كتب : د. شبر الموسوي
قصيدة النثر في عمان
بين غياب الرومانسية وحضور السريالية
(1 من 5)
بقلم الدكتور شبر بن شرف الموسوي
أود أن أطرح خلال هذه الدراسة مجموعة من الأفكار أو عدة سمات فنية تتعلق بقصيدة النثر في عمان وذلك من خلال عدد من التصورات الفنية والموضوعية ، وهي كالآتي: ارتباط قصيدة النثر في عمان بالمفهوم السريالي وغياب الرؤيتين الرومانسية والذاتية عن هذه القصيدة وسيطرة الرموز الغربية والانحدار إلى مستوى من السردية والنثرية ، وسوف أتطرق إلى محاولة بعض كتاب قصيدة التخلص من البلاغة العربية التقليدية وإقامة بلاغة الصدمة كما يسمونها ، لكنهم في الوقت ذاته يناقضون أنفسهم ويتمسكون بهذه البلاغة تعويضا منهم عن فقدان الإيقاع والموسقة في قصائدهم . وسوف اعتمد في هذه الدراسة تطبيقا على عدد من مجموعات لشعراء قصيدة النثر في عمان وهي ( معجم الجحيم لسيف الرحبي ، وعزلة تفيض عن الليل لزاهر الغافري ، وعيون طوال النهار و وكل ليلة وضحاها لمحمد الحارثي ، فرق الهواء لعبد الله الريامي ، ومراودات لصالح العامري ) ، كما استعنت ببعض الأفكار والرؤى والاقتباسات الواردة في كتابي “اتجاهات الشعر العماني المعاصر” في فصل اتجاه قصيدة النثر ، وربما تكون هذه الدراسة استكمالا لذلك الفصل أو محاولة جديدة لاستدراك ما فاتني في تلك الدراسة ، عموما تبقى كل الأفكار الواردة في هذه الدراسة أو ما سبقها موضوع نقاش وبحث دائم .
أولا ارتباط قصيدة النثر في عمان بالمفهوم السريالي
يبدو أن المفهوم السريالي الذي يعني تجاوز الأساليب الأدبية السائدة ورفض المضامين والألفاظ والأفكار المرتبطة بالتراث يسيطر على شعراء قصائد النثر في عمان والمعروف عن السريالية “أنها ترفض الخضوع للعقل والمنطق وتنفر من الالتزام ويجد شعرائها راحتهم في اللا شعور فيخلعون خيالاتهم على ظواهر الأشياء بطريقة تلقائية ممعنة في الحرية والبعد عن الخضوع لأي نظام ، فالشعر عند السرياليين صادر عن رؤية فردية للشاعر يستكشف بها ذاته أو أعماق لا شعوره ، ولهذا نجد أشعارهم مثقلة بالرموز الباطنية ولم تعد لألفاظ اللغة عندهم مدلولات ثابتة ، ولكل منهم عالمه اللغوي الخاص الذي يعبر به عن تجارب لا شعورية . ولا شك أن الصوفية بكل رموزها ونظرياتها في الحلول والاتحاد ووحدة الوجود قد أثرت في الشعراء العرب السرياليين ، وكذلك الفلسفة الوجودية التي تقوم على دراسة ظواهر الوجود المتحقق في الموجودات” (دراسات في الأدب العربي الحديث ، د. محمد مصطفي هدارة ، ص 62 ).
يقول والاس فاولي مؤلف كتاب عصر السريالية الذي قامت بترجمته ( خالدة سعيد ) : ” السريالي يسعى لتحرير نفسه من الأشياء المألوفة التي تحيط به .. وهذا الفعل الأساسي الذي يقوم به السريالي هو فعل تحرر ، أنه غريزة عميقة في الإنسان تنزع إلى تحطيم ما يشده إلى العالم كقوانين العائلة ، والمجتمع ، والدولة ، والجنس .. ” عصر السريالية _ ص 12 (منشورات نزار قباني 1976 –بيروت
ويؤيد محمد بنيس أحد شعراء قصيدة النثر ونقادها هذا الرأي فيقول : ” إن على الكتابة كيما تتعمد بماء الحداثة وتنخرط في معمان المواجهة والتأسيس أن تقوم بسلسلة من الأفعال التدميرية وهي آن لنا أن نخرب الذاكرة كآلة متسلطة وتدمير القوانين العامة وسلطة اللغة والنحوية داخل النص وتدمير سيادة المعنى وأسبقيته داخل النص ” ([1]) .
إن النص الشعري الذي يكتبه شعراء قصيدة النثر يتعاطى مع اللغة وأدواتها ومع مختلف عناصر القصيدة من المضمون والإيقاع والرمز ، وتوظيف الأسطورة يختلف بشكل كلي عن مرحلة التعاطي الأولى في حركة الحداثة العربية ، إنه تعاطى التدمير أو التجاوز لكل هذه العناصر داخل النص ، وخلق نص جديد لا علاقة له بالقصيدة العربية المعروفة كلية ، وهو ما يمكن التعبير عنه “بانصهار هذه العناصر في القصيدة ، في الصورة الشعرية المركبة ، تلك التي لا تلامس عناصر الواقع إلا لكي تقذفه في أتون مخيلة بالغرابة أو عبر دفق اللغة وجريانها ليس عبر مثنوية الصورة ، ويتوحد أكثر مع التفصيلي والجزئي أو اختزال الجملة الشعرية إلى حد خنق نفس اللغة ” ([2]).
