واجهت الأقلام الفذّة والعقول المفكرة على مر عصور مختلفة مختلف أنواع القهر والإخضاع والاستعباد ، ليسوا هم فقط بل كافة الشعوب ذلك أنها لم تنعم بالنتاج الفكري لكبار المفكرين والإصلاحيين على مر حقب مختلفة ، كتب كثيرة ونتاج فكري هائل أُّهلك بدوافع سياسية مريضة ، نُكِست عبرها راية الفكر العربي وغُيّر ملامحه . وما ذلك إلا خنوعا لجبابرة العالم الآخر و لأجل أرضاء فئة خاصة دون أخرى !! يطبطبون على العقول العربية بأفكار وعلوم غربية سقيمة وبملاهي دنيوية ما عهِدناها تكون في مجتمعنا العربي المحافظ ، كل ذلك والشعارات تُرفع منادية بحرية الفكر والتعبير والواقع ينبئ بعكس ذلك تماما !!!
يخطئ من يحسب أن ديدن قضية استعباد الفكر مجرد استعراض لمشهد هتك حرية الفكر وحرية التعبير فقط ، فقضية كبت واستعباد الفكر ما هي إلا صورة جزئية لمعضلة أدهى وأمرّ . لقد رزئ كيان المجتمع الإسلامي بآفات مستكينة والغالبية مشترك في الجرم ، سواء أكان ذلك على صعيد الحكام أو الشعوب والأفراد . فالحكام جرمهم واقع ذلك أنهم يحاولون استعباد الناس بسياسات ونظم بشرية دون الاحتكام لحاكميه الله في أرضه ، يتعدون على سلطان الله في أرضه من خلال فرض بعض القوانين والأنظمة في مختلف الجوانب والتي تتعارض تعارضا جوهريا مع ما أنزله الله . ولقد ساهمت الشعوب في هذا الجرم ذلك أنها رضيت بطول استحكام الغفلة على منهاج حياتها . لقد صار المجتمع العربي بهذه السياسات والنظم وباستحكام غفلة شعوبه أقرب لأن يكون مجتمع الجاهلية الأولى ، وإنه وعلى هذا النهج لم يكن ليمثل الصورة الحقيقية لأمة ( لا إله إلا الله ) . رحم الله شهيد الإسلام " سيد قطب " عندما قال (( نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم ، كل ما حولنا جاهلية .. تصورات الناس وعقائدهم ، عاداتهم وتقاليدهم ، موارد ثقافتهم ، فنونهم وآدابهم ، شرائعهم وقوانينهم . حتى الكثير مما نحسبه ثقافةً إسلامية ومراجع إسلامية ، وفلسفة إسلامية ، وتفكيرا إسلاميا ... هو كذلك من صنع هذه الجاهلية !! ))
إن حقيقية القيود والأغلال المفروضة على مستوى الفكر أو على مستوى مختلف الجوانب الأخرى ما هي إلا قيود وأغلال تحول بيننا وبين الوصول للمعنى الحقيقي للمجتمع الإسلامي القائم على عقيدة " لا إله إلا الله " . والإنسان من غير لا إله إلا الله يخرج من قائمة الأحياء إلى عِداد الأموات ذلك أن الجسد لا يستقيم إلا باستقامة الروح واستقامة الروح لا تكون إلا برسوخ عقيدة لا إله إلا الله . كلما نأى ديدن مختلف جوانب المجتمع سواء السياسية أو الاجتماعية أو الحضارية عن حاكميه الله وسلطانه كلما كان ذلك مدعاة لهلاكها لا محالة ، المُنجي الوحيد لها لا يكون إلا بالخروج عن سلطان وحاكميه البشر إلى سلطان وحاكميه الله في كل ذرة من كيانها . دون ذلك فالحرية وهم زائف ، والظلم والجبروت سيعم وسينتشر . وكيان المجتمع وإن طال الزمن به لا محالة سينتهي لحفرة الهلاك والضياع . إن الخنوع والانقياد لحاكميه البشر دون حاكميه الله مأساة كبرى ، ففي حال استفحال الخنوع والانقياد لحاكميه البشر دون حاكميه الله لا محالة ستُلغى ذات الإنسان وستسبى منه عقيدته دون أن يرقب فيه الطاغية إلا ولا ذمة . وحكم الطاغية واقع لنفس المرء أولا ثم لكل ولي أمرٍ لا يبغي لنهج الله سبيلا . حياتنا نراها وقد غطتها ملامح الغفلة ، دور العلم ممثلة في مدارسنا ومؤسسات التعليم العالي ، إعلامنا ، أسواقنا ، تعاملاتنا وغيرها من الجوانب خرج جانب من عصبها عن حاكميه الله وسلطانه إلى حاكميه البشر وقوانينهم الوضعية . نلحظ في حياتنا اليومية أبسط الأمور ينتهك فيها عرض الدين ولا أحد يتحرك ليقول لا ؟ عُلمنا الخنوع و الانقياد دون الكلام بطريقة أو بأخرى ، قد يرجع ذلك للماهية الديناميكية المحركة لكيان المجتمع ، وقد يكون ذلك لأن بصائرنا لا تبصر إلا زاوية ضيقة جدا من واقع الأمور حولنا ، و لربما غُشيت الأبصار ولم تتح لها الفرصة لتتأمل وتبحث وتقرر وتتكلم . في مدارسنا لم نكن نقوى على قول كلمة لا في وجه المعلم إن أخطأ وتعدى على حدود الله ، وكذا اليوم في الجامعات والكليات ، لم يعد يقوى البعض رغم نضوجه وبلوغه من أن يقول لا في وجه الباطل ، حز في نفسي ما نقله لي أحدهم بقوله : بينما نحن في أحد محاضرات الجامعة إذا بأحد الدكاترة تاهت به الخطى أخذ يتعدى على الدين بنكرانه لبعض أحكامه والطلاب في صمت عارم خوفا من الوقوف أمامه قولا للحق وتمكينا لشرع الله ..!!! أي مأساة هذه التي يهان فيها المرء بأغلال الخنوع والخضوع خوفا من المساءلة حتى في أمور حياته اليومية ؟ ألا توجد حدود تستلزم من المسلم الوقوف بحزم لا يخشى في الله لومه لائم تجاه من تخول له نفسه الاعتداء على سلطان الله وحاكميته ؟؟ متى سنعمل بقوله تعالى : { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [ يوسف : 40 ] .
نرى الزيف والبهتان والعدول عن تمكين حاكميه الله في واقع الأمة الإسلامية ـــ كثيرون هم الذين ينطقون بذلك ـــ ، وإن من بين ما يمنعهم عن الإقدام لتمكين حاكميه الله هو التقية والخشية من أن يؤول بهم الظلم للفناء والهلاك ، وفي ذلك منطق يُنظر له ، إلا أن الرجال ممن يقفون موقف الصلد الجلد يسترخصون كل شيء بما فيها حياتهم في سبيل تمكين حاكميه الله في أرضه . فحينما توُجد العثرة يكون الرجال لها كالجبال ، فالرجال دائما ما يحولون المحنة منحة يكتبها التاريخ بمداد الإجلال والاعتزاز . عندما يتنبّه الحس البشري الإسلامي لدائرة العمل الضيقة التي حشر نفسه فيها ،حينها فقط تعود للكون روحه وللوجود كنهه وغايته ولعقيدة لا إله إلا الله سلطانها ونفوذها ، دون ذلك فالحياة لا تغدوا أن تكون أكثر من مجرة ومضة بدأت وانتهت كأن لم تبدأ ، وليس في ذلك أبلغ من قول " سيد قطب " حينما قال (عندما نعيش لذواتنا فحسب تبدو لنا الحياة قصيرة ضئيلة ، تبدأ من حيث بدأنا نعي وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود ). إن لم تكن لنا كلمة نعمل من خلالها على توجيه القيمة العظمى لذواتنا ومحيطها وفق روح إيمانية خالصة فالحياة عبث ووهم زائف . إن الحياة لا تستقيم إلا بالدخول في الإسلام والدخول في الإسلام _ كما قال سيد قطب _ هي صفقة بين متبايعين ، الله سبحانه هو المشتري والمؤمن فيها هو البائع ، فهي بيعة مع الله،لا يبقى بعدها للمؤمن شيء في نفسه ولا في ماله... لتكون كلمة الله هي العليا ،وليكون الدين كله لله" . " إن الله يريد لهذا الدين أن يكون كما أراده ... عقيدةً تملأ القلب وتفرض سلطانها على الضمير ، عقيدةً مقتضاها ألا يخضع الناس إلا لله ، وألا يتلقوا الشرائع إلا منه دون سواه " .
