إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

قِصصٌ تُـروى..

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • قِصصٌ تُـروى..

    ::
    ::
    من عُمق الذائقـة ؛
    نختـارُ قِصصاً...
    و نضعها هُنـا...!

    و

    لا بأس بِـ رأيٍ / تعقيبٍ إن أردنـا
    أود : أن أتجه نحوي .. لأشعر بوجودي بعمق ..!


    " اللهم ألهمني رشدي ، و قني شرّ نفسي "

  • #2
    أعجاز

    أعجاز
    لِـ محمد حسـن علوان

    ::
    ::

    مدَّ يده ليعيد طرف قميصه الذي أفلت منه فجأة ، وأخذت الريح تخفق به بقوةٍ فشلت معها محاولاته الضعيفة ، حتى قبض عليه أخيراً ، وتلثم به ، وأعاد يده إلى وضعها السابق مكتوفة ً ، وبدا كأصل شجرةٍ مائلٍ يتحرك ببطء شديد في وجه الزمن ..

    تناهى لسمعه ثغاء الماشية الرائحة من مرعاها دون رعاة، شدَّ بيده على صرته الصغيرة التي قعقعت فيها أوانيه الحجرية، كانت الريح التي تهادي جسده بعنف تخفي ارتجافه العنيف وهو يغذُّ السير بقدمين من خوفٍ.. وقلق، مثلما كان اللثام يخفي وجهه المصفر مثل أترجَّةٍ هالكة، كانت خطاه تلتقط نصيبها من الأرض بجهد، وكان رفعه لقدمه يحدث بصعوبة، وبدا له أن إعادتها مرةً أخرى إلى الأرض ليس بأقل من ذلك ، كانت قدمه اليمنى تقع على أثر اليسرى في مشيه لفرط ما كانت تصارعه الريح، وهذه الصحراء الضخمة تنفخ في السفح بجبروتٍ لا عهد له به، تحرضها تلك السماء التي احتقنت سواداً.. وسخطاً..

    اشتدت العاصفة، كاد أن يرديه سقفٌ منهارٌ لكوخ ٍ خشبي هوى من الجبل، راح يتعثَّر في السواقي المدمرة تحته.. يبدو أنه يعبر فوق حقل، كان الليل بهيماً، والريح تضاعف نفسها وكأنما تتزود بقوةٍ خرافيةٍ من وراء الدنيا، ظلَّ يستجدي قدميه سيراً ضد طوفان الهواء المجدول، تمسَّك بمئزره الذي كاد يطير، انكفأ على نفسه، وتقوقع حتى بدا كشجيرة بريةٍ تحصنت بالرمال، راح يزحف محاذياً التل الصغير مؤملاً نفسه بكهفٍ يتوارى فيه ريثما تنجلي العاصفة، لملم نفسه في شقٍ من التل، ولم ينج من الريح، كان لها يدٌ تتسلل إلى حيث يختبئ، وتكيل له صفعةً ما يطير لها فؤاده..


    خرج في النهار، غاصت قدماه في الكثيب الذي تقاسمت السماء والأرض رماله، كانت الحبيبات المتوحشة ترتطم بوجهه، وتملأ منخريه، وتعمي عينيه، وتتابع الحصى الصغير على جبينه حتى سالت دماه واختلطت بالتراب والدموع..

    مدَّ خطوةً يائسة ً إلى أمامٍ لا يراه، تقوَّس قميصه عندما تجمعت فيه الريح فانتفخ بها، كانت غلطةً فادحة، اختل توازنه فسقط، وراحت العاصفة تدحرجه على الكثيب وهو يتشبث بحفنات الرمال، فجأةً فقد الأرض تحته، فتح عينيه الجريحتين بعذاب، امتلأ رعباً وهو يطير في السماء مثل عودٍ جاف، كان يحسُّ بابتعاد الأرض التي لا يراها تحته، اندفع بسرعةٍ هائلةٍ إلى الوراء، كان يتقلب على الريح مثل خرقة، والآلام تزرع نفسها كل لحظةٍ في عضو جديد، راحت الجبال التي خلَّفها وراءه منذ يومين تتعاقب عليه مجدداً، ارتطم بصخرة، ثم بجذع منشقٍ من جبل، لم يعد يشعر بذراعه اليمنى، وعندما تراءت له في غمرةٍ خاطفةٍ جدران قريته كان قد فقد كلتا ذراعيه، وراح يطير مضفوراً كعقال بعير، لمح بفزع تلك الأجساد المكومة في ساحة السوق، صرخ برعبه الهائل، واقترب بسرعته الخاطفة من صخرةٍ مقدسة، كان رأسه وصدره هما كل ما تبقى من جسده، حضرته الفكرة الأخيرة قبل أن تشق الصخرة رأسه..

    كان يعلم أن هوداً .. على حق !.
    أود : أن أتجه نحوي .. لأشعر بوجودي بعمق ..!


    " اللهم ألهمني رشدي ، و قني شرّ نفسي "

    تعليق


    • #3
      جميــل يا مجد
      علوان وسقف الكفــاية ، وكم أرهقتني هذه الرواية ....!
      محاماة واستشارات قـــانونية وتوثيق العقود

