تبسم وهو يلقي بالصنارة للمرة ..لم يعد يدري ربما كانت العاشرة أو أكثر .. تغطس الفلينة مرة مرتان .. يسحبها فارغة ويعيد تجديد الطعم .. ( البزرة ) صغار السمك التي فقست حديثا ً من بيوضها ً.. تتجمع وتبدأ بتنقير الطعم والبعض من هؤلاء الصغار المشاغبون يكون أكبر حجما ً بقليل ..يملك شيئاً من القوة .. يخدعه .. يشد الطعم المعلق بالصنارة فيظن أنها سمكة تستحق أن تعلق .. يسحب بسرعة ليفاجأ بأن عملية سحبه للسنارة تساعد تلك السمكة المتعلقة بالطعم فيبقى الطعم في فمها وتخرج السنارة نظيفة .. ضحك لهذه اللعبة التي يمارسها معه هؤلاء المشاغبون الصغار الذين لا يفسحون في المجال لسمكة كبيرة .. إنهم كالأولاد الصغار الذين يقلقون راحة الجميع وهم يعبثون ويتصايحون في الأزقة المجاورة في مساءات الصيف الحارة لا يرتاحون ولا يتركون لك فسحة للتأمل والتفكير أو مراقبة برنامج تلفزيوني تحبه .. رأى وكـأن صغار السمك يلاعبونه ..يعبثون معه ..يمازحونه .. لكن بإصرار وعناد لا يكلون ولا يملون .. إنهم يتميزون بشراهة لاحدود لها.. ربما لكثرتهم .. رغم أنه يلقي لهم بحفنات متكررة من فتات الخبز المبلل لكي يلهيم عن الطعم دون جدوى .. يلتهمون الخبز ويلاحقون الطعم في آن واحد .
تنقل على الرصيف البحري لمرفأ القوارب من صخرة إلى أخرى في محاولة منه للهرب من المشاغبين خفيفي الظل والحركة لكن لا فائدة .. يتجمعون حيث يلقي بالصنارة .. أطال المسافة مابين السنارة والفلينة ..سحب حلقات القصبة لكي تبتعد أكثر .. لافائدة فهم من الكثرة بحيث أنهم يشكلون طبقة سميكة ويحتلون مساحة واسعة . يلاحقون الطعم .. يتجمعون بلمح البرق حول كل ما يلقى في الماء .
يراقب الفلينة بصبر وهدوء أكسبه إياه التعود على الصيد بالقصبة ومراقبة حركة البحر وزرقته الصافية المنسجمة مع زرقة السماء والتي تشيع الهدوء في النفس والقدرة على التحمل .
الصيد بالقصبة هواية .. تسلية .. تقطيع وقت كما يقولون .. بالنسبة له هروب من ذلك البحر المتلاطم خلفه .. المليء بالوحوش والقروش الوقحة الكبيرة التي تجري خلف رائحة الدم لتنهش دون رحمة بالضحايا الغير قادرة على الدفاع عن نفسها.. تلك الضحايا الغافلة التي يشدها الهدوء الظاهر على السطح وليست لديها الخبرة بما يجري تحت السطح ومافيه من تيارات قد تجرفهم وتودي بهم .. لايقدرون على رؤية مايجري تحت . تعمي المغريات عيونهم وقلوبهم وعقولهم . يصبحون هم الطعم والضحية .. يمر قرش ..ينهش ويهرب .. سمكة كبيرة .. ضخمة .. تملأ فمها منهم ثم تستدير عائدة إلى الأعماق .
ما أشبه المجتمع بهذا البحر مع ذلك الفارق بأن الفطرة وقانون الطبيعة هو الذي يحكم عالم البحر أما هناك ..في المجتمع ..تحكم عدة قوانين متناقضة بلا أي انسجام ..كل مجموعة تضع قوانينها الخاصة ..البعيدة عن المنطق .. حتى أولئك الذين يأخذون دور القروش المفترسة لكل منهم قانونه الخاص بحكم القوة والمال والسلطة التي تتحول الى خادم لهم بفعل هؤلاء الفاسدين المنحرفين الذين يهرون كالكلاب الأليفة بين قدمي أصحاب المال المنهوب وعندما تسمن تلك الكلاب وتكبر..تغادر السلطة لتأخذ نفس الدور ولايهم بعد ذلك إن كان ذاك المتسلط غبياً ..تافهاً .. حقيراً . دونيا ً . أم لا .. من يتحكم بحركة المال هو الأقوى .يتعاملون معه كعبقري مع أنه بغل ابن جحش .يدوس القوانين والأعراف وكل القيم ويتابع سيره .. هذه أحد الأسباب التي جعلت قسماً كبيراً يجري خلف المال كالثعالب أو الذئاب أو كالكلاب المسعورة .. يريدون تقليد بعضهم بعضا ً .
خرج من رحلة التخيل هذه عندما غمزت السنارة .. أحس بفرح طفولي .. شد القصبة .. كانت هناك مقاومة .. فجأة لاحت سمكة في الهواء معلقة بطرف الخيط .. أوه .. إنها (سمنيسة) بنية ممتلئة .. هذا جيد .. بدأ السمك الكبير يأكل وهرب المشاغبون الصغار .. عندما أمسك بها يريد تخليصها من السنارة وإلقائها في السلة الصغيرة لسعته بشوكتها ..آلمته اللسعة .. هو يعرف أن لسعتها مؤلمة ..لكنه قانون الطبيعة وعدم الحرص والتبصر .. ربما أخذته نشوة الفرح .. تريد هذه السمكة أن تدافع عن نفسها حتى آخر لحظة .. هذا من حقها .. ألسنا مثلها .. نتخبط ..نقاوم عندما نحشر .. تزداد مقاومتنا وخاصة إذا تعلق الأمر بالحياة .. القى بها في السلة وبدأ يمتص اصبعه مكان اللسعة .. تملكته نشوة الانتصار . هذه أول سمكة .. سارع يعلق طعما ً جديدا ً في الصنارة ويلقي بها في البحر . ثم سرعان ما علقت (سرغوسة) وأخرى وهكذا ازداد العدد بمرور الوقت يبدو أنه رف سمك يمر بالمكان أو يبحث عن وجبة .. ألهاه ذلك عن خيالاته لبعض الوقت ثم بدأ تنقير السمك يخف رويدا ً رويدا ً .. بدأت الغبشة تقترب كان يراقب الفلينة التي تتراقص على صفحة الماء مع مويجات لطيفة حركتها نسمة غربية صار بالكاد يراها مع ازدياد غبشة المغيب .. نحن نعيش نفس الحالة في حياتنا ..بعضنا يأخذ دور الصياد .. يلقي الطعم .. والبعض الآخر يأخذ دور السمكة الباحثة عن لقمة عيشها وعندما تلاحظ أو تشم الرائحة تفتح فاها بكل غباء وبلادة تلتقط الطعم فتنغرز السنارة في الحلق .. هناك ..بيننا بعض الحالمين بالثروة السهلة يلقون لهم بالطعم ..يعضون عليه .. تبدأ المشكلة والبكاء والعويل والشكوى .. لقد خدعوني .. ضحكوا علي .. نهبوا مالي .. ولكن أيها الغبي لما لم تفكر وتعمل العقل جيدا ً قبل أن يصطادوك .. هذا لأنك طماع ..نتن .. تريد ثروة سهلة .. إذاً .. خذ الإصبع الوسطى .. اقبض ..يا حمار .. عفوا ً .. نحن نظلم الحمير عندما نشبهكم بهم .. هم أفضل منكم .. هم .. الحمير .. تقدم الخدمات المفيدة بكل صبر وتحمل لتفاهاتكم ..ولو نطقت الحمير لسمعنا منها العجب . . ربما ترفض أن تتلبس صورتكم وعقولكم .
