إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

( سلسلة ** ملاحم إسلامية ** [1] رواية - المجاهد الصغير -)

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ( سلسلة ** ملاحم إسلامية ** [1] رواية - المجاهد الصغير -)

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..!
    ..
    حياكم الله وبياكم إخواني وأخواتي ..
    ..
    اليوم أتيت لكم بباقة من باقات الأدب الإسلامي ..
    ..
    سلسلة من الروايات الإسلامية ..
    ..
    التي تحكي واقعا عاشه المسلمون في فترة من فترات التاريخ الإسلامي المعاصر والقديم..!
    ..
    الهدف : تبصير الشباب بهذه النوعيات من الروايات التي تغرس في القلب انتماء وطنيا كبيرا للأمة والإسلام ..
    ..
    بأسلوب راق ومهذب ..
    ..
    وكذلك المنتشر بين الشباب روايات الحب والغراميات بكثر كاثرة ..
    والتي لا يخرج منها إلا بخزعبلات إلا النزر اليسير ..
    إن كان ثمة نزر ..
    ..
    روايتنا اليوم هي رواية أحداثها في أفغانستان ..
    في حقبة الاحتلال السوفيتي في ثمانينات القرن المنصرم ..
    ..
    :: لن أخبركم بما فيها بل سأترككم تقرأونها .. ::
    والحكم لكم ..
    ..
    أخوكم : حمم الصقيع ...

    (( إن المسلم لم يخلق ليندفع مع التيار ولا ليساير الركب البشري حيث اتجه وسار بل خلق ليوجه العالم والمجتمع والمدنية ويفرض على البشرية اتجاهه ، ويملي عليها إرادته ، لأنه صاحب الرسالة وصاحب العلم واليقين.. لأنه المسؤول عن هذا العالم وسيره واتجاهه فليس مقامه مقام التقليد والاتباع ، إن مقامه مقام الإمامة والقيادة ، ومقام الإرشاد والتوجيه ، ومقام الآمر الناهي ))

    الشاعر الباكستاني محمد إقبال


  • #2
    رواية - المجاهد الصغير..
    ..
    د. محمد حرب..
    ..
    ..
    ...


    جبال هندوكوش
    ( الفصل الأول ..)



    لا يمكن للإنسان أن يحس بالملل من متعة مشاهدة منظر الجبال المغطاة بالثلوج في ضوء القمر

    يبدو الظلام هنا و هناك في الأماكن التي لم تغطها الثلوج في التلال الحادة كأنها بقع داكنة في هذه الجبال الشديدة البياض . الجليد يأخذ في التراخي و الانحلال بفعل الشمس ، نهاراً ، أما في الليل فإنه يتماسك و يجمد..

    هذه الجبال لا يمكن أن نشبع من متعه منظرها في ضوء القمر ، لو أمكنك النظر إليها من نافذة منزل دافئ . . . لكن لو كان بيتك مخبأ ، و كنت مجبراً على البقاء فيه في الجبال . . . فإن الضيق الذي تعانيه سيحرمك من متعة مشاهدة هذا الجمال .

    الناس في جبال أفغانستان لا يستطيعون الآن التمتع بمنظر الطبيعة في ليالي يناير ، هذه الطبيعة الجميلة برياحها الشديدة ، و قمم جبالها البيضاء في ضوء القمر ، فقد دخلت جيوش العدو بلادهم ، و دمروا كثيرا من القصبات و القرى و سووها بالأرض من شده الدمار .

    و لم يعد لأغلبهم بيت يحتمون به . و الجنود المعتدون يسيرون في دوريات منتظمة في شوارع المدن . تفرق الجيش الأفغاني ، تمرد البعض و حمل سلاحه و صعد إلى الجبال و اشتركوا في الحرب ضد المعتدين الروس . هؤلاء المجاهدين يتحملون و يعانون شدائد لا يتصورها العقل لكي يطردوا هؤلاء الذين جثموا على قلب أفغانستان ، و قد استولى الخائن بابراك كارمال الذي أعلن نفسه رئيسا للبلاد على السلطة بمساعدة الروس ، ساعده في ذلك بعض الخونة و المنحرفين .

    في الجبال عشرات الآلاف من المجاهدين ، من الشعب المدني يصارع المعتدين الروس كما يصارعون الجنود الأفغان الذين يساعدونهم . . . وا أسفاه . . . فإن إمكانات هذه الصراع متفاوتة جدا . لدى الروس طائرات و دبابات و مدافع و أسلحه آلية و تدميرية متطورة ، و زيادة على ذلك فإن جنودهم مدربون تدريبًا عاليا ، يرتدي كل واحد منهم بالطو من الفرو ، و في قدميه حذاء طويل متين يقيه من البرد و الأذى ، كما و أن عدد الجنود الروس كثير . أما المجاهدون فإن أكثرهم نصف عار ، تمر عليه أوقات لا يجدون ما يقتاتون به إلا جمع الأعشاب و أوراق الشجر و أكلها ، و عندما يمرض الواحد منهم لا يجد دواء و لا طبيباً ، و مع كل هذا كانوا يجاهدون و يقاتلون للتصدي لهذا الجيش المنظم ، مع أنهم لا يملكون غير بنادق قديمة ، و بنادق صيد .

    هؤلاء المجاهدين المساكين ، كانوا يحاربون في ليالي الشتاء الباردة ، و في الجبال الجليدية ، يحاربون الغجر من ناحية و يحاربون العدو من ناحية أخرى .



    أقام المجاهدون مئات من المعسكرات لتدريب المجاهدين من هذه الجبال الواسعة ، و يأتي إلى هذه المعسكرات كل من لا يستطيع تحمل احتلال الأجانب لبلاده . و كان بعضهم قد اضطر اضطرارًا إلى ترك البلاد تمامًا . عشرات الآلاف من الناس لم يستطيعوا تحمل هذا الظلم و هاجروا إلى باكستان ، و قد تصرف المسؤولون الباكستانيون و الشعب الباكستاني تصرفًا كريمًا تجاه المهاجرين الأفغان .



    و في واحد من مئات المعسكرات المقامة في الجبال الثلجية في أفغانستان ، عاش أفراد معسكر للمجاهدين في تلك الليلة ساعات من القلق و الاضطراب . ذلك ، لأن اثنين من المجاهدين الذين كانوا يقومون بمهام الدورية الليلية ، وجدوا صبيًا مجروحًا في ساقه ، مغشيًا عليه بالقرب من المعسكر فأحضروه معهم .







    أخرج الشيخ حسين رئيس المعسكر الرصاصة المستقرة في ساق الصبي ولف الجرح بقميصه . لقد أثار هذا الصبي عطفهم و شفقتهم بأنينه الطويل ، و تقطع صوته ، بل ، و نفسه حينا بعد حين ، لكنه فتح عينيه قرب الصباح .



    كان فتى في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمره ، نحيفًا ، أسمر الوجه ، مجعد الشعر ، و كان بريق عينيه السوداوين قد اختفى ، و بهت لون وجهه . كان واضحًا من جميع حاله أنه عانى و لا زال يعاني ألمًا شديدًا رهيبًا ، و عندما فتح عينيه انهال عليه المجاهدين بسيل من الأسئلة ، لكنهم سكتوا مرة واحدة بعد أن طلب منهم الرئيس ألا يتعبوه بكثرة الأسئلة .



    كان الفتى الجريح ، يضغط على عينيه و على أسنانه بألم ، كان يمد يده كأنه يريد أن يمسك ساقه اليمنى التي أخرجوا منها الرصاصة . لكنه لم يكن يجد في نفسه القدرة على رفع ذراعه . قال الرئيس و هو ينظر إليه :



    يبدو أن هذا الولد ظل أيامًا جائعًا ، لا بد أن نجد له شيئًا ما يقتات به . ثم نظر إلى جعفر الهراتي و واصل كلامه قائلا :



    - اذهب إلى القرية الآن، و ستجد بعض أهلها قد عادوا إليها بعد أن دمر الروس منازلهم ، و قد تجد عند هؤلاء قليلاً من القوت .



    و قبل أن يبتعد جعفر الهراتي من المغارة لتنفيذ أمر رئيسه ، ألفى على الفتى نظرة عطف و إشفاق ، ثم ذهب . إذا لم يحدث ما يكدر الصفو فإن جعفر سيعود في المساء ، لم يبقَ في المعسكر شيء اسمه الطعام ، كانوا قبل ذلك يستطيعون الحصول على بعض الطعام - مهما كان قليلاً - من القرويين المجاورين ، و اختفى هذا الإمكان الآن ، فقد هجم جنود العدو على القرى و قبضوا على كل من قدم مساعدة للمجاهدين ، و عاقبوا القرويين الذين واصلوا مساعداتهم للمجاهدين بإحراق قراهم . كما لم يعد هناك أدنى إمكان لوجود الأعشاب ليقتاتوا بها ، ذلك لأن هطول الثلج و تراكمه على الأرض يمنع ذلك .



    لم يكن البرد يؤثر فيهم كثيراً لاحتمائهم في المغارة ، لكنهم لا يستطيعون البقاء في المغارة دومًا . كان عليهم مراقبة ممر خيبر ، من المكان الذي هم فيه كثيرًا ما كانت تعبر من هذا الممر وحدات العدو العسكرية . إن هذا الطريق الذي يمر من أسفل و يبعد حوالي مائتي متر من القمة التي توجد فيها المغارة ، يمتد من كابل عاصمة أفغانستان حتى الحدود الروسية . و لو كان بيد المجاهدين أسلحة جيدة ، لمنعوا حتى الطيور من التحليق فوق هذا الممر . و لم تكن أسلحتهم القديمة التي في حوزتهم تؤثر كثيرا في الوحدات الروسية المصفحة ، و مع ذلك ، فقد كانوا يغلقون الطريق بأن يدحرجوا صخرة من القمة إلى أسفل ، و بذلك كانوا يشغلون قوات العدو و يعطلونهم . كانت الصخور التي يدحرجونها تقلب أحيانًا و تسحق عربة جيب ، و كان الجنود الروس الذين يحدث عليهم هجوم مثل هذا ، يمطرون هذه القمم ساعات و ساعات بالرصاص ، لكنهم لم يكونوا يستطيعون تسلق هذه الصخور الحادة ، و الصعود عاليًا، و من كان منهم يحاول هذا ، فإنه يصبح هدفا سهلا لرصاص المجاهدين عندما يصل إلى القمة .



    الشيخ حسين رئيس المعسكر رجل ضخم الجسم ، طويل القامة ، ذو لحيه سوداء ، كان يرتدي ملابس رائد في الجيش حلت عنه رتبته ، و كان عمره في حدود الأربعين ، كان شجاعًا واضح الشجاعه ، سريع التصرف ، يتحدث بصوت قوي ممتلئ ، و لم يكن وجهه يعرف الضحك ، و كان مثل كل أفغاني يحب دينه و يحب وطنه حبا جما ، كان هذا الرئيس الذي يتحول إلى أسد مهيب أمام الأعداء ، خاشعا ذليلا عندما يصلي ، أو عندما يستمع القرآن الكريم و ينصت له . كان أكبر الناس سناً في هذا المعسكر هو حمد الله أغا ، و كان أكثرهم شبابًا و أصغرهم سنًا هو جعفر الهراتي . و غير هؤلاء ن كان هناك ثالث جنود انضموا مع الرئيس إلى المجاهدين ، و خمسة مدنيين جاؤوا من القرى المجاورة . و قد وصل عدد الموجودين في المعسكر إلى اثني عشر شخصًا بالفتى الجريح ، الذي يرقد على الكنبة الخشبية .



    لم تكن قد مضت ساعتان بعد خروج جعفر الهراتي من المعسكر ، إلا و عاد و هو لاهث الأنفاس . أحثت عودة جعفر السريعة هذه اضطرابا بينهم . كان جعفر وهو ينتظر بضع دقائق لجميع أنفاسه :



    - الروس ، أوقعوا أخواننا في شرك في الوادي ، و عندما رأيتهم من القمة عدت مسرعًا

    - هل معهم دبابات ؟

    - لا ، استطعت من بعيد رؤية سيارتين كبيرتين مصفحتين ، و حوالي مئة جندي روسي ، و لم أستطع عد إخواننا لأنهم بين الصخور و هم حوالي عشرة أشخاص على الأكثر ، و يتضح ذلك مما يطلقونه من سلاح قليل .



    بقي الرئيس مده يفكر و هو يخلل لحيته بأصابعه ، فهم الجميع بل انتظروا أن يصدر لهم أمرا مهما بعد قليل .



    قال الرئيس :

    - استعدوا ... إننا ذاهبون



    فأخذوا يستعدون سريعًا . ودبت الروح من جديد في هؤلاء المجاهدين الذين لم يضعوا منذ ثلاثة أيام لقمة في أفواههم ، لأنهم ليس لديهم طعام !! كانوا يستعدون بسرعة غريبة لكي يهرعوا إلى نجدة و مساعدة إخوانهم المجاهدين الذين نصب لهم العدو كمينا ، و كان يبدو في وجه كل واحد منهم الحقد و الغضب . وضع حمد الله أغا المسن بندقيته الإنجليزية القديمة ذات الفوهة الطويلة على كتفه و استعد للخروج ، فإذا بالرئيس يقول له :



    -ابق أنت هنا



    لم يسر المجاهد المسن قط لهذا الأمر ، لكن طاعة الرئيس واجبة ، نظر إلى الرئيس بنظرات فيها الرجاء ، و لم ترمش عيناه قط ، فهم الرئيس من تصرف المجاهد المسن ما يفكر فيه ، فقال له :



    - لا يمكن أن نترك الفتى الجريح بمفرده



    حول العجوز نظراته نحو الطفل الراقد مثل الميت ، و قال :



    - الحق معك ، لا يمكننا ترك العصفور الجريح بمفرده . ثم أخرج بندقيته ذات الفوهة الطويلة و أعطاها لجعفر .



    أكمل المجاهدين استعداداتهم و خرجوا من المغارة ، و جلس المجاهد العجوز بجوار هذا الصبي الذي أسماه " العصفور الجريح " و بدأ يقرأ القرآن بصوت خاشع متبتل مرتعش ، و كان صوته يتردد صداه بين جدران المغارة نصف المظلمة . نسى الفتى الجريح المعاناة ثم التي يعانيها عندما استمع إلى هذا الصوت ، و أخذ يعود إلى نفسه رويدًا رويدًا .



    لقد غمي عليه عندما كان الرئيس يخرج الرصاصة من ساقه ، صاح بألم وعض ذراع المجاهد العجوز الممسك بيديه ، إنه الآن يتذكر هذا و كأنه رؤيا متداخلة ، يرقد في مغارة نصف مظلمة ، يستمع إلى القرآن الذي يقرأه المجاهد العجوز يصوت مملوء بالإيمان و الإخلاص و الخشوع .



    أفاق عدة مرات . و رأى ما حوله رؤية غير واضحة ، أدار رأسه ليستطيع رؤية صاحب الصوت قارئ القرآن ، رأى عجوزا ذا وجه نوراني أحنى رأسه ، و قد أحمرت عيناه من البكاء ، و شفتاه ترتعشان ، ذلك هو المجاهد العجوز قارئ القرآن ، و بقي الفتى يرمقه و هو على الحال فترة، نسي الفتى ساقه الجريح و أراد النهوض و الجلوس على ركبتيه ، و اعتدل قليلا، فأحس باحتراق رهيب في ساقه ، فأن بألم .

    سمع العجوز أنات الفتى ـ فقام سريعا ليرقده ثانية ، و نظر بشفقة إلى وجهه المضطرب ، و مسح بخرقة مبللة شفتيه الجافتين ، ووضع الخرقة على جبهته الساخنة ، نادى الفتى :

    - أمي .

    نظر إليه المجاهد العجوز بعينين ملأتهما الحيرة ، و لم يستطع أن يقول شيئا . تكلم الفتى مرة أخرى و قال :

    - ماذا حدث لأمي ؟ هل قتلوها ؟ .

    أجابه المجاهد العجوز :

    - جاء بك جندي الحراسة مساء . كنت تنام فاقد الوعي على الثلوج . و كان في ساقك رصاصة ، أخرجها رئيسنا .

    و قال الفتى :

    - و أمي ؟ ماذا حدث لها ؟ .

    أجابه المجاهد العجوز مرة أخرى :

    - وجدوك أنت فقط . كنت نصف ميت عندما أحضروك هنا . الموت و الحياة بيد الله . أنت ضعيف كالعصفور لكن لديك قدرة على التحمل .



    استغرق الفتى في التفكير . حاول أن يتذكر كيفية مجيئه إلى هذا المكان . لقد فقد أمه قبل سنة ، تذكر أنه عندما أضاع طريقه في الجبال أصبح وحيدًا ، و لم يستطع السير بساقه الجريحة ، و أنه أخذ يفقد طاقته شيئا فشيئا ، لذلك بقي هناك ملقى على الثلوج ، هذا كل ما تذكره . أراد أن يتحدث و يحكي ما أصابه لكنه لم يستطع ، فقد غامت الدنيا في عينيه و انهارت قواه . حاول أن يستمع لحديث المجاهد العجوز بعينين مغلقتين وأحس أنه لم يعد يستطيع فهم أي شيء فقط من كلام الرجل . و أن صوته يغيب عنه شيئا فشيئا . ثم فقد الفتى الجريح وعيه مرة أخرى .



    أخذ المجاهد العجوز ينظر بحزن بالغ إلى قمم الجبال الصامتة ، و إلى هذه المغارة نصف المظلمة ، و إلى الفتى الذي فتح عينيه ، و سأل عن أمه ، ثم أغمي عليه مرة أخرى .

    (( إن المسلم لم يخلق ليندفع مع التيار ولا ليساير الركب البشري حيث اتجه وسار بل خلق ليوجه العالم والمجتمع والمدنية ويفرض على البشرية اتجاهه ، ويملي عليها إرادته ، لأنه صاحب الرسالة وصاحب العلم واليقين.. لأنه المسؤول عن هذا العالم وسيره واتجاهه فليس مقامه مقام التقليد والاتباع ، إن مقامه مقام الإمامة والقيادة ، ومقام الإرشاد والتوجيه ، ومقام الآمر الناهي ))

    الشاعر الباكستاني محمد إقبال

    تعليق


    • #3
      الحرب في الوادي الصغير
      ( الفصل الثاني ..)



      غادر الرئيس و صحبه مغارة جبل النور ، و ساروا حوال ساعة من الزمن في طريق الجبال فوصلوا إلى الوادي الصغير ، و إذا بهم أمام منظر مرعب . فقد قتل الجنود الروس ، كل المجاهدين ، و كان هؤلاء الجنود يجولون بين جثث الشهداء .
      ضغط الرئيس على قبضتيه ،و نظر بمنظاره المكبر إلى المكان الذي به السيارتان المصفحتان ، و قال :
      - هناك ..
      لم يفهم أحد شيئا قط من هذه الكلمة . نظروا إلى وجه الرئيس . قال الرئيس دون أن تدع عيناه المنظار المكبر :
      - بجوار السيارة التي في الأمام . أخفوها خشيه الإصابة .
      نظر الجميع إلى حيث قال الرئيس ، كان هناك سيارة أخرى بجوار السيارة الأولى التي في الأمام ، من الصعب ملاحظتها سريعًا .
      أخرج الرئيس من حقيبته " ديناميتا " جاهزا للتفجيز . كان واضحًا جدًا ما المطلوب عمله. مد كل المجاهدين أياديهم نحو الرئيس ، يعني كل منهم طلبه لهذا العمل . لقد أشعل الغضب فيهم ، منظر الجنود الروس و هم يجوسون مثل كلاب الصيد بين جثث أخوانهم في الإسلام . و بالطبع لم يكن أحد من هؤلاء المجاهدين يخشى الموت . لقد آمن الجميع إيمانا خالصا بأن السعادة العظمى إنما هي في الموت في سبيل الله ، و في الوقت ذاته كان جنود الأعداء يخشون الموت رغم أسلحتهم القوية و إمكاناتهم الواسعة . فهم يؤمنون بأنهم سينتهون بموتهم
      قام الرئيس بإعطاء إصبع الديناميت إلى جندي طويل القامة من الذين تركوا معه الجيش و انضموا إلى المجاهدين .
      و قال له :
      - إنك تعرف هذا العمل جيدًا . سنقوم نحن بفتح النيران على الجنود الروس ، فتسرع أنت بالنزول من التل إلى الممر ، و تقترب من العربات من الجهة الأخرى المواجهة للطريق . و تشعل الديناميت دون أن تكسر زجاج عربة الذخيرة . لأنك إذا كسرت الزجاج ستكون عرضة لرؤية الجندي حارس العربة .
      قال الجندي الطويل القامة :
      - سمعًا و طاعة .
      ترك الجندي المكان الذي هو فيه ، و أخذ في النزول إلى أسفل التل الجانبي ، و أثناء ذلك قام المجاهدون - بإشارة من الرئيس - بصب وابل رصاصهم على الجنود الروس المنتشرين في الأرض المنبسطة . و أمام هذه النيران المفاجئة ، حدث إضطراب وهرج ومرج بين الجنود الأعداء . أصيب في الوهلة الأولى حوالي عشرين عدوًا . فأخذوا يجرون هنا و هناك . إلى أن وجدوا سدا يحيهم فتمركزوا خلفه و أخذوا يبادلون المجاهدين إطلاق الرصاص ، بدأ المجاهدون في الوقوف بانتباه أكثر خلف الصخور . كانت كل رصاصة يطلقها العدو تنتزع قطعة من الصخر الذي أمامهم. خاصة عندما أخذ الجنود الروس يصبون جام غضبهم بسلاحهم الأوتوماتيكي يمشطون به التل الذي فيه المجاهدين ، فأحذو في السكون في أماكنهم لا يبدون حراكًا . همس الرئيس بكلمات للجنديين اللذين بجواره . تراجع الجنديان زاحفين إلى الوراء ، ثم زحفوا ليختفوا بين التلال التي على يمينهم . وابل الرصاص ما زال مستمرا بكل شدته . المجاهدون بين حين و آخر يطلقون النار دون نظر إلى الهدف . و عندما ظن الجنود الأعداء أهم حاصروا المجاهدين جيدًا و أحكموا الحصار عليهم ، خرجوا من خلف موانعهم و أخذوا في الاقتراب - و هم يطلقون النار -
      من التل الذي هم فيه . صاح الرئيس بإخوانه :
      - لا تخرجوا من مخابئكم . اطلقوا النار على كل من يصعد إلى التل . لا تغادروا أماكنكم بغيه ضرب العناصر المتأخرة .
      اقترب جنود الأعداء كثيرًا ، أصيب فورًا أول جندي روسي صعد إلى التل . و أستشهد في هذه الآونة ثلاثة من المجاهدين ، فقد كان الجنود الروس الذين صعدوا من الجوانب قد استهدفوا المجاهدين جيدًا .
      كان من الممكن ألا يبقى أحد من المجاهدين حيًا لو تأخر انفجار سيارة الذخيرة الخاصة بالأعداء ثلاث دقائق أخرى . فجأة دوى الانفجار الرهيب لسيارة الذخيرة ، لقد أوقع الجنود الروس في اضطراب فظيع قطع الصلب التي تناثرت و انطلقت إلى وجه السماء ، فأخذ هؤلاء الجنود في الهروب نازلين إلى أسفل التلال لكي يحتموا مرة أخرى بموانعهم التي كانوا خلفها قبل صعودهم ، لذلك كان بعضهم في سباق مع الآخرين . و في أثناء ذلك تماما ، أخذت البنادق الأتوماتيكية التي خلف موانع العدو ، في صب حمم الموت على الجنود الروس . لقد خطط رئيس المجاهدين الماهر الشجاع جيداً لكل شيء ، الجنديان القديمان للرئيس يرعبان الروس، إنهما الآن على رأس البنادق الأتوماتيكية التي تمنع في اطلاقاتها العين من أن تنفتح ، و بقي جنود العدو في الوسط ، و مع انفجار الذخيرة اختفت سياراتهم و أصابها الدمار . و لم يعودوا يستطيعون الاقتراب من موانعهم ، لقد أدركوا أن المجاهدين قد استولوا على بنادقهم الاوتوماتيكية، بدؤوا في الجري نحو موانع المجاهدين الذين كانوا قتلوهم كلهم ، و عندما استقروا خلف هذه الموانع كان عددهم قد هبط إلى النصف . و أخذوا يطلقون النيران على التل الذي فيه المجاهدون
      و كذلك أمطروا بالقنابل اليدوية في اتجاه البنادق الأوتوماتيكية . لقد خسر العدو كثيرًا ؛ لكنهم في وقت قصير أصبحوا يسيطرون على الموقف . لقد قتلوا المجاهدين الاثنين رماة البنادق الأوتوماتيكية ، قتلوهم باستخدام القنابل اليدوية . و لم يبق غير أربعة مجاهدين يطلقون النار عليهم بأسلحة قديمة و هم على التل . و كانت ذخيرة هؤلاء أيضا على وشك الانتهاء . و أدرك الرئيس سوء العاقبة و أخذ في التفكير في خطة جديدة . لأنه لو خرج جنود العدو من موانعهم و هجموا عليهم لانتهى كل شيء .
      أشار إلى إخوانه بأن يتراجعوا ، فأخذوا في الزحف إلى الخلف . و عندما خرجوا من خط النار ساروا بين الجبال و ابتعدوا . و لم يستطع الجنود الروس تعقبهم . ذلك لأنهم سيقعون في الفخ بسهولة ؛ إذ لم يكن باستطاعتهم أن يجدوا لهم طريقًا ، أو يتبعوا أثر المجاهدين في هذه الجبال .
      لم يتجه المجاهدون سريعا إلى المعسكر . فكر الرئيس في كل من الطفل الجريح الذي ينتظرهم في المغارة و في المجاهد العجوز . الجميع جائع منذ أيام ، يلزم البحث عن طعام أولا ، لذلك اتجهوا إلى قرية قريبة من المكان . تعاون الرئيس و جعفر الهراتي و المجاهدان القرويان ، و جاهدوا في السير بصعوبة . كانوا يبذلون آخر ما عندهم من جهد حتى لا يقعوا أرضًا أو يغشى عليهم . لقد قدموا ستة شهداء في هذه المعركة التي دارت رحاها في الوادي الصغير ، لكنهم كسروا ذراع العدو و جناحه .و لو كان بأيديهم أسلحة قوية ، لاستطاعوا قتل عدوهم عن بكرة أبيهم .
      أدّوا صلاة العصر فوق الثلوج ثم أخذوا طريقهم ثانية ، و عندما اقتربوا من ( كوجرك كوي ) القرية الصغيرة ، كانت الشمس خلف التلال البيضاء ، تسحب آخر أشعتها لتختفي .
      وقفوا ليتفرجوا ويراقبوا القرية من بعيد ، ليس في القرية حركة ، انتظروا حتى يحل الظلام جيدًا ، وبعدها يدخلون القرية .
      قال الرئيس :
      - من يدري ؟ لعل جنود كارمال يعسكرون في القرية .
      أجاب جعفر سريعا وقال :
      - هل يمكن _ بعد إذنك _ أن أقترب من القرية وألقي نظره ؟
      نظر الرئيس نظرة تقدير لهذا الفتى الجسور وقال :
      - ليحل الظلام قليلا ثم ....
      كانوا يقفون لصلاة المغرب بصعوبة ، وكانت رياح الموسم المسائية التي بدأت الآن تعمل عملها في عظامهم ، خلع الرئيس معطفه ليضعه على كتفي جعفر، وبذل جعفر جهدًا واضحًا حتى لا يقع أرضًا ، لم يعد في ركبتيه ولا في ذراعيه طاقة ، يشعر بغثيان في أمعائه ، ورأسه تدور ، وعيناه تسوَدّان ، ولم يستطع أن يخفي ارتعاشه .
      وعندما ساد الظلام ، أرسل الرئيس جعفر إلى القرية ، سار جعفر في خطوات ثقيلة ، وركبتاه ترتعشان ، وابتعد عنهم .
      انتظروا عودته في قلق بالغ دام نصف ساعة ، لم يتحدثوا في شيء . يوجد في القرية ناس بالتأكيد . ذلك لأن أضواء خافتة تصدر من نوافذ صغيرة في بعض البيوت ، ولم يكن في مسجد القرية الصغيرة ضوء قط ، ولم يؤذن للصلاة ، وهذا ما جعل الشك والمخاوف تسيطر على الرئيس ، وبعد نصف ساعة ، رأوا شبح شخصين في الظلام يتجهان نحوهما ، وضعوا أياديهم على البنادق ، استعدوا لإطلاق الرصاص ، لكنهم توقفوا بعدما رأوهما بوضوح ، كان أحد القادمين جعفر والآخر قروي عجوز ، سقط جعفر بجوار الرئيس منهار القوى ، فلم يعد قادرًا على الوقوف . وقال :
      - جنود كارمال قبضوا على إمام القرية ومعلمها ، فتح لي هذا العجوز بابه لأنه يعرفني ، تعرفت عليه في هرات ، والقرويون الآخرون لا يفتحون بابهم لأحد ...
      قال القروي العجوز بصوت حاد مبررًا :
      - لا يفتحون يا ولدي ، فالصديق لا يدق الباب في هذه الأيام إلا قليلا ، وأغلب الطارقين أعداء ، أنا عرفتك من صوتك ، تفضلوا لنذهب ، لنقضي الليلة في قريتنا أيها الشباب .
      قاموا جميعًا ، وأخذوا في السير تجاه القرية وراء القروي العجوز ، وعندما دخلوا القرية ، وقف الرئيس ونظر إلى المسجد الغارق في الظلام ، وقال :
      - علينا إقامة صلاة العشاء في المسجد .
      ثم التفت إلى القروي العجوز . وقال :
      - المسجد لا يغلق أبوابه بحجة أنهم قبضوا على الإمام .
      تركهم الرئيس ودخل المسجد ، ثم أخذ بعد قليل يؤذن بصوته الجهوري من على المئذنة ، كان صوته ممتلئا بالغضب والتصميم والمرارة ،
      كان يدعو القرويين الذين اختبئوا في بيوتهم إلى الشجاعة والتحرر .
      وحدث ما توقعه الرئيس ، فتح القرويون بعد سماعهم صوت الأذان أبوابهم وأخذوا يتوافدون إلى المسجد فرادى ، وفي يد كل واحد منهم مصباحه .
      أمّـهم الرئيس ، لم يعد القرويون بعد الصلاة إلى منازلهم ، كانوا ينتظرون بفضول الأخبار التي أتى بها هؤلاء الأبطال ، خطب فيهم الرئيس خطبة قصيرة ،
      مسّت خطبته النارية سريعا شغاف قلوب القرويين ، ولمست أوتار إيمانهم ، وقرروا جميعًا الاشتراك في الجهاد .
      وعندما رأى الرئيس أن جعفرًا قد غشي عليه ووقع كأنه يسجد ، توقف عن الحديث ، واضطر أن يخبر القرويين بأنهم جائعون منذ ثلاثة أيام .
      أدخل القرويون أذرعهم في أذرع المجاهدين واتجهوا نحو بيت ضيافة القرية ، وأحضر كل منهم شيئا من الطعام من بيته ، وقبل أن يبدأ الرئيس الأكل، استدعى شابين إلى جواره ، وعرّفهما طويلا بالمغارة التي يوجد بها معسكرهم . وقال :
      - هناك رجل عجوز مجاهد مضى عليه ثلاثة أيام وهو جائع ومعه طفل جريح ، لابد من إرسال الطعام إليهم الآن ، إننا لا نستطيع التحرك قبل الصباح ،
      وإرسال الطعام لا يستطيعه إلا أنتما .
      قبل الشابان المهمة بسرور . قال أحد القرويين :
      - أيها الرئيس إذا أذنت لي لأذهب أنا أيضا إلى معسكركم ، فإنني أفهم قليلا في الأمور الصحية ، الجروح وما شابهه ، وأعتبر طبيب هذه القرية ،
      ومادام هناك طفل جريح فلأذهب وأساعده .
      - هذا أمر طيب .
      تناول طبيب القرية حقيبته ، وملأ الشابان حقائب بالأكل ، واتجهوا ثلاثتهم إلى المغارة التي وصفها الرئيس .