وقد أسقط شعراء هذا الاتجاه كل عناصر التراث واللغة والرؤية وشخصية الشاعر ،يقول أنطوان مقدسي : ” النص الحديث لا يقول إلا ذاته ؛ أي أنه مستقل عن كل موجود أو نص خارجه كالطبيعة أو المجتمع وغيرهما أو متعال عليه لا بل هو مستقل عن كاتبه ، عن واضعه ، مكتف بذاته وعليك إما أن تقبله وإما أن ترفضه فلا يصف أية طبيعة ولا يتحدث عن أية ظاهرة اجتماعية ولا عن أي شخص بل هو يبتدع ذاته” ([3]) . بل إن أدونيس يرى في كتابة قصيدة النثر ضرب من الغيب فيقول : “والشاعر هنا لا ينطلق من فكرة واضحة محددة ، بل من حالة لا يعرفها هو نفسه معرفة دقيقة ، ذلك أنه لا يخضع في تجربته للموضوع أو الفكرة أو الأيديولوجية أو العقل أو المنطق. إن حدسه كرؤيا وفعالية وحركة هو الذي يوجهه ويأخذ بيده ” ([4]) .
ولهذا فلقد ” بدأ الاتجاه السريالي في خضم التجارب التي يمر بها الشعر العربي المعاصر يتخذ صورة أكثر تعقيدا وتراوحت القصيدة عند هؤلاء الشعراء بين الرمزية والسريالية وأصبحت القصيدة عند أصحاب هذا الاتجاه مغرقة في الغموض والضبابية وعبارة عن نفثات عقل مشوش يسجل كل ما يعرض له في اللا شعور من أفكار أشبه ما تكون بخرافات الأحلام وصور يصعب على الشاعر أن يبين مدلولاتها ” دراسات في الأدب العربي الحديث ، د. محمد مصطفي هدارة ،ص 67 .
ويشير فهد المعمري في دراسته عن سيف الرحبي أن سيف الرحبي مثلا وهو أحد أبرز شعراء قصيدة النثر في عمان يعتنق مبادئ السريالية ، وإن لم يصرح بذلك ،فيقول ” يشير الشاعر سيف الرحبي نفسه في إحدى المحاضرات التي ألقاها بالنادي الثقافي بسلطنة عمان تحت عنوان “الحداثة في الشعر العربي المعاصر” ، إلى تجربته الشعرية بحيث يعترف بأنه كان في بعض الكتابات الأولى مختلفا عن الكتابات الأخيرة أو اللاحقة ، ويؤكد بشكل ضمني بأنه أنعطف نحو السريالية كما يسمونها مدرسيا “، ويواصل قائلا ” أما بالنسبة للسريالية والتي تعتبر مدرسة سار على نهجها وسمي بكونه سرياليا فهو يؤكد أنه لم يتبنى قط أية مدرسة من المدارس في يوم من الأيام وهذا باعترافه ويلح على كونه لا يسعى إلى تبنى أي اتجاه أدبي أو فني أنه يمارس مسألة الشعر ضمن فضاء من الحرية الخاصة وضمن مناخ من الأسفار اللا محدودة في المكان والزمان وفي المورث أيضا ” ، فهد المعمري ، تجربة سيف الرحبي الشعرية ، ص 14 .
وقد أدى هذا التوجه السريالي إلى سيطرة مضمون القلق والتشاؤم على مجمل نصوص شعراء قصيدة النثر في عمان ، إضافة إلى حجم التمرد على الواقع مما جعل نصوصهم مليئة بالتعبيرات التي تشبه الهلوسة أو ما يتوهمها البعض بأنها دفقات من البوح الصوفي وهي ليس كذلك كما في نصوص صالح العامري وعبد الله الريامي ومحمد الحارثي.
وكدلالة على هذا التوجه السريالي ، يمكننا أن نسلط الضوء على صياغة اللغة والصورة في قصيدة النثر والتي تتبنى السريالية التي لا توحي إلى شيء .
فالصورة الشعرية وسيلة الشعر الأولى التي يمتاز بها ، فالأفكار والمعاني موجودة في الفلسفة وأجناس الأدب الأخرى التي من الممكن أن تستعين بالصور ، ولكن تظل الصورة الشعرية هي المجال للتعبير الشعري المتقن ، ولكن الصورة لدى كتاب قصائد النثر ونتيجة لتبنيهم الاتجاه السريالي أصبحت في مجملها لا ترسم لوحة جمالية ، ولا تعكس دلالة فنية مثلما نرى في الشعر العربي الحديث ‘ ذلك أنها مكونة من عناصر بعيدة ، لا انسجام بينها ، أكرهت على النزول في غير موضعها ، فكان هذا التشتت المعيب ” ( شعر الحداثة في مصر الدكتور كمال نشأت ، ص 174 ) .
