعظة سيد أقدم منه، لاتيمير على سبيل المثال، فالفرق لا يكمن فقط في أن أندروز كان يعرف اليونانية، أو أن لا تيمير كان يخاطب جمهوراً أقل ثقافة بكثير، أو أن مواعظ أندروز موشاة بالتلميحات والاستشهادات. ولكن الفرق يكمن في أن لاتيمير، وهو واعظ هنري الثامن وإدوارد السادس، ليس أكثر من إنسان بروتستانتي، في حين أن صوت أندروز صوت رجل تقف من خلفه كنيسة منظورة منظمة، ورجل يتحدث مع السلطة القديمة والثقافة الجديدة.(19)
إن إشارة إليوت إلى هوكر وأندروز إشارة رمزية، بيد أن المقصود بها أن تكون مقترنة بقوة واقعية تماماً، شأنها بذلك شأن كلمة "مجرد" الثانية (لاتيمير مجرد إنسان بروتستانتي) التي هي توكيد من إليوت "للسلطة القديمة والثقافة الجديدة". فإذا لم تكن الكنيسة الانكليزية على علاقة بنوة مباشرة مع الكنيسة الرومانية ومنبثقة عنها، فإنها مع ذلك شيء أكثر من مجرد هرطقة محلية، وأكثر من مجرد يتيم يهذر بالاحتجاج. فما السبب يا ترى؟ والجواب أن أندروز والآخرين من أمثاله الذين صار إليوت الآن يقر بسلطتهم السابقة، والذين صار بمقدورهم تسخير السلطة الأبوية القديمة لخدمة بروتستانتي متمرد وثقافة وطنية، والعمل، بتلك الوسيلة، على خلق مؤسسة جديدة قائمة لا على الانحدار المباشر من سلالة ما بل على ما يمكننا دعوته، بكلام هجين، بالتبني الأفقي “horizontal affiliation” .
إن اللغة التي يتكلمها أندروز لا تعبر بمنتهى البساطة، بالنسبة لإليوت، عن الابتعاد المكروب عن أب والد محال استعادته الآن مثلما قد يشعر يتيم مهذار بالاحتجاج، بل إنها، على النقيض من ذلك، تتحول إلى لغة للتعبير عن شركة اتحادية -هي الكنيسة الإنكليزية- تأمر أشياعها بإبداء الاحترام والالتزام.
وثمة تغيير مماثل تماماً لهذا التغيير يطرأ على شعر إليوت. فالمتحدثون في ديوانيه "بروفروك وجيرونشين" علاوة على شخوص قصيدة "الأرض القفر" يعبرون بكل بساطة عن بلوى اليتم والتغرب، في حين أن شخوص "أربعاء الرماد والرباعيات الأربع" تتحدث باللغة العادية التي يتحدث بها سواهم من أتباع الكنيسة الإنكليزية، فالكنيسة، بالنسبة لإليوت، تقوم مقام الأسرة المفقودة التي يندبها في كل أشعاره الباكرة. لقد استكمل إليوت تحوله علانية بالطبع في كتابه المعنون بـ "بحثاً عن آلهة غريبة" الذي أعلن فيه بنوع من التحدي تقريباً عن عقيدة تنحو منحى الملكية والكلاسيكية والكاثوليكية التي تشكل كلها مجموعة من الارتباطات التي التزم بها إليوت خارج إطار نموذج البنوة (الجمهوري والرومانسي والمعارض) الذي منحته إياه حقائق منبته الأمريكي (والأجنبي).
فالتحول من البنوة إلى التبني “from filiation to affiliation” يوجد في أي مكان في الثقافة ويجسّد الشيء الذي يدعوه جورج سيميل بالسيرورة الثقافية العصرية التي بواسطتها "تستولد الحياة أنماطاً لها على الدوام"، أنماطاً ما أن تبرز إلى الوجود حتى "تطالب بشرعية تسمو على اللحظة، وشرعية عتيقة من نبض الحياة، وهذا السبب هو ما يجعل الحياة دائماً على تعارض كامن مع النمط"(20). ويخطر بالبال هنا (ييتس) في رواحه من استعراضات "عسل الذرية" إلى الأرواح "المتوالدة ذاتياً والساخرة من مغامرة الإنسان"-تلك الاستعراضات التي جعلها تصول وتجول في كتابه المعنون بـ "الرؤيا" وفق نظام تبني فسيح ابتكره لنفسه ولعمله. أو قد يخطر على البال بعض الكتاب، كما قال إيان واط عن معاصري كونراد، من أمثال لورانس وجويس وباوند الذين يقترحون علينا "قطع الصلات مع الأسرة والبيت والطبقة والوطن، ومع المعتقدات التقليدية كونها مراحل ضرورية لبلوغ الحرية الفكرية والروحية"، ومن ثم يطلب منا هؤلاء الكتاب "اللحاق بهم والانخراط في تلك المنظومات الأسمى [تبنيّاً] أو الخاصة التي تبنوها وابتكروها بكل ما فيها من أنظمة وقيم"(21). إن كونراد يبين لنا في أفضل أعماله عقم أمثال هذه المنظومات الخاصة ذوات الأنظمة والقيم (كالعالم الطوباوي الذي خلقه تشارلز وأميليا غولد في رواية نوسترومو، مثلاً)، ولكن كونراد اتخذ أيضاً لنفسه في حياته، وبشكل لا يقل عن معاصريه ( كما فعل إليوت وهنري جيمز)، الهوية الجديدة لإنسان مهاجر يتحول إلى رجل إنكليزي، وعلى الطرف الآخر من الطيف نجد لوكاش وهو يقترح علينا أن الوعي الطبقي وحده، وهو بحد ذاته شكل من أشكال العصيان الذي تتخذه محاولة التبني، هو ما قد يتمكن من اختراق تناقضات وبعزقات هذا الوجود المجسّم الذي يتمركز حوله النظام العالمي الرأسمالي الحديث.