الثقافة الاستهلاكية التي انتشرت في مجتمعاتنا ..أفسحت في المجال واسعا ً للتغيير نحو الأسوأ ..انقلب المجتمع الى غابة ..ولكنها غابة من نوع آخر تهدر فيها القيم النبيلة وترتفع فيها أصوات الأنذال الذين باتوا يحلمون باعتلاء أكتاف الإنسان الحقيقي .
في الغابة الطبيعية ..صحيح أن الأقوى يأكل الأضعف ..ولكن ذاك الحيوان الأقوى يكتفي عندما يشبع ولا يعود يلتفت إلى الأضعف ولو جلس معه .. في حضنه .. ولو دخل وجاره .. أما في غابتنا البشرية فهم لا يشبعون .. البعض تأخذهم لذة القتل والنهب . يبحثون عنهم . ليس لإشباع معدة ولكن لإشباع غريزة منحرفة .. حقيرة .. مخالفة لكل قوانين الطبيعة ولحقائق الحياة . يحلو ما بأيدي الآخرين في عيونهم .. يمدون اليد يستولون عليه بكل بساطه ..و..افعل ما تشاء . اكفر ..إصرخ . إشتم . لا يهمهم . وإذا ساءت الأمور يقولون لك راجع القضاء ..وهناك بعض القضاة المبرمجين .. المعلبين . جاهزين لإجراء عملية تخدير وإفقاد الوعي وتغييب الحقائق ..واصبر يا مؤمن .!!. الفاسدون .. اللصوص .. المنحرفون .. السفلة ..باتت أموالهم تحميهم ..يشترون بها تلك النفوس الضعيفة ..الرخيصة التي تمارس سلطة من نوع ما..؟.. خطرت بباله تلك الأغنية الشعبية الفلسطينية التي تقول ( ضرب الخناجرولا حكم النذل بي )..لكن بعض الأنذال احتلوا كراسيهم في غفلة من الزمان ..يمارسون بهلوانياتهم .. يخدعون ويخادعون .. البعض يكدس الأموال ويضيف إليها .. حتى تصل الى أرقام فلكية ولو أكلوها بشكلها الورقي هم وعائلاتهم وأحفادهم لما استطاعوا أن يأتوا عليها طيلة حياتهم ومع ذلك يطلبون المزيد .. وهم .. كي يهربوا من واجباتهم الإنسانية والأخلاقية يقسمون أنهم لايملكون القدرة على توفير ثمن الطعام . يتظاهرون بالبراءة .وتناسوا الآية التي تقول ( وأما بنعمة ربك فحدث ) ..مع ذلك يصدعون رأسك بمزاعم الإيمان والصلاة والحج والصيام بعراضة وهمروجة مع أن الإيمان في أساسيا ته يحتقر البخل والشح والتقتير. ويحتقر أولئك الذين يتباهون نفاقاً ورياء ً بممارسة الشعائر.. هذه علاقة بينك وبين ربك .. فهل يخادعون الناس أم رب الناس ..؟!! نعلم حقيقة أموالهم ومصدرها ..نعلم أنها منهوبة .. مع ذلك فهناك بعض الحمقى والأغبياء الذين يخدعون بهم .. وهم كثر ولله الحمد الذي لا يحمد على مكروه سواه .. لقد تحولوا إلى مجرد كلاب مسعورة ..مصابة بداء الكلب .. يعضون للعض .. للإيذاء .. كي ينشروا سعارهم بين الجميع فلا يعود أحد يعيرهم بصفاتهم الساقطة .