      (( إن المسلم لم يخلق ليندفع مع التيار ولا ليساير الركب البشري حيث اتجه وسار بل خلق ليوجه العالم والمجتمع والمدنية ويفرض على البشرية اتجاهه ، ويملي عليها إرادته ، لأنه صاحب الرسالة وصاحب العلم واليقين.. لأنه المسؤول عن هذا العالم وسيره واتجاهه فليس مقامه مقام التقليد والاتباع ، إن مقامه مقام الإمامة والقيادة ، ومقام الإرشاد والتوجيه ، ومقام الآمر الناهي ))

      الشاعر الباكستاني محمد إقبال

      تعليق


      • #4

        في المغـارة :
        ( الفصل الثالث ..)



        اهتم المجاهد العجوز بالفتى الجريح ذلك اليوم حتى المساء ، لكنه لم يستطع فعل شيء للولد الذي يتلوى من الألم .

        كان هذا الفتى ينام أحيانا فيرى كوابيس مزعجة ، فيهذي ويئن ، كان العرق يسيل منه بغزارة رغم الجو البارد ، وكانت بالفتى سخونة شديدة ، لذا كان العجوز يضع على جبهته خرقة مبللة ، يمسح عرقه ، وبين الحين والحين يبلل له شفتيه التي أصابها الجفاف ، يشعر بأنه لا قدرة لديه لأنه جائع منذ عدة أيام .

        وعندما خيم الظلام على المكان أغشي على العجوز حيث يجلس من شدة الضعف والجوع .

        أفاق في منتصف الليل على أصوات ، لم يعرف من القادم ، وعندما رأى القرويين الثلاثة أخبره طبيب القرية بأن الرئيس أرسلهم ، وأن إخوانه ضيوف الآن على القرية وأنهم في غاية التعب ، فرح العجوز أولا ، ثم سألهم بفضول :

        - كم كان عددهم ؟

        - كانوا أربعة برئيسهم .

        أسدل العجوز رأسه أمامه ، وقال :

        - يعني قدموا ستة شهداء .

        ساد الجميع صمت طويل ، أشعل الشابان القرويان المصباح الذي أحضراه معهما وعلقاه على حائط المغارة ، قام طبيب القرية ، وخلع الخرقة التي على ساق الطفل ، ونظف جرحه ، كان الطفل يرقد كالميت ، وعند لف الجرح بدأ في الأنين مرة أخرى بصوت ضعيف مسموع ،

        أحضروا له بعض الحليب ، وبدأ طبيب القرية في إعطائه الحليب في فمه بالملعقة قليلا قليلا ، وعندما تلقى الفتى الجريح الحليب بالملعقة في فمه الملتهب كالنار ، حرك شفتيه بصعوبة ، وحاول بلع ما في فمه ، ثم حقنه طبيب القرية بحقنة لكي تهبط درجة حرارته ، بعدها غط الفتى في نوم عميق ، ولما رأى القرويان أن الفتى قد نام ، تحدثا فترة مع العجوز ، وتعرفا عليه ، ثم انسحب كل منهم إلى جانب من المكان وناموا .


        كان أول من استيقظ صباحًا هو الفتى الجريح ، والآن يشعر أنه قد أصبح أفضل قليلا ، وأن صحته قد أخذت في التحسن ، تذكر العجوز الذي يرقد بجواره ، لكنه لا يعرف أين هو ؟ وكيف جاء ؟ قال له العجوز إنهم وجدوه مغمى عليه ، فأحضروه هنا ، يتذكر هذا بعض الشيء، إنه لم ير من قبل هؤلاء الثلاثة الذين ينامون على الأرض، نظر إلى الضوء الباهت الآتي من باب المغارة ، لكن متى جاء ؟ لم يستطع الإجابة على هذا السؤال .

        - هل استيقظت أيها العصفور الجريح ؟

        سأله العجوز هذا السؤال . إنه نام بدوره لكنه بمجرد استيقاظه كانت عيناه على الفتى ، لقد ابتهج العجوز عندما رأى الفتى وعينيه مفتوحتين ولونه معتدل ، مما يدل على بدء تحسن في صحته ، تعرف الفتى على هذا الصوت الصديق ، وحاول أن يبتسم له .

        - إني أسميك بالعصفور الجريح لأني لا أعرف اسمك .

        قال الفتى بصوت خافت مرهق :

        - اسمي كريم .

        - حفظك الله الكريم .

        أيقظت هذه المحادثة الآخرين ، توضأ الجميع وصلوا صلاة الفجر جماعة ، وكان كريم يتفرج عليهم من حيث يرقد ، أشعلوا النار في أغصان شجرة

        كانت تُركت لتجف في إحدى زوايا المغارة وكانوا أحضروها من قبل ، وطبخوا عليها حساء ، أخذ العجوز بيده واحدا من الأغصان ، وأراها للقرويين قائلا :

        - ماذا ترون في غصن الشجرة هذا ؟

        نظر القرويون بدهشة إلى الغصن الجاف وهو في يد العجوز . قال واحد من الشابين :

        - إنه غصن شجرة ذلك الذي في يدك .

        أشار العجوز إلى القشر الذي انتزع من عدة أماكن من على الغصن وضحك بمرارة، وقال:

        - إني أكلت قشر كل هذه الشجرة .

        أخذت الجميع الدهشة بينما استمر العجوز في كلامه :

        - جعت بالأمس جوعا شديدا ، فقرضت قشر الشجرة كأني ماعز ، لو حدثني أحد أنه فعل ذلك لكنت مثلكم غير مصدق ، لكن الإنسان إذا جاع يفعل أشياء لا يمكن تصديقها ،

        أكلنا الأعشاب هنا كأننا أغنام وذلك قبل هطول الثلج ، والآن نقرض لحاء الأشجار ، وإننا أمام أمرين لا ثالث لهما : إما أن نطرد العدو من أرضنا ، وإما أن نموت فوق هذا الجبل .


        كسر العجوز بحدة ذلك الغصن الذي بيده ، وألقاه أرضا ، شربوا حساءهم صامتين ، قدموا لكريم أيضا طبقًا من الحساء ، اعتدل كريم قليلا وأسند ظهره إلى الحائط وشرب حساءه بهدوء ، كان يحس في ساقه بألم ثقيل دائم وإن لم يكن شديدًا ، وبعدما شرب حساءه شعر بأنه تحسن ، وأن ذاكرته عادت إليه ، وخف الألم الذي كان برأسه .

        نور الله ، وهو أحد الشابين القرويين ، وكان في السادسة عشرة من عمره ، أخذ مكانه بجوار كريم ، وبدأ يهتم به عن قرب .

        وعند وقت الضحى ، وصل الرئيس وإخوانه وقد انضم إليهم سبعة قرويين مسلحين ، فرح الرئيس كثيرا عندما رأى صحة الفتى قد تحسنت ، قال له :

        - سَلِمتَ أيها العصفور الصغير !!

        عرف الفتى الرئيس ، لكنه لم يستطع تذكره ، كيف ، وأين رآه .. .. !

        ردّ عليه قائلًا :

        - سلَّمك الله .

        جلس الرئيس ومن معه ، واستراحوا قليلا ، قرروا الذهاب إلى الوادي الصغير الذي حاربوا فيه قبل يوم ليطلعوا على الموقف هناك .


        قال الرئيس للمجاهد العجوز :

        - ابقَ هنا أيضا .

        نظر العجوز أولا نحو الرئيس ، ثم إلى نور الله الذي يجلس بجواره الفتى الجريح ، وكأنه يقول للرئيس ليبقَ هذا بدلاً مني .

        فهم الرئيس ما دار بخلد العجوز ، فقال لنور الله :

        - أيها الشاب ، ابقَ أنت هنا لتهتم به ، وإذا لم نعد حتى صباح الغد ، فأتِ برجلين من القرية وانقلاه إلى القرية ، دون أن تتحرك فيه عضلة .

        - نعم ، سمعًا وطاعة .

        شعر نور الله بفخر لأنه يتلقى الأمر من رئيس كبير وأنه نافع لأداء عمل .

        ترك الرئيس والآخرون المغارة ، حقن الطبيب كريما مرة أخرى قبل تركه ، وقال:

        - سيغشاك النوم بعد قليل ، وعندما تستيقظ ستجد نفسك في صحة أحسن ، حذار أن تقف على قدميك ، لاسيما ساقك اليمنى ،لا تحركها قط ، إن شاء الله نعود سالمين وسنأخذك معنا إلى القرية .

        استعد الطبيب على عجل ، ولحق بالآخرين ، وظل نور الله وكريم وحدهما في المغارة ، سأل نور الله كريمًا :

        - هل الروس هم الذين أصابوك ؟

        - لا الجنود الأفغان هم الذين أصابوني

        - هل تعرف استخدام البندقية ؟

        - أعرف .. وأنت؟

        - لا أعرف ، عندنا ماعز ، وأنا أرعى بهم في الجبال .

        - أليس عندكم ماعز الآن ؟

        - استولى الروس عليها ، وقتلوا والدي ، وضربوا والدتي ، وضربوني .

        - هل ذهبت إلى المدرسة ؟

        - نعم ، في قريتنا مدرسة ، أنهيت الدراسة فيها ، جاء الجنود بالأمس وقبضوا على معلم القرية وعلى شيخ القرية أيضًا .

        - الجنود الروس ؟

        - لا ، الجنود الأفغان ، أعرف الذي قدم شكوى في الشيخ وفي المعلم ، وعندما أذهب إلى القرية سأنتهز الفرصة وأنتقم منه .

        أغمض كريم في هذه الأثناء عينيه رويدًا رويدًا ، ولم يعد يحس بحديث نور الله ، ذلك الحديث المثير .

        وعندما لا حظ نور الله أن كريما نام ، سكت عن الكلام .

        نظر مدة إلى وجه كريم الذابل ، ثم نهض على قدميه ، وقام يجمع الأشياء الملقاة دون نظام هنا وهناك على اليمين وعلى الشمال ، ورتبها على الجوانب ، وخرج من المغارة ، وجرى مدة فوق الثلوج يمينًا وشمالاً ، محاولاً أن يدفئ نفسه ، كان هناك بين الصخور بضع أشجار ، أخذ في كسر بعض أغصانها ، وأتى بها إلى المغارة .

        مازال كريم نائمًا مستغرقًا في نومه ، حاول هو بدوره النوم لأنه لم يستطع أن ينام جيدًا الليلة الماضية ، فقد تذكر والده الذي قتلوه ، ووالدته الدامعة العين ، وقطيع الماعز الذي كان يرعاه في الجبال ، كان يحب هذا القطيع حبًّا جمَّا ، لكنه كان يحب والده أكثر ، لقد قتلوا والده رميًا بالرصاص لأنه رفض أن يسلّم لهم الماعز ، وحضرت أمه إلى المكان بعد سماعها صوت طلقات الرصاص ، صـرخـت عندما رأت أباه مضرجًا في دمائه ، فانكفأت عليه ، فضربها الجنود بمؤخرة بنادقهم ، وضرب الضابط الروسي نور الله بالسوط فأغمي عليه من قسوة ضربات السوط ، وعندما أفاق شاهد أمه تبكي بجواره ، لم يستطع أن ينسى قط ذلك الرعب والإيذاء

        والألم الشديد الذي قاسى منه ذلك اليوم ، ولن يستطيع نسيانه ، لا يستطيع نسيان الجنود الذين قتلوا والده ، وضربوا أمه بمؤخرة بنادقهم ، ولا الضابط الروسي الذي ضربه بالسوط ، استغرق نور الله في نومه وهو يتذكر كل هذا .

        (( إن المسلم لم يخلق ليندفع مع التيار ولا ليساير الركب البشري حيث اتجه وسار بل خلق ليوجه العالم والمجتمع والمدنية ويفرض على البشرية اتجاهه ، ويملي عليها إرادته ، لأنه صاحب الرسالة وصاحب العلم واليقين.. لأنه المسؤول عن هذا العالم وسيره واتجاهه فليس مقامه مقام التقليد والاتباع ، إن مقامه مقام الإمامة والقيادة ، ومقام الإرشاد والتوجيه ، ومقام الآمر الناهي ))

        الشاعر الباكستاني محمد إقبال

        تعليق


        • #5

          كريم يحكي قصة حياته
          ( الفصل الرابع ..)


          عندما هبط الظلام ، وخيم على الجبال ، بدأ الفتيان اللذان في المغارة في القلق والاضطراب ، لم يعد الرئيس ومن معه من صحبه من الوادي الصغير حتى الآن ،

          قال نور الله وهو أمام النار التي أوقدها لطبخ الحساء :

          - خيرًا إن شاء الله .

          رد عليه كريم قائلا :

          - إن شاء الله .

          حاول نور الله ألا يظهر اضطرابه ومخاوفه للفتى الجريح ، لا بد أن يكون هناك شيء أصاب الرئيس وصحبه ، لكن ماذا حدث ؟ هذا مالا يعرفانه .

          احتسيا حساءهما في سكون ، كل منهما يخشى مفاتحة الآخر في أمر قلقه ، لم يكونا بمستطيعي النوم لأنهما ناما كثيرًا في النهار .

          سأل نور الله سؤالاً مفاجئًا :

          - هل تؤلمك ساقك ؟

          - لا تؤلمني إلا إذا حركتها

          - هل تحب أن تنام ؟

          - لا حاجة لي إلى النوم

          - وأنا كذلك

          - ماذا يحدث لك إذا لم يأتِ الرئيس وصحبه ؟

          فكر نور الله بعض الوقت ، ثم قال بصوت بطيء :

          - أذهب إلى القرية ، وأحضر رجلين لحملك ؛ هكذا قال الرئيس

          - لو كانت ساقي طيبة لخرجت وبحثنا عنهم

          - طبعًا كنا نفعل ذلك

          صلى نور الله صلاة العشاء ، ينظر كريم إلى خيال نور الله الذي يقصر ويطول في ضوء المصباح الباهت ، أحس بصداقةٍ تجاه هذا الشاب القروي الطيب ، لقد كان مثله أيضًا يحترق ألمًا ، والواقع أنه لم يكن في أفغانستان إنسان لا يحترق ألمًا ، جنود العدو يقتلون الناس الأبرياء ، يهدمون القرى ، ويسرقون مال الناس ، والمجاهدون الذين صعدوا إلى الجبال يصارعون العدو ويواجهون أشد أنواع العناء ، من أجل أن يقولوا لهذا الظلم " قف "

          جلس نور الله بجوار كريم وقال له :

          - طالما أن النوم يهرب منك ، فلنتكلم سويًا حتى الصباح

          أراد كريم أن يبتسم لهذا الاقتراح الودي الذي قدمه له نور الله ، وظهر في وجهه تعبير باكِ نسيَ الابتسامة ، واستطاع أن يقول :

          - يمكننا التحدث

          - إنك لم تتكلم عن نفسك قط ، من أين جئت إلى هذه المغارة ؟

          تأوه كريم ، لقد كان يريد بالفعل أن يحدث صديقه نور الله _ الذي شعر بحب نحوه وإخلاص منه _ بالمعاناة التي صادفها والحوادث المريرة التي مر بها ، قال كريم :

          - سأتحدث إذا أحببت من البداية .

          - وقتنا متسع ، على كل حال ، تحدث عن كل شيء

          نظر كريم في حب بالغ إلى نور الله الذي استعد للاستماع إليه بكل جوارحه ، وهبت في هذه الأثناء ريح خارج المغارة ، وبدأ طنين خفيف ينعكس على جدران المغارة

          - أنا كابلي ( يعني من كابول ) ، كنت أدرس في الصف الخامس العام الماضي ، كان لوالدي دكان لبيع الكتب ، وكان لي أخ أكبر مني في عمرك تقريبًا يساعد أبي في دكان الكتب هذا ،

          فزعت كثيرًا في أول ليلة تأتي فيها طائرات الروس العدو ، كانت كل المنازل تهتز بفعل أصوات الطائرات التي كانت تذكرنا ببرق السماء ، لم نستطع النوم في تلك الليلة ،

          قال أبي عندما سمع أصوات الطائرات :

          - هاهم قد جاؤوا

          وكان قال لنا قبل عدة أيام :

          - سترون ! سيأتي الروس ليركبوا فوق رؤوسنا .

          كان يأخذ الغرفة جيئة وذهابًا في عصبية حتى الصباح في تلك الليلة التي جاءت فيها الطائرات ، وفي الصباح سلّم أخي مفتاح دكان الكتب ، وقال له :

          - أمك وأخوك أمانة لديك ، وأنتم جميعًا أترككم في أمانة الله .

          وحمل سلاحه وترك البيت ، وعندما ذهب والدي ، احتضنتني أمي وأخذت تبكي ، بكت أمي ساعات بل أيامًا ، ومنذ ذلك اليوم لم تعرف البسمة طريقها إلينا ،

          ولاحقتنا المصائب واحدة تلو الأخرى ، وفي اليوم الثاني لترك أبي المنزل ، استدعاني ناظر المدرسة إلى غرفته ، وسألني بوجه باسم عن أبي وقال :

          - انضم أبوك إلى المتمردين ، صحيح يا بني ؟

          قلت له :

          - لا

          لطمني على وجهي لطمة شديدة ، وقال :

          - إنك تكذب عليّ

          فرت النار من عيني ، غرق فمي وأنفي في الدم ، وحرت بماذا أجيب عليه . أخفض المدير صوته وكرر سؤاله إليّ :

          - هل أخذ أبوك سلاحه و تمرد ضد الحكومة ؟

          ولم أجب عليه بشيء . لم أكن لأبوح بكلمة واحدة حتى و لو قتلوني .

          لطمني المدير لطمتين أخريين حتى إن الدم الذي كان يخر مني أصاب

          يده ولصق بها , كان جسمي يرتعش وكدت أسقط على الأرض لكني اعتدلت

          سريعًا لكي أقف مواجها له . صاح بي قائلًا :

          - أغرب عن وجهي !

          واتجهت مباشرة إلى منزلي . حكيت لأمي ما حدث .

          كانت دوما تبكي . في تلك الليلة رأيت أبي في رؤياي . رأيته يلطم المدير الذي لطمني .

          وعندما استيقظت في الصباح كنت حزينًا من ناحية , لكني من ناحية أخرى كنت أحس بالراحة.

          تورّم وجهي وعيناي بشكل واضح . وذهبت إلى المدرسة بشكلي هذا . كان بين أصحابي في المدرسة مَن ضُرب ضرباً مبرحا مثلي.