ولهذا فأن الصورة في شعرهم فإنها تتراوح بين السعي إلى التشكيل اللغوي المعقد والغامض وبين البساطة أحيانا ، وقد أدى جنوح الشعراء إلى المبالغة في التعقيد اللغوي إلى الوقوع في التشكيل المفتعل الذي لا يحيل إلى شيء أكثر من التعبير ذاته ، وأحيانا تبدو بعض صور هذا الاتجاه خالية حتى من الخيال ، وقائمة على التصور الذهني البحت. وهم يرون في الصورة شيئا مغايرا عما ألفناه في الاتجاهين الرمزي والرومانسي ، فالصورة السريالية تحاول أن تتخطى وعي الرمزية المحكم إلى منبع الخيال الجديد وهو السبات الذي تكمن فيه أساطير الإنسان يقول اندريه بريتون ” الصورة الأدبية السريالية تشبه تلك التي تمر في خيال الثمل تأتيه تلقائيا بحقيقتها العظيمة القيمة فلا يلبث أن يدرك أنها تزيد في معرفته ، وأقوى الصور عندهم هي الصور التي تشبه صور الأحلام أو خواطر المجدومين ” (النقد الأدبي الحديث ، د.محمد زكي العشماوي )
ويرى يوسف حامد جابر مؤلف كتاب قضايا الإبداع في قصيدة النثر ، أن الصورة في قصيدة النثر هي حركة ذهنية تتم داخل الشعور ، فيقول ” فالصورة إذن ، هي حركة ذهنية تتم داخل الشعور ، ولكنها ، في الوقت ذاته ، تعد انعكاسا مكثفا لمختلف جوانب الطبيعة والمجتمع وظواهرهما ، مع الاحتفاظ بخصوصية التجربة وفرادتها. كما أنها تشير أيضا إلى أشياء غير مرئية موجودة في وجدان هذا الشاعر أو ذاك ، كانت قد ترسخت عبر المسيرة الحياتية . وهنا يتدخل لاوعي الشاعر في تشكيل الصورة المعبر عنها ، بحذف أو بإضافة ما يراه ملائما إخراجها صورة شعرية لها خصوصيتها الناتجة عن حالة معينة ، والمعبرة عن واقع معين “. ويقسم جابر الصورة في قصيدة النثر إلى ثلاثة أقسام وهي الصورة الذهنية والصورة الحسية والصورة المركبة ، ويرى أن الصورة الذهنية هي ذات أبعاد ذهنية غالبة ، تميل بمجموعها إلى إعطاء الصورة طابع داخلي “تجريدي” الغاية منه استبطان وعي الشاعر ، ومعرفة انعكاسات التجربة النفسية والإدراكية في وجدانه “قضايا الإبداع في قصيدة النر ، ص 137
- يقول صالح العامري
ننتظرك أيها الأزرق العنقود
كي ننقيك من غول الغيبوبة
من شجرة الفقر خذنا
حتى نموت إلى آخر دمية في لحمك
المشحرر بالقوس
بالحناء الغبية
كي نضبط جمعيتك التي لم تغتسل
من فجأة النقط
وطية الضفائر المنسحبة
لن نطيق الإوزة خرساء ولماعة
نجدف بالرأس والوحش
إلى أعلى الجسد
انكشفي يا وجه الحقيقة
مكشوطة بأجراس النزهة” مراودات ، ص 64
وعلى الرغم من وجود بعض الصور المتفاوتة في التركيب ، نحو “ غول الغيبوبة ، شجرة الفقر ، الحناء الغبية” إلا أن اللغة والصور تبقى مفككة تماما ، أنها لغة سريالية هائمة تجمع بين شطحات الأحلام والخيالات ، ويبدو أننا أمام هذه الهلوسة لن نستطيع أن نصل إلى فهم محدد لما يقصده الشاعر في بعض عباراته نحو “المشحرر بالقوس ،الحناء الغبية مكشوطة بأجراس النزهة” . أن تدخل اللاوعي في تشكيل المقطع السابق واضح جدا وبدون جدال ، حيث ترتبط الصورة النثرية “بشخصية الشاعر التي تتضمن الوعي واللاوعي داخله وعالم قيمه بكل تعقيدها السايكولوجي ،وتلك الشخصية هي التي تحدد معنى العمل الفني حتى إذا كان نشاط اللاوعي قد لعب دورا هاما في تشكيل ذلك العمل ” الوعي والإبداع ، ص 290
ويبدو أن السريالية تبيح لمعتنقيها كل شيء ، فهي تبيح الهلوسة الفكرية لأنها ترجمة عن العقل الباطن الذي لا يضبطه منطق ويرى الدكتور عدنان حسين قاسم في حديثه عن القلق لدى شعراء قصيدة النثر “أن كمية القلق وحجم التمرد الداخلي على الواقع الخارجي قد يضطران الشاعر إلى مثل هذه التعبيرات التي تشبه الهلوسة ، وأن الجنون والهلوسة والهذيان وشطحات الصوفية والأحلام هي الينابيع التي يمتح منها هؤلاء الشعراء الحداثيون ، وأن هذه القصيدة لها دلالاتها التي لا تعريها من كل تراكيبها وصورها ، وهي دلالات تتصل بحالات القلق والفزع والعدم والانحسار والصمت “ ([5]) ، بينما يرى الدكتور عبد القادر القط أن عناصر الصورة لدى شعراء قصيدة النثر تستقي رموزها من العقل الباطن وذكريات فردية ترتبط بالنشأة والوجود ؛ وهو ما يؤدي إلى تلبسها بالغموض وانغلاق الدلالة ، فيقول : “ترتد التجربة عند شعراء الحداثة – وبخاصة الشباب منهم – عن الواقع الخارجي لترصد وجود الشاعر الداخلي في اللا شعور وما يختزنه العقل الباطن من تجارب وذكريات أو ما يشكله للتجارب الخارجية من إشارات ورموز ، أما الصورة فتقوم على استخدام جديد للغة وبناء العبارة ورسم الصورة . وحين تقوم الصورة على رموز العقل الباطن أو الشعور الداخلي المحض فإن قدرتها على الوصول إلى الآخرين تصبح رهينة الاشتراك في دلالة تلك الرموز بين المبدع والمتلقي . ولا شك أن بعض رموز اللا شعور رموز مشتركة ، وكثير منها خاص يتصل بتجارب وذكريات فردية ترتبط بالنشأة والوجود الاجتماعي ، وهكذا تتسم التجربة وما تجلبه من صور بكثير من الغموض الذي يشف أحيانا عما وراءه من دلالة ، وينغلق في كثير من الأحيان كالطلسم مهما يحسن الظن به ويبذل من مجهود في إدراكه وتذوقه ” ([6]) .