غمزت السنارة .. غطست فلينتها .. شعر بقوة الجذب .. شد بسرعة .. لكنها خرجت فارغة ..لقد أفلتت تلك السمكة من الفخ .. تبسم عندما خطر بباله ذاك المثل .. ( أكلت الطعم وفعلتها على الصنارة ) .. البعض عندنا يفعلها ولكن ليس بهذا الشكل بل بوقاحة والأمر لايكون طعما ً ولامن يحزنون .. لوكان الأمر كذلك لكانت خفة دم وشطارة حقيقية .. ما أجمل أن توقع بمن ينصب لك فخا ً .. لاحت على شفتيه ظل ابتسامة ساخرة .. عندما تذكر ذلك المدعي المزيف الذي حاول أن يستولي على ما يعادل ثروة من بضائع الآخرين بواسطته ..تظاهر بأنه رجل أعمال كبير .. تقدم إليه نظم العقود .. دفع العربون بتعال ٍ واستهتار لكي يحبك اللعبة جيدا ً ويدهشه .. لم يؤخذ بهذه المظاهر .. رسم الخطة المضادة له ..ترك لنفسه مساحة من حرية الحركة القانونية .. وعند بدء التنفيذ تكشفت حقيقة ذاك المدعي المزيف .. وقع في نفس الفخ الذي خطط له ونصبه له .. عاد إليه يبكي ويتوسل ويعد بأنه لن يعود لمثلها ثانية .. لكنه لم يلتفت إليه لأنه لو نجح فيما فعله كان سيختفي ولن يرحمه وكان سيبكي ويتألم طويلا ً.. عندما راجع رجل الأعمال المزيف القضاء ..ضحكوا منه كثيراً بعد أن تأكدوا من أنه كان يخطط للعبة كبيرة قالوا له ( صياد رحت أصطاد صادوني ) لا يوجد من يستطيع مساعدتك فالوضع قانوني وخصمك عمل بشكل مطابق للعقد ..أفهموه هو أنه قادر على العودة عليه بتعويضات إضافية لكنه لم يفعل اكتفى بهذا الحد من العقاب .. هذا البعض من ذوي النفوس الوضيعة تمد له اليد لكي تساعده . وأنت لاتعلم شيئا ً عن ضعته ونذالته . تنقذه من مشكلة ترى فيها ظلم فادح . تعرفه على شرفاء قادرين على المساعدة . لا تريد ولا يريدون منه جزاء ولا شكورا .. لكن لخسة هؤلاء البعض ولنذالة متأصلة في نفوسهم يعضون اليد .. يدك التي تمدها إليهم ويديرون الظهر بعد أن تخرجهم من الورطة لابل يسيئون إليك .. رغم أنك لاتريد مقابلا ً ..لاتطالبهم بشيء .. ومع ذلك يعضون يدك ويتنكرون لصنيعك .. هذه لاتحدث إلا في عالم البشر .. الحيوان لا يفهم المعاني الدونية ولا يمارسها لأنه يمارس فطرته بقواعدها الصارمة فقط ولكن هؤلاء البشر يفعلونها بقصد ..باختيار وتخطيط .. بترف ويتباهون بها . يا لنذالتهم وحقارتهم .. الحيوان لا يتنكر لصنيعك .. نطلق شتائمنا عشوائيا ً نصفهم بالكلاب .. ولكن الكلب وفي .. تطعمه ..تنقذه ..يصبح وفيا ً لك ..لايفارقك .. يفديك بروحه عندما يهاجمك ذئب . هؤلاء وإن كانوا بأشكال بشرية ولكنهم تدنوا الى الحد الذي لاتجد لهم فيه تصنيفا ً دونيا ً ..منحطا ً ... تخيل أنهم يتجمعون في الماء تحت قدميه وهو قابع على الصخرة .. تخيلهم ككومة نفايات متجمعة على سطح الماء ينقلها البحر من موجة إلى أخرى حتى يلقي بها على رمال الشاطيء .. بصق بكل قوة وكأنهم متجسدين أمامه .. تفوووووه .
ثمة مرارة شديدة وحرقة تتراكم في حلقه وعلى لسانه .. ما يزال يعاني من خسة ونذالة أحدهم الذي كان يعاني قبل أن يقف معه ويحارب إلى جانبه .. أمده بجرعة من الثبات والثقة بالنفس ..وضعه في المكان الأقوى .. جابه بدلا ً عنه عصابة من الفاسدين الأقوياء وأرغمهم على مراجعة حساباتهم .. لكنه وبدافع من نذالته حاول الغدر به .. تنكر له .. ولكنه بدلا ً أن يرد له الصاع صاعين أدار له ظهره باحتقار فهو لايستحق سوى الاحتقار لأنه عقاب كبير لمن يفهم. كيف يمكن للإنسان أن يلبس جلد الحرباء فيتلون حسب الحال .. حسب مصلحته . يااااه .. ما أقسى الغدر وطعنته مهما كانت خفيفة فإنها تورث الأسى والمرارة وفقدان الثقة بالآخرين .. ربما بكل الناس . . أبناء الثعالب هؤلاء ..يرفعون شعار ..الغاية تبرر الوسيلة.. لافرق لديهم سواء ركبوا فوق رؤوسهم قرون أم وضعوا سرجا ً فوق ظهورهم ليعتليهم الغير .. حتى ولو قلدوا القرود أو نهقوا أو نبحوا أو عووا .. كلها سيان لديهم . المهم أن يحصلوا على عظمة أو حفنة شعير . أو بقايا جيفة .
أحد من كان يزعم صداقته قبل أكثر من عقد من الزمن قال له أن شعاره هو ( أنه ليست هناك صداقات دائمة بل مصالح دائمة ) .. منذ تلك اللحظة احتقر ذاك مدعي الصداقة وأدار له ظهره مبتعدا ً عنه .. هذا الشعار يصلح في السياسة الدولية أيها التافه .. لكنه مرفوض على الصعيد الشخصي الإنساني .. هنا يتحول إلى شيء آخر .. بشع .. كيف يمكن للإنسان أن يعيش دون صداقة حقيقية .. دون مشاعر إنسانية ..دون صدق متبادل ..يرى مصالحه الشخصية فوق كل اعتبار ..على الأقل ( عامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك ) ..كيف يمكن للإنسان أن يتحول إلى آلة تعمل دون مشاعر وأحاسيس . ؟!!
علق الطعم مرة جديدة وألقى بالصنارة بعيدا ً حتى آخر الخيط وبكل ما أوتي من قوة ثم جلس يراقب الفلينة التي تتراقص على صفحة الماء .. قال لنفسه ..هذه آخر رمية .. حدد خط نظر بدءاً من رأس القصبة إلى صفحة الماء لكي يتمكن من متابعة حركة الفلينة وأسند ظهره للصخرة مسترخيا ً يملأ صدره من النسيمات التي بدأت تتالى مع اختفاء قرص الشمس .
ما أعظم البحر .. آآآآه لو تسنى لهم مراقبته ومحاولة المقارنة معه .. هو في لحظات الرضا والهدوء وسكونه يتقبل الجميع ولهوهم وعبثهم .. يضمهم إلى أحضانه لا يهتم بمن هو جيد أو سيء.. لا يعبأ بما في نفوسهم ولو استطاع لطهر لهم نفوسهم كما يطهر الأجساد ..حتى أصغر طفل يعبث مع البحر الذي يفجر له فرحه البريء .. يضاحكه .. مويجاته اللطيفة تعبث بأقدامه الصغيرة ..تداعبه ..تقترب وتتراجع .. تسحب الرمل من تحت قدميه فتدغدغها لا أدري كيف يفكر الطفل لكنه ربما يعتقد أن مويجات البحر تعابثه تلهو معه .. تضاحك هذا الطفل وتهدي السرور إلى قلبه الصغير ., لكنه في حالة الغضب وتفجر أنوائه .. يلقي بكل شيء.. يبتلعه ..