إن الشيء الذي أصفه هو الانتقال من فكرة، أو إمكانية، واهنة عن القرابة إلى ذلك النظام التعويضي الذي، سواء أكان حزباً أو مؤسسة أو ثقافة أو زمرة من العقائد أو حتى رؤيا دنيوية، يوفر للرجال والنساء شكلاً جديداً من أشكال الصلة التي لا أزال أدعوها بالتقرّب والتي هي بمثابة منظومة جديدة في الوقت نفسه. وإذا نظرنا الآن إلى هذا النمط الجديد من التقرب الذي تتزيا به الصلة سواء بالشكل الذي نجده لدى كتاب محافظين كإليوت أو عند كتاب تقدميين كلوكاش، أو لدى فرويد ولو بطريقته الخاصة، فإننا نجد أن الهدف الواضح المتعمد من استخدام ذلك النظام الجديد هو إعادة ترسيخ بقايا نوع من السلطة المقرونة ماضياً بنظام القرابة. وهذا في النهاية هو الجزء الثالث من الأنموذج. وإن أتباع التحليل النفسي الفرويدي وفكرة لوكاش عن الحزب الطليعي ليسوا بأقل حماسة من سابقيهم للإتيان بما يمكن أن ندعوه بالسلطة المستعادة. فالهيئة الهرمية الجديدة، وحتى لو أنها جماعة أكثر مما هي هيئة، أو الجماعة الجديدة هي أعظم شأناً من أي مشايع أو عضو بأم عينه، مثلها مثل الأب الذي هو أعظم شأنا بفضل أقدميته من البنين والبنات، وهكذا فإن الأفكار والقيم والنظرة الدنيوية التجميعية المنهجية كلها، وقد استعادت شرعيتها جراء نظام التقرب الجديد، حملة سلطة أيضاً، والنتيجة كانت أن شيئاً مماثلاً لمنظومة ثقافية قد توطدت أركانه.
وهكذا فلئن كانت صلة القرابة قد تماسكت بعضها مع بعض بفعل روابط طبيعية وأشكال سلطوية طبيعية- أي ما مضمونه الطاعة والخوف والحب والاحترام وتصارع المؤسسات- فإن صلة التقرب الجديدة تحيل هذه الروابط إلى ما يبدو شكلاً من أشكال العلاقات الشخصية- كالوعي النقابي وإجماع الآراء والزمالة الجامعية والاحترام المهني والطبقة وهيمنة الثقافة لسائدة.
فمخطط القرابة يعود إلى شعاب من صلب الطبيعة وصلب "الحياة"، في حين أن التقرب يعود بالحصر إلى الثقافة والمجتمع.
ومما يجدر قوله عرضاً أن الشيء الذي بشّرت به عصبة جديرة بالاحترام من أساطين الأدب بخصوص العبور من القرابة إلى التقرب يوازي تلك التعليقات المماثلة التي وردت على ألسنة السوسيولوجيين ويدل على تطورات مشابهة في بنية المعرفة. ففكرة تونيز عن الانتقال "من المجتمع إلى الجماعة" يمكن التوفيق بكل بساطة فيما بينها وبين فكرة القرابة التي حل محلها التقرب. وإنني لأعتقد، وعلى نحو مماثل، أن الاعتماد المتزايد الذي يعتمده الباحث الحديث على زمرة صغيرة ومتخصصة من الناس في ميدانه أو ميدانها (كونه بحد ذاته نفس فكرة الميدان في حقيقة الأمر)، وأن الرأي السائد في الميادين من أن الموضوع البشري، الولاّد ذو أهمية أقل من أهمية القوانين والنظريات المتسامية على البشر، يلازمان تحول صلات القرابة الطبيعية إلى صلات تقرب منهجية. فضياع الموضوع، كما أشير إليه على العموم، ما هو أيضاً إلا، بطرق شتى، ضياع لحافز التوليد المنتج الموثق لصلات القرابة.
إن الأنموذج المثلث الأجزاء الذي جئت على وصفه- علاوة على عمليتي القرابة والتقرب بالشكل الذي رسمتهما به- يمكن اعتباره مثلاً عن العبور من الطبيعة إلى الثقافة، فضلاً عن اعتباره شاهداً عن الكيفية التي يتمكن فيها التقرب من أن يصبح بكل بساطة منظومة للفكر لا تقل هيمنة وصرامة عن الثقافة نفسها. فالشكل الذي أود أن أعرج للحديث عنه عند هذا المفصل هو آثار هذا الأنموذج بالشكل الذي عادت فيه بالضرر على دراسة الأدب في هذه الأيام، على الرغم من ابتعادنا الكبير عن باكورة سنوات قرننا هذا. إن بنية المعرفة الأدبية المستمدة من الأكاديمية مدموغة بدمغة هائلة من هذا الأنموذج المثلث الأجزاء الذي عملت على توضيحه هنا. ولكن بمقدار ما يتعلق الأمر بالفكر النقدي (وفق التصور الذي أحمله عما يجب أن يكون عليه) فليس بوسعنا أن نقول إلا أن تلك الدمغة قد حدثت بطرائق تحز في النفس. ولذلك هيا بنا الآن للانتقال إلى أمثلة ملموسة.
منذ زمن إليوت، ومن بعده ريتشاردز وليفيس، كان هنالك إجماع تقريباً على التشبث بالرأي القائل أن واجب الدارسين الإنسانيين في ثقافتنا يكمن في تكريس أنفسهم لدراسة الروائع العظيمة في الأدب. ولئن تساءلنا عن السبب لقيل لنا حتى يصار إلى نقلها إلى طلاب ممن هم أصغر سناً وممن سوف يصبحون، بفعل التقرب والتكوين، أعضاء ضمن جماعة الأفراد المثقفين. وهكذا فإننا نلاحظ أن الجامعة تضطلع، ورسمياً تقريباً، بعبء تكريس الميثاق القائم فيما بين معيار الآثار الأدبية وزمرة من المعلمين الملقنين وبين مجموعة من المتقربين الشباب، الأمر الذي يجعل هذا كله يفضي، بأسلوب موثق اجتماعياً، إلى ترويض وانضباط علاقة القرابة أمام عتو العملية التثقيفية كونها أسمى منها.