      تعليق


      • #4
        فضول طفل أم قدر رجل؟

        يا ولدي، يا مستقبل
        سمعتك أمس في الغرفة الأخرى تسأل أمك: أأنا فلسطيني أيضا؟ وحين قالت لك: نعم، خيّم صمت ثقيل في البيت كله، كأن شيئاً كان معلقاً فوق رؤوسنا فسقط، وانفجر دويّه، ثم صمت.
        وبعدها: لم أصدق أذنيّ، ولكنني صدقت أصابعي. كنت أقرأ حين رأيت الكتاب يرتجف بين يديّ. لا. لقد كان كل شيء حقيقياً إلى درجة مروّعة: سمعتك تبكي.
        ولم أستطع أن أتزحزح. كان ثمة شيء أكبر من إدراكي يولد في الغرفة الأخرى، عبر نشيجك الغامض، كأن مبضعاً مباركاً يشق صدرك ويضع فيه القلب الذي لك.
        وكان سؤالك ما يزال يدور في السقف ويرتد إلى أصابعي ارتجافاً: <<أأنا فلسطيني أيضاً؟>> ثم يهوي المبضع بتلك الحركة الخاطفة النظيفة التي يضربها جراح ماهر: <<نعم>>. ويخيّم الصمت، كأن شيئاً وقع، ثم أسمع صوتك تبكي.
        ولم أكن لأستطيع أن أتزحزح، وأرى ما الذي يحدث في الغرفة الأخرى، ولكنني كنت أعرف أن وطناً بعيداً آخذ في الولادة مرة أخرى، ثمة أرض، ومروج، وحقول من الزيتون، وموتى، ورايات ممزقة وأخرى مطوية، تشق طريقها نحو مستقبل من اللحم والدم، وتولد في صدر طفل.
        لقد اجتاحني ذلك الشعور الغامض الذي كبّلني حين ولدت قبل خمس سنوات، كنت واقفاً هناك أنتظرك تنبثق من المجهول إلى المجهول، وشعرت حين سمعتك تدخل إلى العالم باكياً بصراخ كالنحيب أنك سقطت على كتفي فغرزتني أكثر في الأرض.
        وها أنذا، في الغرفة الأخرى، أراك تولد مرة أخرى، أحسك تسقط على كتفي من جديد، فتدقني أعمق في الأرض. وأردت لو أستطيع تلك اللحظة أن أرى وجهك الصغير الذي يملأه عنفوان البراءة، كيف يتعمّد بالأسى، كيف تنزل عليه تلك ال<<نعم>> كما الكيّ، كيف تستأصل منك براءة الانزلاق فوق طفولة لا تعي الأنصال التي تنفرش أمامها.
        كنت تتكوّن، تلك اللحظة، أمام عيني أمك وأمام أصابعي التي كانت ترتجف مثل ورقة كتاب، كان ثمة من يسلمك البندقية، ويضع عينيك على زنادها.
        بين غرفتينا، وثمة الجدار، كانت شروش الأرض تزحف كالأسطورة وتصل بيننا من جديد، ولم أكن لأستطيع أن أتزحزح، وكنت أعرف بصورة غامضة تستعصي على اللمس، لماذا بكيت دون إرادة منك. إنني أؤمن بذلك الشيء المجهول الذي يحمل نفسه على الكلمات ولا يستطيع أحد أن يعرفه.
        كنتَ، دون أن تدري، تحسها، تلك الكلمة التي تعني الانتساب والشقاء، وقد تعني عندك نشوة النصر أكثر مما تعني عندي، ان السنوات التي تنسرب من عمري تضاف إلى عمرك، والأمل عندي لا يذوي، ولكنه ينتقل إليك ويضاف إلى آمالك، ويكبر عندك.
        كنتَ تحس ذلك، دونما ريب، وإلا: فلماذا بكيت؟
        أذكر وأنا جالس في الغرفة الأخرى أسمعك تولد مرة أخرى عبر النحيب كيف وُلدتُ أنا مرة أخرى:
        كنت في العاشرة حين حملتنا السيارات نحو عار الفرار، لم أكن أعرف أي شيء، لم أكن أحس شيئاً، كنت ما أزال أنزلق دونما وعي فوق براءة الطفولة، ولكنني تعمدت تلك اللحظة بمشهد لن أنساه: كانت الشاحنات قد وقفت، وتسللت بدافع من فضول الطفل أو قدر الرجل إلى حيث كان الرجال يقفون، وقد رأيتهم يسلمون أسلحتهم في مخافر الحدود، ليدخلوا إلى عالم اللجوء بأكفهم العارية. وعدتُ كئيباً، أحس شيئاً لا قبل لي بفهمه، وكانت أمي جالسة مع النسوة فأخذت أقترب منها كأنها ملجأ، وسألتني: <<ما بك؟>> فقلت لها: <<إنهم يسلّمون سلاحهم>>. وكما قالت لك أمك <<نعم>> قالت لي أمي يومذاك: <<نعم>>، وخيّم الصمت، كأن شيئاً سقط، وتحت سوط عينيها الذكيتين وجدتني أبكي.
        وولدت يومذاك مرة أخرى، كنت أنظر إلى الرجال من جديد نظرة لم يعتادوها مني، وكانت أمي وحدها تنظر إليّ نظرة لم أعتدها منها.
        لا تصدق أن الإنسان ينمو. لا. إنه يولد فجأة: كلمة ما، في لحظة، تشق صدره على نبض جديد، مشهد واحد يطوح به من سقف الطفولة إلى وعر الطريق.
        ومثلما استولدتني تلك <<النعم>> الجارحة، استولدتك <<نعم>> أخرى، وقد سمعتك كيف تلقفتها بنشيج إنسان ينبثق من المجهول إلى المجهول على إيقاع صوت لا يستطيع أن يتحرر منه.
        أكان سؤالك، كما كان سؤالي، فضول طفل أم قدر رجل؟
        لا يهم.
        لقد وُلدتْ، تلك اللحظة، الأرض القديمة داخل إنسانها الجديد، وشهدتُ هذه الولادة وأنا في الغرفة الأخرى، وأحسست بأن الشروش الصعبة على الاقتلاع قد ضربت في رقعة أخرى من سهوب الأجساد التي لا تنتهي.
        وحين دخلتَ إليّ، خيل إليّ أنك آت من غارك الخاص، وأن صوتا ما قد قال لك: <<اقرأ>> فأرعبك في البدء، .ولكنه وضع خطاك على بوابة الطريق

        غسان كنفاني بيروت 1967
        لكم اللحظة والدنيا لنا // ولنا الفردوس طابت سكنا
        ولنا في كل صبر نشوة // ولكم في كل بؤس حزنا
        تطلب الحب فلا تبصره // وطلبناه فجائتنا المنى
        إنما الإنسان شئ باهر // إن تحدى باليقين الوهنا
        ولنا كالطير في أسرابه// أغنيات تتمنى الوطنا
        يا رفيق الدرب لا يشغلني // غير أن تمتد فينا زمنا



        عمـــــــــان.............وأنا بعد

        تعليق


        • #5
          * الفُونِيكْـس
          لِـ أنّ لُغته وثيرة: يُرهقنا بِـ حرفه هذا الـ علوان.!
          شُكراً لِـ إطلالتك

          * الثائر السناني
          "
          لا تصدق أن الإنسان ينمو. لا. إنه يولد فجأة:
          كلمة ما، في لحظة، تشق صدره على نبض جديد،
          مشهد واحد يطوح به من سقف الطفولة إلى وعر الطريق.

          "
          أراني سـ أبحث عن غسان بِـ سبب ما أمطرتنا به سيدي.!
          فقط/
          شُكرا لِـ تسبيحات هذا الحروف الماطرة :
          على جبين قادمات حضوركَ البهي!
          //
          أود : أن أتجه نحوي .. لأشعر بوجودي بعمق ..!


          " اللهم ألهمني رشدي ، و قني شرّ نفسي "

          تعليق


          • #6
            مجد الرائعة
            إطلالتك هنا تعيد النور إلى المكان

            ستكون لي عودة مجدداً
            فقط أتيت لرؤية غسان العظيم هنا
            كم أحترم هذا الكاتب كثيراً
            شكراً للسناني

            ... ولأطلقها صيحةً صريحةً قاسية ...

            أيتها الأمة العربية : احذري حتى رجال السياسة من أبنائك ،
            لا لأنهم قد يخونوكِ أو يخدعوكِ ،
            ولكن لأنّهم قد يُخانون ويُخدعون !!
            ولأن كراسي الحكم قد تكون في بعض الأحيان وثيرةً إلى حدٍ تستنيم له الأعصاب وتخدر فيه الدماء الثائرة !!

            شهيد الأمة
            سيد قُطب

            تعليق


            • #7
              لمجد ورنين وجميع القراء الأعزاء:
              إن كانت مشاركتي بقصة المناضل غسان كنفاني دليلا للقراءة له فهنا كاتب آخر أهوى القراءة له


              نبوءة كافور الإخشيدي
              زكريا تامر

              صاح كافور الإخشيدي بأعوانه: (قبل ثلاثة أيام دخل البلاد رجل غريب اسمه المتنبي، وآمركم بإحضاره إلي فورًا حيا أو ميتًا).

              وكان المتنبي آنئذٍ يمشي في شوارع القاهرة، وئيد الخطى، متنقلاً من شارعٍ إلى شارع، وكل شارع يبدو لعينيه عالمًا جديدًا سحريا قادرًا على أن يهب بهجة تحول الرمل عشبًا أخضر.

              وبلغت بهجة المتنبي الذروة عندما رأى نهر النيل، فتوقف عن المسير، ونظر إلى ماء النهر كأنه طفل يشاهد بحرًا أول مرة في حياته.

              قال النيل للمتنبي: (اهرب. الهرب مما ينتظرك جرأة وشجاعة وبطولة).

              فلم يسمع المتنبي ما قاله النهر، إنما تدفقت إلى مخيلته كلمات كثيرة تتنافس على وصف نهر وامرأة وملك عادل.

              قال النيل للمتنبي: (اهرب، اهرب، اهرب!).

              ولكن المتنبي كان يجهل لغة الأنهار، واستمرت كلماته في التنافس على وصف نهر عظيم وامرأة جميلة وملك رحيم متسامح. ثم تبددت فجأة حين انقض على المتنبي عدد من الرجال الأقوياء، القساة الوجوه والأيدي، واقتادوه إلى قصر كافور الإخشيدي غير مبالين بتساؤلاته وصياحه النزق المحتج.



              كافور الإخشيدي: (المعلومات المتوافرة لدي تقول إنك لست مصريا).

