كان عمري حينها 10 سنين، كنت فرحا بدواميّ الصباحي في الصف الرابع الابتدائي، ولكنّ الفرح حلّ مكانه الارتباك لحظتها، وأنا أطرق باب غرفة كتب على لائحة سوداء معلقة عليه "الإذاعة المدرسية"، كان الأستاذ سيد مكبا برأسه على مجموعة من الأوراق يقرأها. وحينما عرفته بنفسي، ظننته لم يسمعني جيّدا، خاصة حينما نظر إليّ بوجهٍ خال من أيّ تعبير، قال بفتور: عايز إيه؟.. أعدت عليه والحروف تهرب من فمي : إسـ.. إسمي.. فقاطعني: عرفنا اسمك.. عايز إيه خلّصني؟.. بلعت ريقي مرّات عدّة قبل أن أنطق له: أريد أن أشترك في الإذاعة. لم يجب، أعاد ترتيب أوراقه مجددا، ثم نهض من كرسيّه وخلع نظارته، نظر إلي برهة ثم قال وابتسامة أعرفها تماما ارتسمت على شفتيه: طيّب وماله يا ابني، بس عايز تكون إيه؟
أجبته، وبي غبطة: كلمة اليوم..أريد أقدم كلمة الصباح.
سحب ورقة من أمامه وقدّمها إليّ : إقرأها؟
كانت فقرة مكتوبة بخطّ اليد، كنت قد سمعتها في طابور صباح ذلك اليوم، عن "النخلة"، اكتشفت بعدها بعامين أنها أحد دروس اللغة العربية للصف السادس. لم أكمل قراءة أسطر ثلاثة، حتى سحب الورقة من يديّ، وقال وهو يشير بيديه إلى الباب: مش عاوزين، كفاية.
لم أذكر الأمر لأحد، وكرهت أستاذ سيّد من يومها، كان قصيرا سريع المشية، العصا لا تفارق يده، وكلما رآني في طابور الصباح أو في فترة الاستراحة، يضربني بخفّة بعصاه ويقول: إزيّك يا اللي اسمك ايه. ويذهب.
بعدها بعام، أحضر لنا مدرس اللغة العربية "حمد العلوي" كاسيت به قصيدة شعرية طويلة، كان يعيد تشغيل القصيدة مرارا، لم تكن القصيدة من ضمن المنهج، ولم تكن الحصّة إلا حصّة أحد المعلمين الذين تغيّبوا ذلك اليوم، وحضر بدله معلمنا للغة العربية، هو نفسه مربّي الفصل. بعد انتهاء الحصّة، لحقت بالاستاذ حمد العلوي، طلبت منه أن استعير الكاسيت على أن أعيده اليوم الثاني، أعطاني إيّاه وذهب. استمعت للقصيدة وكتبتها، وأتيت للأستاذ حمد بعد يومين وأنا أقول له: حفظتها. نظر إلي وابتسم: ماذا حفظت يا نبهان؟.
- القصيدة.. صوت صفير البلبل.
توقّف عن الابتسام، ثم قال: هذه طويلة، ربما قد حفظت جزءً منها. رددت عليه بالنفي وقلت له، بل التي في الكاسيت كاملة، وأنشدت القصيدة أمامه: صوت صفير البلبل... هيّج قلبي الثمل.. الماء والزهر معا.. مع لحظ زهر المقلي....إلخ. لم يبتسم ولم يعلّق، ربت على كتفي وسألني: هل تستطيع تقديمها غدا في الإذاعة؟ هززت رأسي إيجابا.