يقول العامري في نص آخر :
-غادرت رملا بائدا
ودياجير مطعونة بقاموس المصباح
يا جنرال الحمام المسحور
إلى ضفدعة أو مياه
قبل أن يأتي نماموك
عاداتك الخبيئة
عيد الرمل عبرناك
شهوتنا بجع وعصافير
كيف تمسك الحانة
الخصرها طمي ومناديل
مسسنا الأسرة
رؤوسنا تصاعد في الينابيع “مراودات ، ص 68
ونلاحظ ما يسود العبارات من إيهام وتفكك في السياق وضبابية في الرؤية ، ولا يكاد القارئ ينتهي إلى شيء من دلالات الجمل إلا بعد كثير من الجهد الذهني هذا إذا كانت هناك أية دلالات ، وحقيقة فأن الرؤية العامة في المقطوعة تفضي إلى نوع من الغموض والإبهام ، لاحظ قول الشاعر “قبل أن يأتي نماموك ،عاداتك الخبيئة ،عيد الرمل عبرناك ،شهوتنا بجع وعصافير ،كيف تمسك الحانة ، الخصرها طمي ومناديل”، نلاحظ هذا الخيال المشوش الذي تختلط فيه الأشياء وتفقد علاقتها وصلتها بالواقع المعاش ، أنه عالم تجريدي ، أو خيال كوابيس يشكل الهذيان أساسه ، فتختلط على الشاعر الأشياء وعلينا نحن كذلك ، ونتصور أن الشاعر ربما يعيش في حلم مفزع .
ويرى بعض النقاد أن الصورة الشعرية في قصيدة النثر يقف وراءها التأثر بنوعية الخيال الشعري الأوربي ،وذلك نتيجة التأثر بالفكر الغربي ، يقول الدكتور كمال نشأت فيقول “أن الصورة الشعرية في الحداثية يقف وراءها التأثر بنوعية الخيال الشعري الأوربي ، وهو بطبيعته خيال مركب ابن بيئة خاصة هي التي أفرزته وأعطته خصائصه الذاتية المناقضة لطبيعة الخيال الشعر العربي الذي يؤثر بساطة الصورة ، وقرابة النسب والانسجام بين عناصر ،ويزيد الأمر إشكالا أن كثيرا من قصائد النثر يستعلن بالصور الشعرية الملفقة ” د. كمال نشأت شعر الحداثة في مصر ، ص 173
وهذا ما نلاحظه بالفعل لدى أكثر شعراء قصيدة النثر في عمان وهو التأثر بالفكر والرؤية الغربية وذلك في صياغة صورهم وفي مجمل نصوصهم النثرية :
- محمد الحارثي في نص “سهرة الصقر في نومه” :
كؤوس من ظلال
تندي احداقها في النبيذ
ترشق الزوايا بظلال المطر
بين أمهر الضحكات
في الليالي الوسيعة وحبلها السري
يخدش حياءها بخاتمه
بقنينة معشوشبة
تضفر الشفق
بسهرات صغيرة
يدنو بأحجاره
وينأى
كريشة من حنان أسلافه ” كل ليلة وضحاها ، ص 41
وهكذا أصبح الشعر كلاما منفلتا لا قواعد تحكمه ، و لا ذوق أدبي راق يبعد عنه الأخيلة الملفقة ويظن بعض المقلدين أنهم يبتدعون جديدا وجديدهم منقول من بيئة أخرى غير بيئتهم ، والشاعر لا يمكن أن يكون شاعرا إلا إذا كان ابن بيئته ومجتمعه وعبر عنه بصدق وإجادة لا أن يلفق الكلام تلفيقا دون معنى ، ولنتساءل ما هذا المناخ المشوش الذي تختلط فيه الأشياء وتفقد علاقاتها وصلتها بالواقع المعيش ، وكيف يكون بناء الصورة يعتمد على التجريد ويشكل الهذيان أساسه وتختلط على المتلقي الأشياء ويحس أنه يعيش في عالم بعيد عن الواقع تماما .