يئنّ بالقلب حرفٌ مكسور يأبى الإ وأن يصرخ في وجه الظلم والجبروت والزيف والبهتان ، هناك من شُرِخت ذاته من هول ما يرى من الزيف والبهتان إلى حد لم يعد يخشى في الله لومه لائم ، وما أكثر العظماء ممن ساروا على هذا النهج ، على حسب ما يذكر فإن أحد أخوة سيد قطب سأله عقب إحدى محاكماته قائلا له : لماذا كنت صريحا في المحكمة التي تمتلك رقبتك ؟ قال سيد قطب رحمة الله عليه : "لأن التورية لا تجوز في العقيدة، وليس للقائد أن يأخذ بالرخص". ولمّا سمع الحكم عليه بالإعدام قال: "الحمد لله. لقد عملت خمسة عشر عاما لنيل الشهادة" ، ويوم تنفيذ الإعدام، وبعد أن وُضع على كرسي المشنقة عرضوا عليه أن يعتذر عن دعوته لتطبيق الشريعة ويتم إصدار عفو عنه، فقال: " لن أعتذر عن العمل مع الله أبدا ". ثم قال: "إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ليرفض أن يكتب حرفا واحدا يقر به حكم طاغية". فقالوا له إن لم تعتذر فاطلب الرحمة من الرئيس. فقال: "لماذا أسترحم؟ إن كنت محكوما بحق فأنا أرتضي حكم الحق، وإن كنت محكوما بباطل، فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل"، ويروى أيضاً أن الذي قام بعملية تلقينه الشهادتين قبل الإعدام قال له: "تشهد"، فقال له سيد: "حتى أنت جئت تكمل المسرحية نحن يا أخي نعدم لأجل لا إله إلا الله، وأنت تأكل الخبز بلا إله إلا الله".
بأمثال هؤلاء تستفيق الأمة وبأمثال هؤلاء يقوم لحكم الله سلطان في الأرض ..!! لقد فُقِد سيد قطب حينها كجسد لا كفكر وكلمات ، شخص كسيد قطب حمل جمال فكرٍ قد رصّعت جذوره وجذوذه برسوخ العقيدة والمبدأ . وإن روائع المعالم والظلال والعدالة شاهدة على ذلك بل ومؤكدة . إن سيد قطب لم يغادر الدنيا إلا ليلقى ربه وقلبه متلألئ بالإيمان إن شاء الله ، عَرِف الحياة وخبِرها وحمل الزاد المعين ليوم الميعاد وفي ذلك غاية الوجود لكل موجود. ذهب جسده وظلت روحه وظل فكره حرّا طليقا يستنعم به المسلمون قاصيهم ودانيهم . وإن تلك وربي لهي من أرقى الغايات الدنيوية لكل حيّ عاقل . فالأجساد تذهب لكن تبقى الأفكار والكلمات ردحا من الزمن تستضي بها العقول والقلوب ، رحمه الله عندما قال (( إن أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئا كثيرا ولكن بشرط واحد: أن يموتوا هم لتعيش أفكارهم، وأن يطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم ، و أن يقولوا ما يعتقدون أنه حق ، ويقدموا دماءهم فداء لكلمة الحق)) وقوله (( إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثا هامدة ، حتى إذا متنا في سبيلها أو غذيناها بالدماء انتفضت حية وعاشت بين الأحياء)) . و الله در الشيخ عبدالله عزام عندما قال (( إن كلماتنا ستبقى ميتة أعراساً من الشمع لا حراك فيها جامدة حتى إذا مِتنا من أجلها انتفضت حية وعاشت بين الأحياء؛ كل كلمة عاشت كانت قد اقتاتتْ قلبَ إنسان حي فعاشت بين الأحياء والأحياء لا يتبنون الأموات)) .