              المتنبي: (إذا كنت مولودًا بالكوفة وجئت مصر زائرًا، فهل هذا مسوِّغ لاعتقالي ومعاملتي أسوأ معاملة).

              المتنبي (بهزء): (أمرك مطاع).

              كافور: (اخرس. ألم آمرك بألا تتكلم).

              المتنبي: (لن أتكلم).

              كافور: (ليس من حقك أن تتكلم أو تسكت إلا وفق أوامري. قل لي: ما اسمك).

              المتنبي: (المتنبي.. أبو الطيب المتنبي).

              كافور: (ماذا تشتغل).

              المتنبي: (لا مهنة لي سوى الكتابة. أنا شاعر).

              كافور: (لا تتحذلق. الشعر أيضًا مهنة لا تختلف عن مهنة الحداد والنجار والدهان وحفار القبور. اسمع. ما دمت تزعم أنك شاعر، فهل نلت إذنًا من السلطات المختصة).

              المتنبي: (وهل تطلب السحابة إذنًا إذا أرادت أن تمطر).

              كافور: (إني أكلمك عن قوانين وأنظمة، فلا تجاوبني بكلام منمق سخيف يصلح لأن يوجه إلى مراهقات. أنت الآن لست في الصحراء. أنت في بلاد يسودها التنظيم، وكل عمل لابد لصاحبه من أن ينال إذنًا رسميا قبل أن يمارسه، وأنت خالفت القوانين عندما نظمت شعرًا من غير إذن).

              المتنبي: (لقد جئت إلى مصر قبل ثلاثة أيام فقط، ولم أنظم بعد أي قصيدة، ولم أخالف أي قانون من قوانين البلاد).

              كافور: (أنت تدعي أنك شاعر، فما الدليل على أنك شاعر حقًا?).

              المتنبي: (أشعاري مشهورة في البلاد العربية كلها، ولا أحد يجهلها).

              كافور: (يا لك من وقح! أتجرؤ على اتهامنا بالجهل?).

              المتنبي: (كل ما أردت قوله هو أني شاعر ذائع الصيت. ونظمت كثيرًا من الأشعار).

              كافور: (هل غنّى أشعارك مشاهير المغنين والمغنيات? أم كلثوم.. لبلبلة.. وردة الجزائرية.. أحمد عدوية.. محرم فؤاد.. شادية.. عبد الحليم حافظ? ما لك صامت? لماذا لا تجيب? أرى أن وجهك قد احمرّ.. احمرّ خجلاً من افتضاح كذبك. سأُتيح لك الفرصة لتثبت أنك شاعر. هيا أسمعني بعض أشعارك).



              المتنبي:

              يا أعـدل الناس إلاّ فـي معاملتي فيك الخصام وأنت الخصـم والحكم

              أعيـذهـا نظـرات منـك صادقة أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم

              ومـا انتفاع أخـي الدنيا بناظـره إذا استوت عنـده الأنوار والظلـم

              أنا الذي نظـر الأعمـى إلى أدبي وأسمعـتْ كلماتي مـن بـه صمم



              كافور: (ما سمعته ليس سيِّئًا. أتجيد نظم قصائد المدح?).

              المتنبي: (سبق لي أن مدحت الكثير من الملوك والأمراء.

              كافور: (ما دمت تتقن المدح، فينبغي لك أن تنظم قصيدة في مدحي. أنت الآن في مصر، وأنا حاكم مصر. وإذا كنت لست عميلاً لأعداء مصر وتحب مصر، فمن واجبك مدح حاكمها).

              المتنبي: (أنا لم أمدح في حياتي سوى رجال عرفتهم، وعرفت ما لهم وما عليهم).

              كافور: (أتلمح إلي أنك لا تعرفني? ها أنا ذا قاعد قبالتك وقد صرت تعرفني).

              المتنبي: (لم أعرفك بعد المعرفة التي تتيح لي نظم قصيدة في مدحك).

              فابتسم كافور الإخشيدي، وأشار بيده إلى أعوانه، فهجموا على المتنبي، وطرحوه أرضًا، ووضعوا رجليه في فلقة، وانهال بعضهم بالعصا ضربًا على باطن قدميه، بينما راح بعضهم الآخر يركل رأسه وجسمه ركلاً شديدًا.

              تألم المتنبي، ورغب في أن يصرخ متوجعًا، ولكنه قاوم، وكظم رغبته، وما لبث الألم أن دفعه إلى الصراخ شاتمًا، مستغيثًا. فضحك كافور، وقال: (ما هذا الصوت الجميل? أنت لست شاعرًا. أنت تصلح لأن تكون مغنيا. الله! ما أجمل هذا الصوت! تابع.. أطربنا).

              وحين تحول صراخ المتنبي إلى بكاء ذليل، أمر كافور بالكف عن ضربه.

              ووقف المتنبي أمام كافور الإخشيدي محني الرأس بذل، مبتل الوجه بالدموع والدماء.

              كافور: (ستنظم قصيدة مطوّلة تمتدحني).

              المتنبي: سأفعل ما تأمر به.

              كافور: (سأعطيك مهلة مدتها سبعة أيام لنظم القصيدة، وستنجو من القتل إذا أعجبتني).

              وهمّ المتنبي بالخروج، فقال له كافور: (قف واسمع يا متنبي. إياك وأن تظن أني كغيري من الحكام. إذا أعجبتني قصيدتك، فلا تحلم بنيل درهم واحد من أموالي).

              وعاد المتنبي إلى كافور الإخشيدي بعد أربعة أيام، وأسمعه ما نظم من شعر في مدحه، فطرب كافور، وانتشى، وقال: (أنت شاعر حقّا).

              وفكر كافور الإخشيدي لحظات، ثم قال للمتنبي: (سأعرض عليك عرضًا لا مثيل له. اختر إما الضرب حتى الموت وإما الحصول على ألف دينار).

              المتنبي: (لا أحد يفضل الضرب على ألف دينار).

              كافور: (ستنال ألف دينار إذا نظمت قصيدة تهجوني فيها أقذع هجاء).

              حاول المتنبي أن يتكلم، ولكن كافورا قال له: (اسكت ولا تنطق بكلمة واحدة. إذا لم تنظمها ضربت، وإذا هجوتني نلت ألف دنيار).

              فوعد المتنبي بأنه سيهجوه، وبرّ بوعده، ونظم قصيدة في هجاء كافور الإخشيدي، ونال ألف دينار.

              وما إن خرج المتنبي حتى تصايح أعوان كافور الإخشيدي مستغربين مستنكرين، فقال لهم كافور بصوت صارم: (ستظلون أغبياء تجهلون التعامل مع البشر والحياة. سأشرح لكم ما فعلت وأسبابه. المتنبي شاعر متكبر، متعجرف، معتد بنفسه، ويجب أن يعاقب ولا سيما أنه سيكون في المستقبل من الشعراء الخالدين. وقد عاقبته شر عقاب. لقد أرغمته على مدحي ثم أرغمته على هجائي، وهذا التناقض سيصبح في المستقبل تهمة شائنة تدين المتنبي، وتبرهن على أنه مجرد مرتزق صغير غير جدير بالاحترام).

              وفيما بعد، اغتيل المتنبي، ومات كافور الإخشيدي، ولكن ما تنبأ به كافور تحقق وعوقب المتنبي شرّ عقاب حيّا وميتًا .


              له مجموعة : صهيل الجواد الأبيض : اضغط هنا
              لكم اللحظة والدنيا لنا // ولنا الفردوس طابت سكنا
              ولنا في كل صبر نشوة // ولكم في كل بؤس حزنا
              تطلب الحب فلا تبصره // وطلبناه فجائتنا المنى
              إنما الإنسان شئ باهر // إن تحدى باليقين الوهنا
              ولنا كالطير في أسرابه// أغنيات تتمنى الوطنا
              يا رفيق الدرب لا يشغلني // غير أن تمتد فينا زمنا



              عمـــــــــان.............وأنا بعد

              تعليق


              • #8
                قرأت صهيل الجواد الأبيض منذ ما يقارب السنة او أقل
                وجدتها رمزية إلى حدٍ كبير
                له مقالات رائعة بعنوان " هجاء القتيل لقاتله " على ما اذكر
                أملكه ولم أباشر بقراءته

                أعجبتني قصة كافور كثيراً
                شكراً

                ... ولأطلقها صيحةً صريحةً قاسية ...