قصيدة النثر في عمان
(1 من 5)
بقلم الدكتور شبر بن شرف الموسوي
أود أن أطرح خلال هذه الدراسة مجموعة من الأفكار أو عدة سمات فنية تتعلق بقصيدة النثر في عمان وذلك من خلال عدد من التصورات الفنية والموضوعية ، وهي كالآتي: ارتباط قصيدة النثر في عمان بالمفهوم السريالي وغياب الرؤيتين الرومانسية والذاتية عن هذه القصيدة وسيطرة الرموز الغربية والانحدار إلى مستوى من السردية والنثرية ، وسوف أتطرق إلى محاولة بعض كتاب قصيدة التخلص من البلاغة العربية التقليدية وإقامة بلاغة الصدمة كما يسمونها ، لكنهم في الوقت ذاته يناقضون أنفسهم ويتمسكون بهذه البلاغة تعويضا منهم عن فقدان الإيقاع والموسقة في قصائدهم . وسوف اعتمد في هذه الدراسة تطبيقا على عدد من مجموعات لشعراء قصيدة النثر في عمان وهي ( معجم الجحيم لسيف الرحبي ، وعزلة تفيض عن الليل لزاهر الغافري ، وعيون طوال النهار و وكل ليلة وضحاها لمحمد الحارثي ، فرق الهواء لعبد الله الريامي ، ومراودات لصالح العامري ) ، كما استعنت ببعض الأفكار والرؤى والاقتباسات الواردة في كتابي “اتجاهات الشعر العماني المعاصر” في فصل اتجاه قصيدة النثر ، وربما تكون هذه الدراسة استكمالا لذلك الفصل أو محاولة جديدة لاستدراك ما فاتني في تلك الدراسة ، عموما تبقى كل الأفكار الواردة في هذه الدراسة أو ما سبقها موضوع نقاش وبحث دائم .
أولا ارتباط قصيدة النثر في عمان بالمفهوم السريالي
يبدو أن المفهوم السريالي الذي يعني تجاوز الأساليب الأدبية السائدة ورفض المضامين والألفاظ والأفكار المرتبطة بالتراث يسيطر على شعراء قصائد النثر في عمان والمعروف عن السريالية “أنها ترفض الخضوع للعقل والمنطق وتنفر من الالتزام ويجد شعرائها راحتهم في اللا شعور فيخلعون خيالاتهم على ظواهر الأشياء بطريقة تلقائية ممعنة في الحرية والبعد عن الخضوع لأي نظام ، فالشعر عند السرياليين صادر عن رؤية فردية للشاعر يستكشف بها ذاته أو أعماق لا شعوره ، ولهذا نجد أشعارهم مثقلة بالرموز الباطنية ولم تعد لألفاظ اللغة عندهم مدلولات ثابتة ، ولكل منهم عالمه اللغوي الخاص الذي يعبر به عن تجارب لا شعورية . ولا شك أن الصوفية بكل رموزها ونظرياتها في الحلول والاتحاد ووحدة الوجود قد أثرت في الشعراء العرب السرياليين ، وكذلك الفلسفة الوجودية التي تقوم على دراسة ظواهر الوجود المتحقق في الموجودات” (دراسات في الأدب العربي الحديث ، د. محمد مصطفي هدارة ، ص 62 ).
يقول والاس فاولي مؤلف كتاب عصر السريالية الذي قامت بترجمته ( خالدة سعيد ) : ” السريالي يسعى لتحرير نفسه من الأشياء المألوفة التي تحيط به .. وهذا الفعل الأساسي الذي يقوم به السريالي هو فعل تحرر ، أنه غريزة عميقة في الإنسان تنزع إلى تحطيم ما يشده إلى العالم كقوانين العائلة ، والمجتمع ، والدولة ، والجنس .. ” عصر السريالية _ ص 12 (منشورات نزار قباني 1976 –بيروت
ويؤيد محمد بنيس أحد شعراء قصيدة النثر ونقادها هذا الرأي فيقول : ” إن على الكتابة كيما تتعمد بماء الحداثة وتنخرط في معمان المواجهة والتأسيس أن تقوم بسلسلة من الأفعال التدميرية وهي آن لنا أن نخرب الذاكرة كآلة متسلطة وتدمير القوانين العامة وسلطة اللغة والنحوية داخل النص وتدمير سيادة المعنى وأسبقيته داخل النص ” ([1]) .
إن النص الشعري الذي يكتبه شعراء قصيدة النثر يتعاطى مع اللغة وأدواتها ومع مختلف عناصر القصيدة من المضمون والإيقاع والرمز ، وتوظيف الأسطورة يختلف بشكل كلي عن مرحلة التعاطي الأولى في حركة الحداثة العربية ، إنه تعاطى التدمير أو التجاوز لكل هذه العناصر داخل النص ، وخلق نص جديد لا علاقة له بالقصيدة العربية المعروفة كلية ، وهو ما يمكن التعبير عنه “بانصهار هذه العناصر في القصيدة ، في الصورة الشعرية المركبة ، تلك التي لا تلامس عناصر الواقع إلا لكي تقذفه في أتون مخيلة بالغرابة أو عبر دفق اللغة وجريانها ليس عبر مثنوية الصورة ، ويتوحد أكثر مع التفصيلي والجزئي أو اختزال الجملة الشعرية إلى حد خنق نفس اللغة ” ([2]).