          لكنهم لم يذهبوا إلى المدرسة. كان معلمي يحبني حبّاً شديداً , لكنه مع ذلك لم يستطع سؤالي

          عن حالي هذا . كان ينظر إليّ حزيناً متألماً . حتى زميلي الذي كان يجلس معي في نفس المقعد

          في الصف , لم يتحدث معي البتة في ذلك اليوم . كان كل واحد منّا يخاف من الآخر .

          داومت على الذهاب إلى المدرسة بحالتي هذه عدة أيام . وذات يوم لم يرجع أخي الكبير من الدكان , انتاب أمي قلق كبير عليه , فذهبنا معًا إلى الدكان , زاد قلق أمي عندما رأت الدكان مغلقًا , كان واضحًا أن مصيبة قد حلّت به , اتجهنا إلى مخفر الشرطة والخوف مستولٍ علينا ,

          وهناك علمنا أن أخي في المستشفى . كان قد شتم ضابطًا أفغانيًا - من المتعاونين مع الاحتلال-

          فضربه الضابط . مسكينة أمي , لقد أخذت في البكاء من جديد . ذهبنا إلى المستشفى لكنهم لم يسمحوا لنا برؤيته .

          كان هناك ناس كثيرون بنتظرون عند باب المستشفى ، من الواضح أن هناك أحداثًا قد حدثت والجرحى كثيرون .

          ولم يسمحوا لأحد أن يقابل مريضه .

          جلسنا بجوار حائط المستشفى عدة ساعات ننتظر . كنا نتوسل إلى الضباط الذين

          على الباب على أمل أن تلمس الرحمة قلوبهم فيسمحوا لنا برؤية أخي الكبير .

          وعندما فقدنا الأمل في ذلك , عدنا إلى منزلنا في منتصف الليل , ولم نستطع النوم حتى الصباح.

          بكينا ... بكينا كثيرًا .

          وفي الصباح جاء الجنود ودقوا باب بيتنا. قال واحد منهم لأمي إن أخي الكبير قد مات

          وإن عليها أن تحضر إلى المستشفى لتتسلم جثته. انهارت أمي وسقطت في المكان الذي كانت تقف فيه. ولما ذهب الجنود , ناديت الجيران .

          وعندما أفاقت أمي كانت تبكي وتنتحب. وبمساعدة الجيران أخذنا جسد أخي

          الكبير من المستشفى ودفناه في المقبرة.

          لم أذهب إلى المدرسة بعد ذلك اليوم , وكان عليّ في الصباح أن أفتح الدكان , و اشتغل فيه حتى المساء . وجاء مدير المدرسة ذات يوم إلى الدكان. وسألني , لماذا لا أحضر إلى المدرسة. قلت له :

          - قتلوا أخي.

          - كان أخوك مثل أبيك من المتمردين.؟

          لم أجب بشيء . نظر إليّ بسخرية , ثم ذهب . و استمر حالنا على ذلك المنوال عدة أيام

          مرضت أمي , ومع ذلك لم تتركني جائعًا.

          وذات ليلة استيقظت على قبلات أبي . فتحت عينيّ فوجدت أبي أمامي . فاحتضنته وأجهشت

          في البكاء.

          حكيت له بدقة ما أصابنا ورأيت أبي لأول مرة في حياتي يبكي. قلت له :

          - لا تفارقنا مرة أخرى.

          لم يُجبْ . وفهمت أنه سيذهب مرة أخرى . قلت له :

          - إذا ذهبت عنّا يا أبي فإنهم سيضربوننا.


          ومرة أخرى لم يجبني بشيء. كان مصممًا على الذهاب ثانية.

          احتضنته وتوسلت إليه. أما هو فقد لمس شعري بحنان , وقبّل عينيّ. وقرب الصباح ,

          وتركنا وذهب , وبعد أن ذهب أبي سألت أمي قائلًا :

          - لماذا ذهب وتركنا؟ عائلة بدون أب ؟!

          احتضنتني أمي وقالت :

          - يا كريم , إنك صغير ولا تفهم الأمور جيدًا الآن . لم يعد أبوك بمستطيع أن يبقى هنا ,

          لو بقي فإنهم يقتلونه , ثم هل أبوك فقط هو الذي ترك بيته؟ مئات الآلاف من الناس تركوا منازلهم ووطنهم.

          قلت لها :

          - و إلى أين ذهب ؟

          - إلى الجبال.

          - و ماذا يفعل في الجبال ؟

          - لقد أعلنوا الحرب على الكفار الذين يحتلون بلادنا.

          - إذن, فلأذهب أنا يا أمي إلى الجبال.

          - و لمن تترك أمك .؟

          وعندما شرحت لي أمي الأمر , شعرت بالسرور لذهاب أبي , كما أحسست بالفخر.

          لكن المصائب توالت علينا , ففي اليوم التالي , أخذني الجنود و قبضوا عليّ , وأخذوا يعذبونني

          بضربي بالعصا على باطن قدمي , و استمر ذلك حتى المساء.

          لقد عرفوا أن أبي جاء إلينا في الليل . قال لي رجل ضخم :

          - إلى أين ذهب أبوك ؟ بماذا حدثكم ؟

          وأخذ يسألني على هذا المنوال عدة ساعات . ولم أتكلم بشيء .

          و الواقع أنني لا أعلم أين ذهب والدي . كما أنه لم يحدثني بشيء قطُّ . تركوني في المساء وعدت إلى منزلنا حافي القدمين.

          لم أستطع ارتداء حذائي في قدميَّ لأنهما قد وَرِمَتا . وكنت أضع قدميَّ على الأرض بصعوبة بالغة.

          سرت وأنا أستند إلى الجدران. ورِمَتْ قدماي أكثر وأكثر في الليل. وكانت فوق ذلك توجعني.

          سحبت اللحاف على وجهي وتغطيت به وأخذت أبكي , ولم أخرج إلى الشارع طوال ثلاثة أيام.

          ولم تكن أمي تستطيع شيئًا غير الدعاء السيء على الأعداء. كانت تلعن هؤلاء الذين فعلوا بي هذا، كان الرعب يصيبنا عند كل طرقة على الباب . ولم نكن نستطيع أن ننام في راحة. وكنت أستيقظ أثناء نومي وأنا أصرخ وأبكي. وفي كل مرة كانت أمي تواسيني وتنيمني مرة أخرى. اصفر وجه أمي و أصابه الذبول, وغارت عيناها. وأصبحت خلال عدة أسابيع وكأنها شاخت.

          (( إن المسلم لم يخلق ليندفع مع التيار ولا ليساير الركب البشري حيث اتجه وسار بل خلق ليوجه العالم والمجتمع والمدنية ويفرض على البشرية اتجاهه ، ويملي عليها إرادته ، لأنه صاحب الرسالة وصاحب العلم واليقين.. لأنه المسؤول عن هذا العالم وسيره واتجاهه فليس مقامه مقام التقليد والاتباع ، إن مقامه مقام الإمامة والقيادة ، ومقام الإرشاد والتوجيه ، ومقام الآمر الناهي ))

          الشاعر الباكستاني محمد إقبال

          تعليق


          • #6

            أبي يدخل السجن
            ( الفصل الخامس ..)



            ذات يوم جاء إلى دكاننا دكان بيع الكتب , شيخ مسجد الحي الذي علمني قراءة القرآن الكريم.

            وقال :

            - قبضوا على والدك. لا تقل لأحد أني أخبرتك , لقد أخبرني بهذا رئيس حراس السجن المركزي.

            أخافني وأرعبني ما قاله الشيخ لي . دخل والدي السجن؟! وقد سمعت من قبل أن من يدخل السجن لا يخرج سليما , لم أستطع قول شيء للشيخ , وكأن لساني قد انعقد. وسريعًا أغلقت الدكان وأسرعت إلى البيت , وعرضتُ الموقف على أمي , بكت أمي كثيراً وهي تضرب يديها

            على ركبتيها وأخذت تسير في البيت على غير هدى . إنهم يمنعون الناس من الاقتراب

            من السجن. ومن المستحيل أن نرى أبي. كلما علمناه أنه في السجن . و لا ندري في أي موقف هو.

            وربما يكونون معذبيه الآن.

            ذهبنا في ذلك اليوم إلى السجن ونظرنا إليه من بعيد , الجنود على الباب وعلى سطح السجن

            وعلى الجدران وقد اتخذوا تدابير صارمة , انتظرنا مدة يائسين ثم عدنا إلى البيت.

            وفي اليوم التالي ذهبت مع أمي إلى الشيخ , واستمعنا منه الخبر مرة أخرى . قال الشيخ :

            - لا يمكن زيارته ورؤيته. وإذا علمت شيئاً عنه سأخبركما.

            وبعد يومين جاء الشيخ إلى الدكان , اضطربت عندما رأيته , واضح أن لديه أخبارًا عن أبي ,

            وعندما جلسنا معًا لوحدنا قال :

            - موقف أبيك ليس سيّئًا . حتى الآن لم يتعرض لعمليات التعذيب . إن بابراك كارمال سيصدر

            عفوًا عامًّا قريبًا , وإن شاء الله سيشمله هذا العفو.


            وعندما رأى أنني استعد لإغلاق الدكان , قال لي :

            - لا تتعجل , حتى لا تثير شكوك مَنْ حولنا , انتظر حتى المساء .

            عملت بما قاله , وانتظرت بفارغ الصبر حتى المساء , وعندما وصلت إلى بيتنا كررت

            على مسامع أمي ما قاله الشيخ بالضبط , و قوي الأمل في نفوسنا ولو قليلاً , على الأقل أن أبي لا يتعرض للتعذيب حتى الآن. وليس جريحًا .

            لم يستمر سرورنا هذا كثيرًا ؛ ذلك لأن الجنود هجموا على منزلنا قبيل الفجر وضربونا

            أنا وأمي , و فتشوا البيت بما فيه جيدًا ولم نستطع أن نفهم لماذا يفعلون كل هذا , وكان على رأس هؤلاء الجنود ذلك الرجل الضخم الذي كان وضعني في الفَلَكَة وضرب رجليّ . قال لأمي:

            - هرب زوجك مع ثلاثة آخرين , من السجن . وصدر أمر بقتله . فإذا جاء إلى هنا ولم تأتيا لتخبرونا بمجيئه فسنقتلكما.

            خفت لكني سررت ولو قليلًا , كررت بيني وبين نفسي عبارة هروب أبي مع ثلاثة من إخوانه من السجن . ودعوت الله قائلًا :

            - إن شاء الله لن يستطيع أحد القبض عليهم .

            قالت أمي بعد أن ذهب الجنود :

            - ليته لا يمرّ البيت مطلقًا .

            وعندما رأتني أنظر إليها بحيرة , أكملت كلامها :

            - سمعوا أنه خرج من البيت ؟! وسمعوا أنه جاء ليلاً ؟!. معنى

            ذلك أن بجوارنا أحد الخونة !! فإذا مرّ بنا أبوك وجاء إلى البيت فسيعرفون

            فورًا ويقتلونه. أحققتُ ما قالته أمي, ودعوت الله أن ألّا يأتي أبي إلى البيت

            رغم أن روحي متعلقة برؤيته.


            وفي اليوم التالي عند وصولي الدكان استولت عليَّ الدهشة أمام منظر رأيته !! باب الدكان مكسور ومفتوح , وكل الكتب التي على الأرفف غير موجودة , أخذوها !! وعندما

            وجد أحد الجيران أنني في الدكان الفارغ بمفردي , في حيرة شديدة من أمري , قال لي :

            - إن الجنود جاؤوا وكسروا الباب.

            لم أستطع أن أحمل نفسي على قدميَّ فجلست أنظر إلى الأرفف الخالية.

            ولم أكن أدري ماذا أفعل . إني مجبر على نقل هذا الخبر السيء إلى أمي ؛

            مع أني قررت ألا أحدث أمي بشيء صعب مهما كان , فكل خبر تسمعه أشعر أنه يُحرقها . لكن هذه المرة مختلفة ؛ باب عيشنا قد كسروه هذه المرة.

            وبينما أنا جالس على هذه الحال إذا بجار لنا أحبُّه كثيرًا يدخل الدكان وقد وضع يديه على بطنه الضخمة , قال لي وكأنه يأسى على حالي بتعبير وجهٍ أقرب إلى الابتسام منه إلى التأسي.

            - واه واه , إن حالكما هذا يقطع نياط القلب حقًّا !! لكن

            مهما حدث لكما فإن مرده إلى أبيك !! انظر , إننا نعيش في حالنا

            ولا أحد يقوم بشيء ضدنا.

            لم أجب على الرجل. أدار رأسه يمنة ويسرة على الأرفف الخالية

            من الكتب وأخذ ينظر إليها طويلًا. ثم ذهب دون أن يغير التعبير

            الأبله الذي في وجهه , جمعت كل ما تناثر أرضًا على اليمين وعلى

            الشمال من أقلام ومساطر ودفاتر وغيرها من مواد المكتبات التجارية

            ووضعتها في كيس، ووضعت هذا الكيس على ظهري ثم انطلقت إلى البيت.

            حكيت لأمي كرهًا هذه المصيبة , ولقد أصابها ضيق أقل مما كنت أتوقع من هذه الحادثة. حتى أنها أخذت تحدثني لتخفف عني حزني , قالت :

            - الأرزاق بيد الله.

            وانتهت هذه الحادثة بذلك.

            وفي الصباح التالي زارتنا زوجة الشيخ, كانت هذه المرأة الطيبة تبكي بكاء حارًا ؛ لقد جاؤوا في منتصف الليل فقبضوا على الشيخ من بيته. وعذبوه عذابًا شديدًا حتى الصباح ؛ ولم يكفهم هذا ؛

            بل قصوا له لحيته و شاربه , وتركوه في الصباح. وجاء شيخنا من عندهم إلى البيت وهو يغطي وجهه بيديه , كان حزيناً على قصّهم للحيته وشاربه أكثر من حزنه على الجروح

            التي أصابوه بها في جسده . قالت أمي :

            - وما هو ذنبه ؟

            تأوهت السيدة وقالت :

            - شاهدوه وهو يتحدث مع رئيس الحراس . فادّعوا أن له علاقة بالذين هربوا من السجن.

            أحسست عندما سمعت هذا بأن قلبي قد سقط بين قدمي , فقد قال الشيخ إنه عرف حالة ووضع أبي في السجن من رئيس الحراس , معنى هذا أن هروب أبي وإخوانه من السجن سيصيب بالضرر هؤلاء الناس. خطر على بالي ما قاله الرجل ذو الكرش الكبير الذي زارني في دكان الكتب. تُرى هل صحيح ما قاله لي؟ هل أبي فعلاً هو سبب كل هذه المصائب؟ وكأنه لم يعد كافيًا ما نعانيه

            نحن بسبب أبي , وإنا مسَّ الضُّر آخرين. لم تجلس زوجة الشيخ عندنا كثيرًا , ودّعت أمي وودَّعتني وذهبت , لم أستطع لشدة خجلي منها أن أنظر إلى وجهها . خرجت أنا بدوري من بيتنا بعد خروج هذه السيدة بقليل , كنت أريد أن أزور الشيخ في داره , لأعود من ناحية ولأعتذر

            له من ناحية أخرى. فتحت لي زوجته الباب . وعندما قلت لها إنني أريد مقابلة الشيخ نظرت إليّ برهة بتردد. قالت لي أن انتظر قليلاً , ودخلت.

            لم اعر اهتماماً لترددها , ولا بأن جعلتني انتظر قليلاً. وبعد عدة دقائق جاءت السيدة , وقالت إن الشيخ ينتظرني في الداخل.

            كان يجلس في الغرفة التي اعتاد الجلوس فيها , وفيها كان يعطينا الدروس , وكان يجلس في ركن منها كعادته . لم أعرفه , عندما نظرت إليه النظرة الأولى خيّل إليّ انه واحد آخر ينظر لي بنفس نظراته هو , ويبدو أن الشيخ فهم ما يدور بخلدي فقال :

            - ألم تعرفني يا ابني ؟!!.

            حِرتُ فيما أجيب به. عيناه ونظراته هي نفسها , وصوته كذلك. لكن وجه إنسان مختلف تماماً عن وجه شيخي الذي أعرف. وعندما وجد أنني غير مستطيع أن أجيبه أشار إليّ أن أجلس , جلست على ركبتي على المرتبة التي كانت أمامي. أخذت أفكر ... كيف أبدأ الكلام؟ لم أعد بعدُ أنظر إلى وجهه. كنت أنظر إلى المسبحة التي بين أصابعه وهو يحرّك حباتها واحدة بعد أخرى , ومرة أخرى هو المتحدث :

            - ليتهم حجزوني شهورًا عديدة , ولم يفعلوا هذا العذاب الذي فعلوه معي.

            كان صوته يرتعش. أمسكت نفسي بصعوبة حتى لا أنظر إلى وجهه , واستمر في حديثه بصوته المتقطع :

            - إنهم يعرفون جيدًا أيَّ عقاب ولمن , إنهم دفعوني بحالتي هذه إلى أن أكون هزءا , أليس كذلك يا كريم؟ انظر إلى وجهي.

            نظرت , فرأيت عينيه الساكنتين في شدة الاحمرار. قلت :

            - عفوًا معلمي ... أعتذر.

            ثم لم أستطع قول شيء , ولم أستطع أن أكمل ما كنت أريد قوله, اختنق الكلام في حنجرتي , انتظر هو أن استمر في كلامي لكي يفهم لماذا اعتذرت, وبصعوبة كبيرة استطعت مرة أخرى أن أقول :

            - أعتذر .

            نظر إلى وجهي وهو في حيرة من أمري وقال :

            - ولماذا تعتذر ؟

            قلت له :

            - والدي هو السبب في هذه المصيبة التي حلّت بك , وكذلك المصائب التي حلّت بنا نحن أيضًا.

            وفجأة انطلق واقفًا على قدميه وقال بصوت غاضب

            مرتفع :

            - من قال هذا الكلام الفارغ ؟.

            لم أرَ معلمي محتدًّا من قبل قطّ مثلما أشاهده الآن. كان من الضروري سرعة تقديم إجابة أمام موقفه المحتد هذا.

            بلعت ريقي مرة أو مرتين ثم قلت :

            - واحد من جيران دكاننا قال هذا ؛ لو قعد أبي في بيته ولم يتدخل في شيء

            قطّ لما حدثت كل هذه المصائب التي أصابتنا .

            احمر وجهه بشكل ملحوظ , كانت شفتاه ترتعشان من شدة غضبه , وضع يديه الضخمتين على كتفيَّ وبدأ يتحدث بكلمات واضحة :

            - استمع إليّ جيدًا يا كريم , لو لم تكن طفلًا صغيرًا لحاسبتك كثيرًا وعاقبتك على هذا الكلام الذي قلته . الأعداء يدخلون ديارنا , وديننا يأمرنا بحربهم . ومن يؤمن بالله ويحب دينه , ويحب وطنه , عليه أن يشترك في هذه الحرب. الخونة والجبناء فقط هم الذين لا يتدخلون في شيء قطّ , ويتفرجون أو يشتركون في صفوف الأعداء . لقد أثبت أبوك أنه مسلم متين قوي الإيمان بانضمامه إلى المجاهدين , ولذا مهما حدث لكم فستجدون مقابله وجزاءه يوم الحساب.

            شعرت بالراحة والسرور . وفهمت الحماقة التي ارتكبتها عندما بدأت أغضب من أبي، فغضبت من نفسي ..

            والدي حبيبي يحارب الآن ضد العدو !! هذا العدو الذي احتل وطننا , لابد أن افتخر

            بهذا !! واعتذرت لمعلمي الشيخ لأني فكرت خطأ, وهو حدثني بدوره حديثًا طويلًا

            عن حب الوطن وضرورة الحرب في سبيله , وقال لي أنه سيأتي عليّ يومٌ أدركُ فيه

            هذه الأمور جيدًا . وبعد أن أديت واجب الزيارة وهممت بالخروج قال لي :

            - تعال غدًا , سأتحدث معك في مسألة هامة.

            تركته وكلّي اهتمام وشوق لما سيقوله لي غدًا , وعندما وصلت منزلي لم يكن يشغل بالي إلا هذا .

            ** ** **

            كنا تعودنا مع الزمن على أصوات الأسلحة وأزيز الطائرات وأصوات القنابل. في البداية كنا نجتمع أمام النافذة عند سماع هذه الأصوات نتابع ونخمن باهتمام وفضول مصدر الأصوات وماهيتها. أما الآن فقد أصبحت هذه الأصوات جزء من حياتنا. وبدأنا نخاف من الليالي التي لا نسمع فيها هذه الأصوات.

            وفي اليوم التالي أخذت أمي المواد التي تبقت من الدكان , وقالت لي أن أعيدها إلى بائع الجملة الذي نتعامل معه. عملتُ ما قالته أمي, وعمل بائع الجملة الحساب وقال إنه سيخصمه من دَيْنِنَا عنده, وطلب مني أن أمر عليه في اليوم التالي , وسألته عن الدَيْن الذي علينا , فابتسم وقال :

            - الواقع أن ما عليكم من نقود , كثير. لكني أعرف حالكم. وأحوال العمل هذه الأيام رديئة. ولو فتحنا الدكان يوماً لا نستطيع فتحه يومين. وعندما قلت لك إنني سأعمل حسابكم , لم أقل هذا لكي أطلب الدين الباقي عليكم أنا أعمل هذا لمعرفة الحساب فقط, وهذا سأضع عليه خطّاً . مُرّ عليّ غداً فإذا كان في الخزنة شيء ما فأعطيك قليلًا من النقود.

            وعندما أنهى كلامه, ابتسم ومسح على شعري , استأذنته لأعود إلى البيت.

            وأخذت أفكر وأنا في الطريق فيما قاله الرجل , معنى هذا أن ما في الدكان قد ذهب, وفوق ذلك أصبحنا مديونين وسيقوم الرجل بوضع خط على هذا الدين يعني سيعفينا منه. وفوق هذا فإنه غدًا سيساعدنا ماديًا بقدر استطاعته. كنا بالأمس من أصحاب الدكاكين أما اليوم فقد أصبحنا في حاجة إلى مساعدة الآخرين ماديًا وما علينا إلا أن نتحمل كل هذا , ونصبر على كل ما يصيبنا , هكذا نبّه عليّ معلمي الشيخ , ولن نتمرد على هذا . وسنشكر الله على كل ما يصيبنا .

            حكيت لأمي عندما عدت إلى البيت ملخصًا لما حدث. وعندما قالت لي أن الشيخ ينتظرني خرجت من البيت دون أن أقعد.كان معلمي الشيخ قد نبّه على زوجته بأنني سأحضر عنده وأنه ينتظرني فجلست في غرفة الدرس وأخذت في انتظاره . وطالما أنه نبه على زوجته , إذن فما سيقوله لي هام جداً بالضرورة , وكان هذا ما يزيد في قلقي أثناء انتظاري لحضوره , كنت أريد أن أنسى الاضطراب الذي يتولد من هذا القلق , وبدأت أقرأ في صفحة فتحتها مصادفة في كتاب من الكتب، وأحسست أنني لم أفهم كلمة واحدة من هذه الصفحة وأن ذهني مُنصبٌّ إلى شيء آخر مع إنني انتهيت من قراءة الصفحة.

            دخل معلمي الشيخ إلى الغرفة وفي يده علبة صغيرة ، نظر إلى وجهي مبتسمًا ، وعندما جلس في مكانه سألني عن حالي فقلت له إن حالي طيب وشكرت له سؤاله هذا ، ركّز عينه على عينيّ برهة وانتظر هكذا بلا صوت ثم بدأ يتكلم كلمة كلمة فقال :

            - كل ما سنتكلم به الآن هو سرٌّ بيني وبينك .

            أحسست بأنني في غاية الارتباك من جراء هذا القول . واستطعت أن أقول له :

            - نعم .

            استمر هو بنفس نبرة صوته قائلا :

            - لن تفتح هذه الموضوعات لأقرب أصدقائك بل حتى ولا لأمك ، .... تمام ؟ .

            - حسنًا .

            - والآن أجب على سؤالي دون أن تنفعل : هل تريد أن ترى والدك ؟ .

            أيمكن ألا أنفعل ؟ لقد شعرت أن قلبي أصبح يدقُّ دقًّا سريعًا قويًا متصلاً ، قلت له على الفور :

            - بالطبع أريد أن أراه .

            - سأرسلك إلى أبيك ، ذلك لأنه هو الآخر يريد أن يراك . وليس لديه أية فكرة عن أنكما سيتصل بعضكما ببعض .

            - أين أبي؟ .... هل هو في مكان قريب من هنا ؟ .... و متى سأذهب ؟

            لقد سألته هذه الأسئلة في عجلة ظاهرة حتى إن معلمي الشيخ لم يتمالك نفسه من الابتسام .

            - قلت لك ألا تنفعل

            حاولت أن أهدأ . فتح معلمي الشيخ بعد قليل العلبة التي أتى بها ، ظهر منها قميص يشبه القميص الذي أرتديه . بلغ انفعالي أشده فقلت له :

            - يا شيخنا إني في غاية الفضول والشوق لمعرفة الأمر .

            استمر هو في ابتسامه ، وقال :

            - أرتدِ هذا القميص .