إن الأجساد إن ذهبت لأجل لا إله الله فهي باقية بأفكارها وبنسمات أرواحها . وبها ستتوالى الأجيال تسترضع منها لبان العز والكرامة وبها ستُدفع لتقديم الأرواح مستقبلا لأجل رسوخ عقيدة لا إله إلا الله . علينا أن نوقن أن الجريمة العظمى والمأساة الكبرى ليس في ذهاب الأجساد وإنما في هلاك وتشريد وضياع الأفكار والعقائد. إن استشهاد سيد قطب هو وإخوانه منافحي العقيدة ورجالها إن كان لأجل لا إله إلا الله فالثمار ستفوح وإن لم تستلهم العقول هذه الحقيقة . وكلما كان الثمن غاليا كلما كانت الثمار أغلى وأثمن ، فحياة المرء صحيح أنها غالية لكن عندما باعها في سبيل تحقيق حاكميه الله فالحصاد عاجلا أم آجلا سيكون على قدر الثمن المدفوع . الإنسان حال موته دفاعا عن عقيدة كعقيدة لا إله إلا الله ستستلهم الألباب والعقول ما معنى أن يموت إنسان لعقيدته وستدرك الألباب ما لتلك العقيدة من قيمة . وتباعا لذلك ستكون القابلية لتقبل ما كان يدعو إليه شخص كسيد قطب أكبر مما لو لم يمت سيد قطب لأجل لا إلا الله .
أننا بحاجة للدعوة وقبل ذلك فنحن بحاجة لمن يسخر حياته من أجل هذه الدعوة . والدعوة إلى الله لم تكن لتكون على جهالة . نرى فئة من الدعاة يدعون للعقيدة وهم لم يفهموا العقيدة بمعناها العميق ، فالسير على نهج الدعوة يكون أولا بفهم العقيدة كما وجب لها أن تفهم ( ومسؤولية هذا الأمر واقع لكل مسلم ومسلمة ، ولا يُخص به الدعاة فقط ) . بعد فهم العقيدة تخرج بوادر هذا الفهم لمواجهة محيط روح العقيدة المتمثل في كيان الأمة . هذه البوادر يستوجب منها أن تعمل على إثرها كل ذرة من كيان الأمة . بين الفينة والأخرى وحينما يشّب رجال كأمثال سيد قطب ستبعث في الكون روحه وفي الوجود كنهه وغايته. وإن لم يكن لنا سبيل لذلك فليكتبوا على قبورنا أننا موتنا قبل أن نحيى ، ولله الأمر من قبل ومن بعد .
يخطئ من يحسب أن ديدن قضية استعباد الفكر مجرد استعراض لمشهد هتك حرية الفكر وحرية التعبير فقط ، فقضية كبت واستعباد الفكر ما هي إلا صورة جزئية لمعضلة أدهى وأمرّ . لقد رزئ كيان المجتمع الإسلامي بآفات مستكينة والغالبية مشترك في الجرم ، سواء أكان ذلك على صعيد الحكام أو الشعوب والأفراد . فالحكام جرمهم واقع ذلك أنهم يحاولون استعباد الناس بسياسات ونظم بشرية دون الاحتكام لحاكميه الله في أرضه ، يتعدون على سلطان الله في أرضه من خلال فرض بعض القوانين والأنظمة في مختلف الجوانب والتي تتعارض تعارضا جوهريا مع ما أنزله الله . ولقد ساهمت الشعوب في هذا الجرم ذلك أنها رضيت بطول استحكام الغفلة على منهاج حياتها . لقد صار المجتمع العربي بهذه السياسات والنظم وباستحكام غفلة شعوبه أقرب لأن يكون مجتمع الجاهلية الأولى ، وإنه وعلى هذا النهج لم يكن ليمثل الصورة الحقيقية لأمة ( لا إله إلا الله ) . رحم الله شهيد الإسلام " سيد قطب " عندما قال (( نحن اليوم في جاهلية كالجاهلية التي عاصرها الإسلام أو أظلم ، كل ما حولنا جاهلية .. تصورات الناس وعقائدهم ، عاداتهم وتقاليدهم ، موارد ثقافتهم ، فنونهم وآدابهم ، شرائعهم وقوانينهم . حتى الكثير مما نحسبه ثقافةً إسلامية ومراجع إسلامية ، وفلسفة إسلامية ، وتفكيرا إسلاميا ... هو كذلك من صنع هذه الجاهلية !! ))