وقد أسقط شعراء هذا الاتجاه كل عناصر التراث واللغة والرؤية وشخصية الشاعر ،يقول أنطوان مقدسي : ” النص الحديث لا يقول إلا ذاته ؛ أي أنه مستقل عن كل موجود أو نص خارجه كالطبيعة أو المجتمع وغيرهما أو متعال عليه لا بل هو مستقل عن كاتبه ، عن واضعه ، مكتف بذاته وعليك إما أن تقبله وإما أن ترفضه فلا يصف أية طبيعة ولا يتحدث عن أية ظاهرة اجتماعية ولا عن أي شخص بل هو يبتدع ذاته” ([3]) . بل إن أدونيس يرى في كتابة قصيدة النثر ضرب من الغيب فيقول : “والشاعر هنا لا ينطلق من فكرة واضحة محددة ، بل من حالة لا يعرفها هو نفسه معرفة دقيقة ، ذلك أنه لا يخضع في تجربته للموضوع أو الفكرة أو الأيديولوجية أو العقل أو المنطق. إن حدسه كرؤيا وفعالية وحركة هو الذي يوجهه ويأخذ بيده ” ([4]) .
ولهذا فلقد ” بدأ الاتجاه السريالي في خضم التجارب التي يمر بها الشعر العربي المعاصر يتخذ صورة أكثر تعقيدا وتراوحت القصيدة عند هؤلاء الشعراء بين الرمزية والسريالية وأصبحت القصيدة عند أصحاب هذا الاتجاه مغرقة في الغموض والضبابية وعبارة عن نفثات عقل مشوش يسجل كل ما يعرض له في اللا شعور من أفكار أشبه ما تكون بخرافات الأحلام وصور يصعب على الشاعر أن يبين مدلولاتها ” دراسات في الأدب العربي الحديث ، د. محمد مصطفي هدارة ،ص 67 .
ويشير فهد المعمري في دراسته عن سيف الرحبي أن سيف الرحبي مثلا وهو أحد أبرز شعراء قصيدة النثر في عمان يعتنق مبادئ السريالية ، وإن لم يصرح بذلك ،فيقول ” يشير الشاعر سيف الرحبي نفسه في إحدى المحاضرات التي ألقاها بالنادي الثقافي بسلطنة عمان تحت عنوان “الحداثة في الشعر العربي المعاصر” ، إلى تجربته الشعرية بحيث يعترف بأنه كان في بعض الكتابات الأولى مختلفا عن الكتابات الأخيرة أو اللاحقة ، ويؤكد بشكل ضمني بأنه أنعطف نحو السريالية كما يسمونها مدرسيا “، ويواصل قائلا ” أما بالنسبة للسريالية والتي تعتبر مدرسة سار على نهجها وسمي بكونه سرياليا فهو يؤكد أنه لم يتبنى قط أية مدرسة من المدارس في يوم من الأيام وهذا باعترافه ويلح على كونه لا يسعى إلى تبنى أي اتجاه أدبي أو فني أنه يمارس مسألة الشعر ضمن فضاء من الحرية الخاصة وضمن مناخ من الأسفار اللا محدودة في المكان والزمان وفي المورث أيضا ” ، فهد المعمري ، تجربة سيف الرحبي الشعرية ، ص 14 .
وقد أدى هذا التوجه السريالي إلى سيطرة مضمون القلق والتشاؤم على مجمل نصوص شعراء قصيدة النثر في عمان ، إضافة إلى حجم التمرد على الواقع مما جعل نصوصهم مليئة بالتعبيرات التي تشبه الهلوسة أو ما يتوهمها البعض بأنها دفقات من البوح الصوفي وهي ليس كذلك كما في نصوص صالح العامري وعبد الله الريامي ومحمد الحارثي.
وكدلالة على هذا التوجه السريالي ، يمكننا أن نسلط الضوء على صياغة اللغة والصورة في قصيدة النثر والتي تتبنى السريالية التي لا توحي إلى شيء .
فالصورة الشعرية وسيلة الشعر الأولى التي يمتاز بها ، فالأفكار والمعاني موجودة في الفلسفة وأجناس الأدب الأخرى التي من الممكن أن تستعين بالصور ، ولكن تظل الصورة الشعرية هي المجال للتعبير الشعري المتقن ، ولكن الصورة لدى كتاب قصائد النثر ونتيجة لتبنيهم الاتجاه السريالي أصبحت في مجملها لا ترسم لوحة جمالية ، ولا تعكس دلالة فنية مثلما نرى في الشعر العربي الحديث ‘ ذلك أنها مكونة من عناصر بعيدة ، لا انسجام بينها ، أكرهت على النزول في غير موضعها ، فكان هذا التشتت المعيب ” ( شعر الحداثة في مصر الدكتور كمال نشأت ، ص 174 ) .
