يقول عنه مفتي عام السلطنة لا ريب أن وفاته رزيّة على الدين و المجتمع و هذا الوطن العزيز
ـ اللزامي مدرسة تربوية مؤثرة وبستان معرفي تتوق له النفوس
ـ من تواضعه تصغير نفسه
إعداد ـ حمد بن سليمان المعوليـ اللزامي مدرسة تربوية مؤثرة وبستان معرفي تتوق له النفوس
ـ من تواضعه تصغير نفسه
"مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً " الأحزاب23
ودعت السلطنة في شهر صفر الماضي رجلا لا يعوض من صفوة رجالها ، إنه الشيخ المربي والمعلم الكبير الشيخ عبدالله بن سالم اللزامي رحمه الله عن 87 عاما من ولاية قريات حيث كانت حياته حافلة بسعي متنوع منقطع النظير ..
لم يكن شيخنا مجرد رجل عادي ، جاء إلى الدنيا ورحل عنها دون أن يغير فيها شيئا ، بل هو مدرسة تربوية مؤثرة ، وبستان معرفي تتوق له النفوس ، وشخصية نادرة أحدث أثرا واضحا فيمن حوله .
يقول سماحة الشيخ العلامة أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة عن وفاة شيخنا اللزامي : "ولا ريب أن وفاته رحمه الله تعالى تعتبر رزيّة على الدين ورزيّة على المجتمع ورزيّة على هذا الوطن العزيز ، فهو فقدٌ لرجل صالح ، ونحن فقدنا من خلال شخصه الكريم أخاً حميماً وشيخاً كريماً ، وكنا نرى فيه الصلاح والبرّ والتقوى ، وكانت رؤيتنا له تذكرنا الدار الآخرة فرحمه الله تعالى رحمة واسعة" .
وإليكم بعض الومضات التربوية من حياته رحمه الله تعالى :
1. عشق العلم والاطلاع : لا تكاد ترى الشيخ إلا والكتاب رفيقه ، يحمله معه أينما ذهب ، حتى في أوقات العزاء ، ينتهز الفرص ليقرأ ويطلع ، كما يسعى لاستماع دروس العلم وحلقات الإفتاء عبر مختلف الوسائل ، فكم كان يقطع عشرات الكيلومترات لحضور درس التفسير لسماحة الشيخ المفتي ، وغالبا ما يسعى إن سمع بدرس أو محاضرة في مكان ما ، رغم أن المحاضر قد يكون من طلابه !
بل دائما نجده يسبقنا إلى المكان الذي تقام فيه المحاضرة !
2. الحث على طلب العلم : كان الشيخ رحمه الله يحرص على حث الناس على طلب العلم ، وذلك بوسائل محتلفة ، يكفي أنه كافح لتعليم جيل وإخراجه من دياجير الأمية والتخلف ، وها هم اليوم يشهدون بفضل الله عليهم حيث أكرمهم بوجود الشيخ ، فتغير مسار حياتهم علميا ثم وظيفيا .
من ثمراته
ومن ثمرات جهده وسعيه هذه المكتبة العامة في قريات والتي نأمل أن يتغير اسمها قريبا إلى مكتبة الشيخ عبدالله اللزامي ، وفاء لهذا الشيخ وتقديرا لجهده في تأسيسها .
والمكتبة من الأماكن المحببة للشيخ يزورها ويتفقد أحوالها ويسأل عن أخبارها وقد أهداها العديد من الكتب والمخطوطات القيمة .
ومن حثه على العلم أنه كان يسأل الطلاب عن صفوفهم وقد يوجه لهم بعض المسائل مختبرا ثم يحثهم على التعلم .
وأحيانا كان يحثهم من خلال المواقف وانتهاز الفرص ، فقد يتجمع في مجلسه خليط من الناس على درجات متفاوتة فمنهم الأمي ومنهم المثقف ومنهم المبتدئ فتراه رحمه الله يمسك كتابا ويطلب من أحدهم أن يقرأ .