فهذا الواقع كان هو الحالة التي سادت تاريخياً، ودائماً تقريباً، ضمن ما يمكن دعوته بالعالم المتقوقع الذي عاشته الجامعة التقليدية الغربية، والشرقية بكل تأكيد، بيد أننا نعيش الآن، على ما أظن، مرحلة من تاريخ العالم نشهد فيها لأول مرة أن علاقات التقرب التعويضية، التي يجري تأويلها خلال الفصل الدراسي الأكاديمي في الجامعة الغربية، تستبعد عملياً من الأمور أكثر مما تضم. وإن ما أعنيه ببساطة هو أن كل ذلك الصرح المهيب الذي يؤوي المعرفة الدنيوية، والذي يقوم على كلاسيكيات الآداب الأوربية- ومعه ذلك التقيد الصارم بمنهج البحث الذي ينغرس في أذهان الطلاب في الجامعات الغربية من خلال الأشكال المألوفة لنا كلنا- لا يمثل، لأول مرة في التاريخ الحديث، إلا النزر اليسير من العلاقات والتفاعلات البشرية الحقيقية الجارية الآن على مسرح العالم، فأورباخ كان واحداً من بين أواخر أكابر الممثلين لأولئك الناس الذي كانوا يعتقدون أن الثقافة الأوربية ما هي إلا محور التاريخ البشري، والمحور الذي لا يرقى الشك إلى أهميته وترابطه المنطقي. ولكن ثمة أسباب عديدة جداً تعترض الآن سبيل الدفاع عن وجهة نظر أورباخ، وليس أقلها تقلص الإذعان والامتثال اللذين كانا مناطين بما كان يدعى بعالم حلف الناتو الذي طالت هيمنته على بقاع بعيدة عن أوربا كأفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. فثقافات جديدة ومجتمعات جديدة وملامح فتية لنظام اجتماعي وسياسي وجمالي تستوجب الآن الاهتمام من المفكر الإنساني، وبالإصرار الذي لم يعد بالإمكان تطاول تجاهله.
ولكن ذلك التجاهل بقي على حاله ولأسباب مفهومة تماماً. فحين يتعلم طلابنا أموراً من أمثال الآداب والفلسفات والفنون اليونانية والرومانية، يتعلمون دائماً وتقريباً أيضاً أن هذه النصوص الكلاسيكية تجسّد وتصور وتمثل أفضل ما في تراثنا، أي التراث الوحيد. وفضلاً عن ذلك فهم يتعلمون أن أمثال تلك الميادين وميادين فرعية "كالأدب" تعيش في عنصر سياسي حيادي نسبياً، الأمر الذي يستوجب تثمينها وتوقيرها، ويستوجب أيضاً تعيين حدود الشيء المقبول والمناسب والمشروع بمقدار ما يتعلق الأمر بالثقافة. وبكلمات أخرى، فإن نظام التقرب المطروح بمثل هذا الاستتار يعزز البنية العائلية المغلقة والمحبوكة بكل إحكام إلى ذلك الحد الذي يؤمن استمرار الصلات الهرمية من جيل إلى آخر. وهكذا فإن التقرب يصبح بالنتيجة شكلاً فعلياً من أشكال إعادة التصوير “re-presentation” ، وشكلاً يكون، من خلاله، جيداً ما لدينا، ولذلك فهو جدير بالدمج والاحتواء في دراستنا الشؤون الإنسانية، وكل ما ليس لدينا بهذا المعنى البالغ الضيق يصار إلى استبعاده بمنتهى البساطة. ومن قلب هذا التصوير تأتي المنظومات، بدءاً لمنظومة نورثروب فراي وانتهاء بمنظومة فوكو، التي تدعي الحق بسلطة تبيان كيفية أداء الأشياء، على هذا المنوال وحسب، وبشكل كلي وتنبؤي. وما من حاجة تستدعي القول أن هذه البنية الجديدة للتقرب تستولد، مباشرة إلى حد ما، هيكل السلطة العائلية التي طواها النسيان على ما يبدو بعد أن صارت العائلة في غياهب النسيان. إن بنى المناهج الدراسية التي تتحكم بأقسام الأدب الأوربي توضح ذلك بمنتهى الجلاء: فالنصوص العظيمة، ناهيك عن الأساتذة العظماء والنظريات العظيمة، لها تلك السلطة التي تستلزم الاهتمام الموقر لا بفضل مضمونها بل لأنها قديمة أو لأنها ذوات شأن، إذ إن نقلها من جيل لجيل كان في زمن محدد أو بلمح البصر، وكانت تقليدياً موضع التوقير وبالشكل الذي علّمها فيه القساوسة أو العلماء أو البيروقراطيون ذوو الشأن الكبير.