                أيتها الأمة العربية : احذري حتى رجال السياسة من أبنائك ،
                لا لأنهم قد يخونوكِ أو يخدعوكِ ،
                ولكن لأنّهم قد يُخانون ويُخدعون !!
                ولأن كراسي الحكم قد تكون في بعض الأحيان وثيرةً إلى حدٍ تستنيم له الأعصاب وتخدر فيه الدماء الثائرة !!

                شهيد الأمة
                سيد قُطب

                تعليق


                • #9
                  بستان الذكرى

                  بستان الذكرى
                  عزت القمحاوي

                  كان العم عبد الفتاح يمتلك بضعة قراريط يكتفي بزرعها بالخضروات حسنة السمعة مع الحب : الفجل و الجرجير و الفلفل و البصل في الصيف، و الحلبة و الخُبيزة و الخس و الجزر الأحمر في الشتاء.و كان من يمتلك مثل هذه المساحة الضئيلة من الأرض بحاجة لأن يعير مجهوده للملاك الأكثر ثراء، لكن عبد الفتاح لم يكن يفعل ذلك اكتفاء ببستانه الشهواني الصغير الذي لا يحتاج إلى الاستيقاظ المبكر و لا إلى عنف و غلظة الفأس.

                  كان في أوقات العصر يمضي مع زوجته نجية الفارعة الممتلئة في بضاضة حتحورية، يتبختران في دعة مثل عاشقين جنبا إلى جنب على غير عادة الفلاحين في تقدم الرجل على زوجته في الطريق، منجله الصغير في يده و المشنة في يدها.و يعودان قبل المغرب خصوصا في رمضان ليجلسا معا أمام الجامع بمشنة الخضروات المُقسَّمة حزما بخوص النخيل.

                  و في قرية نحيلة الشوارع يستمع الجميع للخلافات خلف أبواب الآخرين،لم يكن أحد يستمع لصوت الزوجين لأنهما في الواقع كانا يعوضان بالليل غيابهما النهاري.لم يكن التأوه من العادات الليلية لدى نجية، بل كانت تلطم وجهها و تبكي بكاء مريرا.و لهذا السبب اعتاد عبد الفتاح ألا يقربها إلا في جوف الليل و هو يتصور أن جيرانه المنهكين لن يكون بمقدورهم الاستيقاظ حتى منصف الليل عندما يبدأ هو معزوفته الجنائزية التي تستمر حتى الفجر. لكن هذا كان محض وهم، إذ كان الشيخ حسنين ـ و هو رجل ضرير ـ يهمس لأصحابه بعد أن يجذب نفسا يشعل الجوزة المغمسة بالحشيش : من سره أن ينظر إلى امرأة من أهل الجنة فلينظر إلى نجية،لأنني ـ كما تعلمون ـ لا أستطيع يا غجر!

                  فيسألونه : و كيف عرفت يا شيخ الندامة ؟!

                  يقول: بأذني! أراهن أنها مثلهن ترتد عذراء كل مرة.

                  كان صخب نجية الليلي الحجة الجاهزة لكل أجير يضبطه صاحب الملك نائما في وقت العمل،رغم أن أحدا منهم لم يجرؤ أبدا أن يطلب الهدوء من عبد الفتاح الذي كان يأكل من خضرواته المهيجة أكثر مما يبيع.كان الجميع شهودا صامتين للعرض الليلي، و إذا حدث و تغيب أحدهم على مسافة كبيرة من القرية لسقاية أرضه ليلا في أوقات شح الماء كان بمقدوره أن يعاين الأثر صباحا في التخطيطات الجديدة بوجه عبد الفتاح.

                  وحده الحاج محمد ارتكب حماقة الرغبة في فعل الخير في أيامه الأخيرة فلقي ما لا يليق بتاريخه.الرجل المسن شيخ منسر معتزل، في دفتر أمجاده الكثير من الأعمال الكبيرة منها سرقة مواشي الخاصة الملكية في أنشاص و هي العملية التي فقد فيها إحدى ساقيه و استعاض عنها بعكاز من الخشب ينتهي بمخدع منجد بالقطن المكسو بحرير أخضر يستريح عليه الإبط.كان الحاج محمد يقضي أيامه والساعات الأطول من لياليه على حصيرة نظيفة و متكأ فوق المصطبة أمام داره مع صينية عليها فنجال و كنكة صغيرة و علبة بن و موقد كحولي أنيق صالح لإنضاج القهوة مع فص الأفيون.هذه التحويجة التي كانت قادرة في السابق على شحذ تفكيره أصبحت مهمتها في أيامه الأخيرة تشويشه لصالح روحه التي لم تكن على استعداد لتحمل التناقض بين عقل حاد و جسد معطوب.

                  و يبدو أن المسكين لم يتسن له بحكم أعماله الليلية في السابق أن يعرف ما يعرفه الجميع عن بكاء نجية،و بدافع من رغبة في الختام الحسن بفعل الخير كان الحاج محمد يستمع إلى نواحها فيتأبط عكازه و يحجل حتى شباك عبد الفتاح و ينقر له و هو يصيح : عيب يا ولد.. عيب يا عبد الفتاح، هذا ليس وقتا للضرب.. الصباح رباح يا ولد!

                  مرة، مرتان، ثلاثة و عبد الفتاح يرد خجلا: حاضر يا عم الحاج.

                  و رغم أن الظروف هيأت كل صباح للحاج محمد من ينصحه بالتغاضي عن صراخ نجية، إلا أنه كان دائما يبلغ الليل ناسيا و يكرر مسعاه الطيب.
                  لكم اللحظة والدنيا لنا // ولنا الفردوس طابت سكنا
                  ولنا في كل صبر نشوة // ولكم في كل بؤس حزنا
                  تطلب الحب فلا تبصره // وطلبناه فجائتنا المنى
                  إنما الإنسان شئ باهر // إن تحدى باليقين الوهنا
                  ولنا كالطير في أسرابه// أغنيات تتمنى الوطنا
                  يا رفيق الدرب لا يشغلني // غير أن تمتد فينا زمنا



                  عمـــــــــان.............وأنا بعد

                  تعليق


                  • #10
                    متمـيزٌ و راقٍ جداً بِـ اِختياراتكِ أيها الثائر
                    ===
                    نهايات

                    في غضب مزقت فاتورة الـنقال.. أقسمت أنهـا منذُ اللحـظة سوف لنْ تُـهاتفـه..
                    فـ إذا أراد أن يسـأل ، و أن يشـتاق .. فـ ليُهاتف.. أما هـي : إذا حضـر مسـاء العاشرة و لم يتصـل فـ ستُغلقُ الهاتف .. لِـ تحشره لِـهمه ، و تذروه لِـقلقه .
                    بل حتى و إن هاتفـها سوف لنْ تُجيـب من المرة الأولى ، حتى يحترق شوقاً، وربمـا تُفكّر في الردّ عليه في المرة الثانية أو الثالثـة..

                    التهمت عقارب الساعة نصف المساحة بعد الموعد.. أصابع رقيقةً بِـ شغفٍ تضغطُ على أزرار الـمحمول .. في المرة الأولى بكى الطرف الآخر وما من مجيب..
                    تكرر البكاء مرتين.. بعدها ، بـ تأففٍ تبسمل مسامعها ، أغضت ثم قالت : " اِشتقتُ لكَ " ..

                    لِـ نبهان الحنشي ؛
                    من مجموعته الأولى ( وما بكى )
                    أود : أن أتجه نحوي .. لأشعر بوجودي بعمق ..!