            وبدون أن أنبس ببنت شفة ، خلعت القميص الذي أرتديه ، وأرتديت ذلك القميص بدلاً عنه . كان ضيقًا بعض الشيء . أو على الأصح إن القميص الذي خلعته كان واسعًا قليلاً . والجديد كان عاديًا لكني ظننته ضيق . قال معلمي الشيخ :

            - جميل ! ستذهب إلى أبيك بهذا القميص .

            ومرة أخرى لم أستطع أن أفهم شيئًا قط . القميص الذي كنت أرتديه وخلعته الآن لا يعتبر قديمًا . إنه مثل الذي أرتديته الآن . الفرق الوحيد بينهما ، أن الذي أرتديه مغسول حديثًا .

            لم يفطن عقلي لحكمة هذا التغيير وتبديلي القميص . استعاد الشيخ القميص بعد أن خلعته وطلب مني إرتداء قميصي ، وبعد أن نفذت ما طلبه مني . أجلسني مرة أخرى أمامه ، وأخذ ينظر إليّ مليًا ، وقال :

            - اذهب إلى أمك الآن ، قل لها إنك وجدت عملاً جديدًا ، ستذهب إلى القرى القريبة وأنك ستجمع مال التجار، وأنك ستعود إلى بيتك مرة كل يومين . وقل لها إني أنا الذي وجدتُ لك هذا العمل ، وأنه سيكون معك شخص كبير موثوق فيه . واجعلها ترضى عن هذا العمل .

            - هل ستجمع نقودًا من القرى ؟ .

            - لا يا كريم ، ستذهب إلى أبيك ، وينبغي ألا يعلم أحد بذلك بما فيهم أمك .

            - ألا يكون من الخير أن تعلم ؟.

            - نفّذ ما أقوله لك . ستقول لها مستقبلاً إذا لزم الأمر .

            - كما تريد

            - إذن هيّا اذهب إلى البيت واستعد للسفر . وإياك أن تنسى ما قلته لك .

            لم أجد أمي في البيت عندما دخلته ، فانتابني خوف فظيع .وسألت عنها بعض الجيران . فقالوا إنهم لم يروها .

            لم يكن في يدي شيء غير أن أجلس وأنتظر ، وأخيرًا وصلت أمي ، إذن كانت مخاوفي لا محل لها . كانت أمي قد ذهبت إلى أحد أقاربنا لتطلب منه طعامًا . ولم يكن وضع أقاربنا هؤلاء بأفضل من وضعنا . ومع ذلك فقد لفوا أربعة قطع من الخبز وأعطوها لنا . شكرنا الله . بلَلْنا خبزنا بالماء وأكلناه .

            كنت أفكر وأقول لنفسي ؛ إننا نرضى بالجوع ، يكفي أن تكون أمي ، وأبي بخير . عانينا بما فيه الكفاية .لقد هزّنا جدًا موت أخي الكبير . لو كان موجودًا ، ما كنا اليوم بهذا الضيق . كان شابًا يافعًا . كان أكبر مني بأربعة أعوام . كان يساوي أبي طولاً . كيف قتلوا أخي ، تذكرت تضرجه في الدماء . واحد من الذبن شاهدوه عند ضربه قال إنه سأل عنا وكان يصيح مناديًا أمه . نظرت في عيني أمي ، شيء جيد أنها لم تعرف ما يجول بخاطري . ولو أنها عرفت ما أكلت الخبز الذي بيدها . عملت كل ما في وسعي لكي لا أُذكٍّرها بأخي الكبير. وكذلك لجعلها تنسى عندما تتذكره .

            قلت لأمي أثناء أكلنا الخبز كما نبه علي معلمي الشيخ ، إني وجدت عملاً جديدًا ، وإننا سنجمع نقود بعض التجار من القرى القريبة ، وأن معي شخصًا كبيرًا موثوقًا فيه . ولم تعترض أمي لأن الواسطة في هذا هو معلمي الشيخ وكانت تحترمه لكنها قالت :

            - لو وجدت عملاً هنا . وتأتي للبيت كل مساء ، لكان ذلك أفضل ، فالجنود يقفون على مداخل البلد وخارجه . وقد يقبضون عليك بأيّ حجة ، وأموت أنا كل ليلة وأحيا من القلق .لا أستطيع أن أتحمل أي سوء يحدث لك .

            - لاتقلقي يا أمي . أنا سأذهب من الطرق الجبلية وليس من الطرق التي يسيطر عليها الجنود . ثم إني سآتي بالتأكيد إلى البيت مرة كل يومين .

            قالت أمي :

            - آمل هذا إن شاء الله

            - إن شاء الله

            انكببت سريعًا على تحضير لوازمي ، ولم يكن هناك أي داع لأخذ ملابس داخلية نظرًا لأني سأعود بعد يومين ، ولم يكن الأمر يحتاج إلى زاد للطريق ، فكل ما في البيت ثلاثة أرغفة من الخبز..

            وتركتها بالضرورة لأمي . كل ما حدث هو أني استحممت وغيرت ملابسي الداخلية . وكانت هذه أول في حياتي أخرج من البيت على ألاّ أرجع مساء

            احتضنتني أمي وضمتني إلى صدرها . وظلت ذراعاها فترة طويلة ممسكة بي لم تتراخ . وأحسست بنزول دموع عينيها الدافئة بين شعري . قبلت يدها وخرجت لآخذ طريقي ، وعندما وصلت إلى منزل الشيخ ، وجدته ينتظرني على باب بيته . قلق لأني تأخرت . وحدثته باختصار عن السبب . هز رأسه مصدقًا . وعندما دخلت الغرفة كانت الثلوج في الخارج قد أخذت تهطل .

            طلب مني أن أخلع القميص الذي أرتديه لأرتدي بدلاً منه القميص الذي جربته من قبل . وفعلت ما قاله . وعلى ورقة بيضاء أشار إلى نقاط تمثل كابول والقصبات التي حولها والقرى القريبة ، وكان المكان الذي علي أن أذهب إليه قرية جبلية في الشمال ، أبي وإخوانه هناك ، ذهب أبي إلى هذه القرية قبل ستة أشهر . وكانت الطرق آنذاك مفتوحة لأن الموسم كان صيفًا . لكن الآن كل الأماكن مغطاة بالثلوج . بدأت أخاف خشية أن أضل الطريق جارفة لرؤية أبي ، لذلك وضعت نصب عينيَّ تحمُّل أيَّ مصاعب وخطر قد يأتي . ولم أقل لمعلمي عن خوفي هذا شيئًا . ولأنه يعرف أن الثلوج قد أغلقت الطرق فقد حدثني عن الإشارات التي ينبغي لي مراعاتها في الطرق ، سأذهب إلى الشمال مقدار نصف ساعة ، وسأخرج من طريق على أوله بئر وأصعد نحو التل ، ورغم وجود الثلوج فإن الطريق سيكون واضحًا ، سأعرِّج قليلاً نحو الشمال من أمام صخرة كبيرة فوق التل ، سأتجه إلى تلَّين بينهما مكان عميق ، وكان علي أن أعبر من الطريق الكائن بين هذين التلين ، وعندما أدور خلف التل الذي في اليمين سأرى القرية .

            كرّر لي هذا التعريف بالمكان عدة مرات . وعندما اطمئن أني فهمت جيدًا قال :

            - إذن هيّا . ولا تضيع وقتك . وإذا خرجت الآن ستصل قبل حلول الظلام .

            - حسنًا

            قَبَّلْت يده ، وأخذت طريقي سريعًا . وعندما خرجت من المدينة بدأت أحسُّ بشدّة البرد بركبتيّ . ولم تكن قدماي تبردان لأني كنت أرتدي جوربًا من الصوف ، وأسرعت الخطى . وكان هذا حسنًا لأنه فَعَلَ فِعْلَهُ في التسخين من ناحية وساعد على سرعة وصولي إلى القرية . وجدت الطريق ، الذي يبدأ بالبئر ومنه تسلقت فوجدت بسهولة الصخرة الكبيرة التي يجب أن أصل إليها ، و وجدت نفسي بعدها أمام أرض منبسطة ، وهناك في الأمام كانت الجبال والتلال عبارة عن سلاسل لا نهاية لها ، كل مكان كان شديد البياض . كانت الثلوج تنزل خفيفة ولكن المتراكم منها على الأرض كثيف جدًا يصل حتى ركبتيَّ . نظرت بدقَّة إلى التلال فوجدت تلَّيْن مرتفعين حُفر بينهما فجوة كأنها واد ، وأخذت في السير إلى ذلك الجانب . وصلت سريعًا لأن الثلوج التي تغطي الأرض أسفل الوادي لم تكن عالية كثيرًا . لكني كنت أجد صعوبة في نقل ووضع قدميَّ على الصخور ، بحيث أني عندما وصلت إلى الوادي لم يكن في قدميَّ أيَّ قوة . رأيت فجوة أشبه بمغارة بين الصخور ، وعمق المغارة حوالي ثلاث خطوات ، ولم يكن فيها ثلوج كما كانت دافئة عن خارجها . استرحت في هذه الفجوة قليلاً ، ودعكت لعدَّة دقائق ركبتيَّ وذراعيَّ الباردين . وكنت لم أنم إلاّ قليلاً في المساء ، فأحسست وكأن عينيَّ قد أسدلتا ، تصورت أن وقت العصر قد حلّ ، حاولت معرفة اتجاه القبلة وصليت ، وعندما كنت أدعو عقب الصلاة إذا بي أسمع صوت هدير مُحَرِّك . نظرت دون أن أخرج تمامًا من الفجوة ، كانت طائرة هليوكوبتر عسكرية تتجه نحو كابل ، ولأنها كانت بطيئة جدًا فإنها بالضرورة كانت تراقب المكان ، كان دخولي هذه الفجوة معجزة إذن !! لو كانوا رأوني في الأرض المنبسطة لكانوا طبعًا نزلوا . الحمد لله !! . وعندما ابتعدت الهيلوكوبتر جيدًا ، أخذت طريقي ثانية ، استغرق عبوري الوادي الذي بين الجبلين مقدار ساعة أو أكثر، أما التفافي خلف الجبل الذي على اليمين كان صعبًا للغاية . اتجاهي صحيح لأني أرى القرية لكني ضللت الطريق ، لهذا السبب كنت أتقدم بصعوبة بالغة ، ولقد جاء علي وقت تصورت أني لن أستطيع أن أخطو خطوة واحدة ، كل الأماكن هنا صخرية كنت إذا سرت جيدًا في ناحية ، أجد آخرها مغلقًا عليّ ، وبينما كنت أفكر وأنا على الصخور الصغيرة التي غطتها الثلوج تمامًا ، أحسست في ركبتي اليمنى بألم وكأنها تحترق . ويعني ذلك أني قد جرحت ، لم أكشف عنها ولم أنظر فيها ،عدت بعد أن كدت أتيقن من أنني ابتعدت كثيرًا عن الطريق ، وكنت أضع خطواتي بدقة حتى لا أقع . وبقيت على هذا السير الصعب قدر ساعة وفي آخرها وجدت الطريق وعندما وجدته أخافني صوت محرٍّك يأتي من الأمام ، وعلى القرية التي أقصدها ، تمامًا . كانت هناك طائرة عمودية تتجه نحوي فألقيت بنفسي سريعًا ارضًا و زحفت حتى احتميت جيدًا بجدار صخرة كبيرة . وكان من الصعوبة أن يلاحظوني من فوق لأن ملابسي كانت بيضاء. وفوق هذا بدأ الليل يحل على المكان . وفي هذه الأثناء خطر على بالي احتمال رهيب . هذه الطائرات العمودية إنما تأتي دائمًا من ناحية القرية . وقد قال لي شيخ القرية ومعلمها أن أبي وإخوانه يقيمون في هذه القرية . أوَ ربما أخذوا خيرًا بهذا فجاؤوا لمهاجمة القرية ؟

            وقد يكونوا قد قبضوا بالفعل على أبي وصحبه . والأمر الأدهى من ذلك أنهم سيفعلون بهم ... لا لا .. لا أريد أن أفكر فيما بعد ذلك .

            طارت الطائرة العمودية واختفت خلف التلال ،وعند ذلك لاحظت أني ألتف جيدًا وأحتضن الصخرة التي أتمدد بجانبها ، في هذه اللحظة تذكرت ما حصل معي قبل ثلاث سنوات في كابول ، ففي منتصف إحدى الليالي كانت القنابل قد توالى انفجارها ، يومها نهضت من مكاني مذعورًا ، ومن شدة الخوف لازمت جانب أمي ، واحتضنتها بقوَّة كما أحتضن الصخرة الآن.

            بدأ الليل يسدل أستاره ، فخرجت إلى الطريق وبدأت السير نحو القرية وبعد نصف ساعة كنت قد اقتربت من أول بيت في القرية ، والبيت المقصود كان الرابع من هذا الصف على حدِّ قول شيخي ، وجدت ذلك البيت بحديقته وله اصطبل طويل في فنائه ، وكان باب الحديقة مفتوحًا . دخلت فيه بتردد ، وعندما وصلت إلى باب البيت ، سمعت أصواتًا تأتي من الداخل وسكتت هذه الأصوات عندما طرقت الباب ، انتظرت برهة ، ثم طرقت الباب مرة أخرى . فتح أحدهم النافذة الجانبية، وكان عجوزًا . قال :

            - ماذا تريد أيها الصبي ؟

            - أريد رؤية أبي .

            قال العجوز الذي لم أرَ ملامح وجهه جيدًا :

            - ابن من أنت أيها الولد ؟

            - اسم والدي عمر .

            ولا أدري إن كنت أكملت جملتي هذه أو لم أُكملها ، لأن الباب انفتح بسرعة البرق وإذا بي بين ذراعين قويين ولم يكن هناك زمن بين فتح الباب واحتضان هاتين اليدين لي .


            - كريم ، يا ابني ، كيف استطعت المجيء إلى هذا المكان ؟ فهمت من احتضانه لي في صدره وحديثه هكذا أنه أبي . وهو لا بد أن يكون قد عرفني من صوتي ، وإلا ما كان ليفتح الباب بسرعة البرق هذه .

            استطعت رؤية وجه أبي عندما دخلت إلى غرفة يضيئها مصباح غاز ، كان قد نحل جسمه واسود وطالت لحيته كثيرًا ، وكان هو بدوره ينظر إلي وفي عينيه بريق الحب والشوق .

            - كيف جئت إلى هنا ؟ .... وكيف وجدتني ؟...

            - أرسلني الشيخ .

            - شيخنا ؟.

            - نعم .

            - هل الشيخ مصطفى هو الذي أرسلك ؟.

            - نعم ، إنه شيخنا ومعلمي .

            كان الذي سألني هذا السؤال هو الرجل الجالس في الركن ، وكان ضخم الجثة ، قاسي النظرات ، شعر لحيته أغبر اللون .

            - هل جئت بالأخبار التي ننتظرها ؟

            نظرت إلى وجهه بدهشة . ولم أستطع فهم شيء قط مما قاله .

            - أنا لم آت بأي خبر أو خلافه . لم يقل لي الشيخ شيئًا قطّ .

            ضحك وكأنه يسخر بي .

            - معنى هذا أن لا خبر لديك .

            ولم أستطع الإجابة عليه من شدة دهشتي !!

            نظرت إلى وجه أبي ، كان بدوره مندهشًا !

            قال الرجل الضخم ذو الشعر الأغبر ، لأبي :

            - اخلع قميص الولد ، الأخبار في القميص ..

            خلعت في لحظة القميص الذي أرتديه والذي أعطانيه شيخنا وقدمته للرجل . فأخرج الرجل سكينًا من جيبه وفكّ به أماكن الخياطة في القميص من الأول إلى الآخر ، فكانت تخرج من الأماكن التي فكّ خيطها أوراق رقيقة كأنها شريط مكتوب عليه . تجمع كل الذين في الغرفة حول الرجل في شكل حلقة . كانوا يدققون في الشرائط التي أخرجها بيديه الكبيرتين ، في ذلك الوقت فقط فهمت لماذا ألبسني شيخنا هذا القميص !! وبتأثير التعب الذي أصابني أسندت ظهري على الحائط ومددت ركبتيّ ، عند ذلك أحسست بالألم الذي في ركبتي اليمنى ، وصدرت عني آهة خفيفة غصبًا عني ، نظر والدي إلى عينيّ بقلق ورأيته في تلك اللحظة يمسك بركبتي . شمّر عن ساقي وأراد رؤية السبب الذي جعلني أئن هكذا ، فوجد جرحًا عميقًا تحت مفصل الركبة ، أثارت حركة أبي هذه اهتمام كل الموجودين في الغرفة .

            ولما سألني الرجل الضخم ذو اللحية الغبراء - الذي يطلقون عليه " الرئيس " - مستفسرًا عن سبب الجرح قلت:

            - ضللت طريقي بين الصخور . وسقطت عدة مرات . وليس هذا بأمر هام . بدأ الجميع بالاهتمام بي ، بللوا القماش الذي التصق بالجرح من ثيابي بالماء ونزعزه عنه .ضغطت على نفسي كثيرًا حتى لا أصرخ . تحت مفصل ركبتي جرح غائر مما جعل الدم يملأ كل ساقي حتى قدمي . أحسست بأنّ رأسي تدور وأنّ غثيانًا أصاب أمعائي عندما قام الرجل العجوز بتنظيف الجرح ، فأخذت أضغط بكل قواي على ذراع أبي . وكان أبي يربت على شعري ويمسحه وفي هذه الأثناء أصابني الإغماء .

            استيقظت في الصباح على صوت والدي ، يقول :

            - يا كريم ، إننا لم نستطع التحدث معًا مساء . كيف حال أمك ؟ .

            - طيبة .

            ثم حكيت له ما حدث في كابول . تضايق عندما حدثته عن الأذى الذي أصابنا وعن إفراغهم لمحتويات الدكان ورأيت كيف تغير لون وجهه من شدة الغضب وكيف احمرت عيناه من جراء ذلك .

            ركَّز نظراته في الفضاء وسكت عن الكلام فترة . ثم كشف عن ركبتي الجريحة . سألني :

            - هل تتألم ؟.

            - إنها أصبحت طيبة الآن .

            والواقع أن ركبتي لم تعد تؤلمني كثيرًا ، لكني ما زلت أُحسُّ بألم خفيف فيها . عندما جلست على ركبتيَّ عند شرب حساء الصباح ، اضطررت إلى مدّ ركبتي اليمنى والجلوس .

            هذا الذي نشربه - وكنا نحو سبعة أشخاص - ويسمونه حساءً ، كان عبارة عن وعاء من الماء الساخن في داخله خبز جاف . والسبب في قلَّة الطعام هذا ، أن كل ما في يد القرويين قد أخذه العسكر الأعداء .

            (( إن المسلم لم يخلق ليندفع مع التيار ولا ليساير الركب البشري حيث اتجه وسار بل خلق ليوجه العالم والمجتمع والمدنية ويفرض على البشرية اتجاهه ، ويملي عليها إرادته ، لأنه صاحب الرسالة وصاحب العلم واليقين.. لأنه المسؤول عن هذا العالم وسيره واتجاهه فليس مقامه مقام التقليد والاتباع ، إن مقامه مقام الإمامة والقيادة ، ومقام الإرشاد والتوجيه ، ومقام الآمر الناهي ))

            الشاعر الباكستاني محمد إقبال

            تعليق


            • #7

              النيران في داخل كابول
              ( الفصل السادس ..)



              قال لي أبي يجب أن أنام حتى المساء لأستريح ، وعندما يهبط الظلام سنذهب إلى كابول ، سألته بفرح ظاهر :

              - نروح البيت عندنا ؟.

              ابتسم بأسى ، وقال :

              لدينا أعمال نعملها . لا تقل لأمك أنك رأيتني . ومعلمك الشيخ سيرسلك إلينا مرة أخرى وقد نكون هنا . وقد نكون في مكان آخر . الشيخ مصطفى يعرف أين نحن .

              - بابا ، ألن تأتي إلى البيت ؟.... ألن ترى أمي ؟.

              ابتسم مرة أخرى بمرارة ، أطرق وجهه إلى الأرض ، وتحدث قائلاً :

              - يا بني ! لو ذهبت إلى البيت ، سأسبب لأمك بلاء كثيرًا ، في شارعنا خائن ، ولم أستطع معرفة من هو ، لكن ما أعرفه يقينًا هو وجوده . وعليك أنت بالتالي أن تكون حذرًا في حركاتك وكلامك.

              مسح على شعري وضمني إلى صدره ، وكنت أحس في نفسي بالقوة و أنا بجانب أبي .

              في ذلك اليوم نفذت نصيحة والدي واسترحت حتى المساء ، وعندما اشتد الظلام خرجنا وأخذنا طريقنا . التي توصلنا إلى المدينة عبر الجبال والتلال المغطاة بالثلوج ووصلنا كابول ، تركتهم خارج المدينة . وقبل أن أفارقهم احتضنني والدي للمرة الأخيرة مودعًا ، وقال :

              - ستسمع الليلة انفجارات مروعة هذه الليلة . وإياك أن تخاف .

              تواعدنا وعدت أنا إلى المنزل من الشوارع الخلفية ؛ ذلك لأن من الخطر الكبير الخروج إلى الشارع الرئيسي أو الشوارع الكبيرة في مثل هذه الساعة ، فالجنود الروس مع الجنود الأفغان الخونة المتعاونين معهم ، يتجولون في دوريات مستمرة ، ومن يقبضون عليه ليلاً يعذبونه كثيرًا .

              كان الليل قد انتصف عندما دخلت البيت وكانت سماء كابول تزدان بالأضواء . والجو اليوم بالنسبة لليوم الماضي كان دافئًا . وضوء القمر ينعكس على الجبال الثلجية فيضيء كابول بالضوء الباهت . دلفت إلى الداخل من الباب الآخر ، سمعت صوت أمي ينادي :

              - كريم ! ... أَهُوَ أنت يا بني ؟.

              - نعم يا أمي .

              لم يكن في الغرفة ضوء ، مسحت أمي في الظلام بيدها على شعري وعلى وجهي ، وقبّلتني ،وشمَّتني ، وأمسكتني من كتفي ، وأخذتني إلى النافذة ، وكانت تريد أن ترى وجهي في

              ضوء القمر، قالت لي بصوتها المُتقطع :

              - لا تذهب ... لا تذهب مرة أخرى ... مفهوم ؟ يا فلذة كبدي .. على الأقل لا بد أن تكون بجانب أمك لا تدري كم عانيت وأنا وحيدة منذ يومين .

              نظرت إلى شعرها المُضطرب، و وجهها الذابل، وإلى عينيها التي تنزل منهما الدموع مرارًا، وأحسستُ أن قلبي يضطرب ومضت هي في حديثها :

              - إننا محرومون من الأكل، ومن الضوء، ومن والدك ... ومن أخيك الكبير، فكن أنت معي على الأقل .. اتفقنا يا ابني يا حبيبي ؟ ... لا أستطيع تحمّل بعدك عنّي .

              - لكني سأذهب يا أمي .

              لا أدري لماذا قلت هذا، كنت أستطيع الانتظار حتى الصباح لكي أقول لها هذا، خرجت الكلمات عنوة من لساني . احتضنتني أمي وهي تبكي وتنتحب وتقول :

              - لا يمكن أن أتركك تذهب، لن أرسلك مرة أخرى أنا، سأجد عملًا وأعمل، لا أستطيع تحمل هذه المرارة في سبيل لقمة أو لقمتين .

              صدر أمي كان ساخنًا، وَنَفسُها محرق، ودموع عينيها دافئة، قلب أمي كان مجروحًا، وصوتها ينضح ألمًا .. قلت لها لكي أسرّي عنها :

              -إذا لم توافقي يا أمي، فلن أذهب ... بالله عليك لا تبكي بعد الآن .

              - عدني بأنك لن تذهب، ساعتها لن أبكي .

              سمعنا في هذه اللحظة صوت انفجار فظيع، نظرنا إلى الخارج عبر نافذتنا الصغيرة، يبدو أن الصوت كان قريبًا جدًا، احتضنتني أمي خوفًا عليّ، وهي تردد بعض الدعاء .

              وسمعنا صوت انفجار آخر، ولم يكن قد مضى على الانفجار الأول ثلاث دقائق، وخلال عشر دقائق كانت الانفجارات يتلو بعضها بعضًا، وكانت أصوات صفارات الإنذار تدوّي، وأنير وجه السماء بغتة، وأنارت أضواء الحرائق الصادرة من كل مكان في السماء وكأن كابول كلها تحترق، كانت ألسنة اللهب المرتفعة في شكل موجات، واضحة مرئية جيدًا، من فوق الأسطح .

              توقفت أصوات الانفجارات لكن أصوات صفارات الإنذار ما زالت تدوّي، شعرت أن أمي في غاية الخوف، إنها بالتأكيد لن تُصدّق إذا قلت لها إن لديّ علمًا بهذه الانفجارات، وإن أبي واحد من هؤلاء الذين أشعلوا النيران، وأنه شارك في هذه الانفجارات، أحسست برغبة جارفة لأن أحكي لها هذا كله، لكني لم أستطع، قد أكد عليّ الشيخ معلمي وكذلك أبي تأكيدًا شديدًا بألَّا أُخبر أحدًا عن أيِّ شيء، لم أُفصح لأحد هذا السر حتى لأمي التي أحبها حبي لروحي .