وفي أمور من أمثال الثقافة والتبحر الثقافي غالباً ما أكون على تعاطف معقول مع المواقف المحافظة، ومع أن تعاطفي هذا قد يبدو شاذاً فإنه حقيقي، مع العلم أن الشيء الذي قد أعترض عليه، فيما كنت أصف، ليس بذي علاقة كبيرة بمسعى الحفاظ على الماضي، أو بقراءة الأدب العظيم، أو بإجراء دراسة جادة بل محافظة تماماً بحد ذاتها. إن تلك الأمور لا تعنيني كثيراً. فالشيء الذي أنتقده يتمثل بافتراضين خاصين أولهما: ذاك الافتراض الإيديولوجي المحمول باللاشعور ومؤاده أن النمط المتقوقع حول أوربا للدراسات الإنسانية يشكل عملياً موضوعاً طبيعياً ومناسباً للباحث المتبحّر في تلك الدراسات. فسلطان ذلك النمط لا يأتيه من المعيار القويم للروائع الأدبية كما انحدر إلينا من خلال الأجيال وحسب، بل ويأتيه أيضاً من الطريقة التي يفضي بها هذا التواصل إلى تواصل صلة القرابة في سلسلة الإنجاب البيولوجي. والشيء الذي يؤول إلينا من ثم لا يعدو استبدال نظام بنظام آخر، وفي عملية الاستبدال هذه يكون مصير أي شيء لا إنساني ولا أدبي ولا أوربي الاستيداع في المخزن خارج البنية. وإذا تأملنا وضع العالم اليوم لمدة دقيقة واحدة لوجدنا أن معظمه ليس أوربياً، وأن التعاملات ضمن ما يدعوه تقرير ماك برايد لليونيسكو بنظام المعلومات العالمي ليست لهذا السبب أدبية، وأن العلوم الاجتماعية ووسائل الإعلام (هذا إن اكتفينا بذكر طريقتين من طرائق الإنتاج الثقافي في ارتقائهما اليوم فوق مستوى الدراسات الإنسانية المحددة تقليدياً) تسيطر على نشر المعرفة بطرق نادراً ما تخطر على بال الباحث الإنساني التقليدي، ولتكونت لدينا عندئذ فكرة عن مدى التقهقر الذي حل بالتوكيدات على الدراسات الإنسانية المتقوقعة في أوربا، وعن مدى تماثلها الفعلي مع النعامة. إن عملية التصوير التي تفضي إلى ولادة القرابة في بنية التقرب وإلى جعلها تقوم مقام ما يخصنا (مثلما نحن بدورنا نخص أسرة لغاتنا وتقاليدنا)، تعزز الشيء المعروف على حساب الشيء المرشح للمعرفة.
وثاني الافتراضيين هو الافتراض بأن الصلات الأساسية في دراسة الأدب- وهي الصلات التي حددتها بأنها قائمة على التصوير- عليها أن تطمس آثار الصلات الأخرى في قلب البنى الأدبية القائمة بالأساس على الاكتساب والاغتنام. فهذا هو الدرس العظيم الذي نستخلصه من كتاب "الريف والمدينة" لمؤلفه ريموند ويليامز. إن بحثه الرائع المستنير في ذلك الكتاب لقصائد البيت الريفي الانكليزي في القرن السابع عشر لا يركز على ما تصوره تلك القصائد، بل على ما هي عليه القصائد بالفعل كنتيجة لتضارب العلاقات الاجتماعية والسياسية. فأوصاف القصر الريفي، على سبيل المثال، لا تخلص أساساً إلى ما سيكون محط الإعجاب من جراء التناغم والاسترخاء والجمال وحسب، بل يجب أن تخلص أيضاً بالنسبة للقارئ الحديث إلى ما استثنته القصائد من الذكر في حقيقة الأمر كالأيدي العاملة التي خلقت تلك القصور، والعمليات الاجتماعية التي كانت ذروتها القصائد، وانتزاع الملكيات وعمليات السطو التي عنتها القصائد بالفعل. فعلى الرغم من أن الكاتب لم يتطرق جهاراً إلى أمور عديدة، إلا أن كتابة محاولة رائعة لنبذ السجايا الأخلاقية العامة لنظام يجسّد العلاقات ويعرّيها من مضمون عمقها الاجتماعي. وإن الشيء الذي كان الكاتب يحاول إحلاله محل تلك السجايا هو الديالكتيك العظيم للاكتساب والتصوير- ذلك الديالكتيك الذي حازت بفضله حتى الواقعية، كما يتجلى في روايات جين أوستن، منزلتها الراسخة باعتبارها نتيجة منازعات على المال والسلطة، فويليامز يعلمنا أن نقرأ بطريقة مختلفة ويطالبنا بأن نتذكر أنه لكل قصيدة أو رواية في مختاراته هنالك حقيقة اجتماعية كشرط أساسي للصفحة، حياة بشرية معينة، طبقة مكبوتة أو مرفوعة المقام -ولكن لا شيء من كل هذه الأشياء يمكن أخذه بعين الاعتبار في ذلك الإطار الصارم الذي تصونه عمليات إعادة التصوير والتقرّب العاملة جهاراً للحفاظ على القرابة.
ولكل منظومة نقدية غاشمة هنالك أحداث، وأشكال اجتماعية متغايرة الخواص وبعيدة عن الصراط المستقيم، وكائنات بشرية ونصوص يحتدم فيما بينها التراع حول إمكانية قيام منهج ناجع لمنظومة ما.
إن كل ما قلته استقراء من الأثر اللفظي الذي نسمعه بين كلمتي "قرابة وتقرب". وإن ما أحاول تبيانه، على وجه التخصيص، هو أن القرابة، بالشكل الذي تطورت فيه من خلال الدراسة والنظريات النقدية المطروحة بطرق معقدة من قبل الحركة العصرانية، تنجب التقرب. والتقرب يصبح شكلاً من أشكال تمثيل عمليات القرابة الموجودة في الطبيعة، على الرغم من أن التقرب يأخذ أشكالاً ثقافية واجتماعية لا بيولوجية وموثقة اجتماعياً.