ولهذا فأن الصورة في شعرهم فإنها تتراوح بين السعي إلى التشكيل اللغوي المعقد والغامض وبين البساطة أحيانا ، وقد أدى جنوح الشعراء إلى المبالغة في التعقيد اللغوي إلى الوقوع في التشكيل المفتعل الذي لا يحيل إلى شيء أكثر من التعبير ذاته ، وأحيانا تبدو بعض صور هذا الاتجاه خالية حتى من الخيال ، وقائمة على التصور الذهني البحت. وهم يرون في الصورة شيئا مغايرا عما ألفناه في الاتجاهين الرمزي والرومانسي ، فالصورة السريالية تحاول أن تتخطى وعي الرمزية المحكم إلى منبع الخيال الجديد وهو السبات الذي تكمن فيه أساطير الإنسان يقول اندريه بريتون ” الصورة الأدبية السريالية تشبه تلك التي تمر في خيال الثمل تأتيه تلقائيا بحقيقتها العظيمة القيمة فلا يلبث أن يدرك أنها تزيد في معرفته ، وأقوى الصور عندهم هي الصور التي تشبه صور الأحلام أو خواطر المجدومين ” (النقد الأدبي الحديث ، د.محمد زكي العشماوي )
ويرى يوسف حامد جابر مؤلف كتاب قضايا الإبداع في قصيدة النثر ، أن الصورة في قصيدة النثر هي حركة ذهنية تتم داخل الشعور ، فيقول ” فالصورة إذن ، هي حركة ذهنية تتم داخل الشعور ، ولكنها ، في الوقت ذاته ، تعد انعكاسا مكثفا لمختلف جوانب الطبيعة والمجتمع وظواهرهما ، مع الاحتفاظ بخصوصية التجربة وفرادتها. كما أنها تشير أيضا إلى أشياء غير مرئية موجودة في وجدان هذا الشاعر أو ذاك ، كانت قد ترسخت عبر المسيرة الحياتية . وهنا يتدخل لاوعي الشاعر في تشكيل الصورة المعبر عنها ، بحذف أو بإضافة ما يراه ملائما إخراجها صورة شعرية لها خصوصيتها الناتجة عن حالة معينة ، والمعبرة عن واقع معين “. ويقسم جابر الصورة في قصيدة النثر إلى ثلاثة أقسام وهي الصورة الذهنية والصورة الحسية والصورة المركبة ، ويرى أن الصورة الذهنية هي ذات أبعاد ذهنية غالبة ، تميل بمجموعها إلى إعطاء الصورة طابع داخلي “تجريدي” الغاية منه استبطان وعي الشاعر ، ومعرفة انعكاسات التجربة النفسية والإدراكية في وجدانه “قضايا الإبداع في قصيدة النر ، ص 137
- يقول صالح العامري
ننتظرك أيها الأزرق العنقود
كي ننقيك من غول الغيبوبة
من شجرة الفقر خذنا
حتى نموت إلى آخر دمية في لحمك
المشحرر بالقوس
بالحناء الغبية
كي نضبط جمعيتك التي لم تغتسل
من فجأة النقط
وطية الضفائر المنسحبة
لن نطيق الإوزة خرساء ولماعة
نجدف بالرأس والوحش
إلى أعلى الجسد
انكشفي يا وجه الحقيقة
مكشوطة بأجراس النزهة” مراودات ، ص 64
وعلى الرغم من وجود بعض الصور المتفاوتة في التركيب ، نحو “ غول الغيبوبة ، شجرة الفقر ، الحناء الغبية” إلا أن اللغة والصور تبقى مفككة تماما ، أنها لغة سريالية هائمة تجمع بين شطحات الأحلام والخيالات ، ويبدو أننا أمام هذه الهلوسة لن نستطيع أن نصل إلى فهم محدد لما يقصده الشاعر في بعض عباراته نحو “المشحرر بالقوس ،الحناء الغبية مكشوطة بأجراس النزهة” . أن تدخل اللاوعي في تشكيل المقطع السابق واضح جدا وبدون جدال ، حيث ترتبط الصورة النثرية “بشخصية الشاعر التي تتضمن الوعي واللاوعي داخله وعالم قيمه بكل تعقيدها السايكولوجي ،وتلك الشخصية هي التي تحدد معنى العمل الفني حتى إذا كان نشاط اللاوعي قد لعب دورا هاما في تشكيل ذلك العمل ” الوعي والإبداع ، ص 290
ويبدو أن السريالية تبيح لمعتنقيها كل شيء ، فهي تبيح الهلوسة الفكرية لأنها ترجمة عن العقل الباطن الذي لا يضبطه منطق ويرى الدكتور عدنان حسين قاسم في حديثه عن القلق لدى شعراء قصيدة النثر “أن كمية القلق وحجم التمرد الداخلي على الواقع الخارجي قد يضطران الشاعر إلى مثل هذه التعبيرات التي تشبه الهلوسة ، وأن الجنون والهلوسة والهذيان وشطحات الصوفية والأحلام هي الينابيع التي يمتح منها هؤلاء الشعراء الحداثيون ، وأن هذه القصيدة لها دلالاتها التي لا تعريها من كل تراكيبها وصورها ، وهي دلالات تتصل بحالات القلق والفزع والعدم والانحسار والصمت “ ([5]) ، بينما يرى الدكتور عبد القادر القط أن عناصر الصورة لدى شعراء قصيدة النثر تستقي رموزها من العقل الباطن وذكريات فردية ترتبط بالنشأة والوجود ؛ وهو ما يؤدي إلى تلبسها بالغموض وانغلاق الدلالة ، فيقول : “ترتد التجربة عند شعراء الحداثة – وبخاصة الشباب منهم – عن الواقع الخارجي لترصد وجود الشاعر الداخلي في اللا شعور وما يختزنه العقل الباطن من تجارب وذكريات أو ما يشكله للتجارب الخارجية من إشارات ورموز ، أما الصورة فتقوم على استخدام جديد للغة وبناء العبارة ورسم الصورة . وحين تقوم الصورة على رموز العقل الباطن أو الشعور الداخلي المحض فإن قدرتها على الوصول إلى الآخرين تصبح رهينة الاشتراك في دلالة تلك الرموز بين المبدع والمتلقي . ولا شك أن بعض رموز اللا شعور رموز مشتركة ، وكثير منها خاص يتصل بتجارب وذكريات فردية ترتبط بالنشأة والوجود الاجتماعي ، وهكذا تتسم التجربة وما تجلبه من صور بكثير من الغموض الذي يشف أحيانا عما وراءه من دلالة ، وينغلق في كثير من الأحيان كالطلسم مهما يحسن الظن به ويبذل من مجهود في إدراكه وتذوقه ” ([6]) .