                    " اللهم ألهمني رشدي ، و قني شرّ نفسي "

                    تعليق


                    • #11
                      الصفقة
                      زكريا تامر






                      بلغ الجنين من العمر تسعة أشهر، وحان وقت خروجه من بطن أمه إلى العالم كي يظفر باسم وحارة ومدينة ووطن وأهل وأصدقاء، ولكنه لم يصدر عنه ما ينم عن عزمه على مغادرة بطن أمه الذي يقيم به، فقالت له أمه متسائلة بغيظ وسخرية: "إلى متى ستبقى في بطني؟ هل تنتظر حتى تصبح رجلاً ذا شاربين؟ ينبغي لك أن تشفق علي فقد صرت ثقيل الوزن الى حد أني بت لا أستطيع المشي".

                      قال الجنين: "أنا لا أحب السير في الظلام، ولن أغادر بطنك إلا إذا عرفت أولاً أي نوع من الحياة ينتظرني في العالم الذي سأصبح واحداً من أفراده".

                      فكرت الأم قليلاً، ثم قالت لجنينها: "أتريد كذباً يخدعك ويسعدك أم تريد صدقاً يقول لك الحقيقية ويشقيك؟ "

                      قال الجنين فوراً: "أريد الصدق وحده ولا سيما أن الصدق ينجي والكذب يردي".

                      قالت الأم: " إذن أنصت لما سأقوله".

                      قال الجنين: "قولي ما تشائين، فكلي آذان صاغية".

                      قالت الأم: " العالم الذي ستحيا فيه معتوه فظ قاس لا يرحم ولا يشفق".

                      قال الجنين: "ما من قوي إلا وفوقه من هو أقوى منه، وما من قاتل نجا من قاتل آخر أهرق دمه".

                      قالت الأم: "ستزرع الورد ولكنك لن تقطف سوى الشوك وحده".

                      قال الجنين:"لن أزرع إلا الشوك كي أقطف الورد".

                      قالت الأم: " من السهل أن تحزن والمن الصعب أن تفرح".

                      قال الجنين: " لن أحزن ولن أفرح".

                      قالت الأم: "ستحلم وتتمنى وتحب، فلا تحصد إلا الخيبات وموت الأحلام والآمال".

                      قال الجنين: "سأعرف متى أتكلم ومتى اصمت، وسيندم غيري".

                      قالت الأم: " الشجرة ذات الثمار الطيبة محكوم عليها بالهلاك بسبب طيب ثمرها".

                      قال الجنين: " لن أكون شجرة بل سأكون فأساً".

                      قالت الأم : " الأنهار تظل عذبة الماء حتى تصب في البحار المالحة، والأنهار أقلية والبحار أغلبية".

                      قال الجنين: "بحر كبير مالح خير من نهر صغير عذب المياه".

                      قالت الأم: " العلم في الصغر كالنقش في الحجر".

                      قال الجنين: " لا فائدة في العلم، لا في الصغر ولا في الكبر".

                      قالت الأم: " واجب العاقل إصلاح عيوب نفسه قبل انتقاد عيوب الآخرين".

                      قال الجنين:" عيوبي محاسن يليق بها الثناء، وفضائل الآخرين عيوب شائنة".

                      قالت الأم: " قد تضطر في أحيان كثيرة إلى أن تغضب، والغضب من شيم الحمقى".

                      قال الجنين:" أن أغضب ويقال عليّ إني أحمق أفضل من أصبح طعاماً لكل الأفواه".

                      قالت الأم: " من افتقر قلبه لم ينفعه غناه".

                      قالت الجنين:" هذا كلام لا يؤبه له، وأزدري قائله الذي لا بد من أنه كان فقيراً يوشك أن يموت جوعاً، ويده قصيرة وعينه بصيرة".

                      قالت الأم:" ستلتقي أناساً يدفنون الحسنة ويظهرون السيئة".

                      قال الجنين:" الكلب إذا أكل وشبع كثر نباحه".

                      قالت الأم: "وقد تفقد أصدقاءك صديقاً بعد صديق، ولا غم يشابه غم فقد الأصدقاء".

                      قال الجنين: " الأصدقاء هم أصدقاء في أيام الرخاء وأعداء في أيام البلاء".

                      قالت الأم:"اللئام كثيرون، واللئيم كالحية لا يوجد عندها إلا السم".

                      قال الجنين:" لن أكون كالطبيب الذي يشرب السم اتكالاً على ما لديه من أدوية".

                      قالت الأم: " تنبه الى أن الغالب بالشر مغلوب".

                      قال الجنين:" الماء مهما سخن يطفئ النار إذا صب عليها".

                      قالت الأم: "لا نفع في لؤلؤ لا يخرج من بحره".

                      قال الجنين:"من طمع في امتلاك اللؤلؤ، فليدفع الثمن للبحر".

                      قالت الأم:"سعادة المرء أن يكون رزقه في بلده".

                      قال الجنين:"سعادة المرء أن يكون رزقه من غير تعب".

                      فصاحت الأم بنزق:"إذا كانت لك هذه الآراء، فما مبرر بقائك في بطني؟"

                      قال الجنين:"أنا أنتظر أن تطلقي أبي الفقير وتتزوجي من آخر ذي ثراء وجاه ونفوذ".

                      فركضت الأم إلى أقرب مستشفى مشمئزة مستغيثة.
                      لكم اللحظة والدنيا لنا // ولنا الفردوس طابت سكنا
                      ولنا في كل صبر نشوة // ولكم في كل بؤس حزنا
                      تطلب الحب فلا تبصره // وطلبناه فجائتنا المنى
                      إنما الإنسان شئ باهر // إن تحدى باليقين الوهنا
                      ولنا كالطير في أسرابه// أغنيات تتمنى الوطنا
                      يا رفيق الدرب لا يشغلني // غير أن تمتد فينا زمنا



                      عمـــــــــان.............وأنا بعد

                      تعليق


                      • #12
                        سنضحك.. سنضحك كثيرًا
                        زكريا تامر


                        في يوم من الأيام، اقتحم رجال الشرطة بيتنا، وبحثوا عنّي وعن زوجتي، ولم يتمكنوا من العثور علينا لأنّي تحوّلت مشجبًا، وتحوّلت زوجتي أريكة يطيب الجلوس عليها. وضحكنا كثيرًا عندما خرجوا من البيت خائبين.

                        وفي يوم من الأيام، كانت السماء زرقاء لا تعبرها أي غيمة، فقصدنا أحد البساتين، فإذا رجال الشرطة يدهمون البستان بعد دقائق طامحين إلى الإمساك بنا، ولكنهم لم يوفقوا لأنّي تحوّلت غرابًا أسود اللون، دائم النعيب، وتحوّلت زوجتي شجرة خضراء، غزيرة الأغصان. وضحكنا كثيرًا من إخفاقهم.

                        وفي يوم من الأيام، تذمرت زوجتي من عملها في المطبخ، فذهبنا إلى أحد المطاعم، وما إن بدأنا نأكل حتى طوّق رجال الشرطة المطعم، واقتحموه عابسي الوجوه، وفتشوا عنّا تفتيشًا دقيقًا، ولم يجدونا لأنّي تحوّلت سكينًا، وتحوّلت زوجتي كأسًا من زجاج ملأى بالماء. وضحكنا كثيرًا لحظة غادروا المطعم قانطين.

                        وفي يوم من الأيام، كنّا نسير الهوينى في شارع عريض مزدحم بالناس والسيارات، نتفرج على ما في واجهات الدكاكين من سلع، فإذا رجال الشرطة يحتلّون الشارع، ويعتقلون المئات من الرجال والنساء، ولكنّهم لم يستطيعوا اعتقالنا لأنّي تحوّلت حائطًا، وتحوّلت زوجتي إعلانًا ملوّنًا ملصقًا بحائط. وضحكنا كثيرًا من غباوتهم.