فثمة بديلان يطرحان نفسيهما أمام الناقد المعاصر، أولهما هو التواطؤ الضروري مع الأنموذج الذي وصفته، إذ لما كان الناقد ييسرّ، لا بل وينشط بالفعل، انتقال الشرعية من القرابة إلى التقرب، فهو يشجع، في تأديته دور القابلة عملياً، تبجيل الدراسات الإنسانية وتبجيل الثقافة الطاغية التي خدمتها تلك الدراسات. وهذا الموقف يحافظ على العلاقات القائمة ضمن الدائرة الضيقة لكل ما هو طبيعي ومناسب ومجد "لنا"، ويستبعد من ثم البعد اللا أدبي واللا أوربي، وقبل كل شيء، يستبعد البعد السياسي الذي ينطوي عليه الأدب كله والنصوص كلها أيضاً. وعلاوة على ذلك فإنه يفضي إلى قيام منظومة أو نظرية نقدية يكمن إغراؤها بالنسبة للناقد في أنها تحل كل المشكلات التي تنجم عن الثقافة. وكما قال جون فيكيت فإن هذا "يعبر عن السخط الحديث على الحقيقة، ولكنه يعمل بإطراد على دمجها واستيعابها ضمن أصناف العقلانية الاجتماعية (والثقافية) السائدة. وهذا ما يخلع عليها فتنة مزدوجة، فضلاً عن أن النطاق المتوسع تمشياً مع النمط المتوسع لإنتاج وتكاثر الحياة الاجتماعية، يمدها بأسباب القوة كي تكون إيديولوجياً عظيمة.(22)
وأما البديل الثاني فهو أن يدرك الناقد الفرق القائم بين القرابة الغريزية وبين التقارب الاجتماعي، وأن يبين كيف أن التقرب يفضي أحياناً إلى ولادة القرابة، لا بل ويصوغ لها أشكال في بعض الأحيان الأخرى. وهكذا يصبح للتو معظم العالم الاجتماعي والسياسي متاحاً للناقد ومفتوحاً أمام التمحيص العلماني، على غرار ما لاحظنا في كتاب "المحاكاة" كيف أن أورباخ لم يكن يبدي إعجابه بداهة بالقارة الأوربية التي افتقدها جراء المنفى وحسب، بل وكان ينظر إليها نظرة جديدة كمشروع اجتماعي وتاريخي مركب يخلقه ويعيد خلقه دون انقطاع رجال ونساء في المجتمع. إن هذا الوعي النقدي الدنيوي بمقدوره أن يتفحص أيضاً تلك الأشكال من الكتابة التي ترتبط بالأدب بصلة التقرب والتي تستثنى من ميدان الأدب نتيجة الاقتناص الإيديولوجي للنص الأدبي في صميم المنهاج الدراسي الإنساني كما هو عليه واقع الأمر في هذه الآونة. فتحليلي للنظرية الأدبية الحديثة في هذا الكتاب يركز على هذه الموضوعات وبالتفصيل، ولا سيما بالطريقة التي تذعن بها المنظومات النقدية- حتى التي هي من أكثر الأنواع تحبيكاً- للعلاقة الإنتاجية النموذجية القائمة بين ثقافة طاغية وبين الميادين التي تهيمن عليها.
***
ما معنى أن يكون لدى المرء وعي نقدي إذا كان موقف المفكر، كما كنت أحاول أن أشير، موقفاً دنيوياً وإذا كان على الهوية الاجتماعية للمفكر، جراء ذلك النزوع الدنيوي نفسه، أن تتضمن شيئاً أكثر من تعزيز مظاهر تلك الثقافة التي لا تأمر أعضاءها إلا بالتوكيد والامتثال وحسب؟
إن هذا الكتاب بأسره محاولة للإجابة على هذا السؤال. وموقفي، ومرة ثانية، هو أن الوعي النقدي المعاصر يقف بين إغرائين متمثلين بقوتين عاتيتين مترابطتين تستقطبان الاهتمام النقدي.
فالأولى هي الثقافة التي يرتبط بها النقاد بالقرابة (بالولادة والانتماء القومي والمهنة)، والثانية هي الطريقة أو المنظومة التي يكتسبها النقاد من خلال التقرب (بالقناعة الاجتماعية والسياسية، وبالظروف الاقتصادية والتاريخية، وبالجهد الشخصي والإرادة الحديدية). وكلتا هاتين القوتين ما فتئتا تدأبان على ممارسة الضغوط منذ ردح طويل من الزمن إلى أن وصلتا بالنقد إلى وضعه الراهن:
وإن اهتمامي بشخصيات من القرن الثامن عشر كفيكو وسويفت، على سبيل المثال، ينطلق من التسليم بداهة بمعرفتهما أن عصرهما كان يطالبهما أيضاً بمطالب ثقافية ومنهجية، الأمر الذي جعل مهمتهما الشاقة تتمثل بمقاومة هذه الضغوط في كل ما أقدما على فعله، مع أنهما كانا بالطبع كاتبين دنيويين ومرتبطين بزمانهما ارتباطاً مادياً.
إن النقد، بالشكل الذي تجري فيه ممارسته الآن وبالشكل الذي أتعامل فيه معه، شيء أكاديمي ويحتل على الأغلب مكاناً بعيداً جداً عن الأسئلة التي تؤرق قارئ الصحف اليومية. فالنقد يجب أن يكون على هذه الشاكلة إلى حد ما. بيد أننا بلغنا الآن تلك المرحلة التي يتعمد فيها التخصص وارتداء عباءة الاحتراف، بالتحالف مع العقيدة الثقافية، وتسامي التشرنق العرقي والقومي المحض، ناهيك عن الإصرار العجيب على الخنوع شبه الديني، إلى ترحيل الناقد الأدبي الأكاديمي المحترف إلى عالم مغاير تماماً، مع العلم أنه من أكثر ما أنتجته الثقافة تبحراً وتدريباً على تأويل النصوص.
ففي ذلك العالم المعزول والآمن نسبياً لا وجود على ما يبدو لأية صلة بعالم الأحداث والمجتمعات بالشكل الذي شيده فيه فعلاً المحدثون من مفكرين ونقاد وتاريخ. وعوضاً عن ذلك صار النقد المعاصر عبارة عن مؤسسة للإتيان جهاراً بتوكيد قيم ثقافتنا السائدة المصطفاة، أي ثقافتنا الأوربية، ولإطلاق العنان سرّاً لتأويل سائب لكون محدد سلفاً بأنه قراءة مغلوطة لتأويل مغلوط إلى أبد الآبدين. وأما النتيجة فقد كانت انفطام النقد انفطاماً منظماً، لا بل ومحسوباً، واستحالته إلى حلية لتزيين كل تعاملات قوى المجتمع الصناعي الحديث: سطوة نزعة التعسكر وحرب باردة جديدة، وتجريد المواطنين من التسيّس، والإذعان المطلق من لدن طبقة المفكرين التي ينتمي إليها النقاد. إن الحالة التي أحاول وصفها بخصوص النقد الحديث (دون استثناء النقد "اليساري") جاءت وزمن سطوع نجم الريغانية. وأما دور اليسار، المكبوت منه والمنظم سواء بسواء، فدور له أهميته نظراً لخنوع اليسار.