لا يحتمل أحداً على صفحته .. يجعل أشجع القلوب ترتجف .. أكبر السفن يحولها إلى مجرد ريشة في مهب أنوائه وعواصفه .. زمجرته مرعبة .. وكأنها براكين من الغضب تتفجر دفعة واحدة .. يبتلع كل شيء ,, يودي بأولئك الغير متبصرين الذين لا يفهمونه .. ثم يلقي بجثثهم إلى الشاطيء .. لا يحتمل الجيف .. يطهر لجته منها .. حتى الأسماك التي يحتضنها وتجعله حياتها ومسكنها عندما تموت يلقي بها خارجاً ..يلفظها .
البحر حياة تضج بالحركة ..لا يحتمل السكون ..لا يحتمل أولئك الخائفين الباحثين عن الزوايا المعتمة .. تريد أن تعايشه ..تصادقه . عليك أن تكون وفياً لمزاجه ..عليك أن تضج بالحياة والحركة .. بغير ذلك لا يقبلك ..يلقي بك بعيدا ً عنه .. البحر لا يطيق الاستسلام .. عليك أن تقاوم ..تقاومه ..تقاوم غضبه وتتصدى له عندها فقط يقبل بك إنسانا ً حقيقيا ً .. يحترمك .. تثبت له رجولتك . تصبح صديقا ً له .. يكشف لك عن أسراره وخباياه .. يدلك على قواعده وقوانينه .. إنه إنسان حقيقي ..شريف ..حر .. صادق في الرضا ... صادق في الغضب .. لا يحتمل المخاتلة والخداع والتزييف والنفاق والجبن والنذالة .. آآآه يابحر . . ما أروعك . .. هو يعرف أنه لايطيق فراقه .. يملأه الإحساس بالغربة عندما ترغمه ظروفه على الابتعاد عنه لذا فهو مهما ابتعد وأخذته مشاغل الحياة .. يعود إليه عندما يضيق ذرعا ً بهذه الكائنات التي تجمع تناقضات الوجه السلبي للحياة .. هذه الكائنات التي تمارس الخداع والتزييف بالسهولة ذاتها التي تتنفس فيها الهواء وتتظاهر بالبراءة في الوقت عينه .
يرى نفسه دون أن يدري ً وقد أصبح على الشاطيء .. وكأن هناك قوة كونية تجذبه إليه لا يدري كنهها يهرب إليه .. يسارره .. يحاوره ..يتناغم معه .. لا يهتم لحال الطقس .. يشعر براحة أكبر وهو يراقب لحظات غضبه وكأنه يعبر له عن حالته .. يندمج معه .. يغمره رذاذ الأمواج الغاضبة فيشعر أن روحه تتطهر من تلك الآلام التي سببها أولئك المخاتلون ناكري الجميل . يبدأ غضبه بالتلاشي وكأن هذا البحر في لحظة غضبه .. يترجم انفعالاته ..يترجم مافي صدره من مشاعر وانفعالات ورفض لكل ماهو خطأ وسلبي وانحراف وخساسة وضعة بعض البشر .. البحر يفعل ما ليس هو بقادر على فعله .
انتبه إلى حركة الفلينة التي غطست بقوة وكأن هناك من يسحب القصبة من يده .. بدأ عملية شد وإرخاء .. بدأ يناور .. هو.. هووووه إنها سمكة كبيرة .. تقاوم ..يرخي لها .. ثم يعود للشد والجذب .. يريد أن ينهكها قبل أن يسحبها .. وأخيراً أنهكت ..استسلمت للخيط ..تركته يسحبها بهدوء .. وعندما لامست الهواء .. عادت تتخبط لكن الوقت فات عليها .. بعد أن تخرج من الماء تصبح مقاومتها ضعيفة . أوووه .. سمكة كبيرة .. (بورية) .. فضية .. قدر وزنها .. قد تقل عن النصف كيلو غرام .. تعالي يا عزيزتي .. يا سمكتي الجميلة .. يا حوريتي .. يالهذا الجسد الفضي الرائع الذي يتلوى كراقصة باليه .. أنا بانتظارك .. . اقتربي .. قليلا ً ..قليلا ً بعد .. هو..هوووه .. انها تنزلق من بين كفيه ..ما تزال تقاوم .. تحاول العودة .. لكن فات الوقت .. لم يعد الأمر مجديا ً ..تعالي إلى السلة .. غريب أمرك هذا ليس وقت طعامك .. كيف تركتي سربك .. هل كنتِ جائعة جدا ً . أم انك ترقصين منفردة . أم أنه قدرك .. كم من البحار اجتزني في رحلتك ِ حتى وصلتي إلى صنارتي .. هذه نهاية الرحلة يا عزيزتي .. هذا هو دورك الذي تؤدينه في الحياة.. أنت ِ مأكولة ..مأكولة .. لو سلمتي من صنارتي فلن تسلمين من فم حوت أو قرش .. أنا سأتذكر هذه اللحظة وأذكر شكلك الانسيابي الجميل .. وكيفية اصطيادي لك ِ ولكن الحوت أو القرش فلن يذكرون شيئا ً.. أنت ِ مثل آلاف غيرك .. ألا ترين أن نهايتك هنا تبقى الأفضل . . أنا وإياك منسجمين مع الفطرة وحقائق الحياة فلا تحزني . . ربما كنت ِ تفضلين أن يلتهمك ِ أحد الحيتان فهو الأكثر إنسجاما ً مع القواعد ..ربما لأن الإنسان لم يعد يستحقك .. فهو وبعد أن دمر مفاهيمه وقواعده الأخلاقية التفت يخرب كل شيء .. يلوث الطبيعة حواليه ..ويلوث بحرك هذا.. هو الواقع البشع الذي أرفضه كما ترفضينه لو تعرفت ِ على هذه الأصناف من البشر .
التفت حواليه .. كان الليل قد بدأ يرخي بثقله على الكون .. لم ينتبه لذلك فيما كان يجري خلف خيالاته .. لف الخيط وأدخل القصبة ببعضها ثم ألقى بما بقي من طعم وخبز مبلل في الماء .
قرر أن يبقى جالساً في مكانه لوقت أطول .