                        وفي يوم من الأيام، ذهبنا إلى المقبرة لزيارة أمّي، فهاجم رجال الشرطة المقبرة، وقبضوا على أمّي، ولم ينجحوا في القبض علينا لأنّي تحوّلت كلمات رثاء مكتوبة بحبر أسود على شاهد قبر، وتحوّلت زوجتي باقة من الورد الذابل. وضحكنا كثيرًا من سذاجتهم.

                        وفي يوم من الأيام، هرعنا إلى المستشفى متلهفين، فزوجتي حامل في شهرها التاسع، وآن لها أن تلد. وما إن دنا فم طفلنا من ثدي أمه الطافح بالحليب حتى انقضّ رجال الشرطة على المستشفى، ولكنّهم عجزوا عن الاهتداء إلينا لأني تحوّلت رداءً أبيض وسخًا، وتحوّلت زوجتي مرآة خزانة خشبية ملأى بالثياب، وتحوّل طفلنا بوقًا لسيارة إسعاف مسرعة. وضحكنا كثيرًا من بلاهتهم، وسنظلّ نضحك .
                        لكم اللحظة والدنيا لنا // ولنا الفردوس طابت سكنا
                        ولنا في كل صبر نشوة // ولكم في كل بؤس حزنا
                        تطلب الحب فلا تبصره // وطلبناه فجائتنا المنى
                        إنما الإنسان شئ باهر // إن تحدى باليقين الوهنا
                        ولنا كالطير في أسرابه// أغنيات تتمنى الوطنا
                        يا رفيق الدرب لا يشغلني // غير أن تمتد فينا زمنا



                        عمـــــــــان.............وأنا بعد

                        تعليق


                        • #13
                          الغرفة
                          محمد اللغافي


                          تطلع التنهيدة من عمق مضطرب، يمرر يده على جبينه يمينا ويسارا،يستنهض نفسه ببطء، يتحرك جهة الباب الخارجي للغرفة ،تاركا كل أغراضه على مائدته الدائرية.. ..علبة سجائر..المشعلة….المنفضة المليئة بأعقاب ما دخن مند أن استيقظ.. .
                          تقريبا اثنا عشر عقبا في خلال نصف ساعة فقط. لم ينتبه إلى جمرة استغفلته .
                          وسقطت على المخدة التي كان يتوسدها،لقد أحدثت ثقبا ..وتركت رائحة لم تبرح
                          المكان ..لأن النافذتين مغلقتين ..رغم اهترائهما فلا تستطيعان ادخال الهواء ،..حتى الصورة المعلقة بينهما اختفت ملامحها في غبار السنين التي مرت عليها.
                          لم تعد تشبهه الصورة رغم تنظيفها،..الصورة وسيمة ببسمة الشباب المرسومة على محياها ..وأناقة معطفها وربطة العنق ..لم يعد يلتفت إليها مند زمن بعيد..لأن وجهه تآكل وغادرته البشاشة،
                          كل شيء بالنسبة إليه يسير وفق مخطط يعاكس أمنياته
                          في وقت ما كان نظيفا ..هو ما زال كذالك داخليا ..أعني قلبه..رغم أن معطفه البني
                          أصبح داكنا كفراشه الذي لا يهتم به أحد.
                          هو غير نادم على عزلته الاختيارية واغترابه الإجباري..، بوضوح تام..كل أحلامه
                          تبخرت ..لم يعد يهتم بالأيام ..وتخامره فقط بعض أسئلة استفزازية..لماذا هو كائن ؟؟؟
                          وما دور كينونته في الحياة؟؟.
                          انحنى ليفتح قفل الباب ، ..فوقعت من جيب معطفه محفظة وثائقه الصغيرة .
                          ليس فيها شيئا مهما..فقط .. بطاقة تعريف وطنية استوفت أجلها مند خمسة عشر سنة
                          مرقون عليها ..
                          الإسم العائلي.. بشوش
                          الإسم الشخصي .. سعيد
                          المهنة.. أستاذ
                          تاريخ الازدياد1..6..1958 .قد يكون ليس صحيحا ..وضعه له أبوه بالتقدير لما تأقلم مع الحياة الجديدة في المدينة وسجل نفسه في الحالة المدنية.
                          العنوان ..شقة 6..العمارة باء..شارع الورد الدار البيضاء.
                          كل هذا ولا يحتفظ إلا بذكرى واحدة ،..متمثلة في صورة رومانسية أمام برج إيفل بباريس.
                          استجمع محفظته ..وأعادها إلى جيبه ..وتردد في الخروج..ربما تذكر أنه نسي شيئا ..
                          استدار ..وعاد إلى الغرفة يبحث تحت المخدة ..لم يجد ما يبحث عنه ..كمش على الغطاء بكلتا يديه.ونفضه نفضا ..فسقطت ورقة نقدية من فئة 20 درهما..ضغطها في جيب سرواله، وجلس على أريكة باهتة ..بل أسقط مؤخرته عليها حتى سمع أزيز خشبها المتهالك..وطار غبار الأعوام المتناثرة كأوراق الخريف ..
                          استعمل سيجارة أخرى ..ودخن بعنف ..،
                          كان يسف الدخان بملء رئتيه .. ثم ينفته كتلة سحاب تغطي السقف القصديري الصدئ..تقريبا في خمس مصات أحرق السيجارة عن آخرها.
                          صوت ما هذه المرة يتوغل بين أذنيه..الصوت ليس غريبا ..يبدو مألوفا ..ولكن ليس الآن..
                          هذا الصوت غاب عنه مند عشرين سنة تقريبا..الصوت قادم من الخارج رفقة معية مجهولة..
                          أطفأ العقب في المنفضة .. قام مسرعا مندهشا رمى الخطوة الأولى فانكفأت المائدة الدائرية وتناثرت الأعقاب على أرض الغرفة ..وتكسرت المنفضة وتناثر رماد السجائر المحروقة هنا وهناك..فخر على ركبتيه يحاول جمع أغراضه..وكلما تحرك تحركت المائدة إلى جانبه ..أدرك أن مسمارا طائشا التصق بمعطفه..فتخلص منه ..وقام يتصبب عرقا ..أعاد المائدة إلى وضعها ..والصوت ما زال يكبر ..يقترب..
                          فاهتزت فرائصه وتسارعت دقات قلبه مع دقات الباب .
                          هرول جهة الصوت..انحنى..فتح القفل ..سحب الباب وراء ..
                          لم يكن هناك صوت
                          ولا يد تدق..
                          لكم اللحظة والدنيا لنا // ولنا الفردوس طابت سكنا
                          ولنا في كل صبر نشوة // ولكم في كل بؤس حزنا
                          تطلب الحب فلا تبصره // وطلبناه فجائتنا المنى
                          إنما الإنسان شئ باهر // إن تحدى باليقين الوهنا
                          ولنا كالطير في أسرابه// أغنيات تتمنى الوطنا
                          يا رفيق الدرب لا يشغلني // غير أن تمتد فينا زمنا



                          عمـــــــــان.............وأنا بعد

                          تعليق


                          • #14
                            سأعود لأكمل ما توقفت عنده من جمال ماطر ...

                            شكراً لـ قلوبكم جميعاً



                            مو حزن ... لكن حزين

                            تعليق


                            • #15
                              اللامهتم
                              هلال السعيدي


                              اتصل بي والدي يوم الأربعاء، وربما كان ذلك يوم الثلاثاء، ولست متأكداً في أي يومٍ اتصل، وطلب مني أن آتي إلى المنزل ليكلمني في موضوع هام، كما وصفه، ولم أكن متأكدا من أهميته، ولم أكن راغباً في ذلك، إلا أني ذهبت .