              وفي اليوم التالي وعند خروجي إلى الشارع لرؤية الشيخ، إذا بسيدة من الجيران تطلب مني أن أعود للمنزل فورًا، لأن الخروج إلى الشوارع أصبح ممنوعًا، قالت لي هذا وهي في نافذتها . كانت هذه السيدة هي زوجة المُدرّس الذي انتقل بيته حديثًا إلى منطقتنا، ثم ظهر المدرس من النافذة وقال :

              - احترقت كابول حتى الصباح، ألم تسمع الراديو ؟ نعم صحيح إنك لم تكن هنا .

              قال هذا ثم أردف قائلًا :

              - هل عُدت إلى البيت من قريب ؟

              قلت :

              - سمعنا الانفجارات في الليل، لكن ليس لدينا مذياع .

              كانت المسألة التي دقق عليها هي أين كُنتُ أنا ليلة أمس، وكنت أجيبه بإجابات هروبية وتذكرت كلمة أبي في شارعنا خائن ، ومن المُحتمل أن يكون هذا الخائن هو هذا المُدرّس، عدتُ إلى البيتِ فورًا خوفًا من كلمة تخرج من فمي دون قصد، وحدثت أمي عن شكوكي في هذا المُدرّس وبالطبع لم أحدثها عن شكوك أبي، فكرت أمي طويلًا ثم قالت :

              - أخاف أن نذنب بتفكيرنا هذا، إن مجيئه إلى هذا الشارع لم يتجاوز الشهر، لا ندري بعد أصله وفصله .

              وعندما قالت أمي هذا، لم أعد أفكّر في هذا الأمر بَعد، لكني وضعت أمام هذا المدرس علامات استفهام، كيف يمكن لجارٍ جديد أن يلحظ أنني لم أكن موجودًا في بيتي منذ يومين ؟ عندما كلمني سألني عن والدي بقوله : كيف حال والدك؟. وليس بيني وبين أمي أدنى اتصال .

              كل ما حدث أنهم عندما انتقلوا حديثًا إلى شارعنا زارهم والدي - كالعادة المُتبعة -، وقال لهم أهلا بكم، هذا كل ما بيننا وبين جارنا المدرس وأسرته .

              لم أستطع الخروج من البيت مدة يومين وليلتين، وليس في بيتنا شيء نأكله، وفي مساء اليوم التالي الذي نستطيع الخروج فيه من البيت، جاءت زوجة المدرس ومعها خبز وزيت وأرز. وجدت الفرصة لأقول لأمي إذا سألتك هذه السيدة عن أمر فلا تجيبيها بشيء .

              كنت مؤمنًا بأن زوجها هو الذي أرسلها إلينا لمعرفة شيء عنا، وعلى عكس ما فكرت فيه، لم تسأل المرأة عن أي شيء !!، تركت لنا ما أحضرته وقالت :

              - وزَّعتُ على الجيران بعض الخُبز، وأحضرت هذا لكما ولا تؤاخذاني، كان وجهها نقيًا، ولم تكن تصطنع الأسى علينا، وضعت أمي ما معها وجلست عدة دقائق .

              وعندما وضعت أمي الأشياء التي أحضرتها المرأة في الغرفة الداخلية، ذكرت أمي ثانية بأن لا تتكلم، فقد لا يكون لدى هذه المرأة، أي خبر عن خيانة زوجها .

              وفي اليوم التالي أصبح التجول في الشوارع صباحًا مسموحًا به، فذهبت فورًا إلى شيخي وحدثته بما جرى، وحدثني هو عن أماكن الانفجار في المدينة، وقد كانت هذه الضربة درسًا جيدًا للخونة، لقد احترق مبنيان كبيران يسكن فيهما الروس، احترقا تمامًا، وتم تدمير مركزين للشرطة تدميرًا تامًا، وقد قبضوا على ثلاثة مجاهدين كانوا قد جرحوا عند تنفيذهم عملية حرق السجن وإطلاق سراح السجناء .

              لم يكن بينهم والدي، ثم هرب منفذو العمليات ولم يعلم أحد بأماكنهم، لكن الحكومة أخذت تعذب المجاهدين الثلاثة الذين قبضوا عليهم جرحى تعذيبًا وحشيًا، ولو استطاع رجال الحكومة أن يجبروا المجاهدين الجرحى على الكلام فربما يُقبض على والدتي وعليَّ سريعًا .

              سررتُ لحدوثِ هذه الحرائق وسلامة أبي، لكني ابتأستُ كثيرًا عندما فكرت في المُجاهدين الثلاثة الذين قبضوا عليهم، وما يُعانونه وما سيُعانونه من تعذيب كما خفت كثيرًا من المصيبة التي ستحل بنا إذا أجبرتهم الحكومة على الكلام ..

              قال لي الشيخ أن أعود إلى المنزل وأن أكون على اتصال به كل فترة، توادعنا وافترقنا، وعندما اقتربتُ من البيت تذكرتُ بائع الجُملة الذي نتعامل معه وكان قد طلب مني أمرّ عليه ولم أستطع نظرًا لذهابي إلى القرية، ثم لعدم استطاعتي الخروج من بيتي يومين، وسريعًا عدت وذهبت إلى دكان تاجر الجملة، استقبلني الرجل ضاحكًا، وسألني لماذا تأخرت عليه، وكنت مضطرًا أن أقول له

              بأنني كنتُ مريضًا. قال لي :

              - سلامتك . اجلس هنا قليلًا، وأنا سأرجع حالًا .

              جلستُ في الدكان حوالي نصف ساعة، لم يحضر أثناءها إلى الدُّكان أي مشترٍ وكان في الدكان شاب في حدود العشرين من عمره يجلس أمام الخزانة وقد أستند يديه إلى ذقنه واستغرق في تفكير عميق، ولم يتحدث معي قطّ، وكانت تعابير وجهه تنم عن الكدر الذي يعانيه .

              وبعد نصف ساعة جاء تاجر الجملة صاحب الدكان وفي يده علبة كبيرة بعض الشيء، قال وهو يعطيني الجملة :

              - معذرة ... إن هذا لن يكفي مدة طويلة ... ولا تؤاخذني .

              استلمتُ العلبة وشكرته وانصرفت، رأيتُ في الشارع وأنا مُتّجه إلى منزلي جمعًا حاشدًا في الشارع الكبير، سرت نحو هذا الجمع وأنا أتطلع في فضولي، كان هناك مئات الشباب يسيرون في الشارع الكبير مُتَّجهين نحو الميدان وأخذتُ أنا بدوري أسير معهم نحو الميدان واتخذت طريقي رصيف الشارع، ومن ناحية الميدان كان هناك دويٌّ أصوات وصياح شديد يصل إلى عنان السماء .

              كان آلاف الناس يصيحون بنداءات " يسقط الروس "، " يسقط الخائن كارمال "، " لا إله إلا الله " ، أمسكت العلبة في يدي جيدًا وضممتها بقوّة إلى صدري، وبدأت أنا بدوري أُردِّد الشعارات التي تنادي بها هذه الجموع الحاشدة، يزداد عدد الناس في الميدان، وأُحسُّ أن قلبي يكبر ودمائي تسخن، آلاف الناس يكبرون في صوتِ واحد، كما يصيحون بنداءات : " ليس الشرق، وليس الغرب، وإنما الإسلام "، لكن هذا الجمع الغفير من الناس سكت عندما أمسك شاب بمكبر للصوت في يده ليخطب فيهم، كان هذا الشاب يقف فوق سيارة نقل ويصيح بأعلى ما في صوته في المكبر الذي بيده، وكان الشاب يتحدث في أمور حماسية جعل أصوات التكبير التي تطلقها هذه الجمع تصل إلى عنان السماء .

              لن نترك لهم وطننا، إن الحياة على هذه الأرض والحكم والسلطة فيها حق للمسلمين، ذلك لأن المسلمين هم الذين قدموا الأرواح والدماء عبر التاريخ لهذه البلاد .

              بهذا الكلام أنهى هذا الشاب خطبته، ثم صعدت طالبة فوق سيارة النقل هذه وأخذت المُكبّر في يدها وكان في يدها خمار أخذت تلوح به، تحدثت هذه الفتاة صائحة وقالت :

              - هذا الذي ترونه في يدي خمار خالتي العجوز، إني أقدم هذا الخمار هدية لجنودنا الأفغان الجبناء الذين لا يخرجون من ثكناتهم ولا يطردون الروس من بلادنا، مع علمهم بأن هؤلاء الروس محتلون، سنحارب نحن هؤلاء الأعداء، وليجلس جنودنا في بيوتنا كالنساء وليغطوا شعر رؤوسهم بخمارٍ مثل هذا، على هؤلاء الجنود، أن يخجلوا من جنديتهم ومن رجولتهم .

              أهاجت الطالبة بكلمتها، هذه الجموع التي تسمعها وفي هذه الأثناء بدأت تُسمع أصوات ضجيج الدبابات، وأصوات البنادق الأوتوماتيكية، وحدث هرج ومرج بين الجموع المحتشدة، وتحول الميدان إلى مكان حشر، فهناك الذين يريدون الهرب إلى الشوارع الخلفية وهناك الذين يدوس بضعهم بعضا، وهناك الذين يودون منع هروب الهاربين .

              وكنت أنا أجري بين هذا الحشد في الاتجاه الذي جئت منه، لم يكن من الممكن التوقف أو المراوغة فأصوات الدبابات والأسلحة تقترب بسرعة، ولم أكن أستطيع الجري جيدًا لأن العلبة التي أحملها تعيق حركتي، وبقيتُ في المؤخرة فكرت لحظة أن ألقي بالعلبة، لكني تذكرتُ أمي لم يكن لدينا طعام في البيت، لذا أخذتُ أمسك بالعلبة جيدًا، سمعتُ أحد الشبان الذين يجرون بجانبي وهو يصيح قائلًا " الله أكبر " !، ولم يُتمها إلا وانكفأ على الأرض طريحًا، أصابته رصاصة في رأسه تذكرت أخي الكبير، تُرى هل قتلوه هكذا ؟ أخذ الدم يسيلُ أحمر قانيًا من بين شعر الشاب إلى وجهه، تسمَّرتُ حيث أنا، لا أستطيع ترك المكان وكذلك لا أستطيع مساعدته .

              يحاول هذا الشاب أن يقوم واقفًا على قديمه، لكنه يسقط ثانية، يضغط على قبضة يده ويضرب بها أرض الشارع اقترب الجنود كثيرًا، فهمت أنه لن يمكنني الهرب، أخذت أجري نحو جانب الشارع لكي أحمي نفسي من الدبابات وسيل الجنود، وفجأة أَوْدت بي إلى جانب الطريق ضربة قوية أصابتني في ذراعي، فطارت العلبة من بين يديَّ وسقط ما فيها على الأرض، وبينما كنت أجمع ما سقط إذا بيدٍ تمسكني من شعري وتضربني بالحائط سقطتُ على الأرض بجانب الحائط، وأنا في حالة شبه إغماء، كانت كتفي وركبتاي ورأسي توجعني، وانتقلتُ إلى الفراغ الذي على باب أحد الدكاكين، جلستُ على الأرض رأيتُ الخبز والزبدة والفاكهة وهي تتدحرج تحت أقدام الجنود، نظرتُ أبحث عن الشاب الذي أصيب بالرصاص منذ قليل، فلم أره، ربما حملوه و وضعوه في إحدى السيارات، اقترب مني ضابط شاب وقال لي :

              - ماذا تفعل أيها الصغير ؟

              خطر ببالي فورًا شيء، فأشرتُ إليه بالذي سقط مني في الأرض .

              - اشتريتُ هذا الأكل وكنت ذاهبًا به إلى البيت، و وقعت من شدة الزحام، ولم أستطع أن أجمع هذا الطعام .

              أطلق الضابط قهقهة خفيفة وقال :

              - لم يعد في الإمكان أكل ذلك، ستشتري منه مرة أخرى، والآن أدخل هذا الشارع الجانبي واذهب لبيتك مباشرة .

              نهضتُ بصعوبة، ودخلت الشارع الجانبي الذي دلَّني إليه، و وصلت إلى البيت بصعوبة، أطلقت أمي صرخة عندما رأتني على حالي هذا، توسلت إليها ألا تبكي حكيتُ لها باختصار ما حدث، واعتذرت لها أنني لم أستطع أن آتي إليها بالطعام الذي أعطاه لي تاجر الجملة، ولم تهتم أمي به قط، بل حتى لم تسألني عن نوعية هذا الأكل .

              وضعت لي مرهمًا على الجرح الذي في ركبتيَّ، وكتفي ولفتها بالقماش، ولم أستطع أنا البكاء أمامها لأني رجوتها ألا تبكي أصلًا، ضغطتْْ على أسنانها وسكتت، وبعد أن نمت في السرير غطتني، ثم سمعتها تنتحب انتحابًا متقطعًا .

              (( إن المسلم لم يخلق ليندفع مع التيار ولا ليساير الركب البشري حيث اتجه وسار بل خلق ليوجه العالم والمجتمع والمدنية ويفرض على البشرية اتجاهه ، ويملي عليها إرادته ، لأنه صاحب الرسالة وصاحب العلم واليقين.. لأنه المسؤول عن هذا العالم وسيره واتجاهه فليس مقامه مقام التقليد والاتباع ، إن مقامه مقام الإمامة والقيادة ، ومقام الإرشاد والتوجيه ، ومقام الآمر الناهي ))

              الشاعر الباكستاني محمد إقبال

              تعليق


              • #8

                الوداع يا كابول
                ( الفصل السابع ..)



                مضت ثلاثة أيام على هذا الحادث، لكني بعد ثلاثة أيام استطعتُ الخروج من البيت لقد طلب مني الشيخ أن أسأل عنه، ولا بد أن يكون لديه أخبارًا جديدة، لم أستطع الذهاب إليه رغم أني أود هذا من صميم قلبي، بدأت أمشي على غير هدى، وقادتني ساقاي إلى الميدان، ألقيت نظرة على العناوين الكبيرة في الصحف، وكانت الصحف الموالية

                لبابراك كارمال مليئة بالكذب، في هذه الصفحة صورة مجموعة من الناس اختلطت شعورهم بلحاهم، وصدرت كل الصحف الحكومية بهذه الصورة وتحتها عبارة " المُتمردون يسلمون أنفسهم "، وفي خبر آخر في هذه الصحف ما يقول :

                " العفو عن كل متمرد يسلم نفسه " وفي كل هذه الصحف في صفحاتها الأولى صورة لبابراك كارمال وهو يبتسم ابتسامة بلهاء لقد حدثت أحداث هائلة قبل ثلاثة أيام في أكبر ميدان في المدينة، تذكرت خواطر وانفعالات ذلك اليوم، وأردتُ أن أعيشها في مكانها، سرت وتوقفت ما يقارب من الساعتين على أرصفة الميدان لقد رأيت في ذلك اليوم حشرجات طالب أُصيب بالرصاص، لا يستطيع أحد - وهو داخل التظاهرات الجماهيرية الحاشدة العظيمة - أن يدري شيئًا عما حدث، سمعت أمي أن عشرين شابًا قد قُتلوا في تلك الأحداث، كما أن سبعة وخمسين شابًا قد جرحوا وقبض على المئات من الشباب وأودعوا السجن، وأنا ما رأيت إلَّا شخصًا واحدًا مجروحًا .

                ثم سرت مرة أخرى بخطواتٍ غير مستقرة في اتجاه دكان تاجر الجملة، كانت روحي تتوق لرؤية أحد أستطع التحدث إليه وأبثُّ له همومي، ليست لدينا أي أخبار عن أبي، أين ذهب ؟ وماذا يحدث له ؟ مرَّت عليَّ ثلاثة أيام وثلاثة ليال رقدت فيها في البيت فأصبحتُ بلا حس ولا خبر عن الدنيا وعندما اقتربت من دكان تاجر الجملة رأيتُ ما يجعلني أتسمر في مكاني، الدكان الضخم فارغ تمامًا، أول ما خطر ببالي دكاننا وما حدث له، تُرى هل جاء الجنود هنا أيضًا وأخلوا الدكان مما فيه ؟

                ولكي أفهم ذلك جيدًا اقتربت من الدكان أكثر زجاج باب الدكان ونوافذه مكسورة، والأرفف في الدكان خالية تمامًا ، أخذ الحلاق المجاور ينظر إلي وأنا واقف منتصب القامة على الباب وكان رآني في هذا الدكان عدة مرات، نظرت إلى الرجل في تردد، أشار إلي بإشارة من رأسه وهو يدخل دكانه أن أقدُم إليه، دخلت دكان الحلاق، أجلسني على المقعد كأنه سيحلق لي، قلت له :

                - ليس معي نقود .

                - هذا أمر بسيط .

                وسريعًا مشَّط لي شعري وبدأ بقصه من مقدمته سألته كيف وصل الحال هكذا بدكان تاجر الجملة ؟

                أخذ يقصُّ علي المسألة فقال :

                - لقد قبضوا عليهما، بحجة أنهما يساعدان المتمردين ضد الحكومة، في البداية قبضوا على رجالهم ثم استولوا على بضاعتهم، وعلاوة على هذا، فقد ساعدناهم كلنا في حمل الكتب إلى سيارة النقل، وهذا هو العمل الوحيد الذي عملته في حياتي دون رغبة مني ولا إرادة .

                - متى حدث هذا ؟

                - قبل يومين .

                حزنت جدًا نفس المصيبة التي أصابتنا وقعت لهؤلاء الناس الطيبي القلب، وحكيت للحلاق حكاية نهبهم لدكاننا . قال لي :

                - إني أعرفك، وأعرف أنك ولد طيب لذلك ناديتك إلى الدكان وحكيتُ لك، لقد أصبحنا نحن الجيران نخاف بعضنا من بعض، لم أنادك وأتكلم معك مباشرة لأحلق لك شعرك حتى لا يشتبه فيَّ أحد .

                - جاءت زوجة الشيخ، أحضرت لنا بعض الطعام أو بمعنى أصح، جعلت الطعام حجة لكي تعطينا هذه الورقة، اقرأها بسرعة، إني قلقة منذ ساعتين .

                كتب الشيخ رسالة جاء فيها : عندما يسود الظلام لا بد أن نترك كابول أنا وأمي معًا، وأنه سينتظرنا عند البئر يجب ألَّا نحمل أشياء ثقيلة، وأنه لن يستطيع شرح السبب هنا على الورقة، وكرَّر قوله بأن الوضع وخيم، ولا بد من حضورنا .

                وعندما قرأت رسالته ازداد قلق أمي، ولم تذهب عنها حيرتها لفترة طويلة، ولقد انفعلت أنا انفعالا واضحًا رغم إنني كنت أتوقع هذا الخطر من قبل، أكلتُ من الخبز والأرز التي أتت به زوجة الشيخ، حاولتُ أن أخفي عن أمي انفعالاتي، إلا أن أمي أخذت - بعد ساعة -، في الاستعداد والتحضير، يبدو أننا على سفر طويل، أعددنا لفتين كبيرتين وضعنا فيهما الأشياء اللازمة لنا في الطريق .

                - وإذا جاء أبوك ولم يجدنا ..

                - ولو انتظرنا هنا هل يستطع أن يجدنا ؟

                - كلامك مَضبوط .

                وبعد أن فعلنا هذا، لم يبق إلَّا انتظار المساء، جلست أمام النافذة الصغيرة أنظر إلى سماء كابول التي تلتف بلون الشفق الأحمر لآخر أشعة الشمس، والشوارع التي كنت ألعب فيها،

                والأسطح النازلة والهابطة ... وبيت أمي ... ومنزلنا الصغير ذو الغرفتين الذي عشنا فيه سنواتنا الحلوة والمرة ..

                من يدري، ربما لا نرجع إليه مرة أخرى ؟ ومن يدري، فلعلنا نرجع إليه منتصرين ؟

                صلينا العشاء ثم خرجنا من البيت، قلت لأمي ألَّا نمر من أمام بيت المُدرِّس، ربما نوقظ حب الاستطلاع فيه بربطتينا اللتين نحملهما، وأخذنا الطريق الأسفل، وعبرنا

                الشوارع الخلفية في حذر، وكنا نقف متلصصين عند النواصي ولا نعبر إلا إذا أحسسنا بأن لا خطر في عبورنا، لقد سمعنا أن الدوريات كثرت في الشوارع في الفترة الأخيرة، والقبض علينا في هذه الساعة شيء متوقع، ذلك لأن التجول في الشوارع ممنوع ليلًا، لذلك راقبنا الشوارع ونحن على الناصية وعندما كنا لا نرى أحدًا في الطريق كنا نسير، ولم نخط خطوتين بعدُ إلا ورأينا أضواء المصابيح الأمامية لسيارة تنبعث من نهاية الشارع،

                تراجعنا إلى الخلف في هلع، سحبتني أمي من ذراعي بسرعة وخبأتني في فراغ باب أحد البيوت، وكانت تضغط يدها الممسكة بذراعي بانفعال وتقطعت أنفاسي، الضوء المنبعث من مقدمة السيارة يضيء الشارع ويحليه إلى نهار، ولو كنا في ذلك الشارع لكان من المُحتم أن يرونا إن ضجة المحرك انعكست على جدران الشارع الفرعي

                الضيق، الذي نختبئ فيه ثم ابتعدت قالت أمي :

                - الحمد لله

                سرنا بمنتهى الحذر حتى وصلنا إلى البئر وجدا الشيخ، وزوجته في انتظارنا عند البئر. قال الشيخ لنا عندما التقينا:

                - علينا الابتعاد من هنا بأقصى سرعة.

                كنت أنا وشيخي في المقدمة وأمي وزوجته خلفنا، وأخذنا في تسلق الطريق الجبلي.

                كان الجو باردًا بدرجة واضحة، ارتدينا ما وجدناه، وكان السير سهلًا لأن الثلوج كانت قد جمدت بفعل الرياح، وكان من المستحيل السير لو كانت الثلوج غير متماسكة. لقد ذهبت إلى القرية التي كان فيها أبي من هذا الطريق قبل أسبوع، قلت لشيخي:

                - هل نذهب إلى نفس القرية.

                - سنمر منها.

                - هل طريقنا طويل!.

                - نعم.

                - إلى أين نذهب؟

                - إلى الباكستان بإذن الله.

                - ألن نستطيع رؤية أبي؟.

                - لم أستطع معرفة مكانهم... رعاهم الله، إذا كان لنا نصيب في رؤيتهم رأيناهم... ولكن متى؟... وأين؟... هذا في علم الله.

                أصابني الهم والحزن فلقد ظننت أن الشيخ يعرف أين والدي لذلك فهو يأخذنا إليه. فهم الشيخ هذا عندما رآني توقفت فجأة فقد شعرت أن رأسي يدور وأكاد أسقط على الأرض. حاول أن يُروّح عني. لكنني لم أستطع سماع ما يقوله، أحسست أني أريد البكاء. كم تسيطر عليّ الرغبة في أن أكون بجوار أبي فإني أحبه كثيراً، ولكن ليس بيدي شيء، قد يكون أبي الآن بجوار واحدة من مئات الآلاف من الصخور عند تلّ من آلاف التلال، وقد يكون هو الآن يفكر فينا. أمي وزوجة الشيخ يتعقبانا مثل الظل منذ ساعات وهما يتحدثان بصوت خفيض.

                قال لي الشيخ إن مئات من النسا يخرجون الليلة من كابول وسيتوجهون إلى الباكستان، وإن هناك إشاعة قوية بأن كثيرًا من الناس سيقبض عليها بعد يومين. كما قال إن بعض الذين تعرضوا لعمليات التعذيب في السجون، أعطوا للمسؤولين قائمة فيها أسماء، وإن أصحاب هذه الأسماء قد علموا بذلك من إخوان لهم بطريقة سرية.

                لم ندخل القرية التي قابلت فيها أبي، ورغم شدة تعبنا لم يجد الشيخ أنه من المناسب دخول بيت في القرية للاستراحة فيه. إن الشيخ بمثابة أمير القافلة الصغيرة المكونة منّا، وقد اتخذ قراره الخاص بسيرنا وتوقفنا، وقد قال إنه بعد ساعة من هذه القرية سنجد بيتًا جبليًا. وهناك قافلة أخرى من أربعة أشخاص ستأتي إلى ذلك المنزل الجبلي من طريق آخر، وسنلتقي بها لنسافر سويًا.

                قالت زوجة الشيخ:

                - تعبنا كثيرًا.

                التفت الشيخ إليها نصف التفاتة وهو مستمر في سيره وقال لها:

                - تحمّلي! اضغطي على نفسك، فقد بقي القليل.

                وحقيقة إننا تعبنا كثيرًا، أحسّ أن ساقاي وقدماي توجعاني. لكن ما الحيلة؟ ومعلوم أن الطرق التي سرنا فيها، طرق كلها جليد. ليس فيها مكان نجلس لنستريح فيه، وليس فيها حجر جاف، ويبدو البرد وكأنه يدفع الإنسان إلى السير دفعًا بالسياط، واستمر سيرنا حتى وصلنا إلى البيت الجبلي.

                لم تأتِ بعدُ القافلة التي كنا سنلتقي بها في المنزل الجبليّ. جلست أمي وزوجة الشيخ على الأرض منهكتان من شدة التعب بمجرد دخولهما المنزل. قال الشيخ إنه جاء إلى هذا المنزل من قبل، أخذنا من الغرفة الصغيرة بُسُطًا و وسادات موضوعة بعضها فوق بعض، كانت الأرضية مبللة لأن الجدران كانت متشققة. وضعنا البُسُط أرضًا وجلسنا عليها، ولم يمض وقت طويل حتى جاءت القافلة الأخرى.