نماذج شاهدة
ومن النماذج الشاهدة على حرص الشيخ على بناء الأبناء علميا بأساليب تربوية متنوعة وأثره في حياتهم : الأستاذ إبراهيم بن راشد الغماري ، معلم النحو المعروف حيث يقول : موقف مع فقيدنا الشيخ اللزامي أثر في حياتي في عام 1408هـ الموافق 1988م : ذهبت للدراسة عنده في الجامع وعمري 11سنة وفي يوم ما سأل الطلاب الكبار عن إعراب كلمة فلم يوفقوا للجواب فقلت متطفلا : أنا أجاوب يا شيخ ، فقال : هات بنبرة فيها استغراب ولكنها تحمل في طياتها رفع المعنويات ، فقلت : هي حال ، وكان الجواب صحيحا فأعجب الشيخ بالجواب فقال : تعال اجلس أمامي ، فأتيت وأنا أحمل في نفسي مشاعر اللذة بالانتصار ممزوجا بشيء من الخوف فصافحني وهزني هزا عنيفا من شدة فرحه وقال : لله درك ، قالها عدة مرات ومن ذلك اليوم صرت عاشقا للنحو ، ويقول الأستاذ الغماري أيضا : وأذكر أن مدرس اللغة العربية للصف الثاني الإعدادي كان يناديني باللزامي! لذا أعتبره أستاذي الأول الذي أخذ بيدي لسلوك طريق العلم .
3. الاجتهاد في البحث عن المعلومة : رغم سعة اطلاعه إلا أنه كان حريصا على البحث عن المعلومة والتأكد منها ، خاصة إذا سئل مسألة ، فكم كان يرجع للمراجع ثم يخبر السائل بالجواب ، وأخبرني ولده سالم عن إحدى بناته أنها سألت جدها مسألة فذكر لها أنه متعب وأن الوقت متأخر ، وما إن أصبح الصباح إلا وجدت الجواب يسلمها إياه مكتوبا بخط يده !
4. التربية بالقدوة : الشيخ رحمه الله تعالى كان قدوة الناس في كل خير وبر وطاعة ، فأفعاله ناطقة قبل لسانه ، فهو كثر الصلاة وإن كان مريضا ، حريص على الاعتكاف في الأيام والليالي الفاضلة ، عاشق نهم للقراءة والاطلاع ، كثير الجود عظيم السخاء ، كثير الحركة دائب السعي للمعروف وفعل الخير وقضاء مصالح الناس وخدمة المجتمع ، حسن التعامل مع الناس لدرجة تأسر قلوبهم كبارا وصغارا .
5. غرس الثقة بالنفس : فالشيخ رحمة الله عليه كان يصغي لجليسه ، ويستمع لطلابه بكل اهتمام ، ويُقبل على المتحدث بهيئة الحريص المحترم المستفيد وإن كانت المعلومة المطروحة يعرفها ! وكان يشجع طلابه ويثني عليهم ويرحب بهم ويُرى السرور على وجهه كلما أقبل أحد منهم ، ولا يستبد بالحديث أو يستأثر بالكلام بينهم .
6. الحرص على ترسيخ المعلومة : الشيخ معلّم رائع ، ومربٍ كبير ، يجتهد لتوصيل المعلومة لطلابه ، ويذلل لهم الصعاب ، يفصل ويكرر ، ويسهل ويبسط ، ويكثر الأمثلة والشواهد ، ليس من خلال دروسه فحسب ، بل مؤلفاته شاهدة بذلك أيضا .
7. فن التعامل مع الأطفال : لم يكن الشيخ ممن يتذمرون بالأطفال أو يضيق بهم ذرعا ، بل كان يسلم عليهم ويلاطفهم ويسألهم ويمزح معهم وربما ربط اسمهم ببيت شعري ، كموسى يقول له : بماذا أجبت الجارية التي قالت :
مولاي موسى بالذي سمك السما .. وبحق من في اليم ألقى موسى
امنن علي بإعارة مردودة .. واسمح بفضلك وابعث القاموسا
وكان رحمه الله حريصا على حضور الصغار لمجلسه أو لتناول الغداء مع الضيوف لتتهذب طباعهم وليتعلموا الآداب والقيم ، وكم كان يناديهم : تعالوا عندا اليوم فلان ، استفيدوا منه !
8. الحرص على الوقت : كان الشيخ رحمه الله شديد الحرص على الوقت ، لا يحب التأخر عن المواعيد ، وإن تأخر لظرف خارج عن إرادته قدّم اعتذارا ، وكم رأيناه ينتظرنا إن مررنا عليه لنصحبه لحضور اجتماع أو مناسبة ، حيث كان يتهيأ قبله بساعة وإن كان زمن الوصول لا يستغرق خمس دقائق !
