السجون على مر العصور مكامن للظلمة المتمخضة عن نور وهي ثغور للطاقات المختزنة والصرخات الداخلية المجنونة لبني الانسان، أولئك الذين حملوا على كواهلهم اثقال الخلق ومحن العالم وفشل الثورات وانتحار الحروف، فتحول الى فكرة تتجلى فيها ولادات جديدة وحيوات ابتدأت وأصرت على سيروراتها وبنائها لأهدافها التي تتوالد باستمرار وهكذا منذ السجن الأول الذي آوى يوسف الصديق عليه السلام مرورا بالحوت الذي ابتلع النبي يونس عليه السلام، لان السجون بمعنى آخر هي حيتان الأرض، فظلت الزنازين خزائن للحريات المحترفة المخبوءة والمغلفة بألم وحزن وغناء شبحي موحش يتناغم مع آلام السجناء، وإيقاع حيواتهم الرتيبة فتنطلق من تلك الخزائن الادمية اصوات باهتة متعبة تحمل في بواطنها اصرارا عجيبا على الحياة.
وتسير جحافل السنين في ممرات السجون المكتظة بالأجساد الواهنة وعوالمها الغرائبية في ردهات القاع الاسفل للمجتمعات، وفي ذلك الاتون الملتهب والمرجل الشامل المعطل للطاقات البشرية هناك تتضح قدرات الانسان في تجاوز المحن والشدائد، وكثيرا ما يقع الحيف والظلم على اناس ابرياء لم يقترفوا جرما ولكنهم تحملوا اوزار السجن وقساوته لخطأ او اشتباه فعاشوا ظلماته ماتوا وهم لا يعرفون متى سيرون النور، فيحدثنا المسعودي في (مروج الذهب) عن رجل اسمه (ابراهيم التميمي) سجنه الحجاج في واسط مع الاف مؤلفة من امثاله الابرياء ولما دخل الرجل في السجن وقف في مكان عال ونادى باعلى صوته: ـ يا اهل بلاء الله في عافيته ويا اهل عافية الله في بلائه، اصبروا، فنادوه جميعا بصوت واحد:
ـ لبيك … لبيك، ومكث الرجل في السجن حتى مات، وكان الحجاج طلب شخصا غيره اسمه (ابراهيم النخعي) لكنه نجا ووقع المسكين التميمي بدلا عنه، وحكى الاعشى قال: قلت لابراهيم النخعي: اين كنت حيث طلبك الحجاج؟
فاجاب:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب اذ عوى
وصوت انسان فكدت اطير
وتستمر قافلة الالام حثيثة تجر خلفها ارتالا من الاشباح البشرية بقيود صنعها التاريخ وصانتها العقول المتعفنة وزخرفتها الحضارات الحديثة لتلقن الانسان درسا في التجلد والسلوك القويم. فاما ان يقف على قدميه حتى الموت مكابدة واما ان يسقط منذ الوهلة الاولى بالصفعة القاضية وامثلة التاريخ كثيرة وفي عصرنا الحديث كانت البشاعة من السعة والرهبة بحيث ان الكلمات ما عادت قادرة على وصف ما يحدث في ظلمات السجون، فكثرت وسائل التعبير عن تلك المأساة من سمعية ومرئية وكتابات شملت الشعر والقصة والرواية والدراسات الاجتماعية والفلسفية وغيرها، فانتجت الطاقات المكبوتة والمقموعة في تلك السراديب اعمالا ظلت خالدة في ذاكرة الزمان، وتنوعت بتنوع واختلاف كتابها من روائيين وشعراء ونقاد وفلاسفة ومفكرين وسياسيين، ومن روايات السجون المهمة رواية (الفراشة) لكاتبها السجين الفرنسي (هنري شاريير) وهو كاتب مجهول.