حينما عدت للبيت، لم أخبر أحدا، لا عن حفظي للقصيدة، ولا عن حلمي الذي سيتحقق صباح الغد في وقوفي خلف ميكرفون إذاعة المدرسة. في صباح اليوم اليوم التالي، أتيت باكرا، رفض الحارس إدخالي حتى يرنّ جرس الدخول، وحين أخبرته أنني ضمن فريق الإذاعة، سمح لي بالدخول. جريت للصف، وضعت كتبي على طاولتي، ثم جريت إلى غرفة الإذاعة، لم يكن وقتها أ.سيد من يديرها، بل أ.محمد القاسم (فنان تشكيلي في رسم الحرف العربي حاليا)، وحين أخبرت مقدّم البرامج الإذاعية أنني سأقرأ قصيدة، قال: أن أ.محمد لم يخبره بذلك. لم تفلح محاولتي في إقناع مقدّم البرامج الذي كانت طالبا بالصف الثاني إعدادي وقتها، واسمه عبدالحكيم.
رنّ جرس الطابور، وتدافع الطلبة للاصطفاف، وذهبت ممتلئا بالخيبة إلى الطابور، لمحني أ.حمد العلوي، الذي أشار إليّ بالقدوم إليه، ذهبت متباطئا، وحينما وصلت إليه سألني: ألم أقل لك أن تستعد لقراءة القصيدة اليوم؟ أومأت له برأسي، وأتبعت : لكنّ عبدالحكيم ما خلاّني أقدمها، لأنه ما حد خبّره. وضع يده على كتفي وأخذني معه، وكان طابور الصباح قد بدأ، والنشيد السلطاني انتهى، وابتدأت فقرات الإذاعة حينها بالقرآن الكريم، أخذني "حمد العلوي" إلى "محمد القاسم" على أن يقدّمني في الإذاعة لقراءة القصيدة.. لحظتها، لحظتها فقط،تنبهت أنني لم أتدرب على إلقاء القصيدة... وحين صرخ مقدّم الإذاعة باسمي، انتبهت على زملائي في الصفّ وهم يفتشون عنّي في الطابور.
تقدّم يومها "نبهان الحنشي" ليقف خلف الميكرفون، كلّ شيء حينها ارتبك، وأحسست بمثانتي ستنفجر من البول، واسودت الدنيا في عينيّ لحظتها، ما عدت أرى إلا عصا مدير المدرسة، نظرت إلى أ.حمد العلويّ، كان يحرّك شفتيه...ويديه كذلك، يأمرني بإلقاء القصيدة، ولكنني لم أكن أسمع شيئا.. بعدها، انفجرت قائلا القصيدة بسرعة وارتباك.. حتى وصلت إلى البيت الذي يقول فيه الأصمعيّ :فولولت وولولت.. ولي ولي يا ويللي.. لحظتها انفجر الطابور بطلابه ومعلمّيه ضحكا.. توقفت..وتولولت الحروف داخلي وازدادت دقات قلبي حتى خفت أن تسمع عبر مايكروفون الإذاعة، نظرت مرة أخرى إلى أ.حمد العلوي وكان يشير لي أن أكمل، فأكملت.. ما إن وصلت إلى البيت: والعود دندن دنلي والطبل طب طب طبلي... والسقف سق سق سقلي.. ورأيت الطابور يهتزّ مرة أخرى بالضحك، المدير والمعلمين والطلاب.. وبضع طلاّب من صفي الذين كانوا قريبين من الإذاعة يعلّقون: طبّق طبّق.. أي "تلعثم". نظرت مرة أخرى للأستاذ حمد.. وجدته هو الآخر يضحك.. وقد أشار لي أن أكمل، فأكملت والضحك لم ينته صداه، حتى وصلت إلى : والكل كع كع كعكع.. حتى عادت موجة الضحك مرة أخرى، لم ألتفت للأستاذ حمد ولا للطلاب ولا للمدرسة كلّها، بل قلت:وشكرا.. واصطففت مع طلبة الإذاعة والموسيقى الذين كانوا يصطفون عادة في الخلف حتى انتهاء الطابور.. وكانوا هم كذلك يضحكون.