9. علو الهمة : رغم كبر سنه إلا أن نشاطه يشد الانتباه ، فهذه الجبال وما فيها قد عرفته ساعيا بالخير ، ويكاد لا يخلو أسبوع من رحلة أو أكثر تتطلب قطع عشرات الكيلومترات ، لطلب علم أو مجالسة عالم أو صلة صديق أو مساعدة طالب حاجة أو غير ذلك ، كما تتجلى همته في كثرة نشاطاته الاجتماعية وعضويته الفاعلة في عدد من اللجان ، كلجنة الأوقاف وبيت المال والزكاة ، ولجنة التوفيق والمصالحة وغيرها .
ومن معالم علو همة الشيخ حرصه على زيارة بيت الله الحرام في العام أكثر من مرة ، وكم من السنوات قد قضى شهر رمضان كاملا في رحاب الحرم الشريف ، وكان حريصا على الاعتكاف هناك مع كثرة الطاعات وطول القيام والحرص على النوافل ليل نهار ، وإن لم يسعفه الحال والصحة اعتكف في مسجد قريته .
10. تفقد أحوال الآخرين والسؤال عنهم : الشيخ رحمه الله قلما ينسى أحدا ، فزملاؤه القدامى كثير الوصل لهم منذ أكثر من ستين عاما ، وإن أبعدهم الموت زار أبناءهم وأحفادهم وفرح بتجمعهم حوله ، وإن زاره أحد من أي بلد سأله عن معارفه بها ، وإن تأخرنا عن زيارته بعض الأيام نراه هو من يبادر بالاتصال بنا ويسأل عن أحوالنا ! وإن حضرنا داعبنا قائلا :
فقدناك فقدان الربيع وليتنا ... فديناك من أبنائنا بألوف
11. التواضع : كان الشيخ رحمه الله شديد التواضع ، يحضر دروس طلابه وإن بعد المكان ، وإن سئل مسألة كان غالبا ما يحيلها لبعض من عنده وإن كان يعرف الجواب ، وينادي بعضنا أحيانا : أستاذي هذا أستاذي ، وكان أحيانا يخدم ضيوفه بنفسه إن لم يوجد أحد من أبنائه أو أحفاده وإن كان الضيف ممن اعتاد مجالسته بشكل شبه يومي .
ومن تواضعه تصغير نفسه ، ومن ذلك أن رجلا من طلاب العلم من الشرقية زار الشيخ فسأله عن بعض زملاء الشيخ القدامى هناك ، ثم قال له : سلم عليه ، قل واحد من قريات اسمه (عبود) يسلم عليك !
12. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : كان الشيخ رحمه الله حريصا على الإصلاح ، مهتما بتوجيه الناس وإرشادهم إلى ما ينفعهم ، فيأمرهم بالمعروف كلما سنحت سانحة ، أو حثنا نحن على ذلك بأساليب متنوعة ، وكان لا يدع منكرا أو خطأ إلا نهى عنه فورا ، وبأسلوب يتناسب مع الموقف ، فإن أخطأ مؤذن مثلا في كلمات الأذان دعاه وعلمه بلطف ، أما إن حدثت غيبة أو قدح أنكر ذلك بشدة وبدا عليه الغضب !
13. انتهاز الفرص : الشيخ رحمة الله تعالى كان لا يدع فرصة إلا انتهزها في التربية والتعليم والتوجيه والإرشاد والتذكير وقول كلمة الحق ، فوجوده في بعض اللجان والمجالس ليس شكليا ، كما أن المواقف أياً كانت لا تمر دون أن يستغلها في توجيه رسائل صادقة من قلب مخلص حريص على الإصلاح ، كان رحمه الله ينصح الخصوم بكلمات صادقة قد تكون لطيفة حينا وشديدة حينا آخر حسب مقتضيات الحال ، أما الاجتماعات الرسمية فكان لا يفوّت الفرصة أثناءها في الحثّ على الخير والعناية بأمور الناس ومطالبهم ، وكذلك الحال إن كان في حال دفن ميت ، كان يذكّر من حوله بالدار الآخر تالياً آيات قرآنية كريمة ، أو يسمعهم أبياتا شعرية تذكر الموت والآخرة ، وهكذا حاله إن ألمّت بالناس شدائد أو ضيق أو محل ، كان يذكّرهم بالله تعالى وسننه في هذا الكون حاثاً على التوبة إلى الله تعالى .