وكان العمل بحق بيضة الديك وهو يوميات حقيقية لذلك السجين دون فيها سنواته الطويلة الملوثة بالوحل الحضاري الأسود مستعرضا محاولات هروبه المتكررة حتى خروجه من السجن نهائيا مستردا حريته المفقودة وقد تحولت الرواية الى فيلم مهم قام ببطولته الممثلان القديران (داستن هوفمن) و(ستيف ماكوين) اما الروايات العربية فكثيرة جدا في هذا الجانب نظرا لكثرة السجون العربية وقدمها، فهذه رواية (شرق المتوسط) بكتابتها الأولى والثانية و(مجنون الامل) لعبد اللطيف اللعبي و(تلك الرائحة) و(نجمة اغسطس) لصنع الله ابراهيم و(شهادات ووثائق عن زماننا) للصحفي المصري صلاح عيسى و(القلعة الخامسة) لفاضل العزاوي و(الحصار) لفوزية رشيد وغيرها الكثير، وقد عمل حسنا الكاتب الجاد (نزيه ابو نضال) حيث الف كتابا مهما عن ادب السجون جمع فيه معظم ما كتب عن السجن، وهكذا لم تخل السجون منذ تأسيسها من طاقات ابداعية كامنة في كافة المجالات، فهذا احد السجناء وهو كاتب كان معي في السجن يقول: انا اكثر حرية هنا في سجني الصغير منكم ايها الطلقاء في سجنكم الكبير، لان في داخل كل واحد منكم شرطيا شرسا يحسب عليكم حركاتكم وسكناتكم، اما انا فقد آخيت هذا الشرطي، بل انه اغفا في داخلي وما عدت اخافه وهل يخشى المبتل من المطر... ثم يستشهد بقول لاحد العارفين (ان اقسى السجون هي تلك التي لاجدران لها).
لكن المعضلة تتأكد وتتفاقم متعملقة لتصل المأساة الى ذروتها وتتفجر الطاقات الكامنة في لاوعي النزلاء، فثمة الكثير من المسرحيين الذين يجسدون عذاباتهم مشاهد مألوفة في مسرحهم الفقير، وكذلك يرسم الفنانون التشكيليون غورنيكاتهم على ورق اسمر معاد يلصقونه على جدران محاجرهم الملساء ويكتب الروائيون فصول رواياتهم الاخيرة علهم يلتقطون بصيص نورما في نفقهم المظلم وافقهم المحاط بالاسلاك الشائكة، وكل يعمل بطريقته الخاصة باحثا عن حلمه الموءود وحريته المفقودة، لكنهم مهما فعلوا لم يستطيعوا تجاوز دورات حيواتهم المحاصرة بين الابواب المقفلة والردهات المظلمة وساحات التعداد الضاجة بالأنين والأبراج العملاقة المحيطة بهم، فصاروا يدونون يومياتهم المحترقة بمرجل السنين واتونه الذي يذيب اعمارهم الفتية فتحول السجن من مقبرة جماعية لجثث الاحياء الاموات الى مكان لوقوف الزمن واحتوائه ليكون فرصة للاختلاء والتوحد ومراجعة الذات وتأمل العالم. حتى ان كثيرا من المفكرين والفلاسفة والكتاب الكبار استغلوا فترة سجنهم ليخرجوا منه اكثر قوة وسطوة، وخير مثال على ذلك نيلسون مانديلا الذي خرج من سجنه مباشرة الى سدة الحكم ليصبح رئيسا لجنوب افريقيا وغيره اسماء لا يحصرها الذهن المكدود الذي يحاول تذكر عمالقة السجون ومفكريه اولئك الذين استثمروا ابداع اللحظة ومرارة المواقف الظلامية، فكان لابد لهم من ان يمروا بالظلام لكي يروا النور بشكله الحقيقي، لذلك يقول الروائي الالماني هرمان هسه (حقا لا يعد حكيما من لا يعرف الظلام) نعم وانت هنا في هذا المكان المغلق ستكون أفكارك اشبه بالمفاتيح التي ستفتح بها مغاليق الظلمات لتنبعث بعدها موسيقى الحرية بكامل البهاء والجمال، ان ضجيج افكار السجناء سيكون هديرا مجنونا تماماً كما يهدر البحر في الأصداف التي خرجت منه، أخيرا يتساءل الشاعر الكبير بابلو نيرودا قائلا:
ـ عندما يفكر السجين بالنور
فهل هو ذاته الذي يضيء...