يومها، كان كل معلم أقابله يسألني: كيف حفظت هذه القصيدة؟ ثم يطلب منّي أن أردد له عددا من أبياتها، وهكذا الحال حتى نهاية اليوم الدراسي. كنت أتصوّر لحظة عودتي لبيتنا، الذي كان قريبا من المدرسة جدا، كنت أعتقد أن الحارة كلها سمعتني وأنا ألقي القصيدة، وأن أصدقاء أبي الذين يقضون مساءهم بعد صلاة العشاء معه أمام "الدكّان"، سيتناوبون المديح والثناء عليّ، لكنّ ذلك لم يحدث إلا في خيالي، عدت لبيتنا، وحيّنا، وجلست بين والدي وأصدقاءه، ولم يثنوا عليّ حتى وأنا أصب لهم القهوة!!
أجبته، وبي غبطة: كلمة اليوم..أريد أقدم كلمة الصباح.
سحب ورقة من أمامه وقدّمها إليّ : إقرأها؟
كانت فقرة مكتوبة بخطّ اليد، كنت قد سمعتها في طابور صباح ذلك اليوم، عن "النخلة"، اكتشفت بعدها بعامين أنها أحد دروس اللغة العربية للصف السادس. لم أكمل قراءة أسطر ثلاثة، حتى سحب الورقة من يديّ، وقال وهو يشير بيديه إلى الباب: مش عاوزين، كفاية.
لم أذكر الأمر لأحد، وكرهت أستاذ سيّد من يومها، كان قصيرا سريع المشية، العصا لا تفارق يده، وكلما رآني في طابور الصباح أو في فترة الاستراحة، يضربني بخفّة بعصاه ويقول: إزيّك يا اللي اسمك ايه. ويذهب.
بعدها بعام، أحضر لنا مدرس اللغة العربية "حمد العلوي" كاسيت به قصيدة شعرية طويلة، كان يعيد تشغيل القصيدة مرارا، لم تكن القصيدة من ضمن المنهج، ولم تكن الحصّة إلا حصّة أحد المعلمين الذين تغيّبوا ذلك اليوم، وحضر بدله معلمنا للغة العربية، هو نفسه مربّي الفصل. بعد انتهاء الحصّة، لحقت بالاستاذ حمد العلوي، طلبت منه أن استعير الكاسيت على أن أعيده اليوم الثاني، أعطاني إيّاه وذهب. استمعت للقصيدة وكتبتها، وأتيت للأستاذ حمد بعد يومين وأنا أقول له: حفظتها. نظر إلي وابتسم: ماذا حفظت يا نبهان؟.
- القصيدة.. صوت صفير البلبل.
توقّف عن الابتسام، ثم قال: هذه طويلة، ربما قد حفظت جزءً منها. رددت عليه بالنفي وقلت له، بل التي في الكاسيت كاملة، وأنشدت القصيدة أمامه: صوت صفير البلبل... هيّج قلبي الثمل.. الماء والزهر معا.. مع لحظ زهر المقلي....إلخ. لم يبتسم ولم يعلّق، ربت على كتفي وسألني: هل تستطيع تقديمها غدا في الإذاعة؟ هززت رأسي إيجابا.
حينما عدت للبيت، لم أخبر أحدا، لا عن حفظي للقصيدة، ولا عن حلمي الذي سيتحقق صباح الغد في وقوفي خلف ميكرفون إذاعة المدرسة. في صباح اليوم اليوم التالي، أتيت باكرا، رفض الحارس إدخالي حتى يرنّ جرس الدخول، وحين أخبرته أنني ضمن فريق الإذاعة، سمح لي بالدخول. جريت للصف، وضعت كتبي على طاولتي، ثم جريت إلى غرفة الإذاعة، لم يكن وقتها أ.سيد من يديرها، بل أ.محمد القاسم (فنان تشكيلي في رسم الحرف العربي حاليا)، وحين أخبرت مقدّم البرامج الإذاعية أنني سأقرأ قصيدة، قال: أن أ.محمد لم يخبره بذلك. لم تفلح محاولتي في إقناع مقدّم البرامج الذي كانت طالبا بالصف الثاني إعدادي وقتها، واسمه عبدالحكيم.