لا أريد لأحد أن يسيء فهم قولي حين أقول أن الهروب إلى المنهج والمنظومة من لدن النقاد الذين يودون اجتباب إيديولوجية النزعة الإنسانية لشيء سيء برمته، إذا ما أبعدني عن هذا، ولكن مخاطر المنهج والمنظومة جديرة بالاهتمام. فبمقدار ما يتحول المنهج والمنظومة إلى صنم وبمقدار ما يفقد الممتهنون لهما أية صلة مع مقاومة المجتمع المدني وتعدديته، يجازفان بالتحول إلى خطابات فضفاضة، ويقرران سلفاً بكل خفة ما يبحثان، بكل طيش أي شيء إلى دليل على جدارة المنهج، ويتجاهلان بمنتهى الاستهتار تلك الظروف التي تنبثق عنها كل النظريات والمنظومات والمناهج في خاتمة المطاف.
فالنقد له دائماً وقفته، لأنه شكاك ودنيوي ومفتوح لسقطاته الذاتية إلى حد معيب. غير أن هذا القول لا يعني بحال من الأحوال خلو النقد من القيمة، بل إنه على النقيض من ذلك تماماً لأن المسار النقدي المحتوم للوعي النقدي هو الوصول إلى أي معنى دقيق لما تنطوي عليه تلك القيم الإنسانية والاجتماعية والسياسية التي تنجم عن قراءة أي نص وإنتاجه ونقله. ولذلك فإن الوقوف بين الثقافة والمنظومة يعني الوقوف قريباً من واقع مادي يستوجب الإدلاء بالأحكام الاجتماعية والأخلاقية والسياسية عنه ويستوجب، إن تعذر ذلك، تعريته وفضح أسراره- علماً أن القرب بحد ذاته له عندي أهمية خاصة. ولكن إذا أتيح لكل فعل من أفعال التأويل أن يكون أمراً ممكناً وإذا أنيطت به الفاعلية من أية جماعة تأويلية، علينا عندئذ، كما قيل لنا منذ عهد قريب بلسان ستانلي فيش، أن نمضي قدماً إلى الأمام أشواطاً بعيدة في تبيان كنه الوضع وكنه الهيئة الاجتماعية وكنه المصالح السياسية التي يستدعيها عملياً مجرد وجود الجماعات التأويلية.(23) فهذه المهمة تنطوي على أهمية خاصة بعد أن صارت هذه الجماعات تستنبط الهذر بقصد التمويه.
ويحدوني الأمل بألا يظهر قولي بمظهر الخدمة الذاتية حين أقول أن كل ما أعنيه بالنقد والوعي النقدي معكوس مباشرة لا في موضوعات هذه المقالات وحسب، بل ومعكوس أيضاً في شكل المقالة بحد ذاته. وإذا كان القارئ سوف يحملني على محمل الجد وكأنني أقول أن النقد الدنيوي يتعامل مع أوضاع محلية وعالمية، وأنه مناوئ بحكم تكوينه لإنتاج منظومات سحرية ضخمة، فالواجب يقضي أن يخلص هذا إلى القول بأن المقالة -وهي نسبياً شكل قصير استقصائي، وشكل شكاك بالأساس- هي الميدان الرئيسي لكتابة النقد فيها. وبالنظر لاختيار الموضوعات على نطاق واسع نسبياً فإن وحدة الكتاب وحدة موقف واهتمام في الوقت نفسه أيضاً. فكل المقالات المجموعة هنا، إلا اثنتين، كتبت في المرحلة التالية مباشرة لاستكمال كتابي المعنون بـ "بدايات: مقصد ومنهج" الذي ناقش الضرورة النظرية والعملية لنقطة انطلاق منطقية لأي عمل فكري وخلاق، مع التسليم جدلاً بأننا نعيش في تاريخ دنيوي، أي في ذلك المجال الجاهز "دوماً وأبداً" لإطلاق الجهد البشري على نحو مستديم.
ولكن الأمر الأهم من سابقه هو الإشارة إلى أن كل هذه المقالات (باستثناء اثنتين أيضاً) كتبت في الوقت الذي كنت أعمل فيه على إعداد ثلاثة كتب تعالج تاريخ العلاقات بين الشرق والغرب وهي:
"الاستشراق" (1978) و "مسألة فلسطين" (1979) و "دفاعاً عن الإسلام" (1981)، وهي تلك الكتب التي كان إطارها التاريخي والاجتماعي إطاراً سياسياً وثقافياً في أكثر الجوانب إلحاحاً. وأما عن أمور تدور حول العلاقة بين البحث والسياسة، وبين وضع معين وتأويل نص من النصوص وإنتاجه، وبين النصية نفسها والواقع الاجتماعي، فإن ارتباط بعض المقالات الموجودة هنا بتلك الكتب الثلاثة سيكون على أوضح ما يكون.
إن المقالات المجموعة هنا مرتبة بثلاث طرق متداخلة. فأنا أولاً أتفحص العالم الدنيوي، لا الروحاني، الذي تحدث فيه النصوص والذي يلعب فيه بعض الكتاب المعنيين (من أمثال سويفت وهوبكينز وكونراد وفانون) دور القدوة لاهتمامهم بتفصيل الوجود اليومي المعروف باسم الوضع والحدث وتنظيم السلطة. وإن التحدي الذي يطرحه هذا العالم الدنيوي أمام الناقد هو تعذر تقليص العالم إلى مجرد نظرية توضيحية أو نظرية مبدئة، ويتعذر تقليصه أكثر من السابق بكثير إلى مجموعة من التعميمات الثقافية. فهنالك بدلاً من ذلك عدد قليل، ولربما على غير توقع، من سمات الدنيوية تلعب دوراً في إدراك المرء من التجربة النصية، ومن بين تلك السمات القرابة والتقرب، والجسد وحاستا البصر والسمع، والتكرار والتعدد المطلق للتفاصيل. وثانياً: أنصرف إلى المشكلات الخاصة التي تعتور النظرية النقدية المعاصرة في مواجهتها أو تجاهلها المسائل المطروحة على بساط بحث النصوص (والنصية) من قبل العالم الدنيوي. وختاماً أعالج في النهاية مشكلة ما يحدث حين تحاول الثقافة أن تتفهم ثقافة أخرى، أو أن تهيمن عليها، أو أن تقتنصها في حالة كونها أضعف منها.