                وهذه القافلة عبارة عن امرأتين عجوزين ورجلين متقدمين في السن، كنت أعرف من الرجلين أحدهما وكان ممسكًا بعصا في يده، لقد رأيته عندما كان يتحدث مع أبي عدة مرات في دكاننا، دكان الكتب. ورغم تقدم الاثنين في السن فقد كان من الواضح قوتهما، كان اسم الذي بيده العصا عثمان، كان يحمل عصاه وكأنه يحمل شيئاً يتزيّن به، فلم يكن يستند إلى هذه العصا، وكأنه تعوّد أن لا يتركها، لسبب لم أعرفه. واسم الرجل المسن الثاني حمزة، والغريب أن الرجل بمجرد أن قال اسمه أردفه بكلمة مصارع، كان مصارعًا جيدًا. وأصبحت النسوة أربعًا، وجلسن في زاوية الغرفة واستغرقن في حديث طويل. قال الشيخ:

                - إن وقت الصلاة قد حان.

                صلينا في جماعة ودعونا الله، قال الشيخ بعد ذلك:

                - إننا قد استرحنا بما فيه الكفاية، ولو سرنا حتى وقت صلاة الظهر سنستطيع الوصول إلى القصبة التي تتجمع فيها القافلة الكبيرة.

                وسريعًا كنا في الطريق. كنا نذهب من طريق ناعم الأرضية في سفح جبل عال على يميننا صخور شاهقة حادة، وعلى ميسرتنا جدول ماء تجمعت فيه مياه الثلوج. وكنا نسير بقافلتنا المكونة من ناس مسّهم الهمّ والحزن والتعب مما جعلهم لا يهتمون بالجمال الطبيعي الفائق الذي يسيرون فيه، وهو منظر رائع جميل تزينه الإشعاعات الأولى للصباح. وكانت التلال المغطاة بالجليد البراق، وجدول الماء الذي ينساب فيه الماء الرقراق، يبدو وكأنه يغني لنا أغنية أحزاننا.

                سريعًا كان سيرنا، وقد أمضينا ساعات لم نتحدث فيها قطّ، كنت أشعر وكأن ساقاي سيخرجان من مكانيهما. الجليد الذي يذوب في الجبال مع ارتفاع الشمس يحيل الطريق الأرضي إلى وحل شديد اللزوجة يصعب السير فيه، وكان علينا أن نخوض في هذا الوحل حتى إنه وصل في بعض الأماكن إلى ارتفاع الركبة منا. كنا أحياناً نقف لننتظر النساء وقد تخلفن عنا. وعندما يحدث ذلك أسرع أنا بالجلوس على أحد الأحجار في جانب الطريق لكي أستريح وأدعك ركبتيّ.

                كان الشيخ قد جمع الأكل الذي أحضرته معها القافلة الأخرى مع الأكل الذي أحضرته قافلتنا، وجمعهما في صرة واحدة، وكان قد قال إن طريقنا طويل، ولذلك وزّع قليلاً من الطعام – ونحن في البيت الجبليّ – قطعة خبز وقطعة جبن لكل واحد منا، وأحسُّ الآن بأني في غاية الجوع. ولكن لا يمكن طلب الأكل، كان عليّ أن أتبعهم في ذلك.

                فهم العجوز الذي يقول إنه مصارع، أنني تعبت كثيرًا، لذلك ضحك وقال:

                - يمكن أن أحملك على ظهري إذا أردت!!

                - لا، لا أريد.

                خجلت جدًا لأني أظهرت أني تعبت، فلم أعد أجلس إذا توقفنا لانتظار النساء. وكنت أضغط على أسناني محاولاً التحمّل.

                ثم كان ما توقعه الشيخ فعندما اقترب وقت الظهر ظهرت منازل القصبة على مرمى أنظارنا. قال الشيخ:

                - لا تخافوا. هذه القصبة يسيطر عليها إخواننا. ومع ذلك فلا تقولوا لأحد اتجاهنا. لأن الجواسيس كثيرون هنا.

                في البداية أحسست براحة قلبية رغم تعبنا. لقد أثلجت صدري عبارة الشيخ: هذه القصبة يسيطر عليها إخواننا.

                وعندما اقتربنا من القصبة ذهبت وتلاشت فرحتنا تمامًا. كانت أصوات طلقات أسلحة تأتي من جهة القصبة، لم يكن أحد يبدو لنا على مرأى النظر... قد يكون الروس هاجموا القصبة؟!

                عبرنا من الجسر الخشبي الذي على جدول الماء جرياً، فوصلنا إلى البيوت الأولى... لقد نسينا تعبنا. قال الشيخ:

                - الطريق الرئيسي يمر من الناحية الأخرى من القصبة. يبدو أن العدو في تلك الناحية، وليس هنا من خطر، فسيروا.

                سرنا. ورغم أن الوقت نهار فقد كانت الشوارع مهجورة. شاهدنا طفلين بجوار المسجد. وعندما رأونا نقترب بديا وكأنهما يريدان الفرار، لكن يبدو أنهما اطمأنا إلى ملابسنا فتراجعا عن الهرب وأخذا ينظران إلينا. وعندما وصلنا إليهما سألهما الشيخ قائلًا:

                - من أين تأتي أصوات طلقات الأسلحة؟

                أشار كبيرهما إلى الجانب الذي تأتي منه أصوات الطلقات، وقال:

                - هجم الروس من الطريق.

                وظهرت سيدة في يدها بندقية، خرجت من الشارع المجاور للمسجد. نظرت إلينا في عدم اهتمام وكانت تبتعد ذاهبة في الاتجاه الذي تأتي منه أصوات طلقات الأسلحة، وأخذنا نتعقب هذه السيدة، الأصوات تقترب. وقلبي مضطرب ومفعم بالانفعالات.

                كان هذا الجانب من القصبة مائلًا نحو الطريق الرئيسي، والروس يتمركزون في المكان المنبسط من الشارع ويصبون نيرانهم نحو الأماكن العالية. وقد تحصّن المجاهدون وراء حائط حديقة المدرسة بحيث كانوا مسيطرين على المكان أكثر من الأعداء. وفي أيدي المجاهدين بنادق سريعة الطلقات. وكان هناك نساء وأطفال يتفرجون على الحرب وقد اختبؤوا في جدران المنازل المطلة على الطريق ومن نوافذ هذه البيوت كان السلاح يُطلق بين الحين والحين، ليس النوافذ فقط بل ومن الأسطح أيضًا. قال الشيخ:

                - آه لو كان معنا سلاح!.

                أحسسنا كلنا بالحزن من جراء هذا الموقف. أشار الشيخ للنساء إلى منزل يعرف صاحبه، وطلب منهن أن يذهبن إلى هناك وينتظرن، وأراد مني أن ألحق بهن، لكني أصررت على أن أكون معه ومع الرجلين، فوافق.

                دلفنا إلى مبنى المدرسة بعد أن ذهبنا من الشارع الخلفي، وأخذنا نعالج الجرحى وكانوا في أحد الفصول الدراسية، قال عثمان أفندي إن لديه معرفة بمثل هذه الأعمال الطبية لذلك سريعًا شمر عن ساعديه، أما الشيخ والمصارع العجوز فقد انطلقا فورًا نحو المواقع، وأردت أن أكون معهما، قطع الطريق عليّ رجل ضخم الجثة وقال بحدة وغضب صائحًا:

                - إننا هنا لا نلعب يا ولد. هيّا امشِ من هنا.

                قلت له:

                - إنني صياد.

                هز يده علامة أنه لم يصدق كلامي. ودخل الغرفة التي فيها الجرحى. وعندما خرجت أنا من الباب الذي في جانب المدرسة، صاح فيّ بصوت حادّ قائلًا:

                - انبطح أرضًا.

                فانبطحت أرضًا وبدأت في الزحف نحو حائط المدرسة الذي يستخدمه المجاهدون مانعًا لهم من رصاص العدو. ووصلت إلى أحد المجاهدين الذي كان واقفًا يطلق الرصاص من بندقية ماركة ماوزر في يده:

                - لا تقف وإلا تُصَب.

                عرفت هذا الصوت!! إنه صوت معلمي... كان يقول هذا الكلام للمجاهد الذي يقف على قدميه بعدم اكتراث ببندقيته الماوزر، وكان الشيخ يطلق النيران ببندقية رديئة من خلف مكان مهدم من حائط الحديقة إلى أسفل الشارع حيث يتمركز العدو.

                وعندما رأى الشيخ أن هذا المجاهد لا يهتم بكلامه، زحف إليه وسحبه من قدمه فأوقعه أرضًا وقال له:

                - عدم الاحتياط ليس شجاعة وإنما هو جهل.

                كانت رصاصات العدو تصيب حائط المدرسة فقط لأنها تأتي من أسفل الشارع المنبسط الذي يتمركز فيه الروس. بدأت أخاف الآن وشعرت بارتباك كبير في هذا المانع الذي أتيت إليه. حلّ صوت الرصاص الذي يئزُّ فوق رؤوسنا قوة ركبتيّ فلم أعد أستطيع الوقوف إلا بصعوبة، وهذه أول مرة أرى فيها حرباً لا تشبه تلك المعارك التي تفرجت عليها في الحيّ الذي نسكن فيه، ولا عمليات الصيد التي خرجت فيها مع والدي، إنني وسط حرب حقيقية، ولا سيّما عندما رأيت رجلين يزحفان على الأرض ويسحبان جريحًا ليدخلاه مبنى المدرسة، وندمت على مجيئي هنا. أخجل من نفسي لأني أخاف، ولكن هذا الخجل لم يهزم خوفي. نظرت من مكان منهدم في جدار الحديقة إلى أسفل الشارع المنبسط، كانت أكوام الحجارة الضخمة ظاهرة في المكان الذي يلتقي فيه الطريق الرئيسي النازل من القصبة إلى الأرض المستوية، ولقد أقفل المجاهدون الطريق بأكوام الحجارة حتى لا يدخل منه الروس بسهولة، وما وراء تلك الأحجار والصخور التي في الأرض المستوية مملوء بجند العدو الروس، خلف كل حجر منها بندقية سريعة الطلقات. وفي المكانين المتقدمين من الحديقة المستخدمة كمانع للمجاهدين، كان يوجد أيضًا بندقيتان سريعتا الطلقات، يبذل الروس جهداً واضحاً لإسكات هاتين البندقيتين اللتين في يد المجاهدين، لذلك يطلقون النيران باستمرار على مكانيهما. وطالما أن حاملي البندقيتين لم يصمتا فالروس لن يستطيعوا الهجوم. ومن غير الممكن أيضًا أن يقوم إخواننا المجاهدون بالهجوم، إنهم يصبحون هدفًا لرصاص الروس الكثيف كالمطر، في أي لحظة يخرجون فيها بشكل مكشوف.

                ترك الروس سياراتهم وتراجعوا مقدار خمسمائة متر من المكان الذي هم فيه، تركوها على الطريق، وهناك سيارة جيب أمام السيارات الأربع الكبيرة يقف بعضها خلف بعض.

                - يا أيها الولد!.

                نظرت في اتجاه الصوت. فإذا برجل ذو لحية خفيفة يشير إليّ بإشارات بيده لم أفهمها، زحفت إليه سريعًا ووصلت بجانبه، كان هذا الرجل الخفيف اللحية يستخدم البندقية سريعة الطلقات التي في المقدمة على الشمال. وعندما اقتربت منه قال لي:

                - قل ليونس أن يكون دقيقًا وحريصًا في استخدام الرصاص.

                نظرت بدهشة إلى وجهه وقلت:

                - ومن يكون يونس هذا؟

                - الأخ الذي على البندقية الأخرى.

                ومرة أخرى زحفت حتى وصلت إلى الطرف الثاني من الحديقة. وكان صاحب البندقية السريعة الطلقات الثاني مجاهدًا شابًا. قلت له:

                - يا أخي يونس، عليك بالحرص في استخدام الرصاص.

                - من قال لك هذا؟

                - قال هذا الأخ الذي على البندقية الأخرى السريعة الطلقات.

                ابتسم ثم هزّ رأسه بمعنى (فهمت)، ثم ركز نظراته النارية على الهدف كانت نظراته إلى العدو مليئة بالحقد والكره والنفور. يمكن تصوّر هذا الرجل موظفًا إذا حسبنا ما يرتديه من معطف، يده اليمنى تنتظر على زناد البندقية لكنه لا يطلق الرصاص، لكن العدو يطلق الرصاص كثيرًا ومتواصلًا لأنه يملك ذخيرة ضخمة. رقدت على وجهي أيضًا، أخافني كثيرًا أزيز الرصاص المنهمر، لقد كنت في نقطة من أخطر نقطتين يصبّ العدو عليهما جام غضبه، ولقد ملآني الخوف من أن أصاب برصاصة إذا رفعت رأسي قليلًا، بدأت أرتعش من الخوف، أصوات تأتي من بعيد، ولقد زاد اضطرابي كثيرًا حتى إنني لم أكن أستطيع القطع بالمكان الذي تأتي منه أصوات الرصاص، فلم أنتبه إلى على صوت الصائح وهو يقول:

                - أدخلوه بسرعة.

                قال المجاهد الشاب الذي يستخدم البندقية:

                - يا فتى هل أصابك النوم؟.

                أحسست بارتعاشة صوتي فقلت له:

                - إني خائف.

                - إذن ادخل!!.

                رفعت رأسي ونظرت إلى الباب، فرأيت اثنين من المجاهدين يسحبان شيخي ويأخذانه ووجهه مليء بالدم، أحسست أني أريد أن أقف لأجري نحوه، وتراجعت عن هذه الرغبة بعد سماعي لأصوات الرصاص المنهمر، وأخذت في الزحف نحو الباب، ولم أستطع الوقوف على قدميّ حتى دخلت إلى الداخل جيدًا، وعندما دخلت الغرفة التي بها الجرحى كان أول ما سمعته بعد ذلك هو:

                - مات، عليه رحمة الله!!

                قال هذا، الرجل الطويل القامة الذي كان يقف على أول المنضدة التي أرقدوا عليها الشيخ. اقتربت من المنضدة، فرأيت أن الشيخ قد أصابته رصاصة في جبهته، وغطّت الدماء الحمراء الغامقة وجهه النوراني ولحيته القصيرة، وقد تجمدت في وجهه ابتسامة مليئة بالمرارة، عيناه مفتوحتان، إنسانا عيناه ثابتان وكأن نظراتهما قد سُمّرتا بالسقف. وهكذا فقدت أحبَّ إنسان إليّ بعد أبي. لم أكن أقوى على لمسه. كنت أريد أن أبكي وأنكفئ على جسده لامسًا وجهه الدامي ويده الميتة المتدلية من على المنضدة، ركبتاي ترتعشان ولم أكن في الواقع بمستطيع أن أخطو خطوة نحوه. قال لي الرجل الطويل القامة:

                - أبوك؟

                استطعت أن أرد عليه قائلًا بصوت يملؤه الأسى:

                - أستاذي.

                وبمجرد أن قلت كلمة أستاذي بدا الأمر وكأن هذه الكلمة كانت ممسكة بانتحاباتي في رقبتي، ودموعي في عيني، وأخذت أجهش في البكاء بصوت مرتفع، خرجت من باب المدرسة وذهبت باكيًا إلى البيت الذي فيه أمي والنسوة الأخريات، ورأيت من وراء دموع عيني وأنا خارج من الباب أناسًا رأوا حالي هذا فبكوا، ورأيت نساء حزينات باكيات يَقُلن لي أن أسكت، وأخريات يُسَكّن من أحزاني في شفقة.

                وعندما دخلت البيت الذي فيه أمي خطر ببالي أنه خبر الوفاة سيحزن زوجة الشيخ كثيراً. رأتني أمي وأنا أبكي فجاءت بجواري وهي مضطربة منفعلة تقول لي:

                - ماذا حدث يا كريم؟ تكلم يا بني، لماذا تبكي؟

                أسندت رأسي على صدر أمي و انحبس النحيب في حلقي. ولم أكن بمستطيع إخراج كلمة واحدة. كل ما هناك أني كنت أبكي، فأخذت النسوة الأخريات في البكاء أيضًا. رفعت رأسي من على صدر أمي، ومن على كتفها نظرت إلى زوجة الشيخ، وقالت لها هذه النظرة ما لم أكن أستطيع قوله، قالت المرأة بصوت يشبه الصراخ سائلة في أنين:

                - أأصاب الشيخ شيء؟

                لم أستطع الإجابة على هذا، لذلك أَخَذَت في البكاء وهي في حالة صعبة ضاغطة على أسنانها واضعة قبضتيّ يديها على خديها. وقد كان من الممكن الاستمرار لولا أننا سمعنا في هذه الأثناء أصوات مدافع تصمّ الآذان، جريت إلى نافذة المنزل لكي أعرف أمر أصوات المدافع هذه التي تهدر متوالية. لقد وصلت دبابتان إلى المكان الذي به سيارات الأعداء الأربع الكبيرة وكان اللهب الأحمر يخرج من فوهاتها الطويلة ولم تكن حديقة المدرسة ظاهرة من هذه النافذة لذلك أسرعت بالجري إلى الخارج. وعندما وصلت إلى المدرسة، إذا بي أمام منظر مفجع رهيب للغاية، نصف مبنى المدرسة قد تهدّم. انهار السقف والجدران في داخل المبنى. ماذا حدث للجرحى؟ ومن يعتني بالجرحى يا ترى؟ الله أعلم. وكلما تطلق الدبابتان نيرانًا انهارت قطعة أخرى من المدرسة. ولم يستمر كثيرًا انهيار المدرسة بالكامل، أردت الرجوع والذهاب إلى البيت، وعندما ذهبت من خلف المنزل الذي رأيت منه انهيار المدرسة وخرجت إلى الطريق رأيت ما جعلني أضطرب، الجنود الروس دخلوا القصبة، ورأوني سريعًا. ولأنني مضطرب لم أستطع الهرب، مدّ جندي روسي سلاحه نحوي، وأصدر أصواتًا أشبه بنباح الكلب. ولأنني لم أفهم كلامه وقفت متسمّرًا من الخوف في مكاني أنظر إليه، أشار إليّ بإشارة معناها (تعال) ذهبت نحوه، أمسكني من ذراعي ودفعني إلى أسفل، اصطدمت أولاً بالحائط ثم بالأرض. أحسست بوجع في ظهري ورأسي، وعندما قمت من الأرض حيث وقعت رأيت أن الجنود يدفعون أمي والمسافرات معها نحوي، معنى هذا أنهم كانوا سيجمعون أهل القصبة هنا، تصدعت رأسي، وكنت أتعرف على الوجوه بصعوبة. وأذكر بصعوبة أيضًا أن أمي جاءت نحوي واحتضنتني، كما كنت سمعت من كلامهم أن امرأة أفغانية عجوزًا قد جرحت، قالت أمي:

                - وكريم أيضًا جريح.

                لم أكن أستطيع فتح عينيّ، الجزء الخلفي من رأسي شُجّ وحدث فيه جرح عميق عندما اصطدم بالحائط. وقد فهمت هذا من الدم الدافئ السائل على رقبتي وظهري. ولم يعد لدي مجال لأضع يدي على رأسي وأبحث عن الجرح.

                وازداد صداع رأسي أكثر مما أستطيعه. وكنت أحس أنهم يبعدون عني أمي التي كنت أستند إلى ظهرها حيث كنت أتمدد أرضًا.

                (( إن المسلم لم يخلق ليندفع مع التيار ولا ليساير الركب البشري حيث اتجه وسار بل خلق ليوجه العالم والمجتمع والمدنية ويفرض على البشرية اتجاهه ، ويملي عليها إرادته ، لأنه صاحب الرسالة وصاحب العلم واليقين.. لأنه المسؤول عن هذا العالم وسيره واتجاهه فليس مقامه مقام التقليد والاتباع ، إن مقامه مقام الإمامة والقيادة ، ومقام الإرشاد والتوجيه ، ومقام الآمر الناهي ))

                الشاعر الباكستاني محمد إقبال

                تعليق


                • #9

                  الرُّوس يحتلون القصبة
                  ( الفصل الثامن ..)




                  عندما فتحت عيني وجدت نفسي على سرير ناعم وفي غرفة نصف مظلمة، وكانت المرأة التي تنام بجانبي وهي تأخذ يدي اليمنى بين يديها هي أمي ..

                  عوّدت عيني على الظلام، أنا في غرفة أعرفها، هذه غرفة البيت الذي دخلناه عندما جئنا هذه القصبة، عندما جاءت أمي وصديقات رحلتها .

                  غرفة واسعة، ومن النافذتين المتجاورتين يبدو واضحًا في ضوء القمر بياض التلال الثلجية البعيدة، حاولت ألا أتحرك فما زالت رأسي ويدي توجعاني .

                  شعر رأسي محلوق تمامًا، وجرحي ملفوف بقماش من وسط جبهتي حتى خلف رأسي، قالت أمي وقد استيقظت نتيجة حركتي :

                  - كريم ابني .

                  - نعم يا أمي .

                  - هل رأسك يوجعك ؟

                  - قليلًا .

                  - كان الجرح عميقًا، أكرم الله صاحبة البيت .. أوقفت تدفق الدم، كان الدم كثيرًا يا إبني لدرجة أنني خفت .

                  - هل ذهبوا ؟

                  - من ؟

                  - العدو .

                  - أبهذه السهولة يا بُني ؟!، لقد استولوا على القصبة، واستقروا في مبنى البلدية، الآن يقومون بدوريات الشوارع .


                  سكتُّ ولم نتحادث مدة، حاولت تصور العساكر الروس وهم يتجولون في الشوارع ، هذه القصبة كانت حتى الأمس في يد المجاهدين، ثم هي الآن في يد العدو .

                  بدأت الآن أفهم معنى الهزيمة في الحرب، ليت أهل الجهاد كانوا في قمة النصر، خطر ببالي الآن المجاهدين الذين كانوا يحاربون في حديقة المدرسة، سألت أمي قائلًا :

                  - ماذا حدث للذين كانوا في حديقة المدرسة ؟ هل تعرفين يا أمي ؟

                  - ماتوا كلهم، إلا أن هناك من شاهد خمسة من المجاهدين يصعدون إلى الجبل، لقد حبس الروس في مبنى البلدية كل الذين قبضوا عليهم من الرجال الأحياء .

                  جمعونا أولًا في الميدان ثم ظهر ضابط أفغاني وألقى خطبة، وقال ما معناه إنهم لن يؤذوا أحدًا، وأنهم جاؤوا هنا لإنقاذ الشعب من اللصوص، طبعًا أنت لم تعرف أن المرأتين العجوزتين في عداد الجرحى، لقد طعنهم الروس بالحِرَابْ، كانتا أكثر شجاعة مني، دخل علينا الجنود الروس فقامتا بضرب الجنود صفعًا ولكمًا، وحاولتا إخراجهم من البيت، وكنت أنا في ذلك الوقت لا أفكر إلا فيك وفي إصابتك .

                  حكت لي أمي كل هذا وأنا منهك في حالة إعياء، حدثتني بصوتٍ مرتعش عن هؤلاء اللذين يدَّعون أنهم جاؤوا لإنقاذ الشعب من اللصوص، وكيف أنهم طعنوا السيدتين العجوزين وأنَّ واحدة ماتت هناك، والأخرى موجودة في بيت آخر، وأن الحياة في هذه القصبة قد أصبحت معتذرة .

                  حاولت تصور تصدي المرأتين العجوزين للجنود الروس وضربهما لهم، وضغطت على قبضتيَّ دون أن أدري، وحاولت أمي أن تفك أصابعي المضغوطة في شكل قبضة وذلك بيديها اللتين أمسكتا بيدي، كان قلبي يمتلئ من يوم إلى يوم ببحرِ كرهٍ وحقد وغضب متزايد على أعدائنا الروس .

                  قالت أمي :

                  - نم قليلًا مرة أخرى .

                  ولكي لا أُغضبها قلت لها :

                  - سمعًا وطاعة يا أمي .

                  أغلقت عيني وكانتا مفتوحتين في الظلام، وحاولت النوم . ولكن النوم مستحيل، كل ما رأيته في الصباح أصبح وكأنه يدور أمامي .

                  وكل شيء أتصوره يُحدِث ارتعاشات في قلبي؛ المجاهدون الذين رأيتهم في الحديقة؛ موت الشيخ؛ الجرحى؛ الجنود الروس وهم يطلقون النار من خلف الصخور التي بالأسفل؛ سيارات " الجيمس " والدبابتان اللتان كسب بهما العدو المعركة؛ المرأتان المطعونتان بالحِراب .

                  لقد سمعت من أستاذي الشيخ عن شباب أفغانيِّ ربطوا الديناميت على صدورهم وألقوا بأنفسهم أسفل دبابات العدو فانفجر الديناميت فيهم وفي الدبابات ودمرها واستشهدوا في ذلك . كان ينبغي لي عمل ذلك، ولو كنت لفعلت ذلك نهارًا لكسب المجاهدون المعركة، لماذا ليس لدينا دبابات ؟

                  لو كنا نملكها لكان من الصعب دخول الرُّوس هذه القصبة، لم ينج غير المجاهدين الخمسة الذين هربوا إلى الجبال .