أشعل لفافة تبغ وبدأ بنفث دخانها متلذذا ً .. أنوار الكورنيش البحري خلفه بدأت تتلألأ تدريجيا ً .. فيما موجات البحر تلقى بنفسها فوق الصخور برتابة ممزوجة بهدوء ونعومة وكأنها تداعبها ..تلامسها .. كلمسات عاشق متيم بالكاد يمرر كفه بحنان على وجه حبيبته ويرفع خصلات الشعر ليتأمل قسمات وجهها وتلألؤ عيناها . . التفت خلفه حيث المدينة تضج بحركة البشر وجلبتهم وأصوات محركات السيارات و أبواقها المتنافرة المختلطة بأصوات الدراجات النارية التي يقودها شبان متهورون وكأنهم يفرغون شحنات غضب عبر السرعة وحب المغامرة وجعير المحركات الناشز التي توتر الأعصاب وتتركها مستنفرة طيلة الوقت .. ملعون أبوكم على أبو هكذا حضارة مؤذية سخيفة ..تعادي الطبيعة وتسيء لانسجام الكون .. القى نظرة أخيرة على صفحة البحر وكأنه يودعه ..ثم استدار حاملا ً أشيائه وافكاره ليغرق في بحر التناقضات الذي لا يحبه ولكنه مرغم على العيش فيه .
تنقل على الرصيف البحري لمرفأ القوارب من صخرة إلى أخرى في محاولة منه للهرب من المشاغبين خفيفي الظل والحركة لكن لا فائدة .. يتجمعون حيث يلقي بالصنارة .. أطال المسافة مابين السنارة والفلينة ..سحب حلقات القصبة لكي تبتعد أكثر .. لافائدة فهم من الكثرة بحيث أنهم يشكلون طبقة سميكة ويحتلون مساحة واسعة . يلاحقون الطعم .. يتجمعون بلمح البرق حول كل ما يلقى في الماء .
يراقب الفلينة بصبر وهدوء أكسبه إياه التعود على الصيد بالقصبة ومراقبة حركة البحر وزرقته الصافية المنسجمة مع زرقة السماء والتي تشيع الهدوء في النفس والقدرة على التحمل .
الصيد بالقصبة هواية .. تسلية .. تقطيع وقت كما يقولون .. بالنسبة له هروب من ذلك البحر المتلاطم خلفه .. المليء بالوحوش والقروش الوقحة الكبيرة التي تجري خلف رائحة الدم لتنهش دون رحمة بالضحايا الغير قادرة على الدفاع عن نفسها.. تلك الضحايا الغافلة التي يشدها الهدوء الظاهر على السطح وليست لديها الخبرة بما يجري تحت السطح ومافيه من تيارات قد تجرفهم وتودي بهم .. لايقدرون على رؤية مايجري تحت . تعمي المغريات عيونهم وقلوبهم وعقولهم . يصبحون هم الطعم والضحية .. يمر قرش ..ينهش ويهرب .. سمكة كبيرة .. ضخمة .. تملأ فمها منهم ثم تستدير عائدة إلى الأعماق .
ما أشبه المجتمع بهذا البحر مع ذلك الفارق بأن الفطرة وقانون الطبيعة هو الذي يحكم عالم البحر أما هناك ..في المجتمع ..تحكم عدة قوانين متناقضة بلا أي انسجام ..كل مجموعة تضع قوانينها الخاصة ..البعيدة عن المنطق .. حتى أولئك الذين يأخذون دور القروش المفترسة لكل منهم قانونه الخاص بحكم القوة والمال والسلطة التي تتحول الى خادم لهم بفعل هؤلاء الفاسدين المنحرفين الذين يهرون كالكلاب الأليفة بين قدمي أصحاب المال المنهوب وعندما تسمن تلك الكلاب وتكبر..تغادر السلطة لتأخذ نفس الدور ولايهم بعد ذلك إن كان ذاك المتسلط غبياً ..تافهاً .. حقيراً . دونيا ً . أم لا .. من يتحكم بحركة المال هو الأقوى .يتعاملون معه كعبقري مع أنه بغل ابن جحش .يدوس القوانين والأعراف وكل القيم ويتابع سيره .. هذه أحد الأسباب التي جعلت قسماً كبيراً يجري خلف المال كالثعالب أو الذئاب أو كالكلاب المسعورة .. يريدون تقليد بعضهم بعضا ً .
خرج من رحلة التخيل هذه عندما غمزت السنارة .. أحس بفرح طفولي .. شد القصبة .. كانت هناك مقاومة .. فجأة لاحت سمكة في الهواء معلقة بطرف الخيط .. أوه .. إنها (سمنيسة) بنية ممتلئة .. هذا جيد .. بدأ السمك الكبير يأكل وهرب المشاغبون الصغار .. عندما أمسك بها يريد تخليصها من السنارة وإلقائها في السلة الصغيرة لسعته بشوكتها ..آلمته اللسعة .. هو يعرف أن لسعتها مؤلمة ..لكنه قانون الطبيعة وعدم الحرص والتبصر .. ربما أخذته نشوة الفرح .. تريد هذه السمكة أن تدافع عن نفسها حتى آخر لحظة .. هذا من حقها .. ألسنا مثلها .. نتخبط ..نقاوم عندما نحشر .. تزداد مقاومتنا وخاصة إذا تعلق الأمر بالحياة .. القى بها في السلة وبدأ يمتص اصبعه مكان اللسعة .. تملكته نشوة الانتصار . هذه أول سمكة .. سارع يعلق طعما ً جديدا ً في الصنارة ويلقي بها في البحر . ثم سرعان ما علقت (سرغوسة) وأخرى وهكذا ازداد العدد بمرور الوقت يبدو أنه رف سمك يمر بالمكان أو يبحث عن وجبة .. ألهاه ذلك عن خيالاته لبعض الوقت ثم بدأ تنقير السمك يخف رويدا ً رويدا ً .. بدأت الغبشة تقترب كان يراقب الفلينة التي تتراقص على صفحة الماء مع مويجات لطيفة حركتها نسمة غربية صار بالكاد يراها مع ازدياد غبشة المغيب .. نحن نعيش نفس الحالة في حياتنا ..بعضنا يأخذ دور الصياد .. يلقي الطعم .. والبعض الآخر يأخذ دور السمكة الباحثة عن لقمة عيشها وعندما تلاحظ أو تشم الرائحة تفتح فاها بكل غباء وبلادة تلتقط الطعم فتنغرز السنارة في الحلق .. هناك ..بيننا بعض الحالمين بالثروة السهلة يلقون لهم بالطعم ..يعضون عليه .. تبدأ المشكلة والبكاء والعويل والشكوى .. لقد خدعوني .. ضحكوا علي .. نهبوا مالي .. ولكن أيها الغبي لما لم تفكر وتعمل العقل جيدا ً قبل أن يصطادوك .. هذا لأنك طماع ..نتن .. تريد ثروة سهلة .. إذاً .. خذ الإصبع الوسطى .. اقبض ..يا حمار .. عفوا ً .. نحن نظلم الحمير عندما نشبهكم بهم .. هم أفضل منكم .. هم .. الحمير .. تقدم الخدمات المفيدة بكل صبر وتحمل لتفاهاتكم ..ولو نطقت الحمير لسمعنا منها العجب . . ربما ترفض أن تتلبس صورتكم وعقولكم .