إن حقيقية القيود والأغلال المفروضة على مستوى الفكر أو على مستوى مختلف الجوانب الأخرى ما هي إلا قيود وأغلال تحول بيننا وبين الوصول للمعنى الحقيقي للمجتمع الإسلامي القائم على عقيدة " لا إله إلا الله " . والإنسان من غير لا إله إلا الله يخرج من قائمة الأحياء إلى عِداد الأموات ذلك أن الجسد لا يستقيم إلا باستقامة الروح واستقامة الروح لا تكون إلا برسوخ عقيدة لا إله إلا الله . كلما نأى ديدن مختلف جوانب المجتمع سواء السياسية أو الاجتماعية أو الحضارية عن حاكميه الله وسلطانه كلما كان ذلك مدعاة لهلاكها لا محالة ، المُنجي الوحيد لها لا يكون إلا بالخروج عن سلطان وحاكميه البشر إلى سلطان وحاكميه الله في كل ذرة من كيانها . دون ذلك فالحرية وهم زائف ، والظلم والجبروت سيعم وسينتشر . وكيان المجتمع وإن طال الزمن به لا محالة سينتهي لحفرة الهلاك والضياع . إن الخنوع والانقياد لحاكميه البشر دون حاكميه الله مأساة كبرى ، ففي حال استفحال الخنوع والانقياد لحاكميه البشر دون حاكميه الله لا محالة ستُلغى ذات الإنسان وستسبى منه عقيدته دون أن يرقب فيه الطاغية إلا ولا ذمة . وحكم الطاغية واقع لنفس المرء أولا ثم لكل ولي أمرٍ لا يبغي لنهج الله سبيلا . حياتنا نراها وقد غطتها ملامح الغفلة ، دور العلم ممثلة في مدارسنا ومؤسسات التعليم العالي ، إعلامنا ، أسواقنا ، تعاملاتنا وغيرها من الجوانب خرج جانب من عصبها عن حاكميه الله وسلطانه إلى حاكميه البشر وقوانينهم الوضعية . نلحظ في حياتنا اليومية أبسط الأمور ينتهك فيها عرض الدين ولا أحد يتحرك ليقول لا ؟ عُلمنا الخنوع و الانقياد دون الكلام بطريقة أو بأخرى ، قد يرجع ذلك للماهية الديناميكية المحركة لكيان المجتمع ، وقد يكون ذلك لأن بصائرنا لا تبصر إلا زاوية ضيقة جدا من واقع الأمور حولنا ، و لربما غُشيت الأبصار ولم تتح لها الفرصة لتتأمل وتبحث وتقرر وتتكلم . في مدارسنا لم نكن نقوى على قول كلمة لا في وجه المعلم إن أخطأ وتعدى على حدود الله ، وكذا اليوم في الجامعات والكليات ، لم يعد يقوى البعض رغم نضوجه وبلوغه من أن يقول لا في وجه الباطل ، حز في نفسي ما نقله لي أحدهم بقوله : بينما نحن في أحد محاضرات الجامعة إذا بأحد الدكاترة تاهت به الخطى أخذ يتعدى على الدين بنكرانه لبعض أحكامه والطلاب في صمت عارم خوفا من الوقوف أمامه قولا للحق وتمكينا لشرع الله ..!!! أي مأساة هذه التي يهان فيها المرء بأغلال الخنوع والخضوع خوفا من المساءلة حتى في أمور حياته اليومية ؟ ألا توجد حدود تستلزم من المسلم الوقوف بحزم لا يخشى في الله لومه لائم تجاه من تخول له نفسه الاعتداء على سلطان الله وحاكميته ؟؟ متى سنعمل بقوله تعالى : { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [ يوسف : 40 ] .