                  لم أستطع النوم حتى الصباح، وفي الصباح قالت زوجة الشيخ إن المرأة العجوز الأخرى قد ماتت أثناء الليل، تغيرت زوجة الشيخ في يوم واحد، بدت كأنها قد هرمت، كانت عيناها حمراوين و وجهها ذابل، وبرزت عظام وجنتيها وبدتا كأنهما تشبهان التلال الزرقاء، يبدو أن موت زوجها أحدث فيها كل هذا،

                  هذه السيَّدة الطيبة التي أحبتني كثيرًا، نظرت إليَّ نظرات ملؤها الحيرة والذهول وسألتني بصوتٍ يخرج منها بصعوبة عن حالي وصحتي، ثنيت رقبتي كي لا أترك سؤالها بغير إجابة، كانت تتكلم وكأنها تئن، وهي تغلق عينيها المحمرتين نصف إغلاق وتهزّ رأسها . كلما نظرت إليها أتذكر أستاذي بحالته الأخيرة التي رأيتهُ فيها .


                  نظرتُ إلى الخارج من نافذة صغيرة في الحُجرة التي نحنُ فيها، الدبابتان اللتان انتصر بهما العدو، ليستا في مكانيهما، ولم أرى أيضًا السيارات الكبيرة ناقلة الجنود .

                  قلت :

                  - ذهبت الدبابتان والسيارات .

                  قالت زوجة الشيخ :

                  - ذهبت الدبابتان لكن السيارات تقف أمام مبنى البلدية.

                  الصخور التي وضعها المجاهدون على الطريق ليست موجودة، معنى هذا أنهم فتحوا الطريق لكي يدخلوا سياراتهم إلى القصبة .

                  قلت لأمي إنني أريد أن أخرج، فلم توافق، أناموني على وجهي ونظفوا جُرحي . قلت لأمي إن ظهري يوجعني، فخلعت لي أمي قميصي . لا أبد أن يكون هناك شيء سيء جدًا، بحيث إنها أطلقت صرخة لمّا رأته وقالت :

                  - إصابة ظهرك سيئة .

                  وضعوا المرهم على ظهري، وربطوا بالقماش ما بين تحت إبطيَّ وكتفي، وإذا مسَّت يدٌ عظام لوح ظهري اليسرى فإنه يؤلمني كثيرًا، قالت صاحبة البيت :

                  - قد تكون مكسورة .

                  بكت أمي الطيبة وهي تدعو دعاءً مُرًا، على الجندي الروسي الذي دفع بي إلى هذا الوضع، حدثت لي نفس المسألة في كابول في الميدان الذي حدثت فيه المظاهرات أمسكني جندي أفغاني من ذراعي وألقى بي على الرصيف .

                  وهذه المرة أمسكني الجندي الروسي وضربني في الحائط، إن احتمال أن تكون عظام لوح ظهري مكسورة أزعجني، طلبت أمي مني أن أنام لأستريح، وكنت أريد أن أعرف ما حدث في مبنى البلدية، قلت لأمي إنني سأنظر من بعيد وأرجع فوافقت أن أذهب .

                  وكان لصاحبة البيت ابن أكبر مني بسنة، قبضوا عليه هو و والده، قالت المرأة إنها ستذهب إلى مبنى البلدية على أمل رؤية زوجها وابنها، وأنها ستأخذني معها فانتظرت وأعطتنا خبزًا فقط وقالت إنه ليس في المنزل من طعام إلا هذا،

                  تذكرت أمي في نفس الوقت أن معها ربطة مليئة بالطعام، وسررت بأننا سنستطيع أن نشرب حساء رغم كل هذا الحزن الذي نحن فيه.

                  وبعد الأكل ذهبت إلى مبنى البلدية مع المرأة صاحبة البيت، لم أكن أنظر إلى وجوه الجنود الروس الذين كنت أراهم في الطريق، رأيت السيارات الأربع، و سيارة الجيب تقف كلها أمام البلدية، ويقف الجنود المدججون بالسلاح بجانب السيارات، وكان الذي قابلناه على الباب ضابط أفغاني،

                  فهمت أنه أفغاني من ملابسه، سألنا بطريقة خشنة عما نريده، قالت له المرأة صاحبة البيت إن زوجها وابنها قُبض عليهما أمس، وإنها تريد رؤيتهما سأل الضابط الأفغاني عن اسميهم ثم دَلَف إلى الداخل، كان على الباب جنديان روسيان مناوبان، يحملان السلاح، منعانا من الذهاب خلف الضابط الأفغاني .

                  وانتظرنا هناك ساعة وبعد ساعة ظهر ولد طويل القامة متجعد الشعر وعندما رأته المرأة صاحت بصوتٍ باكٍ :

                  - ابني !

                  ترك الجنديان الطفل بعد أن أشار إليهما الضابط بتركه، كانت المرأة تحتضن من ناحية وعيناها مركزتان على الداخل من ناحية أخرى، قال الضابط بطريقة شبه ساخرة :

                  - لن نستطيع إطلاق سراح زوجك بعد، إذا خضعتِ القصبة لنا سنطلق سراح المقبوض عليهم واحدًا واحدًا، أما إذا عصونا فسنقتلهم واحدًا واحدًا . مفهوم ؟

                  بدت المرأة وكأنها ستقول شيئًا ثم تراجعت، أمسكت ابنها من يده وابتعدت، وكنت بدوري أتبعهما في السير، ولم نتحدث بشيء حتى وصلنا إلى البيت .

                  أخذ الولد يتناول طعامه وفي نفس الوقت يشرح ما حدث لهم ليلًا في مبنى البلدية، قال :

                  - لم يتركونا ننام حتى الصباح، ضربونا كلنا، ضربونا بمؤخرة بنادقهم وأحزمتهم، ظلوا يضربون إمام المسجد حتى فقد وعيه ، كما ضربوا والدي كثيرًا، وضربوني أنا أيضًا بالحزام، ضربوني على وسطي، أوجعني كثيرًا .

                  قالت أمه :

                  - كُسرت يداه ...

                  واشتركنا كلنا في نفس الدعاء والتمني، كانت أمه تريد معرفة كل شيء عما حدث لهم في مبنى البلدية، فكانت تُكرر الأسئلة على ابنها كثيرًا، وكان الولد بدوره يحكي ويحكي دون ملل، عن الضرب والتعذيب والتحقيقات، وانشغلت النساء فيما بينهن بالكلام فترة، وأخذ هذا الولد في النوم حيث كان يجلس، فأنامته أمه وغطته، أحببت هذا الولد الطويل القامة بشعره المُتجعد وعينيه الممتلئتين بالنور، ارتحت له، ارتحت لأحمد بقلبه النقي، نمت أنا أيضًا بعد إصرار أمي على ذلك، لا أشعر بالحاجة إلى النوم .

                  مع إنني كُنت مريضًا، والألم مستمر في رأسي وظهري، وحاولت أن أنام بالقوة وأبعد نفسي عن هذه الأحداث المريرة، ومع ذلك لا فائدة، وأخيرًا سيطر على تفكيري صورة والدي فأخذتني من هذه الأحداث لأفكر فيه، تذكرت صورة والدي الذي أحبه مثل روحي، كنت أدعو الله أن أراه في أحلامي، تُرى أين هو الآن ؟

                  ربما يأتي مع إخوانه المُجاهدين لينقذونا وينقذوا القصبة من العدو، تذكرت الدبابتين وقذائفهما التي دمّرت مبنى المدرسة .

                  لو جاء والدي لجاءت الدبابات، تمسح بل وتكنس كل القادمين، تراجعت عن أحلامي بمجيء أبي لإنقاذنا ولكن من سينقذنا ؟

                  ليأتِ من يأتي لتحرير هذه القصبة، لكن الدبابات ستسحقه، ولو جاؤوا لتخليصنا فسأربط أصابع الديناميت على ظهري وألقي بنفسي تحت الدبابات، وستنُسف الدبابات وتطير حطامًا في الجو .

                  وبينما كنت أفكر في هذا سيطرت فكرة الخوف من الموت على قلبي، فتذكرت المرأتين اللتين صفعتا الجنود الرُّوس، فقلت يجب ألَّا أخاف .

                  ضوء الشَّمس الضارب في وجهي من النافذة الصغيرة، ورأسي المصدَّع، بدأتُ في نَزْع أفكاري وأثقال جسمي .

                  لن أستطيع نسيان الرؤيا التي رأيتها أثناء يومي، ربما يمكن أن أنسى أهم الأحداث التي مرَّت بي ولكن لا يمكن أن أنسى أبدًا هذه الرؤيا .

                  رأيت المجاهدين الذين كانوا يحاربون في اليوم قبل الماضي، يقفون بملابسهم الدامية وجروحهم الدامية، يتحدثون معي ومع بعضهم، الشيخ هو معلمي وأستاذي

                  والذي شهدت موته على المنضدة، كان أمامي مباشرة والدم المتلألئ بنساب من الجرح الذي في جبهته على وجهه النوراني، كان ينظر لي بابتسامته المعهودة .

                  وفجأة جاء أبي بجانبي واحتضنني، هو الآخر كان يبتسم ويضحك، لاحظت أن أبي مجروح في صدره، قصصت طرف قميصي وأردتُ مسح الدم النازل من جرحه ، فأمسك يدي وقال :

                  - ماذا تفعل يا ولدي ؟!

                  هذا الجرح هو وسام الشرف الذي يُجمِّلُني، هذا الدم هو أكبر ثواب في حياتي، لا تمسحه .

                  وأمسكني بيدي وأشار بيده نحو الدبابات المرصوصة بعضها بجوار بعض أسفل منا وقال :

                  - هيا يا ولدي، سننطلق كلنا نحو هذه الدبابات، وستأتي أنت معنا لا بد أن ندمر هذه الدبابات، لا تخشى الموت فالموت في سبيل الله، أسمى من الحياة !

                  ثم فتح يديه على الجانبين وصاح قائلًا : " الله أكبر "، ثم طار في الجو كأنه طائر، وشاهدته وأنا مندهش وهو يطير على وجه السماء ثم يسقط على الدبابة التي في المقدمة فتناثرت قطعًا قطعًا بانفجار رهيب .

                  وكرر المُجاهدون الآخرون نفس العمل، كل واحد منهم دمّر دبابة، وظهر بجانبي أستاذي الشيخ الذي كانت الدماء تنساب باستمرار من الجرح الذي في جبهته على وجهه النوراني وقال لي:

                  - الدور الآن عليك يا كريم .

                  مسح على ظهري وهو يقول " باسم الله "، وقمت أنا بنفسي مثل ما قام به المجاهدون الآخرون وألقيت نفسي في الفراغ وأنا أقول " الله أكبر "، وصعدت بهذه الانطلاقة بين السحب وطرت عدة دقائق كأنني الطير، ثم نزلت إلى أسفل و وقعت على دبابة ضخمة لكني أحسست في سريري الذي أنام عليه بهزة وقوعي، وانتبهت على أمي وهي تمسح حبات العرق المتصببة من على جبهتي وهي تقول :

                  - كُنت تهذي يا ولدي، هل الجروح توجعك ؟

                  نظرت نحو أمي برهة وأنا في ذهول، لم أكن بمستطيع أن أتخلص من تأثير الرؤيا والإجابة على أمي، قلت لها :

                  - رأيتُ رؤيا .

                  وحكيتُ لها الرؤيا وكنت أظن أن أمي ستبكي ثانية، بل وربما تنتحب وقد يُغمى عليها، لكني كنت مُخطئًا في تخميني، أزاحت أمي رأسها وهي تسمع رؤياي برضى وتسليمٍ لله كبير، وأغمضت عينيها وأخذت في الدُعاء .

                  عندما رأيتُ الضوء الخافت الذي في النافذة، فهمت أنني نمتُ نومًا مستمرًا من بعد الظهر حتى صباح اليوم التالي .

                  ولم أعد أحس بالوجع الذي كان ينتابني في رأسي وفي ظهري، لذلك اندهشت أمي والسيدات اللاتي معها عندما أرادت أمي أن تطمئن على جروحي، وقلن إن جروح رأسي وظهري قد شُفيت تمامًا، ولم يكن هذا الأمر عاديًا، بل إن شفاء جروح لم تندمل بعد في ليلة واحدة لشيء يَصعب على العقل تصوّره، تذكرت أبي وهو يمسح على شعري في الرؤيا، كما تذكرت أستاذي الذي كان يمسح على ظهري تُرى هل لهذا دخل بشفاءِ جروحي ؟

                  خرجت أنا وأحمد ابن صاحبة البيت نتجول في القصبة، لقد كان سروري كبيرًا رغم كل شيء لأنني استطعت أن أجد صديقًا لي، وأخذ أحمد يشرح لي قصبتهم، ويكلمني عنها، وكان تنبيه أمي وأمه لنا، هو السبب في عدم اقترابنا من مبنى البلدية، لكنا رأينا المسجد ومبنى المدرسة المُهدم والدكاكين المُتراصّة بعضها بجانب بعض في ميدان القصبة،

                  الدكاكين المُغلقة منها والمفتوحة ... وقال لي أحمد :

                  - لو كان الجو صيفًا لذهبنا إلى جدول الماء .

                  وأكمل كلامه قائلًا وهو يشير إلى التلال البيضاء :

                  - حقلنا خلف ذلك الجبل، ونشتغل فيه صيفًا هل اشتغلت في حقل قبل هذا ؟

                  - لا، لنا دكان لبيع الكتب في كابول، لكن العساكر أخذوا كُتبنا، فقمنا بالتالي بإغلاق الدُّكان .

                  - كما أخذ العساكر منا أيضًا قمحنا ودقيقنا وكل شيء عندنا .

                  - ألم يكن المجاهدون هم المسيطرون هنا من قبل ؟

                  - العساكر جاؤوا من قبل ذلك، وأفرغوا كل ما في البيوت، كما أفرغوا الدكاكين مما فيها، ثم جاء المجاهدون فطردوا العساكر، لذلك بدأنا ننام ليلنا في اطمئنان، ولم يعد أحد يطرق أبوابنا ليلًا ليقبضوا على من في البيوت، وعاد المسجد إلى الامتلاء بالمُصلِّين، ثم إذا بالأيام الرهيبة قد بدأت من جديد، لم يعد في الشوارع غير الأطفال والنساء وكبار السن، أما غير هؤلاء ففي السجن مات قسم منهم، والقسم الآخر حمل سلاحه وخرج للاشتراك في الجهاد .

                  - ربما يأتي هؤلاء ويحررونكم ؟

                  قال وهو يلوي عنقه في يأس :

                  - ربما . . .

                  تجولنا أحمد وأنا في ذلك حتى المساء، إلا أننا مررنا مرورًا خفيفًا بالبيت عند الظهر وتناول كل منا كسرة خبز، وجلسنا نستريح بجوار حائط .

                  وبعد أن تراجعت آخر أشعة للشمس من على التلال البيضاء، سرنا في الشوارع المُوحلة نتكلم، وعندما وصلنا إلى البيت لم نجد أمي ولا النسوة الأخريات فجلسنا ننتظر .

                  جئن وقت العشاء، كن عند الجيران الذين بجانبنا مباشرة، قالت لي أمي :

                  - يا أيها الولدان، سنتحرر قريبًا من هذا البلاء وإن هذا الأمر سنقوم به نحن وأنتما ... لغياب الرجال

                  اضطربتُ أنا وأحمد، وأخذنا نسمع ونتابع بمنتهى الانتباه كلام أمي .

                  أشارت أمي من النافذة الصغيرة، إلى الطريق وقالت :

                  - هل تريان التل الذي في نهاية طريق الماء ؟

                  نظرنا إلى نهاية الطريق، خلف التل إلى نقطة ملتوية كان الطريق الواسع الأسود الواقع خلف التلال البيضاء واضح الرؤية جيدًا في ضوء القَمر، أشارت أمي إلى التل وهي تواصل كلامها :

                  - الصخور الضخمة تبدوا كأنها ستقع على الطريق .

                  - نعم .

                  - لا بد من سقوط هذه الصخور على الطريق . لو استطعنا النجاح في هذا لن تستطيع أي دبابة أو سيارة كبيرة الدخول إلى القرية .

                  - أليس هُناك طريق آخر إلى القصبة ؟

                  - هناك طريق آخر، هو الطريق الجبلي الذي جئتما منه، والناس والحيوانات فقط هي التي تستطيع السير فيه، لكن السيارات لا تستطيع عبوره .

                  فكّرت في الطريق الذي جئنا منه إلى هذه القصبة، لقد كان الطريق يضيق في سفح الجبال أحيانًا بدرجة عجيبة يصل الأمر أننا لم نكن نستطيع أن نسير فيه جنبًا إلى جنب ، وأفكر الآن فيما قالته أمي، كيف يمكن لهذه الصخور العملاقة أن تسقط إلى أسفل وتسدّ الطريق ؟ أجابت أمي على هذا السؤال الذي عَلق بذهني :

                  - سيعمل الديناميت عمله في الصخور، ويزحزحها فتندفع ساقطة .

                  تدخلت زوجة الشيخ في الكلام :

                  - أنتما ستقومان بهذا العمل، اليوم وقبل أن يطلع الصباح .

                  قال أحمد :

                  - لا نستطيع .

                  انطلقت أنا سريعًا لأقول :

                  - لا بل سنعمله !! أفهمينا كيف نقوم به ؟

                  نظرت إليَّ أمي وموجات من الضياء على وجهها تتلألأ .

                  طلبت من صاحبة البيت قلم و ورقة، ورسمت في الورقة التل المواجه والصخور القائمة والتي تكاد تقع، أشارت إلى أكبر صخرة وقالت :

                  - ستحفران جيدًا مكانًا قريبًا من أسفل وتحت هذه الصخرة وتضعان الديناميت في الحُفرة جيدًا، ثم تشعلان طرف فتيل الديناميت وتبتعدان فورًا عن المكان، لا بد أن تبتعدا عن المكان بمقدار خمس مئة مترٍ على الأقل وبعد حدوث الانفجار ستنزلان من التل إلى الجسر، وعندما تعبران الجسر تدخلان أقرب البيوت وتنتظران . مفهوم ؟

                  - مفهوم .

                  كررت أمي كثيرًا مسألة كيفية الحفر تحت الصخرة و وضع الديناميت وعدم اضطرابنا، احتضنت صاحبة البيت أحمد وقالت له :

                  - ابني الشجاع، لابد من تحرير القصبة .

                  هزّ أحمد رأسه مصدقًا على كلام أمه .

                  لم نستطع النوم في تلك الليلة حتى منتصف الليل، فهمنا دورنا فهمًا جيدًا، لقد جاء أحد المجاهدين وشرح العملية للنساء،

                  وعندما تتدحرج الصخور على الطريق، سيهجمون على مبنى البلدية، وسيأتون في الليل ليوزعوا السلاح على البيوت، بيتًا بيتًا، لاستخدامه ضد الجنود الذين يهاجمون البيوت .

                  إمام المسجد المقبوض عليه أقنع الضابط الأفغاني الذي في مبنى البلدية بأن الطريق الصحيح هو طريق المجاهدين، وقام هذا الضابط نفسه بإقناع عشرة جنود أفغان بالجهاد،

                  ولم يعلم الجنود الروس الذين معهم أي خبر عن جهاد هذا الضابط وجنوده العشرة .

                  وعندما يقوم المجاهدون بالهجوم على مبنى البلدية يقوم الضابط الأفغاني والجنود بإطلاق سراح أهل القصبة المقبوض عليهم وتوزيع السلاح على هؤلاء السجناء .

                  فرحنا أنا وأحمد بهذه الأخبار الجميلة، لقد أخفت النِّسوة في البداية بهذه الأخبار ثم حكوها بكل تفاصيلها .

                  دُقَّ الباب في وسط الليل تمامًا، جاءت سيدة ترتدي السواد وفي يديها كيس تركته في البيت وابتعدت دون أن تنطق كلمة واحدة، فتحنا الكيس، وجدنا فيه بندقيتين ماوزر من ذلك النوع ذي الفوهات الطويلة، ومجموعة من أصابع ديناميت ومطرقة كبيرة وقطعة حديد طويلة، أخذت أمي الديناميت بيدها وشرحت لنا مرة أخرى باختصار ما يجب علينا عمله، ثم احتضنتني وقبلتني من بين عينيّ،

                  وضعتْ أصابع الديناميت والمطرقة الكبيرة والحديدة الطويلة في الكيس وأعطتها لنا، توادعنا ثم عبرنا من الشوارع الخلفية واتجهنا نحو ذلك التل في ظلام الليل الدامس .

                  لم أعد أخاف



                  كان حفر الصخرة التي سنضع تحتها الديناميت أصعب مما تصورنا . وضعنا الطرف الحادّ لقطعة الحديد أسفل الصخرة وأخذنا ندق عليها ، عند ذلك قال أحمد :

                  - سيسمع العسكر هذا الصوت .


                  - إن القصبة بعيدة ولا أحد يسمع .


                  وفي الحقيقة أن صوت المطرقة يكون قوياً جداً في سكون الليل .

                  كان أحمد شديد الخوف وأنا أدق بكل قوتي على قطعة الحديد ، قال أحمد :

                  - سيسمعون الآن ، إن هذا الصوت يمكن سماعه من كابول .


                  - فليأتوا . سنكون قد أنجزنا عملنا قبل أن يجدونا .


                  - ألا تخاف أبداً ؟


                  - لا ! .


                  - أنا خائف .


                  - لا تخف . ثق أننا نعمل عملاً طيباً . فكّر في هذا .


                  حفرنا حوالي نصف ساعة وأحدثنا حفرة عميقة تحت الصخرة الضخمة ووضعنا الديناميت في الحفرة وعندما أدليت بفتيل الديناميت إلى أسفل رأيت أحمد وقد أغلف أذنيه . قلت له :

                  - هيا أسرع أنت بالجري نحو خلف تلك التلال .


                  وعندما ابتعد أحمد أشعلت الفتيل وانطلقت من مكاني جرياً كان أحمد يجري بسرعة مدهشة ولم يكن في إمكاني القدرة على اللحاق به ؛ وبينما نحن ننزل من التل حدث الانفجار الرهيب ، فألقيت بنفسي على الأرض ، ومن شدة دهشتي تدحرجت حتى نزلت إلى أسفل . فنزلت على الجليد إلى الأرض المستوية دون أن اصطدم بأي صخرة قط . وكان أحمد منبطحاً على وجهه أيضاً أبعد مني بعشرين متراً قمت وذهبت إليه ، أمسكته من يده وأوقفته على قدميه ، كان يرتعش ارتعاشاً غريباً . قلت له :

                  - هل أصبت ببرد ؟


                  - إني خائف . لا بد أن أذهب إلى القصبة . الجنود يأتون من هذه الناحية ويقبضون علينا .


                  - الجنود يذهبون من على الطريق رئيسي ولا يأتون من هنا .


                  وأخذنا نجري نحو القصبة ، وعندما اقتربنا من البيوت الأولى سمعنا أصوات أسلحة . قال أحمد :

                  - لنختبئ في هذا البيت .

                  - ليس هناك حاجة لكي نختبئ . هل نسيت ؟ المجاهدون سيهاجمون ، معنى ذلك أنهم وصلوا . ألا تسمع أصوات السلاح ؟

                  كنت كأني أدفع أحمد وأنا أجري نحو الميدان ، وعندما رأيت الجنود الروس وقفنا واختبأنا خلف الحائط . فهمت أن هؤلاء الجنود بلا سلاح وأنهم يجرون نحونا .

                  لو كان معي سلاح لأجبرتهم على التسليم . ظهرت سيدتان شابتان وفي أيديهما سلاح خرجتنا من البيت الذي يقع أمام المكان الذي نحن فيه مباشرة . صاحت واحدة منهما بصوت قوي على الجنديين الروسيين الهاربين .

                  - قفا !

                  وعندما رأينا هذا الموقف ظهرنا من مكاننا . أجبرت السيدتان الجنديين على الدخول إلى البيت . وساعدناهما في ربط يدي هذين الجنديين الروسيين من الخلف ليكون كل منهما مربوطاً إلى ظهر الآخر .

                  قالت المرأة لصاحبتها وهي تنظر من النافذة نحو الطريق :

                  - هناك ثلاثة آخرون قادمون . لكنهم مسلحون .


                  - طيب ، لكني لا أعرف إطلاق الرصاص .


                  قالت المرأة التي تنظر من النافذة :


                  - وأنا أيضاً لا أعرف .


                  جريت نحو النافذة . حقيقة أن الجنود الثلاثة في يد كل منهم بندقية آلية سريعة الطلقات ، أخذت البندقية التي في يد المرأة وضغطت على الزناد مستهدفاً الجندي الذي في الأمام ، أصابته الرصاصة فوقع أرضاً مُتَلوّياً .

                  قالت المرأة التي أخذت بندقيتها :

                  - رضي الله عنك .


                  وعندما انطلق الجنديان الروسيان الآخران إلى الحديقة التي على جانب الطريق ضغطت على الزناد مرة أخرى فوقع الجندي الروسي الذي أصابته الرصاصة على الحائط تماماً .

                  قالت المرأة الأخرى :

                  - يا لك من بارع .

                  وعندما وجه إلينا الجندي الثالث نيرانه بعدنا عن النافذة . وفي لحظة كُسر الزجاج واخترم الرصاص الحائط الذي أمام النافذة وجعله كالمنخل ، قلت للمرأة التي كانت تحمل البندقية في يدها أن تخرج فوهة البندقية من النافذة ولا تظهر نفسها لكنها تضغط على الزناد وتكرر هذا حتى ينتهي الرصاص من البندقية .