رنّ جرس الطابور، وتدافع الطلبة للاصطفاف، وذهبت ممتلئا بالخيبة إلى الطابور، لمحني أ.حمد العلوي، الذي أشار إليّ بالقدوم إليه، ذهبت متباطئا، وحينما وصلت إليه سألني: ألم أقل لك أن تستعد لقراءة القصيدة اليوم؟ أومأت له برأسي، وأتبعت : لكنّ عبدالحكيم ما خلاّني أقدمها، لأنه ما حد خبّره. وضع يده على كتفي وأخذني معه، وكان طابور الصباح قد بدأ، والنشيد السلطاني انتهى، وابتدأت فقرات الإذاعة حينها بالقرآن الكريم، أخذني "حمد العلوي" إلى "محمد القاسم" على أن يقدّمني في الإذاعة لقراءة القصيدة.. لحظتها، لحظتها فقط،تنبهت أنني لم أتدرب على إلقاء القصيدة... وحين صرخ مقدّم الإذاعة باسمي، انتبهت على زملائي في الصفّ وهم يفتشون عنّي في الطابور.
تقدّم يومها "نبهان الحنشي" ليقف خلف الميكرفون، كلّ شيء حينها ارتبك، وأحسست بمثانتي ستنفجر من البول، واسودت الدنيا في عينيّ لحظتها، ما عدت أرى إلا عصا مدير المدرسة، نظرت إلى أ.حمد العلويّ، كان يحرّك شفتيه...ويديه كذلك، يأمرني بإلقاء القصيدة، ولكنني لم أكن أسمع شيئا.. بعدها، انفجرت قائلا القصيدة بسرعة وارتباك.. حتى وصلت إلى البيت الذي يقول فيه الأصمعيّ :فولولت وولولت.. ولي ولي يا ويللي.. لحظتها انفجر الطابور بطلابه ومعلمّيه ضحكا.. توقفت..وتولولت الحروف داخلي وازدادت دقات قلبي حتى خفت أن تسمع عبر مايكروفون الإذاعة، نظرت مرة أخرى إلى أ.حمد العلوي وكان يشير لي أن أكمل، فأكملت.. ما إن وصلت إلى البيت: والعود دندن دنلي والطبل طب طب طبلي... والسقف سق سق سقلي.. ورأيت الطابور يهتزّ مرة أخرى بالضحك، المدير والمعلمين والطلاب.. وبضع طلاّب من صفي الذين كانوا قريبين من الإذاعة يعلّقون: طبّق طبّق.. أي "تلعثم". نظرت مرة أخرى للأستاذ حمد.. وجدته هو الآخر يضحك.. وقد أشار لي أن أكمل، فأكملت والضحك لم ينته صداه، حتى وصلت إلى : والكل كع كع كعكع.. حتى عادت موجة الضحك مرة أخرى، لم ألتفت للأستاذ حمد ولا للطلاب ولا للمدرسة كلّها، بل قلت:وشكرا.. واصطففت مع طلبة الإذاعة والموسيقى الذين كانوا يصطفون عادة في الخلف حتى انتهاء الطابور.. وكانوا هم كذلك يضحكون.
يومها، كان كل معلم أقابله يسألني: كيف حفظت هذه القصيدة؟ ثم يطلب منّي أن أردد له عددا من أبياتها، وهكذا الحال حتى نهاية اليوم الدراسي. كنت أتصوّر لحظة عودتي لبيتنا، الذي كان قريبا من المدرسة جدا، كنت أعتقد أن الحارة كلها سمعتني وأنا ألقي القصيدة، وأن أصدقاء أبي الذين يقضون مساءهم بعد صلاة العشاء معه أمام "الدكّان"، سيتناوبون المديح والثناء عليّ، لكنّ ذلك لم يحدث إلا في خيالي، عدت لبيتنا، وحيّنا، وجلست بين والدي وأصدقاءه، ولم يثنوا عليّ حتى وأنا أصب لهم القهوة!!
تعليق