نرى الزيف والبهتان والعدول عن تمكين حاكميه الله في واقع الأمة الإسلامية ـــ كثيرون هم الذين ينطقون بذلك ـــ ، وإن من بين ما يمنعهم عن الإقدام لتمكين حاكميه الله هو التقية والخشية من أن يؤول بهم الظلم للفناء والهلاك ، وفي ذلك منطق يُنظر له ، إلا أن الرجال ممن يقفون موقف الصلد الجلد يسترخصون كل شيء بما فيها حياتهم في سبيل تمكين حاكميه الله في أرضه . فحينما توُجد العثرة يكون الرجال لها كالجبال ، فالرجال دائما ما يحولون المحنة منحة يكتبها التاريخ بمداد الإجلال والاعتزاز . عندما يتنبّه الحس البشري الإسلامي لدائرة العمل الضيقة التي حشر نفسه فيها ،حينها فقط تعود للكون روحه وللوجود كنهه وغايته ولعقيدة لا إله إلا الله سلطانها ونفوذها ، دون ذلك فالحياة لا تغدوا أن تكون أكثر من مجرة ومضة بدأت وانتهت كأن لم تبدأ ، وليس في ذلك أبلغ من قول " سيد قطب " حينما قال (عندما نعيش لذواتنا فحسب تبدو لنا الحياة قصيرة ضئيلة ، تبدأ من حيث بدأنا نعي وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود ). إن لم تكن لنا كلمة نعمل من خلالها على توجيه القيمة العظمى لذواتنا ومحيطها وفق روح إيمانية خالصة فالحياة عبث ووهم زائف . إن الحياة لا تستقيم إلا بالدخول في الإسلام والدخول في الإسلام _ كما قال سيد قطب _ هي صفقة بين متبايعين ، الله سبحانه هو المشتري والمؤمن فيها هو البائع ، فهي بيعة مع الله،لا يبقى بعدها للمؤمن شيء في نفسه ولا في ماله... لتكون كلمة الله هي العليا ،وليكون الدين كله لله" . " إن الله يريد لهذا الدين أن يكون كما أراده ... عقيدةً تملأ القلب وتفرض سلطانها على الضمير ، عقيدةً مقتضاها ألا يخضع الناس إلا لله ، وألا يتلقوا الشرائع إلا منه دون سواه " .
يئنّ بالقلب حرفٌ مكسور يأبى الإ وأن يصرخ في وجه الظلم والجبروت والزيف والبهتان ، هناك من شُرِخت ذاته من هول ما يرى من الزيف والبهتان إلى حد لم يعد يخشى في الله لومه لائم ، وما أكثر العظماء ممن ساروا على هذا النهج ، على حسب ما يذكر فإن أحد أخوة سيد قطب سأله عقب إحدى محاكماته قائلا له : لماذا كنت صريحا في المحكمة التي تمتلك رقبتك ؟ قال سيد قطب رحمة الله عليه : "لأن التورية لا تجوز في العقيدة، وليس للقائد أن يأخذ بالرخص". ولمّا سمع الحكم عليه بالإعدام قال: "الحمد لله. لقد عملت خمسة عشر عاما لنيل الشهادة" ، ويوم تنفيذ الإعدام، وبعد أن وُضع على كرسي المشنقة عرضوا عليه أن يعتذر عن دعوته لتطبيق الشريعة ويتم إصدار عفو عنه، فقال: " لن أعتذر عن العمل مع الله أبدا ". ثم قال: "إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ليرفض أن يكتب حرفا واحدا يقر به حكم طاغية". فقالوا له إن لم تعتذر فاطلب الرحمة من الرئيس. فقال: "لماذا أسترحم؟ إن كنت محكوما بحق فأنا أرتضي حكم الحق، وإن كنت محكوما بباطل، فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل"، ويروى أيضاً أن الذي قام بعملية تلقينه الشهادتين قبل الإعدام قال له: "تشهد"، فقال له سيد: "حتى أنت جئت تكمل المسرحية نحن يا أخي نعدم لأجل لا إله إلا الله، وأنت تأكل الخبز بلا إله إلا الله".