                              وصلتُ إلى المنزل مساءً، وربما كان ذلك قبل المساء بقليل، ولا أذكر متى كان ذلك بالضبط، ووجدت أسرتي تتناول الطعام، ودعتني أمي للجلوس والأكل معهم، إلا أني لم أكن جائعاً، ولكني أكلت، وأعتقد أنه كان من الأفضل أن لا آكل، فمعدتي لم تكن تتحمل الكثير من الطعام، إلا أني رأيت من الأفضل مشاركتهم، ومع ذلك أعتقد أنه ليس مهماً إن كنت شاركتهم أو لم أشاركهم .

                              بعد تناول العشاء، قال لي أبي : إننا نرغب في عقد قرانك على فتاة، فهل أنت راغبٌ في ذلك ؟ فرددت عليه : كلا لست راغباً، إنني أفضل أن أظل هكذا، حتى الآن على الأقل ! وبدا عليه بعض التأثر، وظننته سيصمت، إلا أنه قال: إن هذا من أجل مصلحتك، وقد أصبح سنك مناسباً للزواج، وجل أقرانك تزوجوا !، سنذهب مساء غد لزيارة أهل الفتاة حتى تراها..وقد أردت أن أرفض، إلا أني لم أفعل، ولم أكن أعتقد أن الزواج لمصلحتي، وكنت أريد التعليق على كلامه، وعزمت على فعل ذلك، إلا أني صمت .

                              في اليوم التالي، ولا أذكر أي يومٍ هو، ذهبنا لزيارة أهل الفتاة، وكانت أمي معنا، وأعتقد أنه كان من الأفضل أن لا تأتي معنا، إلا أني رأيت وجودها جيداً، كونها ستعاين الفتاة عن قُرب، ولم أكن مهتماً بذلك. تناولنا القهوة في منزل أبي الفتاة، وفاتح أبي والدها في الموضوع، إلا أنه لم يكن متفاجئا، وأعتقد أن والدي كلمه قبل أن يأتي، ورحب بأمر خطبتي لابنته، وأثنى عليّ، وأعتقد أنه كان يثني على والدي، وليس عليّ، كونه لا يعرفني، ولم أكن مهتماً بمعرفته، ولا بثنائه.

                              ثم جاء الأب بابنته، وأراني إياها، وكانت ترتدي نظارة طبية، وأعتقد أنه من الأفضل لو لم تكن ترتديها، وكانت خجلة، ولم أر سبباً قوياً لذلك، إلا أني رأيت أنه من الأفضل لها أن تكون كذلك، ولم تكن قبيحة، إلا أنها لم تكن جميلة، كما أتمناها ، ولم أقرر شيئاً حيالها، ولا أعتقد أنها فعلت، ولم أشعر بشيء، وربما كان من الأحسن لو شعرت، ثم انتهى الأمر بغتة، واستأذن أبي في الانصراف، واعداً بالرد خلال أسبوع، وكذلك أبو الفتاة!

                              وركبنا السيارة عائدين إلى المنزل، ولم تكن لي رغبةٌ بالقيادة، ولكني قُدت، وقد كنُت مضطراً لذلك حتى أعود ووالديّ للمنزل! وفي طريق العودة قال لي أبي : ما رأيك إنها فتاة جميلة، وصاحبة أخلاقٍ عالية، ومن أسرة محترمة، هل تريدها ؟ وكذلك قالت أمي !، فقلت : كلا لا أريدها ! ثم صمت، وغضب والدي، وأعتقد أنه كان ينبغي ألا يغضب، ولم أر سبباً لغضبه، وقال لي: وماذا تعُيب فيها؟ إنك لا تبدي سبباً قوياً للرفض ! وهممت بالقول له : أني لم أشعر بشيء تجاهها، ولا أحب الفتيات اللاتي يرتدين مناظير طبية، وانفرجت شفتاي إلا أني أطبقتهما في آخر لحظة ، ولم يكن ذلك احتراماً أو مراعاة له، ولكنه تكاسل في الرد عليه، ولم يكن مزاجي رائقاً للأخذ والرد مع أحد، وفضلتُ المناورة، قائلاً باقتضاب : سأفكر وسأعطيك جوابي خلال أسبوع . ثم ساد الصمت إلا من نغمات موسيقية هادئة منبعثة من مسجل السيارة .

                              اليوم السبت، كما بدا لي، حيث أني ذهبت للدوام، ووجدت زملائي كذلك، ولقد شربت شاي الصباح معهم، وكان لذيذا، وربما كان ألذ لو أضيف إليه المزيد من السُكر، وبعدها أنجزت أعمالاً روتينية، ثم هاتفني منسق المسؤول الكبير، قائلاً لي : إن المسؤول راغبٌ في رؤيتي، ولم أكن أرغب في رؤيته، لكني قلت له سأحظر! وقد تعمدت التأخر عليه لا لشيء سوى عدم رغبتي بمقابلته، كوني توقعت أن يسند لي عملاً كبيراً، ولم أكن أريد ذلك، لأني اعتقدت أن أعمالي تكفيني . وذهبت إليه، ودخلت مكتبه وسلم علي، وسلمت عليه، وجلست على الكرسي المقابل لطاولة مكتبه، ولم يطلب هو مني الجلوس، ولكن تصرفت بأريحيتي، وكان ينظر بعينيه لبعض الأوراق أمامه، ثم رفعها فجأة وقال لي : لقد اطلعت على كشف بالكتب المستعارة، وإنك استعرت كتباً كثيرة ولم ترجعها، ويبدو أنك لا تقرأها ولكن تحتفظ بها وتهملها، وإنك عابثٌ بالمال العام، وهذه أمانةٌ لم تراعها، ونحن نفكر بتقديم أمثالك للمساءلة، ولم أتوقع هذا منك !

                              ونظرت إليه بلا مبالاة، وقلت له بلهجة قصدت أن تظهر أنها منفعلة : إن هناك خطأً ما، لقد استعرت ثلاثة كتب فقط، ولسوف أرجعها، أما البقية فلا علاقة لي بها !

                              إلا أنه واصل نقدي وتجريحي، ولم أكن أشعر بشيء في نفسي تجاه ما يقول، ولم أكن أكرهه أو أحبه لحظتها، ولا ما سبقها أو تلاها من لحظات، وفجأةً خطر ببالي أن أصفعه، ورأيت خده يانعاً للقطاف، وطفقت أجهز راحة يدي لصفعه، وتملكتني رغبة عارمة لفعل ذلك، إلا أني بالطبع لم أصفعه، وتركته يفرغ انفعالاته، ثم قُلت له : إني مستعدٌ لتحمل التبعات، أياً كان نوعها! وقد قلتها بانفعال ما لا أدري كنهه، ولا ما كان، إلا أنه عندما سمع عبارتي الأخيرة هدأ قليلاً، ولم أكن مكترثاً لهدوئه، كما كنت لست مكترثاً لغضبه، ثم رجاني أن أرجع ما بحوزتي من كتب، وفكرت لحظتها أنه ينبغي أن يسترحم لي لأرجع ما بحوزتي من كُتب، وأن يقبل قدمي، إلا أني رأيت الفكرة تافهة، وكنت أود أن أقول له: إني مازلت بحاجةٍ إليها. ولكن عبارتي كانت: حسناً ! .
                              ورجعت إلى المنزل بعد انتهاء الدوام، ولم أر أحداً فيه، إلا أني سمعت صوت أمي في مكان ما منه لاحقاً، ودخلت غرفتي وتمددت على سريري، ثم أغمضت عيني، إلا أني كنت أفضل إبقاءهما مفتوحتين، وبعدها سمعت طرقاً على باب غرفتي، ولم أنهض لأفتح، لكن الباب فُتح، وفتحت عيني ورأيت أبي داخلاً غرفتي، وكنت أرغب في القيام احتراما له، لكني لم أفعل، ولم يبد هو اهتماماً، وبادرني قائلاً : هل فكرت؟ ما هو جوابك النهائي؟ ولم أُجب، لأني لم أعرف ما أقول ! ولم أكن مهتماً بالإجابة بنعمٍ أو لا، ولكن أبي قال: إذن أنت موافق، كونك لم تقل شيئاً، سنعقد قرانك الخميس القادم، وابتسمت وقلت لنفسي ولم أقل لأبي: إن هذا شيء نفعله في الحياة فلننتهي إذن، إلا أني تذكرت في تلك اللحظة أني مرتبطٌ بجلسةٍ جميلة مع صديقتي، ولم أكن أريد أن أفوت الموعد، وأرسلت لها رسالة نصية بأننا سنلتقي لكن في وقتٍ متأخر نظراً لعقد قراني في ذات اليوم، وردت بأنها حزينة لعقد قراني، ولكنها مع ذلك ستراني، ولم أهتم لحزنها، ولم أعلق عليه .