الثقافة الاستهلاكية التي انتشرت في مجتمعاتنا ..أفسحت في المجال واسعا ً للتغيير نحو الأسوأ ..انقلب المجتمع الى غابة ..ولكنها غابة من نوع آخر تهدر فيها القيم النبيلة وترتفع فيها أصوات الأنذال الذين باتوا يحلمون باعتلاء أكتاف الإنسان الحقيقي .
في الغابة الطبيعية ..صحيح أن الأقوى يأكل الأضعف ..ولكن ذاك الحيوان الأقوى يكتفي عندما يشبع ولا يعود يلتفت إلى الأضعف ولو جلس معه .. في حضنه .. ولو دخل وجاره .. أما في غابتنا البشرية فهم لا يشبعون .. البعض تأخذهم لذة القتل والنهب . يبحثون عنهم . ليس لإشباع معدة ولكن لإشباع غريزة منحرفة .. حقيرة .. مخالفة لكل قوانين الطبيعة ولحقائق الحياة . يحلو ما بأيدي الآخرين في عيونهم .. يمدون اليد يستولون عليه بكل بساطه ..و..افعل ما تشاء . اكفر ..إصرخ . إشتم . لا يهمهم . وإذا ساءت الأمور يقولون لك راجع القضاء ..وهناك بعض القضاة المبرمجين .. المعلبين . جاهزين لإجراء عملية تخدير وإفقاد الوعي وتغييب الحقائق ..واصبر يا مؤمن .!!. الفاسدون .. اللصوص .. المنحرفون .. السفلة ..باتت أموالهم تحميهم ..يشترون بها تلك النفوس الضعيفة ..الرخيصة التي تمارس سلطة من نوع ما..؟.. خطرت بباله تلك الأغنية الشعبية الفلسطينية التي تقول ( ضرب الخناجرولا حكم النذل بي )..لكن بعض الأنذال احتلوا كراسيهم في غفلة من الزمان ..يمارسون بهلوانياتهم .. يخدعون ويخادعون .. البعض يكدس الأموال ويضيف إليها .. حتى تصل الى أرقام فلكية ولو أكلوها بشكلها الورقي هم وعائلاتهم وأحفادهم لما استطاعوا أن يأتوا عليها طيلة حياتهم ومع ذلك يطلبون المزيد .. وهم .. كي يهربوا من واجباتهم الإنسانية والأخلاقية يقسمون أنهم لايملكون القدرة على توفير ثمن الطعام . يتظاهرون بالبراءة .وتناسوا الآية التي تقول ( وأما بنعمة ربك فحدث ) ..مع ذلك يصدعون رأسك بمزاعم الإيمان والصلاة والحج والصيام بعراضة وهمروجة مع أن الإيمان في أساسيا ته يحتقر البخل والشح والتقتير. ويحتقر أولئك الذين يتباهون نفاقاً ورياء ً بممارسة الشعائر.. هذه علاقة بينك وبين ربك .. فهل يخادعون الناس أم رب الناس ..؟!! نعلم حقيقة أموالهم ومصدرها ..نعلم أنها منهوبة .. مع ذلك فهناك بعض الحمقى والأغبياء الذين يخدعون بهم .. وهم كثر ولله الحمد الذي لا يحمد على مكروه سواه .. لقد تحولوا إلى مجرد كلاب مسعورة ..مصابة بداء الكلب .. يعضون للعض .. للإيذاء .. كي ينشروا سعارهم بين الجميع فلا يعود أحد يعيرهم بصفاتهم الساقطة .
غمزت السنارة .. غطست فلينتها .. شعر بقوة الجذب .. شد بسرعة .. لكنها خرجت فارغة ..لقد أفلتت تلك السمكة من الفخ .. تبسم عندما خطر بباله ذاك المثل .. ( أكلت الطعم وفعلتها على الصنارة ) .. البعض عندنا يفعلها ولكن ليس بهذا الشكل بل بوقاحة والأمر لايكون طعما ً ولامن يحزنون .. لوكان الأمر كذلك لكانت خفة دم وشطارة حقيقية .. ما أجمل أن توقع بمن ينصب لك فخا ً .. لاحت على شفتيه ظل ابتسامة ساخرة .. عندما تذكر ذلك المدعي المزيف الذي حاول أن يستولي على ما يعادل ثروة من بضائع الآخرين بواسطته ..تظاهر بأنه رجل أعمال كبير .. تقدم إليه نظم العقود .. دفع العربون بتعال ٍ واستهتار لكي يحبك اللعبة جيدا ً ويدهشه .. لم يؤخذ بهذه المظاهر .. رسم الخطة المضادة له ..ترك لنفسه مساحة من حرية الحركة القانونية .. وعند بدء التنفيذ تكشفت حقيقة ذاك المدعي المزيف .. وقع في نفس الفخ الذي خطط له ونصبه له .. عاد إليه يبكي ويتوسل ويعد بأنه لن يعود لمثلها ثانية .. لكنه لم يلتفت إليه لأنه لو نجح فيما فعله كان سيختفي ولن يرحمه وكان سيبكي ويتألم طويلا ً.. عندما راجع رجل الأعمال المزيف القضاء ..ضحكوا منه كثيراً بعد أن تأكدوا من أنه كان يخطط للعبة كبيرة قالوا له ( صياد رحت أصطاد صادوني ) لا يوجد من يستطيع مساعدتك فالوضع قانوني وخصمك عمل بشكل مطابق للعقد ..أفهموه هو أنه قادر على العودة عليه بتعويضات إضافية لكنه لم يفعل اكتفى بهذا الحد من العقاب .. هذا البعض من ذوي النفوس الوضيعة تمد له اليد لكي تساعده . وأنت لاتعلم شيئا ً عن ضعته ونذالته . تنقذه من مشكلة ترى فيها ظلم فادح . تعرفه على شرفاء قادرين على المساعدة . لا تريد ولا يريدون منه جزاء ولا شكورا .. لكن لخسة هؤلاء البعض ولنذالة متأصلة في نفوسهم يعضون اليد .. يدك التي تمدها إليهم ويديرون الظهر بعد أن تخرجهم من الورطة لابل يسيئون إليك .. رغم أنك لاتريد مقابلا ً ..لاتطالبهم بشيء .. ومع ذلك يعضون يدك ويتنكرون لصنيعك .. هذه لاتحدث إلا في عالم البشر .. الحيوان لا يفهم المعاني الدونية ولا يمارسها لأنه يمارس فطرته بقواعدها الصارمة فقط ولكن هؤلاء البشر يفعلونها بقصد ..باختيار وتخطيط .. بترف ويتباهون بها . يا لنذالتهم وحقارتهم .. الحيوان لا يتنكر لصنيعك .. نطلق شتائمنا عشوائيا ً نصفهم بالكلاب .. ولكن الكلب وفي .. تطعمه ..تنقذه ..يصبح وفيا ً لك ..لايفارقك .. يفديك بروحه عندما يهاجمك ذئب . هؤلاء وإن كانوا بأشكال بشرية ولكنهم تدنوا الى الحد الذي لاتجد لهم فيه تصنيفا ً دونيا ً ..منحطا ً ... تخيل أنهم يتجمعون في الماء تحت قدميه وهو قابع على الصخرة .. تخيلهم ككومة نفايات متجمعة على سطح الماء ينقلها البحر من موجة إلى أخرى حتى يلقي بها على رمال الشاطيء .. بصق بكل قوة وكأنهم متجسدين أمامه .. تفوووووه .