يقول العامري في نص آخر :
-غادرت رملا بائدا
ودياجير مطعونة بقاموس المصباح
يا جنرال الحمام المسحور
إلى ضفدعة أو مياه
قبل أن يأتي نماموك
عاداتك الخبيئة
عيد الرمل عبرناك
شهوتنا بجع وعصافير
كيف تمسك الحانة
الخصرها طمي ومناديل
مسسنا الأسرة
رؤوسنا تصاعد في الينابيع “مراودات ، ص 68
ونلاحظ ما يسود العبارات من إيهام وتفكك في السياق وضبابية في الرؤية ، ولا يكاد القارئ ينتهي إلى شيء من دلالات الجمل إلا بعد كثير من الجهد الذهني هذا إذا كانت هناك أية دلالات ، وحقيقة فأن الرؤية العامة في المقطوعة تفضي إلى نوع من الغموض والإبهام ، لاحظ قول الشاعر “قبل أن يأتي نماموك ،عاداتك الخبيئة ،عيد الرمل عبرناك ،شهوتنا بجع وعصافير ،كيف تمسك الحانة ، الخصرها طمي ومناديل”، نلاحظ هذا الخيال المشوش الذي تختلط فيه الأشياء وتفقد علاقتها وصلتها بالواقع المعاش ، أنه عالم تجريدي ، أو خيال كوابيس يشكل الهذيان أساسه ، فتختلط على الشاعر الأشياء وعلينا نحن كذلك ، ونتصور أن الشاعر ربما يعيش في حلم مفزع .
ويرى بعض النقاد أن الصورة الشعرية في قصيدة النثر يقف وراءها التأثر بنوعية الخيال الشعري الأوربي ،وذلك نتيجة التأثر بالفكر الغربي ، يقول الدكتور كمال نشأت فيقول “أن الصورة الشعرية في الحداثية يقف وراءها التأثر بنوعية الخيال الشعري الأوربي ، وهو بطبيعته خيال مركب ابن بيئة خاصة هي التي أفرزته وأعطته خصائصه الذاتية المناقضة لطبيعة الخيال الشعر العربي الذي يؤثر بساطة الصورة ، وقرابة النسب والانسجام بين عناصر ،ويزيد الأمر إشكالا أن كثيرا من قصائد النثر يستعلن بالصور الشعرية الملفقة ” د. كمال نشأت شعر الحداثة في مصر ، ص 173
وهذا ما نلاحظه بالفعل لدى أكثر شعراء قصيدة النثر في عمان وهو التأثر بالفكر والرؤية الغربية وذلك في صياغة صورهم وفي مجمل نصوصهم النثرية :
- محمد الحارثي في نص “سهرة الصقر في نومه” :
كؤوس من ظلال
تندي احداقها في النبيذ
ترشق الزوايا بظلال المطر
بين أمهر الضحكات
في الليالي الوسيعة وحبلها السري
يخدش حياءها بخاتمه
بقنينة معشوشبة
تضفر الشفق
بسهرات صغيرة
يدنو بأحجاره
وينأى
كريشة من حنان أسلافه ” كل ليلة وضحاها ، ص 41
وهكذا أصبح الشعر كلاما منفلتا لا قواعد تحكمه ، و لا ذوق أدبي راق يبعد عنه الأخيلة الملفقة ويظن بعض المقلدين أنهم يبتدعون جديدا وجديدهم منقول من بيئة أخرى غير بيئتهم ، والشاعر لا يمكن أن يكون شاعرا إلا إذا كان ابن بيئته ومجتمعه وعبر عنه بصدق وإجادة لا أن يلفق الكلام تلفيقا دون معنى ، ولنتساءل ما هذا المناخ المشوش الذي تختلط فيه الأشياء وتفقد علاقاتها وصلتها بالواقع المعيش ، وكيف يكون بناء الصورة يعتمد على التجريد ويشكل الهذيان أساسه وتختلط على المتلقي الأشياء ويحس أنه يعيش في عالم بعيد عن الواقع تماما .
([1]) مجلة نزوى ، إحالة على مجلة الثقافة الجديدة ، العدد 19 ، مقالة بيان الكتابة لمحمد بنيس ، ص 110 .
([2]) تجربة سيف الرحبي الشعرية ، فهد سالم المعمري ، ص 31 وما بعدها .
([3]) منطوق الحداثة ومسكوتها ، د.نجيب العوفي مجلة نزوى ، عدد إبريل 1996 .
([4]) مجلة شعر ، عدد 43 ، ص 72 ، 73 .
([5]) دراسة السمات الفنية في شعر الشباب العماني المعاصر ، د. عدنان حسين قاسم ، حصاد أنشطة المنتدى لعام 1994 م ، ص 254 .
([6]) مجلة الشعر العربي ، عدد يوليو 97 ، مقالة رؤية للشعر العربي المعاصر في مصر ،د. عبد القادر القط ، ص10.
تعليق