بأمثال هؤلاء تستفيق الأمة وبأمثال هؤلاء يقوم لحكم الله سلطان في الأرض ..!! لقد فُقِد سيد قطب حينها كجسد لا كفكر وكلمات ، شخص كسيد قطب حمل جمال فكرٍ قد رصّعت جذوره وجذوذه برسوخ العقيدة والمبدأ . وإن روائع المعالم والظلال والعدالة شاهدة على ذلك بل ومؤكدة . إن سيد قطب لم يغادر الدنيا إلا ليلقى ربه وقلبه متلألئ بالإيمان إن شاء الله ، عَرِف الحياة وخبِرها وحمل الزاد المعين ليوم الميعاد وفي ذلك غاية الوجود لكل موجود. ذهب جسده وظلت روحه وظل فكره حرّا طليقا يستنعم به المسلمون قاصيهم ودانيهم . وإن تلك وربي لهي من أرقى الغايات الدنيوية لكل حيّ عاقل . فالأجساد تذهب لكن تبقى الأفكار والكلمات ردحا من الزمن تستضي بها العقول والقلوب ، رحمه الله عندما قال (( إن أصحاب الأقلام يستطيعون أن يصنعوا شيئا كثيرا ولكن بشرط واحد: أن يموتوا هم لتعيش أفكارهم، وأن يطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم ، و أن يقولوا ما يعتقدون أنه حق ، ويقدموا دماءهم فداء لكلمة الحق)) وقوله (( إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثا هامدة ، حتى إذا متنا في سبيلها أو غذيناها بالدماء انتفضت حية وعاشت بين الأحياء)) . و الله در الشيخ عبدالله عزام عندما قال (( إن كلماتنا ستبقى ميتة أعراساً من الشمع لا حراك فيها جامدة حتى إذا مِتنا من أجلها انتفضت حية وعاشت بين الأحياء؛ كل كلمة عاشت كانت قد اقتاتتْ قلبَ إنسان حي فعاشت بين الأحياء والأحياء لا يتبنون الأموات)) .
إن الأجساد إن ذهبت لأجل لا إله الله فهي باقية بأفكارها وبنسمات أرواحها . وبها ستتوالى الأجيال تسترضع منها لبان العز والكرامة وبها ستُدفع لتقديم الأرواح مستقبلا لأجل رسوخ عقيدة لا إله إلا الله . علينا أن نوقن أن الجريمة العظمى والمأساة الكبرى ليس في ذهاب الأجساد وإنما في هلاك وتشريد وضياع الأفكار والعقائد. إن استشهاد سيد قطب هو وإخوانه منافحي العقيدة ورجالها إن كان لأجل لا إله إلا الله فالثمار ستفوح وإن لم تستلهم العقول هذه الحقيقة . وكلما كان الثمن غاليا كلما كانت الثمار أغلى وأثمن ، فحياة المرء صحيح أنها غالية لكن عندما باعها في سبيل تحقيق حاكميه الله فالحصاد عاجلا أم آجلا سيكون على قدر الثمن المدفوع . الإنسان حال موته دفاعا عن عقيدة كعقيدة لا إله إلا الله ستستلهم الألباب والعقول ما معنى أن يموت إنسان لعقيدته وستدرك الألباب ما لتلك العقيدة من قيمة . وتباعا لذلك ستكون القابلية لتقبل ما كان يدعو إليه شخص كسيد قطب أكبر مما لو لم يمت سيد قطب لأجل لا إلا الله .
أننا بحاجة للدعوة وقبل ذلك فنحن بحاجة لمن يسخر حياته من أجل هذه الدعوة . والدعوة إلى الله لم تكن لتكون على جهالة . نرى فئة من الدعاة يدعون للعقيدة وهم لم يفهموا العقيدة بمعناها العميق ، فالسير على نهج الدعوة يكون أولا بفهم العقيدة كما وجب لها أن تفهم ( ومسؤولية هذا الأمر واقع لكل مسلم ومسلمة ، ولا يُخص به الدعاة فقط ) . بعد فهم العقيدة تخرج بوادر هذا الفهم لمواجهة محيط روح العقيدة المتمثل في كيان الأمة . هذه البوادر يستوجب منها أن تعمل على إثرها كل ذرة من كيان الأمة . بين الفينة والأخرى وحينما يشّب رجال كأمثال سيد قطب ستبعث في الكون روحه وفي الوجود كنهه وغايته. وإن لم يكن لنا سبيل لذلك فليكتبوا على قبورنا أننا موتنا قبل أن نحيى ، ولله الأمر من قبل ومن بعد .
تعليق