ثمة مرارة شديدة وحرقة تتراكم في حلقه وعلى لسانه .. ما يزال يعاني من خسة ونذالة أحدهم الذي كان يعاني قبل أن يقف معه ويحارب إلى جانبه .. أمده بجرعة من الثبات والثقة بالنفس ..وضعه في المكان الأقوى .. جابه بدلا ً عنه عصابة من الفاسدين الأقوياء وأرغمهم على مراجعة حساباتهم .. لكنه وبدافع من نذالته حاول الغدر به .. تنكر له .. ولكنه بدلا ً أن يرد له الصاع صاعين أدار له ظهره باحتقار فهو لايستحق سوى الاحتقار لأنه عقاب كبير لمن يفهم. كيف يمكن للإنسان أن يلبس جلد الحرباء فيتلون حسب الحال .. حسب مصلحته . يااااه .. ما أقسى الغدر وطعنته مهما كانت خفيفة فإنها تورث الأسى والمرارة وفقدان الثقة بالآخرين .. ربما بكل الناس . . أبناء الثعالب هؤلاء ..يرفعون شعار ..الغاية تبرر الوسيلة.. لافرق لديهم سواء ركبوا فوق رؤوسهم قرون أم وضعوا سرجا ً فوق ظهورهم ليعتليهم الغير .. حتى ولو قلدوا القرود أو نهقوا أو نبحوا أو عووا .. كلها سيان لديهم . المهم أن يحصلوا على عظمة أو حفنة شعير . أو بقايا جيفة .
أحد من كان يزعم صداقته قبل أكثر من عقد من الزمن قال له أن شعاره هو ( أنه ليست هناك صداقات دائمة بل مصالح دائمة ) .. منذ تلك اللحظة احتقر ذاك مدعي الصداقة وأدار له ظهره مبتعدا ً عنه .. هذا الشعار يصلح في السياسة الدولية أيها التافه .. لكنه مرفوض على الصعيد الشخصي الإنساني .. هنا يتحول إلى شيء آخر .. بشع .. كيف يمكن للإنسان أن يعيش دون صداقة حقيقية .. دون مشاعر إنسانية ..دون صدق متبادل ..يرى مصالحه الشخصية فوق كل اعتبار ..على الأقل ( عامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك ) ..كيف يمكن للإنسان أن يتحول إلى آلة تعمل دون مشاعر وأحاسيس . ؟!!
علق الطعم مرة جديدة وألقى بالصنارة بعيدا ً حتى آخر الخيط وبكل ما أوتي من قوة ثم جلس يراقب الفلينة التي تتراقص على صفحة الماء .. قال لنفسه ..هذه آخر رمية .. حدد خط نظر بدءاً من رأس القصبة إلى صفحة الماء لكي يتمكن من متابعة حركة الفلينة وأسند ظهره للصخرة مسترخيا ً يملأ صدره من النسيمات التي بدأت تتالى مع اختفاء قرص الشمس .
ما أعظم البحر .. آآآآه لو تسنى لهم مراقبته ومحاولة المقارنة معه .. هو في لحظات الرضا والهدوء وسكونه يتقبل الجميع ولهوهم وعبثهم .. يضمهم إلى أحضانه لا يهتم بمن هو جيد أو سيء.. لا يعبأ بما في نفوسهم ولو استطاع لطهر لهم نفوسهم كما يطهر الأجساد ..حتى أصغر طفل يعبث مع البحر الذي يفجر له فرحه البريء .. يضاحكه .. مويجاته اللطيفة تعبث بأقدامه الصغيرة ..تداعبه ..تقترب وتتراجع .. تسحب الرمل من تحت قدميه فتدغدغها لا أدري كيف يفكر الطفل لكنه ربما يعتقد أن مويجات البحر تعابثه تلهو معه .. تضاحك هذا الطفل وتهدي السرور إلى قلبه الصغير ., لكنه في حالة الغضب وتفجر أنوائه .. يلقي بكل شيء.. يبتلعه ..
لا يحتمل أحداً على صفحته .. يجعل أشجع القلوب ترتجف .. أكبر السفن يحولها إلى مجرد ريشة في مهب أنوائه وعواصفه .. زمجرته مرعبة .. وكأنها براكين من الغضب تتفجر دفعة واحدة .. يبتلع كل شيء ,, يودي بأولئك الغير متبصرين الذين لا يفهمونه .. ثم يلقي بجثثهم إلى الشاطيء .. لا يحتمل الجيف .. يطهر لجته منها .. حتى الأسماك التي يحتضنها وتجعله حياتها ومسكنها عندما تموت يلقي بها خارجاً ..يلفظها .