ثمة كلمة في محلها المناسب عن الدور الخاص الذي يلعبه سويفت في هذا الكتاب. فهنالك مقالتان عنه تؤكدان كلتاهما على ضروب المقاومة التي يبديها أمام المشهد النقدي الحديث (هذا مع العلم أن المقاومة على أوثق ارتباط بأدلتي في هذا الكتاب). وأما الأسباب الموجبة لهذا فإنها لا تكمن فقط في أن سويفت يتعذر تصنيفه بسهولة وفق الأفكار الدارجة عن الكتّاب أو النص أو الكاتب المغوار، بل وتكمن في أن عمله آني وقوي وعمل- من زاوية الممارسة النصية المنهجية- متهافت في آن واحد معاً. فقراءة سويفت قراءة جادة تعني محاولة إدراك سلسلة من الأحداث بكل عنفها الخبيص، ولا تعني البتة استملاح الدر المنظوم ومن ثم استجلاء رموزه بمنتهى الهدوء. وعلاوة على ذلك كان دوره الاجتماعي دور الناقد المنهمك بشؤون السلطة التي لم يتسنمها قط: فلقد كان على الدوام مستنفراً، فعالاً، لا عقائدياً، ساخراً، غير هياب من العقائد والأفكار الراسخة الجذور، وفير الاحترام للجماعة الوطيدة الأركان البعيدة عن ممارسة القمع، فوضوياً بإحساسه حيال سلسلة البدائل للوضع القائم.
وعلى الرغم من ذلك كله اضطر بشكل مفجع للإذعان للتسوية والتصالح جراء ظروفه الدنيوية وجراء هذا الزمان- وهذه هي الحقيقة التي يلمح إليها إ. ب. ثومبسون وبيري أندرسون في جدالهما حول التزاماته السياسية الحقيقية (أتقدمية كانت، ترى، أم رجعية). ولكنه بالنسبة لي يمثل الوعي النقدي في باكورته، أي نموذجاً واسع النطاق لتلك المعضلات التي تواجه الوعي النقدي المعاصر الذي جنح إلى التقوقع المفرط وإلى الانجرار المفرط لقبوله التصنيف المنهجي بمنتهى البساطة. إن سويفت يقف بعيداً جداً خارج إطار الخطاب النقدي المعاصر ولذلك لا يمكن أن يكون واحداً من أفضل نقاده، علماً أنه كان على الأرجح أعزل من سلاح علم المنهج (الميثودولوجيا) فكتابة سويفت، بحيويتها وسخريتها اللفظية المنقطعة النظير وبتململها ومكائدها التحريضية اللا أكاديمية على بيئتها السياسية والاجتماعية، تمد النقد الحديث بالشيء الذي كان بأمس الحاجة إليه منذ أن ستر آرنولد الكتابة النقدية بعباءة السلطة الثقافية والخنوع السياسي الرجعي.
وأما من الناحية الأخرى، فمن باب المبالغة ولا شك أن أقول أن هذه المقالات تسلط الأضواء الساطعة على الموقف النقدي الذي أعتمده قولاً وفعلاً، والذي ألمح إليه تلميحاً كتابي "الاستشراق" وكتبي الحديثة الأخرى. فهذا قد يبدو لبعض الناس بمثابة عيب يعتور الدقة أو الأمانة أو المقدرة.
وقد يوحي، لبعضهم الآخر، بشيء من الشك الراديكالي من لدني حيال ما أكافح من أجله، ولا سيما مع الأخذ بعين الاعتبار أنني تعرضت للاتهام من جانب زملائي بتهمة الإفراط في المماحكة، لا بل وبالإفراط البعيد عن اللياقة. وأما لصنف ثالث من الناس فقد أبدو- وهذا يهمني أكثر من سابقه- ماركسياً متخفياً خشية فقدان الاحترام والتورط في خضم التناقضات المتأتية عن نعت "الماركسي".
وبصرف النظر عن أية رغبة لدي للإجابة على كل الأسئلة التي تثيرها هذه القضايا فإنني أود توضيح آرائي بقدر الإمكان. فعن مسألة الحكم والسياسة الخارجية، وهي مسألة تعنيني على وجه التخصيص، ما من جديد جدير بالإضافة هنا على ما سيقال في المقالات الأربع الأخيرة في هذا الكتاب.
ولكن عن الأمر الهام المتعلق بالوضع النقدي وعلاقته بالماركسية أو الليبرالية أو حتى بالفوضوية، يجب أن نقول أن ذلك النقد الذي ينحصر معناه سلفاً بنعوت كالماركسي أو الليبرالي ينطوي، من وجهة نظري، على مغالطة مضحكة. وإن تاريخ الفكر، ناهيك عن تاريخ الحركات السياسية، يسلط أسطع الأضواء على أن معنى القول المأثور القائل: "التضامن مطلوب لمواجهة النقد" كان معناه نهاية النقد. وإنني لأحمل النقد على محمل الجد إلى الحد الذي يدفعني للإيمان، حتى في خضم معركة يجد المرء نفسه فيها منحازاً انحيازاً بيّناً مع هذا الطرف ضد ذاك، بوجوب وجود النقد وذلك لأن الواجب يقضي بضرورة وجود الوعي النقدي إن كان هنالك مسائل ومشكلات وقيم، حتى وحيوات، جديرة بالدفاع عنها. ففي التاريخ الثقافي الأمريكي، وفي هذه الآونة بالذات، ليست الماركسية أساساً إلا التزام أكاديمي لا سياسي، مع أنها تجازف بالتحول إلى اختصاص أكاديمي. وكنتائج طبيعية لهذه الحقيقة المرة ثمة أشياء أخرى جديرة بالذكر من مثل غياب حزب اشتراكي هام (على غرار الأحزاب الأوربية المختلفة)، والخطاب المتهمش عن الكتابة "اليسارية"، والعجز الظاهري للجماعة المحترفة (الدراسية والأكاديمية والمحلية) عن تنظيم تحالفات يسارية فعالة مع مجموعات العمل السياسي. فالنتيجة النهائية "لإعداد" أو كتابة النقد الماركسي في الوقت الراهن هي أن يعلن المرء عن انحيازه السياسي، وهي في الوقت نفسه أن يضع نفسه خارج مقدار كبير من الأشياء الجارية اليوم في الدنيا، إذا جاز التعبير، وأن يضعها ضمن أنواع أخرى من النقد.