14. التربية بالقصة أو الحكاية : القصة لها شأن وأي شأن ، إنها سحر يملك النفوس ، لما تحمله من متعة وإثارة ، ولما لها من قدرة على التغيير في حياة الإنسان ، والقصة لها دورها في شد الانتباه وجذب المتعلم ، ولهذا كان الشيخ رحمه الله يستخدم أسلوب القصة أو الحكاية سواء كان ذلك أثناء الدروس العلمية أو في نصائحه وإرشاداته المختلفة ، بل حتى حينما يأتيه الناس في عرض مشكلاتهم أو مسائلهم ، ومصادره في ذلك القرآن الكريم وسيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام ، بالإضافة إلى المخزون الوافر الذي لديه من قصص السابقين أو قصص الذي عاصرهم ، أو غيرها من القصص ، وغالبا ما تكون قصيرة موجزة بأسلوب سهل ميسر ويطرحها بطريقة تشد انتباه السامع .
15. الرسائل الإيجابية : كان شيخنا رحمة الله عليه حريصا على توجيه رسائل إيجابية للآخرين ، فتارة ملفوظة وتارة ملحوظة ، فمثلا أسماء الأشخاص يربطها أحيانا بثناء أو دعاء أو بيت شعري ، كأن يقول لمن اسمه صالح : هذا صالح صالح ! أو يقول لمن اسمه هشام :
فَأَصبَحَ بَطنُ مَكَّةَ مُقشَعِرّاً كَأَنَّ الأَرضَ لَيسَ بِها هِشامُ
مما يجعل صاحب الاسم يكاد يطير فرحا وسرورا ، وهكذا أسماء القرى والبلدان ، فكم كان يقول عن قريتي صياء : ضياء ، أو يقول : صياصي أي حصون !
وكان لهذا الأسلوب دوره في تحفيز السامع وتشجيعه وبعث الهمة في نفسه .
16. الدعابة : كان الشيخ رحمه الله يداعب من يجالسه ويمازحهم ، وكان مزاحه بعيدا عن فحش الكلام أو الكذب أو ما يثير حفيظة الآخرين ، وكان لهذا الأسلوب أثره في النفوس ، يعزز المودة ويلطف الجو وينشر البهجة ، وغالبا ما يكون في دعابته تعليم أو تحبيب في العلم أو تحفيز ، ومما أذكره هذه الأبيات :
يستوجب الصفع في الدنيا ثمانية
لا لوم في واحد منهم إذا صفعا
المستخف بسلطان له خطر
وداخل الدار تطفيلا بغير دعا
ومنفذ أمره في غير منزله
وجالس مجلسا عن قدره ارتفعا
ومبتغي الود ممن لا خلاق له
وداخل في حديث اثنين مندفعا
ومتحف بحديث غير سامعه
وطالب الحق من أعدائه طمعا
ختاما ؛ هذا غيض من فيض ، ومهما كتبت فلا أراه سوى نقطة في بحر ، نسأل الله تعالى أن يعيننا على أن نقوم ببعض الواجب تجاه شيخنا رحمه الله تعالى ، وعسى أن تتضافر الجهود لأجل إخراج مجموع أشمل وأوسع حول حياة الشيخ من كافة النواحي ..
فقيد الِعلم
قصيدة في رثاء كوكب العلم الشيخ : عبدالله بن سالم اللزامي رحمه الله
سيبكي عليك الدهُر بل هو يندبُ // وترثيك شمسٌ حين تبدو وتغربُ
ويرجو لقاءا من تركت لقائهم // ويشتاقك العلم الذي أنت تطلبُ
أيا عالمَ النحو الجليل فجعتنا // ومَن بعدَ أنس فيك أنت لنا الأبُ
فمن ذا يسدُ الثغرَ ياشيخ بعدكم // ومن بعدكم ياسيدي حين تذهبُ
ويا دار شيخي كيف أصبحت بعده // بلى كيف أمست حينما غاب كوكبُ
لقدْ كنتَ تروينا العلوم وإنها // لوجهك نور إذ له أنت تنسبُ
ولله ياشيخي لماذا هجرتنا // يظلنا من بعد موتك غيهبُ
أتت كربةٌ ياقوم بل ومصيبةٌ // ولكن أمرَ اللهِ تدعو وترغبُ
لقد كنت ترجوا أن يكون رحيلكم // بارض رسول اللهِ تدعوا وترغبُ
فاعطاك ربي ما أردت وإنها // لنعمى كريم سيدي حين توهبُ
كأني اراك الآن ياسيدي وقد // تلقتك أنوارُ الجنان ترحبُ
تحيط بك الحور الحسان وإنها // تجيء تنادي المتقين وتطلبُ
هنيئاً لعمري في النعيم مخلداً // بمقعد صدق إنما أنت كوكبُ
شعر: ميمونة بنت محمد بن صالح البطاشية
تعليق