                              ومضى الأسبوع سريعاً، وجاء يوم عقد القران، وطلبت مني عائلتي أن أرتدي الشال والخنجر والمصر، إلا أني اكتفيت بالخنجر والمصر، وأهملت الشال، ثم ذهبت معهم إلى بيت العروس، وقُدمت كما يقدم القُربان أمام الشيخ الذي سيعقد قراني، وكان ذا لحية سوداء خطها بياضٌ من منتصفها، وطلب مني أن أمد يدي، بعد أن مد يده، ولم أر داعياً لذلك، لكنه أصر، وكنت على وشك رفض طلبه، لكنني مددتها في النهاية، ثم بدأ في همهمات لم أفهمها، إلا أني استنتجت أنه ينطق بأمور دينية لازمة لعقد القران، ثم طلب مني أن أعاهده على حسن العشرة والسير مع زوجتي بالمعروف، وأشهد عليّ الجماعة الحاضرين، وطلب مني أن أقول قبلت، ووجدت ذلك مقيتاً، وتمنيت لو قبضت على لحيته بيدي لحضتها قائلاً له: لست أنت من يملي عليّ هذه الأوامر أيها التافه بل سأفعل ما أراه مناسباً، ولتعلم أن كلماتك وإرشاداتك لا يطبقها أحد، ولتعلم أن حالات الطلاق في ازدياد، وأن الرجال يخونون النساء، وأن النساء المتزوجات يخن أزواجهن، وإني أعرف كثيراً من هذه القصص، وربما أنت نفسك تخون زوجتك مع أخريات!، وتجهزت لسحقه تماماً وتمريغ كرامته في التراب، لكني لم أشأ أن أوتر الموقف طبعاً، وقد قلت : قبلت.. ثم انتهى الأمر وعانقني بشراسة زاعماً أنه يتمنى لي حياةٍ سعيدة، ثم بدأ آخرون يباركون لي بطرق مختلفة، إلا أني كنت أفكر لحظتها بصديقتي، وأني ربما أتأخر عليها .

                              ثم أخذوني إلى مكان العروس، وأجلسوني بجانبها، وقد بدت جميلة على خلاف المرة السابقة، إلا أني ظللت لا أشعر بشيء تجاهها، وقد ظللت صامتاً طوال تلك المراسم، ولم أشعر أنه من الضروري أن أبتسم، إلا أني ابتسمت عدة مرات للضرورة القصوى فقط، وبعد نهاية المراسم، كنت مستعجلاً للذهاب، كوني تأخرت على صديقتي، وكانت أختي تريد أن تعطيني رقم هاتف زوجتي لأهاتفها متى أحببت، لكني قلت لها : أني مشغول الآن وسآخذه لاحقاً، ورأيتها منذهلة قليلاً، لكني كنت مستعجلاً، ولم يكن الوقت مناسباً لأشرح لها .

                              والتقيت بصديقتي، وكنت أود أن اعتذر لها على التأخير، إلا أنها لم تطلب ذلك، ولم أقم أنا به، لكونه بلا أهمية، وعبرت لي عن حزنها بسبب ارتباطي بأخرى غيرها، وقلت لها : إن هذا لا يعني شيئاً، فأنا لا أحبها . فقالت لي : إذن أنت تحبني أنا؟، وفي الحقيقة لم أكن أحب أياً منهما، كما لم أكن أحب نفسي، ولم أشأ أن أقول لها أني لا أشعر بأي بشيء تجاه أي أحد.. ولم أجب، ولم تهتم هي بأن تجد الإجابة، وقد كان هذا مريحاً لي.

                              في اليوم التالي صحوت من النوم متأخراً، إلا أني عُدت للنوم مجدداً، ولم أعرف سبب ذلك، ثم صحوت مجدداً، بتثاؤب وكسل، ولكن هذه المرة كانت أمي هي من يقوم بإيقاظي، ورأيتها تبكي، ولم أشأ سؤالها عن سبب ذلك، كوني شعرت أن ذلك لا يعنيني، لكنها بادرتني قائلةً : إن زوجتي توفيت هي ووالدها في حادث سيارة صباح اليوم وأن عليّ أن أتجلد وأذهب إلى المقبرة حيث يواريان الثرى، ورأيت الأمر عادياً، فهناك أناسٌ كثر يموتون بحوادث السيارات، وأعتقد أنه كان عليّ أن أظهر بعض الحُزن أمام والدتي، إلا أني لم أفعل، وقد لاحظت هي ذلك، لكن ربما اعتقدته صدمة، وربما لم تعتقده كذلك !
                              ارتديت ملابسي، وأدرت محرك السيارة ذاهباً إلى المقبرة، واستمتعت بسماع بعض الأغاني العاطفية حتى وصلت، وقد كان صوت المسجل عالياً، وأعتقد أنه من الأفضل لو كان منخفضاً، إلا أني لم أقم بخفضه .

                              وصلت إلى المقبرة، وكانوا قد أنزلوا الجثتين في اللحد، ورأيت جمهرةً من الناس، وعندما رأوني جاء أقارب لي وللزوجة الراحلة للتعزية، إلا أني منعتهم قائلاً : انه يجب علينا الإسراع في دفن الجثتين ، وقد اقتنعوا بكلامي، وبدأوا في مواراتهما وإهالة التراب عليهما، وكنت أريد الانتهاء من ذلك بأسرع وقت ممكن، لارتباطي بجلسة صباحية لشرب القهوة في أحد المقاهي بالقرم مع بعض الأصدقاء، وبعد الانتهاء من الدفن، جاءوا للتعزية مجدداً، ولم أجد مفراً من ذلك، وحاولت أن أتصنع بعض الحزن، إلا أني فشلت، وقد انتهيت من تعزيتهم بعد فترة تخطت الربع ساعة، وقد أحسست بالإرهاق من جراء ذلك، ورأيتهم تافهين، فما الجديد في كل ما فعلوه !، إنه شيءٌ يحدث باستمرار وللجميع بلا استثناء، إلا أني لم أقل لهم ذلك، ثم أراد والدي أن يصطحبني إلى مكان العزاء، مؤكداً على أن ما حدث لي يعد فاجعة، ولم أرالأمر كذلك، لكني قلت له : نعم هو كذلك بالفعل !، ثم صمت قليلاً قائلاً بعدها : إني مرتبطٌ بموعد مسبق، وقد لا أتمكن من البقاء في العزاء الفترة الصباحية وربما أحضر عصراً، ومعنوياتي ليست جيدة، ورأيته جامداً، إلا أني مضيت راكباً سيارتي، مشعلاً سيجارتي المفضلة، منطلقاً باتجاه مقهى الأصدقاء ..
                              لكم اللحظة والدنيا لنا // ولنا الفردوس طابت سكنا
                              ولنا في كل صبر نشوة // ولكم في كل بؤس حزنا
                              تطلب الحب فلا تبصره // وطلبناه فجائتنا المنى
                              إنما الإنسان شئ باهر // إن تحدى باليقين الوهنا
                              ولنا كالطير في أسرابه// أغنيات تتمنى الوطنا
                              يا رفيق الدرب لا يشغلني // غير أن تمتد فينا زمنا



                              عمـــــــــان.............وأنا بعد

                              تعليق

                              يعمل...
                              X