البحر حياة تضج بالحركة ..لا يحتمل السكون ..لا يحتمل أولئك الخائفين الباحثين عن الزوايا المعتمة .. تريد أن تعايشه ..تصادقه . عليك أن تكون وفياً لمزاجه ..عليك أن تضج بالحياة والحركة .. بغير ذلك لا يقبلك ..يلقي بك بعيدا ً عنه .. البحر لا يطيق الاستسلام .. عليك أن تقاوم ..تقاومه ..تقاوم غضبه وتتصدى له عندها فقط يقبل بك إنسانا ً حقيقيا ً .. يحترمك .. تثبت له رجولتك . تصبح صديقا ً له .. يكشف لك عن أسراره وخباياه .. يدلك على قواعده وقوانينه .. إنه إنسان حقيقي ..شريف ..حر .. صادق في الرضا ... صادق في الغضب .. لا يحتمل المخاتلة والخداع والتزييف والنفاق والجبن والنذالة .. آآآه يابحر . . ما أروعك . .. هو يعرف أنه لايطيق فراقه .. يملأه الإحساس بالغربة عندما ترغمه ظروفه على الابتعاد عنه لذا فهو مهما ابتعد وأخذته مشاغل الحياة .. يعود إليه عندما يضيق ذرعا ً بهذه الكائنات التي تجمع تناقضات الوجه السلبي للحياة .. هذه الكائنات التي تمارس الخداع والتزييف بالسهولة ذاتها التي تتنفس فيها الهواء وتتظاهر بالبراءة في الوقت عينه .
يرى نفسه دون أن يدري ً وقد أصبح على الشاطيء .. وكأن هناك قوة كونية تجذبه إليه لا يدري كنهها يهرب إليه .. يسارره .. يحاوره ..يتناغم معه .. لا يهتم لحال الطقس .. يشعر براحة أكبر وهو يراقب لحظات غضبه وكأنه يعبر له عن حالته .. يندمج معه .. يغمره رذاذ الأمواج الغاضبة فيشعر أن روحه تتطهر من تلك الآلام التي سببها أولئك المخاتلون ناكري الجميل . يبدأ غضبه بالتلاشي وكأن هذا البحر في لحظة غضبه .. يترجم انفعالاته ..يترجم مافي صدره من مشاعر وانفعالات ورفض لكل ماهو خطأ وسلبي وانحراف وخساسة وضعة بعض البشر .. البحر يفعل ما ليس هو بقادر على فعله .
انتبه إلى حركة الفلينة التي غطست بقوة وكأن هناك من يسحب القصبة من يده .. بدأ عملية شد وإرخاء .. بدأ يناور .. هو.. هووووه إنها سمكة كبيرة .. تقاوم ..يرخي لها .. ثم يعود للشد والجذب .. يريد أن ينهكها قبل أن يسحبها .. وأخيراً أنهكت ..استسلمت للخيط ..تركته يسحبها بهدوء .. وعندما لامست الهواء .. عادت تتخبط لكن الوقت فات عليها .. بعد أن تخرج من الماء تصبح مقاومتها ضعيفة . أوووه .. سمكة كبيرة .. (بورية) .. فضية .. قدر وزنها .. قد تقل عن النصف كيلو غرام .. تعالي يا عزيزتي .. يا سمكتي الجميلة .. يا حوريتي .. يالهذا الجسد الفضي الرائع الذي يتلوى كراقصة باليه .. أنا بانتظارك .. . اقتربي .. قليلا ً ..قليلا ً بعد .. هو..هوووه .. انها تنزلق من بين كفيه ..ما تزال تقاوم .. تحاول العودة .. لكن فات الوقت .. لم يعد الأمر مجديا ً ..تعالي إلى السلة .. غريب أمرك هذا ليس وقت طعامك .. كيف تركتي سربك .. هل كنتِ جائعة جدا ً . أم انك ترقصين منفردة . أم أنه قدرك .. كم من البحار اجتزني في رحلتك ِ حتى وصلتي إلى صنارتي .. هذه نهاية الرحلة يا عزيزتي .. هذا هو دورك الذي تؤدينه في الحياة.. أنت ِ مأكولة ..مأكولة .. لو سلمتي من صنارتي فلن تسلمين من فم حوت أو قرش .. أنا سأتذكر هذه اللحظة وأذكر شكلك الانسيابي الجميل .. وكيفية اصطيادي لك ِ ولكن الحوت أو القرش فلن يذكرون شيئا ً.. أنت ِ مثل آلاف غيرك .. ألا ترين أن نهايتك هنا تبقى الأفضل . . أنا وإياك منسجمين مع الفطرة وحقائق الحياة فلا تحزني . . ربما كنت ِ تفضلين أن يلتهمك ِ أحد الحيتان فهو الأكثر إنسجاما ً مع القواعد ..ربما لأن الإنسان لم يعد يستحقك .. فهو وبعد أن دمر مفاهيمه وقواعده الأخلاقية التفت يخرب كل شيء .. يلوث الطبيعة حواليه ..ويلوث بحرك هذا.. هو الواقع البشع الذي أرفضه كما ترفضينه لو تعرفت ِ على هذه الأصناف من البشر .
التفت حواليه .. كان الليل قد بدأ يرخي بثقله على الكون .. لم ينتبه لذلك فيما كان يجري خلف خيالاته .. لف الخيط وأدخل القصبة ببعضها ثم ألقى بما بقي من طعم وخبز مبلل في الماء .
قرر أن يبقى جالساً في مكانه لوقت أطول .
أشعل لفافة تبغ وبدأ بنفث دخانها متلذذا ً .. أنوار الكورنيش البحري خلفه بدأت تتلألأ تدريجيا ً .. فيما موجات البحر تلقى بنفسها فوق الصخور برتابة ممزوجة بهدوء ونعومة وكأنها تداعبها ..تلامسها .. كلمسات عاشق متيم بالكاد يمرر كفه بحنان على وجه حبيبته ويرفع خصلات الشعر ليتأمل قسمات وجهها وتلألؤ عيناها . . التفت خلفه حيث المدينة تضج بحركة البشر وجلبتهم وأصوات محركات السيارات و أبواقها المتنافرة المختلطة بأصوات الدراجات النارية التي يقودها شبان متهورون وكأنهم يفرغون شحنات غضب عبر السرعة وحب المغامرة وجعير المحركات الناشز التي توتر الأعصاب وتتركها مستنفرة طيلة الوقت .. ملعون أبوكم على أبو هكذا حضارة مؤذية سخيفة ..تعادي الطبيعة وتسيء لانسجام الكون .. القى نظرة أخيرة على صفحة البحر وكأنه يودعه ..ثم استدار حاملا ً أشيائه وافكاره ليغرق في بحر التناقضات الذي لا يحبه ولكنه مرغم على العيش فيه .
تعليق