[align=left]حميد المختار - الصباح[/align]
وتسير جحافل السنين في ممرات السجون المكتظة بالأجساد الواهنة وعوالمها الغرائبية في ردهات القاع الاسفل للمجتمعات، وفي ذلك الاتون الملتهب والمرجل الشامل المعطل للطاقات البشرية هناك تتضح قدرات الانسان في تجاوز المحن والشدائد، وكثيرا ما يقع الحيف والظلم على اناس ابرياء لم يقترفوا جرما ولكنهم تحملوا اوزار السجن وقساوته لخطأ او اشتباه فعاشوا ظلماته ماتوا وهم لا يعرفون متى سيرون النور، فيحدثنا المسعودي في (مروج الذهب) عن رجل اسمه (ابراهيم التميمي) سجنه الحجاج في واسط مع الاف مؤلفة من امثاله الابرياء ولما دخل الرجل في السجن وقف في مكان عال ونادى باعلى صوته: ـ يا اهل بلاء الله في عافيته ويا اهل عافية الله في بلائه، اصبروا، فنادوه جميعا بصوت واحد:
ـ لبيك … لبيك، ومكث الرجل في السجن حتى مات، وكان الحجاج طلب شخصا غيره اسمه (ابراهيم النخعي) لكنه نجا ووقع المسكين التميمي بدلا عنه، وحكى الاعشى قال: قلت لابراهيم النخعي: اين كنت حيث طلبك الحجاج؟
فاجاب:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب اذ عوى
وصوت انسان فكدت اطير
وتستمر قافلة الالام حثيثة تجر خلفها ارتالا من الاشباح البشرية بقيود صنعها التاريخ وصانتها العقول المتعفنة وزخرفتها الحضارات الحديثة لتلقن الانسان درسا في التجلد والسلوك القويم. فاما ان يقف على قدميه حتى الموت مكابدة واما ان يسقط منذ الوهلة الاولى بالصفعة القاضية وامثلة التاريخ كثيرة وفي عصرنا الحديث كانت البشاعة من السعة والرهبة بحيث ان الكلمات ما عادت قادرة على وصف ما يحدث في ظلمات السجون، فكثرت وسائل التعبير عن تلك المأساة من سمعية ومرئية وكتابات شملت الشعر والقصة والرواية والدراسات الاجتماعية والفلسفية وغيرها، فانتجت الطاقات المكبوتة والمقموعة في تلك السراديب اعمالا ظلت خالدة في ذاكرة الزمان، وتنوعت بتنوع واختلاف كتابها من روائيين وشعراء ونقاد وفلاسفة ومفكرين وسياسيين، ومن روايات السجون المهمة رواية (الفراشة) لكاتبها السجين الفرنسي (هنري شاريير) وهو كاتب مجهول.