ولربما أن الطريقة الأبسط للتعبير عن هذا كله هي أن أقول أن الماركسيين تركوا أثراً علي أكثر مما تركته الماركسية أو أي مذهب آخر. ولئن كان هنالك من مغزى للجدل الدائر الآن في ماركسية القرن العشرين فهو المغزى التالي: إن الماركسية بحاجة لحل رموزها وفضح أسرارها وتوضيحها بأسلوب منهجي، وحاجتها من ذلك حاجة أي خطاب آخر. وهنا يبدو قيماً عمل بعض الراديكاليين من غير الماركسيين (كعمل تشومسكي، مثلاً، أو عمل إ. ف. ستون)، ولا سيما إذا كانت الأسوار العقائدية لا تزال تعوّق الأفراد من خارج إطار أعضائها من إعداد أنفسهم للبدء بمثل هذا العمل.
وهذا القول نفسه صحيح عن النقد المنبثق عن وجهة نظر محافظة وعميقة الجذور كوجهة نظر أورباخ مثلاً، إذ إن عمله، في أفضل الأحوال، يعلمنا كيف نكون نقادين أكثر مما يعلمنا كيف نكون أعضاء ممتازين في مدرسة ما. وإن الاستخدامات الإيجابية لصلة التقرب صارت عديدة في خاتمة المطاف، غير أن هذا لا يمنعنا من القول بأن الفاشستية والتزمت العقائدي أقل خطراً من ذلك بأي شيء.
لو شئت استعمال كلمة واحدة متساوقة مع النقد (لا من باب التخفيف له بل من باب التوكيد) لكانت كلمة المقاوم. فلئن كان من المتعذر تقليص النقد إلى مذهب أو إلى موقف سياسي حول مسألة معينة، ولئن كان يتوجب وجوده في الدنيا وهو مدرك لذاته في الوقت نفسه أيضاً، لقضي الواجب أن تكون هويته حينئذ هي اختلافه عن الأنشطة الثقافية الأخرى وعن منظومات الفكر أو المنهج.
وإن النقد، في شكه بالمفاهيم التجميعية وبسخطه على الأمور المجسدة ونفوره من النقابات والمصالح الخاصة والإقطاعات ذوات الصبغة الامبريالية ومن تعويد الفكر على السير على الصراط المستقيم، يكون على أقرب ما يكون إلى نفسه ويكون، إن كانت المفارقة موضع تسامح، على أبعد ما يكون عن نفسه في اللحظة التي يبدأ بها تحوله إلى عقيدة منظمة. وعلاوة على ذلك فكلمة "ساخر" ليست بالكلمة النابية إن إضيفت إلى كلمة "مقاوم" لأن النقد بالأساس -ولسوف أكون هنا في غاية الوضوح- يجب أن يرى نفسه مشجعاً للحياة ومعارضاً، بحكم تكوينه، لأي شكل من أشكال الطغيان والهيمنة والظلم، مع العلم أن أهدافه الاجتماعية تتمثل بإنتاج المعرفة بحرية بعيداً عن القسر ولمصلحة الحرية البشرية. وإذا اتفقنا مع ريموند ويليامز وهو يقول: "مهما كان مبلغ هيمنة منظومة اجتماعية فإن فحوى هيمنتها نفسها يعني ضمناً تحديد أو اصطفاء المساعي التي تتعامل بها، ولذلك ليس بوسعها، بالتحديد الذي تطرحه، استنفاد الخبرة الاجتماعية كلها التي تتضمن، لذلك السبب، على نحو مستديم وكامن حيزاً لتصرفات بديلة ونوايا بديلة من تلك التي لما تحظ بعد بصيغة المؤسسة الاجتماعية أو حتى بصيغة المشروع الاجتماعي(24)، يكون النقد عندئذ في ذلك الحيز الكامن في قلب المجتمع المدني، عاملاً لمصلحة تلك التصرفات البديلة والنوايا البديلة التي يكون دفعها أشواطاً إلى الأمام عبارة عن التزام فكري وبشري جوهري.
وثمة محذور من أن تفضي الرعدة من الشيء الصعب -والنقد شكل من أشكال المصاعب- إلى تثبيط عزيمة المرء. ولكن هنالك كل الأسباب الوجيهة للافتراض بأن الناقد المجهود من الترويض والحرب اليومية قادر على الأقل، كالراوي عند ييتس، على العثور على الإصطبل وخلع الرتاج وتحرير الطاقات الخلاقة. والناقد ليس بمقدوره عادة إلا دغدغة الأمل دون التعبير عنه بصراحة، ومع أن هذه المقولة بمثابة السخرية اللاذعة، إلا أن الواجب يقضي بتذكرها لمصلحة الناس الذين يصرون على أن النقد فن، والذين ينسون أن أي شيء، في اللحظة التي يحتل فيها منزلة الصنم الثقافي أو السلعة، يكف عن البقاء مشوقاً، وهذا في جوهره موقف نقدي، مثله تماماً مثل كون ممارسة النقد والحفاظ على موقف نقدي مظهرين نقديين من مظاهر الحياة الفكرية.
يتبع الجزء الثانى
المتمنع
المتمنع
تعليق