وكان العمل بحق بيضة الديك وهو يوميات حقيقية لذلك السجين دون فيها سنواته الطويلة الملوثة بالوحل الحضاري الأسود مستعرضا محاولات هروبه المتكررة حتى خروجه من السجن نهائيا مستردا حريته المفقودة وقد تحولت الرواية الى فيلم مهم قام ببطولته الممثلان القديران (داستن هوفمن) و(ستيف ماكوين) اما الروايات العربية فكثيرة جدا في هذا الجانب نظرا لكثرة السجون العربية وقدمها، فهذه رواية (شرق المتوسط) بكتابتها الأولى والثانية و(مجنون الامل) لعبد اللطيف اللعبي و(تلك الرائحة) و(نجمة اغسطس) لصنع الله ابراهيم و(شهادات ووثائق عن زماننا) للصحفي المصري صلاح عيسى و(القلعة الخامسة) لفاضل العزاوي و(الحصار) لفوزية رشيد وغيرها الكثير، وقد عمل حسنا الكاتب الجاد (نزيه ابو نضال) حيث الف كتابا مهما عن ادب السجون جمع فيه معظم ما كتب عن السجن، وهكذا لم تخل السجون منذ تأسيسها من طاقات ابداعية كامنة في كافة المجالات، فهذا احد السجناء وهو كاتب كان معي في السجن يقول: انا اكثر حرية هنا في سجني الصغير منكم ايها الطلقاء في سجنكم الكبير، لان في داخل كل واحد منكم شرطيا شرسا يحسب عليكم حركاتكم وسكناتكم، اما انا فقد آخيت هذا الشرطي، بل انه اغفا في داخلي وما عدت اخافه وهل يخشى المبتل من المطر... ثم يستشهد بقول لاحد العارفين (ان اقسى السجون هي تلك التي لاجدران لها).
لكن المعضلة تتأكد وتتفاقم متعملقة لتصل المأساة الى ذروتها وتتفجر الطاقات الكامنة في لاوعي النزلاء، فثمة الكثير من المسرحيين الذين يجسدون عذاباتهم مشاهد مألوفة في مسرحهم الفقير، وكذلك يرسم الفنانون التشكيليون غورنيكاتهم على ورق اسمر معاد يلصقونه على جدران محاجرهم الملساء ويكتب الروائيون فصول رواياتهم الاخيرة علهم يلتقطون بصيص نورما في نفقهم المظلم وافقهم المحاط بالاسلاك الشائكة، وكل يعمل بطريقته الخاصة باحثا عن حلمه الموءود وحريته المفقودة، لكنهم مهما فعلوا لم يستطيعوا تجاوز دورات حيواتهم المحاصرة بين الابواب المقفلة والردهات المظلمة وساحات التعداد الضاجة بالأنين والأبراج العملاقة المحيطة بهم، فصاروا يدونون يومياتهم المحترقة بمرجل السنين واتونه الذي يذيب اعمارهم الفتية فتحول السجن من مقبرة جماعية لجثث الاحياء الاموات الى مكان لوقوف الزمن واحتوائه ليكون فرصة للاختلاء والتوحد ومراجعة الذات وتأمل العالم. حتى ان كثيرا من المفكرين والفلاسفة والكتاب الكبار استغلوا فترة سجنهم ليخرجوا منه اكثر قوة وسطوة، وخير مثال على ذلك نيلسون مانديلا الذي خرج من سجنه مباشرة الى سدة الحكم ليصبح رئيسا لجنوب افريقيا وغيره اسماء لا يحصرها الذهن المكدود الذي يحاول تذكر عمالقة السجون ومفكريه اولئك الذين استثمروا ابداع اللحظة ومرارة المواقف الظلامية، فكان لابد لهم من ان يمروا بالظلام لكي يروا النور بشكله الحقيقي، لذلك يقول الروائي الالماني هرمان هسه (حقا لا يعد حكيما من لا يعرف الظلام) نعم وانت هنا في هذا المكان المغلق ستكون أفكارك اشبه بالمفاتيح التي ستفتح بها مغاليق الظلمات لتنبعث بعدها موسيقى الحرية بكامل البهاء والجمال، ان ضجيج افكار السجناء سيكون هديرا مجنونا تماماً كما يهدر البحر في الأصداف التي خرجت منه، أخيرا يتساءل الشاعر الكبير بابلو نيرودا قائلا:
ـ عندما يفكر السجين بالنور
فهل هو ذاته الذي يضيء...
[align=left]حميد المختار - الصباح[/align]
تعليق