                  وخرجت بهدوء من الباب واتجهت إلى خلف البيت . كانت أصوات الإنفجارات المروعة وأصوات رصاص البنادق السريعة الطلقات تُسمع قادمة من مبنى البلدية . وكنت أرى من جانب الجندي الذي يطلق الرصاص باستمرار وهو يأخذ من زميله المقتول والساقط على جدار الحديقة درعاً له .

                  وجهت البندقية التي في يدي وصوبتها إلى رأسه وضغطت على الزناد مرتين متتاليتين رفع الجندي الروسي يديه عالياً ثم وقع على الأرض ، ناديت على أحمد وعلى السيدتين وجعلتهما يرميان بجثة الجندي الذي في الطريق إلى الحديقة ، وأخذت ما معه من مسدسات أوتوماتيكية .

                  اندهشت السيدتان من جسارتي هذه وهدوئي ، نظر أحمد إليّ بتقدير واضح ، والحق أنني كنت أكثر من الجميع دهشة ؛ ذلك لأن الخوف الذي كنت أحس به قبل يومين انتهى الآن . بحثت عن خوفي من أن أصاب أو قتل ، ولم أجد لهذا الخوف أثراً .

                  تركت الأسيرين المربوطين للسيدتين ، ووضعت الأسلحة الأوتوماتيكية في كيس حملته وابتعدت أنا وأحمد عن المنزل .

                  اتجهنا من الشوارع الضيقة السفلية إلى البيت الذي تقيم فيه أمي وهو بيت أحمد وأمه . ولم يحدث ما يكدر الصفو حتى وصلنا إلى البيت ، ودخلنا البيت من النافذة لأن باب البيت يطل على الميدان ، وذهبنا إلى غرفة التي فيها أمي وأمه ، كانتا – أمي وصاحبة البيت – أمام النافذة المطلة على التلال ، وعندما رأيانا احتضنانا .

                  كانت الشمس تشرق من التلال المقابلة .لقد أمضيت ليلة مليئة بالانفعال . حكا أحمد كيف أصبتُ العساكر الروس الثلاثة . أما أنا فكنت انظر بسرور إلى الصخور التي أغلقت الطريق تماماً . قالت أمي بفخر :

                  - ابني البطل .

                  قلت :

                  - ُترى ماذا يحدث فوق ؟ ما زالت أصوات الأسلحة مسموعة .


                  - لا نستطيع الذهاب إلاّ إذا انقطعت أصوات السلاح .


                  - لماذا ؟


                  أجابت السيدة صاحبة البيت :

                  - لقد راقبنا الطريق . كانت مهمتنا هي مراقبة الذاهبين لمساعدة الصراع الذي في الأعلى .

                  التفتُّ إلى جوانب المكان فلم أجد زوجة الشيخ ، قلت لأمي :

                  - هل ذهبت زوجة أستاذي إلى أعلى .


                  - نعم .


                  أخذت مسدساً سريع الطلقات من الكيس ونظرت . لم أرَ مثل هذا . من قبل كنت أستطيع استخدام بندقية الصيد وما شابهها ، ولم أكن أتصور أبداً أنني سأستطيع استخدام السلاح الحقيقي .

                  سمعنا أصوات السلاح تقترب نحونا مختلطة بصياح ناس ، لم يظهر شيء بعد من النافذة ، الصياح صياح مجموعة ضخمة من الناس ، فتحت الباب قليلاً ونظرت إلى الطريق ، الجنود الروس يسارعون بالهروب من مبنى البلدية إلى الميدان وقسم كبير منهم يتجه من الطريق الرئيسي إلى هنا ، عندئذ بدأ إطلاق الرصاص من نوافذ البيوت على العسكر الروسي ، ليتني كنت أستطيع استخدام هذه الأسلحة لكان هذا من أحسن الأمور ، أغلقت الباب ودخلت .

                  ومرة أخرى أخذت في يدي المسدس الآلي . اقتربت نحو الباب ، صوبت فوهة المسدس نحو الجنود الذي كانوا يتدفقون مثل السيل إلى أسفل ، ضغطت على الزناد ، اهتز المسدس من يدي وكاد أن يسقط مني ، كأن اللهب يخرج من فوهته بدلاً من الرصاص ، ورأيت عددا ًمن الجنود يسقطون أرضاً ، وعندما رأيت أن المسدس لم يعد يطلق رصاصاً عندما أضغط على زناده فهمت فوراً أن رصاصاته قد نفدت .

                  تناولت المسدس الآلي الثاني الموجود في الكيس ، ورأيت المجاهدون والنساء يطاردون الجنود الروس ، فخرجنا كلنا واشتركنا في هذه المطاردة .

                  كان هناك بين المجاهدين المعممين بعمامات بيضاء ، القليل من الجنود الأفغان ، إنهم الآن يطردون العدو الذي أحضروه هم إلى هذه القصبة !! ..

                  توقف الجنود الهاربون ولم يكن في نيتهم القتال ، لقد ألقوا أسلحتهم لكي يستطيعوا الهرب بسرعة ، جمعنا هذه الأسلحة وعدنا بها ، وتجمعنا في ميدان القصبة ، نزع الضابط الأفغاني رتبته من على كتفيه وألقاها أرضاً ، وأعتذر للناس وأقسم إنه سيحمي وطنه بعد الآن من الأعداء ، وتعانق مع رئيس المجاهدين . طلبوا تجميع الجرحى في مبنى البلدية وإحضار الأسلحة الزائدة لتوزيعها على الناس .

                  ذهبت إلى الرئيس وطلبت رؤية الجرحى . أخذ وجهي بين كفيه وقال :

                  - إذن ، انتظر .

                  وعندما تفرق الجميع دخلت مبنى البلدية ، أخلوا حجرة كبيرة ووضعوا المراتب على الأرض ، وكانوا يمددون على هذه المراتب هؤلاء الجرحى الذي كانوا في حالة لا يستطيعون معها الوقوف على أقدامهم . كنت أبحث عن والدي بين هؤلاء الذين يغطى الدم وجوههم وسمعت أنهم جمعوا الجثث في حجرة أخرى ، وصلت إلى هذه الغرفة وقلبي يرتعد ، نظرت إلى الوجوه الذابلة وجهاً وجهاً ، أرادوا أن يمسكوا بذراعي ويخرجوني من الغرفة ، فقاومت .

                  نظرت إلى وجوه الشهداء في اضطراب سببه الخوف من أن أرى وجه أبي بينهم . لم يكن أيضاً منهم ، أحسست في قلبي بسرور خفي لم أنجح في إخفائه .

                  وعند عودتي إلى المنزل ، بدأت أشعر بالإرهاق وبالجوع . كان أبي هو الأهم . لماذا لم يأت ؟ أين هو الآن ؟ ترى هل مقدر لي أن أراه ثانية ؟ . أم هو جريح كما رأيته في رؤياي؟ بحثت عن إجابات في نفسي على هذه الأسئلة .

                  وعندما وصلت إلى المنزل . رأيت زوجة أستاذي وأمي وهما يلفان الجرح الذي في كتف السيدة صاحبة المنزل وهي ترقد على الأرض مسجاة .

                  كان أحمد جالساً في ركن من الأركان وهو يبكي قلقاً على أمه ، جلست بجانبه محاولاً مواساته ، وعندما وجدت أن مواساتي له تزيد من بكائه وضعت ذراعه في ذراعي وخرجت به . سرنا نحو ساعة من الزمن لم نتكلم فيها كلمة واحدة ، ثم خطر ببالي شيء مفاجئ هو أني لم أرَ والد أحمد ، فسألته عنه وأنا محرج ، فقال :

                  - يساعد الجرحى في مبنى البلدية ، يأتي للمنزل بالليل ، ولا يعرف بعد أن أمي جريحة .


                  دخلنا المنزل ، وجلست أم أحمد على مرتبتها ، كانت تشرب من الحساء الذي أمامها في بطء .

                  قالت لأحمد :

                  - اسمع يا ولدي أحمد ، جرحي ليس عميقاً ، تخللته رصاصه وخرجت .


                  ظهر على وجه أحمد تعبير ينم عن سرور مقتضب وجلسنا على السفرة وشربنا حساءنا .

                  قلت :

                  -إذا أردت أن ترى والدك . خذ أنت السلاح واذهب إلى هناك لأن الرئيس قال أحضروا أسلحة كثيرة .

                  أخذ أحمد الكيس الذي به السلاح ونظر إلى أمه ، وعندما أشارت له أمه برأسها أن يذهب خرج من الباب مسرعاً .


                  فرحتنا بالنصر لم تدم طويلاً



                  خرج أحمد من الباب وفوراً ، عاد يقول :

                  - طائرات ؟! ..


                  سمعنا أصواتها . اهتزازُ زجاج النافذة بهذه الشدَّة معناه أن الطائرات تطير طيراناً منخفضًا جداً ، وعندما نهضت من مكاني لأرى ما في الخارج حدث انفجار ضخم جعلني ألقى نفسي أرضاً كيفما اتفق ، وأخذت الإنفجارات يتابع بعضها بعضاً ، وهدير محركات الطائرات مرة مقتربة وأخرى مبتعدة ، حاولت النظر – من المكان الذي انطرحت فيه أرضاً – إلى الخارج ، كانت القرية مغطاة بدخان قذر .

                  الإنفجارات تتوالى لا يفصل بينهما إلا القليل من الوقت ، غطت أمي أذنيها بيديها ، كان الخوف مرتسماً على وجهها ، كما كانت مغلقة عينيها ، وكانت السيدة صاحبة البيت وزوجة الشيخ تنظر كل منها إلى الأخرى باضطراب كأنهما تتساءلان عن هذه الضجة والإنفجارات الرهيبة ،

                  فم أحمد مفتوح قليلاً واضعاً يديه على أذنيه وفي عينيه تعبير واضح لا يدري إلى أين ينظر ، وبينما نحن على هذا الوضع في انتظار يسوده الخوف والاضطراب والدهشة إذا بباب البيت يفتح على آخره ورجل طويلة القامة يصبح بنا قائلاً :

                  - ماذا تنتظرون ؟ القصبة تحترق ، هيا أسرعوا بالخروج .


                  انطلق أحمد الذي كان صامتاً حتى هذه اللحظة ، انطلق نحو الرجل الطويل القامة وهو يصيح به :

                  - بابا !.


                  ولم يكن الرجل فاطنًا حتى هذه اللحظة إلى أن امرأته جريحة فأسرع بالدخول وقال لزوجته :

                  - هل أنت جريحة ؟


                  قال السيدة صاحبة البيت وهي تقف على قدميها :

                  - ليس الجرح خطيراً ، أستطيع السير .


                  خرجنا وكان الناس يهرولون نحو الجبال ، وكانوا يمنعون كل من يريد النزول إلى الشارع الرئيسي . وكان المجاهدون يتصببون عرقاً في الطرق الموصلة في سبيل إنقاذ الناس من هذا الحريق .

                  كل اتجاه أستطيع رؤيته كان يحترق ، ملأني الرعب عندما مررت بجوار مبنى البلدية ، فلم يكن في مكان هذا المبنى الضخم غير أكوام من الحجر والأنقاض ، واشتركنا نحن في عملية الإنقاذ هذه ولا أبالغ إذا قلت إنه لم يخرج إنسان سليم واحد من بين كل الناس الذين وجدناهم بين الأحجار .

                  استطاع غيرنا أن ينقذوا عدة أشخاص ، لاحظت أني بقيت بمفردي ، وأن أمي والآخرين لم أعد أراهم ، ولفني إحساس مظلم ، فلم يهد هناك أحد يبحث عن الذين تحت الأنقاض ، ورأيت أن الناس حولي يتناقصون وأن كل الناس الآن يسرعون إلى تسلق الجبال :

                  سمعت صوتا ًقويًا يصيح بي :

                  - سِرْ .


                  نظرت إلى صاحب الصوت ، كان رجلاً مُسنّاً ينظر نحوي وهو يشير بأصبعه السبابة إلى الاتجاه الذي يهرب إليه الناس . وقلت له :

                  - أبحث عن أمي .


                  أمسكني الرجل من ذراعي وخرج بي مسرعاً ، وهو يقول :

                  - يرحمها الله .


                  - أمي لم تمت .


                  بدا وكأنه يدفعني نحو التل ، ومن جانب آخر يصب اللعنات على طائرات العدو .

                  وعندما وصلت إلى التل سمعت أزيز الطائرات فطرحني هذا الرجل المسن على الأرض . وكان هو بالتالي ممدداً على الثلوج منكفئًا على وجهه ، وسمعت إنفجارات ، إنفجارات شديدة بدرجة لم أسمع مثلها حتى الآن .

                  رفعت رأسي قليلاً ونظرت إلى أسفل التل ، إلى القصبة ، فرأيتها تحترق واللهب يغطيها . تبدو القرية وكأنها مُدَمَّرة . تشق عليها بشكل متواصل أشياء تشبه جذوع الأشجار من الطائرات التي تحوم فوقها بضجيج واضح ، فتندفع كتل الأحجار إلى الهواء بضجة هائلة من المكان الذي تسقط عليه هذه الأشياء من الطائرات .

                  قال الرجل المسن :

                  - هدم العدو بيوتنا ..!!


                  كرر العجوز كلامه وهو يضغط على أسنانه غاضباً :

                  - هدم العدو بيوتنا ..!


                  كانت الطائرات قد وثقت تماماً بأنها أتت على القصبة كلها ، فاختفت بسرعة خلف التلال البيضاء . اعتدلت من المكان الذي أرقد فيه ، وأخذت أشاهد – وأنا مقشعر البدن – هذه النيران الرهيبة .

                  وبدأ الناس الذين كانوا قبل فترة يهرولون إلى أعلى الجبال ، ينزلون إلى أسفل ببطء ، الناس كثيرون على يميني وعلى يساري ، النساء والأطفال في بكاء ونحيب بعيون تبحث عن منازلهم بين اللهب .

                  أخذت أنا أيضاً في البكاء ، كنت أبكي بحرقة وأنتحب وأنا أضيف إلى مواجعي وآلامي مآسي المنازل التي دمرها العدو ، ومراثي من هُدمت منازلهم .

                  سمعنا صوت الرئيس يقول :

                  - قد تعود هذه الطائرات مره أخرى . يجب ألا نعود إلى القصبة ، يجب أن نوزع أنفسنا على القرى المجاورة ونقضي فيها ليلتنا . ثم نذهب صباحاً إلى قصبتنا .


                  انكببت باحثاً عن أمي بملابسها السوداء وخمارها الترابي اللون فلم أعثر عليها ، كان الازدحام يتناقص ويذهب الناس في مجموعات إلى اتجاهات مختلفة ، وفجأة سمعت صوتاً انتزع الخوف من قلبي ومحاه ثم ألقاه أرضاً :

                  - كريم ؟! .. ابني الكريم ؟!


                  إنها أمي تبحث عني !! كانت رأت طفلاً في مبنى البلدية المهدم يسير في اتجاه التل ، ظنته إياي ، جرت خلفه وبَعُدَتْ عن الآخرين ، وعندما أدركته عرفت أن هذا الطفل ليس أنا ، ولم تستطع العودة لأن الطائرات كانت تدمر القصبة .

                  قلت لها :

                  - أين أحمد وأمه وزوجة الشيخ ؟


                  - تُهت عنهم أثناء بحثي عنك .



                  لم يعد حولنا إلا بضع أشخاص ، وكانوا مثلناً أيضاً لا يعرفون إلى أين يتجهون ، اقتربت امرأة قصيرة القامة ، نحو أمي وقالت لها :

                  - هل أنتما أيضاً غريبان على هذه القرية ؟


                  أشارت لها أمي برأسها قائلة :

                  - نعم ..


                  اقتربت المرأة من أمي أكثر من ذي قبل وقالت لها :

                  - ونحن أيضاً غرباء ..


                  وأشارت بيدها إلى شخصين ينتظران على بعد قليل ، واستمرت في كلامها :

                  - أمي، وأبي.. قالوا أن نجتمع هنا لنهاجر إلى باكستان، وصلنا إلى مدينة جلال آباد، وكنا عشرين شخصًا، الآخرون استشهدوا.

                  - ونحن أيضًا جئنا من كابول.

                  وبينما كانت ظلمات الليل ترخي سدولها على الجبال رويدًا رويدًا بدأت قطع الثلج الصغيرة الدقيقة في الهطول على ألسنة اللهب المستعرّة في القصبة.

                  اقترب الرجل العجوز منا، واتجه بنظراته نحو الحريق وقال:

                  - تمطر ثلجًا، وهذا الثلج يطفىء الحريق، لننزل إلى القصبة ولا بد أن نجد بيتًا لم يحترق.

                  أيدت المرأة العجوز كلام الرجل بصوت مرتعش:

                  - طبعًا لا بد أن نجد بيتًا سليمًا. ولم يعد بنا قدرة على أن ننتظر أعلى هذا الجبل.

                  نزلنا ببطء إلى أسفل تحت الثلج الذي جاء منقذًا، لأن هذا القدر الضخم من اللهب يحتاج إلى آلاف الأشخاص لإطفائه. وعندما نزلنا إلى القصبة كان الثلج قد أخذ حدَّته في الهطول وإطفاء الحريق، ومن أماكن الحريق أصبح يخرج الدخان بدلًا من اللهيب.

                  تذكرت البيوت المتناثرة القليلة التي بجانب الجسر والتي يمكن أن تستخدم إحداها هذه الليلة إذا لم تكن قد أصيبت، وفاتحت أمي بهذه الفكرة وقالتها بدورها إلى العجوزين، فاتجهنا نحو الجسر وسرنا بسرعة بقدر ما نستطيع بين الروائح الغريبة الصادرة من الحرائق وبين الدخان ووصلنا إلى المنازل المشتعلة في نهاية القصبة، وكان تخميني مصيبًا، فقد كانت هذه المنازل بعيدة عن الأضرار، والدخان فيها أقل بالنسبة إلى الدخان داخل القصبة.

                  دخلنا آخر بيت ويبدو مبنى واسعًا سليمًا، دخلت المرأة القصيرة القامة إلى مطبخ البيت، وبعد خمس دقائق جاءت وفي يدها مصباح مشتعل وقالت:

                  - في الداخل غرفة صغيرة. تنامين فيها أنت والولد.

                  كنا كلنا في غاية التعب، جلسنا على الأرض حيث نحن بحكم العادة، فلم يكن فينا رمق للتحدث، ولم نستطع النوم مع أننا كنا منهكين، ولم يكن في أعيننا أثر نوم، وعندما وجدت المرأة القصيرة القامة أننا لم نتحرك قطّ ذهبت إلى المطبخ ثم عادت بعد خمس دقائق وقالت:

                  - ليس في البيت شيء يؤكل، معنا طبق دقيق وعندنا ماء، هذا كل ما عندنا.

                  قالت المرأة العجوز بحدّة:

                  - لقد وجدنا مكانًا نحتمي به، فالحمد لله كل الحمد. فلو لم نجد شيئًا نأكله بعد ذلك، فإن هذا لا يضيرنا في شيء. كما أن أهل القصبة سيعودون غدًا. وعلينا أن لا نجهز على آخر ما معك.

                  قال العجوز:

                  - كلامك مضبوط .

                  نهضت أمي على قدميها. واقتربت من المرأة الطويلة القامة وقالت:

                  - سأنام مع ابني الصغير هذا في الغرفة الصغيرة، وكونوا أنتم كما أنتم هنا.

                  ثم أخذتني من يدي، وذهبت بي الغرفة الصغيرة، أمسكت المرأة القصيرة القامة، بالمصباح في يدها بجوارنا حتى فرشنا فراش النوم. لم يكن هناك ما يظهر من النافذة. الجليد يغطي كل مكان. هطول الثلج مازال مستمرًا بكل شدته. كنت أعرف هذا جيدًا من الخطوط النازلة بسرعة من الجو المتسخ والكدر. قالت أمي:

                  - حاول أن تنام ولو قليلًا. لقد أنهكك التعب اليوم.

                  - لا أريد أنا أنام يا أمي.

                  - سنتعب كثيرًا إذا لم نَنمْ، فلا بد أن ننام.

                  نمت في مكاني حتى لا أزعج أمي، وأمسكت أمي في هذا الظلام برسغي بأنامل يديها، وأدخلت يدينا في الفراغ الواقع بين الفراشين . قالت أمي بصوت يملؤه الألم:

                  - لن أتركك تبتعد عني، لقد كدت أُجنُّ اليوم في التلال.

                  - وأنا أيضًا يا أمي كنت خائفًا، عندما لم أرك بجانبي خفت خوفًا شديدًا.

                  - كم أتمنى لو كان والدك هنا..

                  - والدي حبيبي، تُرى أين هو الآن؟

                  - عِلْمُ ذلك عند الله.

                  - إني قلق أيضًا على زوجة الشيخ، إنها غريبة على هذا المكان.

                  - كانت مع أصحاب البيت، ذهبت معهم، وإن شاء الله سنلتقي بهم جميعًا غدًا.

                  تحدثت مع أمي حتى منتصف الليل في أمور كثيرة؛ كنا نهمس في جو الغرفة المظلم البارد متحدثين عن القصبة التي دمرتها الطائرات تدميرًا، والبرد الشديد الذي بدأ يزداد عاصفًا في الخارج، وموت الكثير من أهل القصبة، وأنه من الصعب إعادة بناء البيوت في هذا الجو الشتوي الشديد، وأنه ليس لنا مكان نأوي إليه، والعديد من مشاكلنا الحادة.

                  أيقظنا الرجل العجوز بطرق بابنا لصلاة الفجر، وبعد الصلاة قمنا جميعًا بالتجوال في القصبة، كل مباني الميدان باستثناء مبنى البلدية والمسجد سوّيت بالأرض تمامًا، ولقد أطفأ البَرَدُ والثلج الهاطل حتى الصباح كل الحرائق، وتَبَقَّى الأحجار والأنقاض من المباني التي أصابها الدمار.

                  كان لون الثلج الأبيض الناصع يغطي الأنقاض التي بقيت من البيوت المهدمة، ذلك لأن الثلج مازال يهطل، وكانت القصبة تعطي للإنسان انطباعًا بأنها مدينة قد تحولت منذ سنوات إلى خرابة كبيرة.

                  عدنا إلى البيت الذي كنا فيه مرة أخرى لأننا لم يعد باستطاعتنا تحمل الثلج والبرد وأثناء ذلك كنا نرى ناسًا قليلين ينزلون من التلال إلى أسفل، كان الناس الذين قضوا الليلة في القرى المجاورة يعودون إلى قصبتهم، ذهبنا نحن إلى البيت دون انتظار مجيئهم، جلس الرجل العجوز في ركن الغرفة الكبيرة وأخذ يتحدث بتعبير ثابت:

                  - لم يعد لنا مأوى هنا. وأهل القصبة أيضًا لم يعد لهم مأوى، إن أفضل الأمور أن نذهب كلنا إلى الباكستان. ليس معنا سلاح، ولو كان معنا السلاح فليس معنا طعام، إذن لم يعد لنا مجال في الصراع.

                  تذكرت شيئًا، لقد ترك أحمد الكيس الذي به السلاح، في البيت، وقد خرجنا عند وصول والده، وأثناء اضطرابنا لم يتذكر أحد هذا الكيس. استأذنت أمي، وجريت مسرعًا إلى بيت أحمد. وعند اقترابي من البيت. رأيت خرابة تحت الثلوج. ولأن البيوت التي في تلك المنطقة كانت عبارة عن كومة أنقاض ضخمة فمعنى هذا أنها هدمت عن آخرها.

                  دخلت بين الأنقاض، خمَّنْتُ بالتقريب مكان الغرفة التي كنا نجلس فيها دائمًا، حسبت للأحجار حسابًا وبدأت أنظف المكان، لم أستطع إلا إزاحة الأحجار الصغيرة فقط جانبًا، وبالطبع كانت هناك أحجار أكبر من أن أستطيع إزاحتها من مكانها، تجمدت أصابعي، وقدماي أصابهما برد شديد.

                  حاولت في البحث والتفتيش وإزاحة الأنقاض ما يقرب من ساعتين، اقتنعت بأنني لن أحصل على الأسلحة بمجهودي فقط. وبينما أنا عائد إذا بي أرى أحمد يبعد الثلوج من تحت قدميه ويلقيها في الطريق ويأتي واثبًا من على الأنقاض، تعانقنا وكأن كل واحد منا بعيد عن الآخر منذ سنوات، نظر مليَّا إلى بيتهم المتهدم ولم يتكلم، كان وجهه حزينًا لدرجة أني لو لمسته لبكى، وبعد قليل جاء والده وكان يصرُّ على أسنانه ويهزّ قبضتا يديه، ويتكلم بصوت حاد غاضب منفعل، ولما فطن إلى وجودي، قال لأحمد:

                  - أهذا صديقك كريم.

                  - نعم يا والدي.

                  - وأين قضيتم ليلتكم يا بُنيَّ؟ بحثنا عنكم كثيرًا أمس.

                  حكيت له المسألة باختصار، هزّ رأسه تصديقًا لكلامي. وجاءت أم أحمد مع زوجة الشيخ من بعيد وكانت أم أحمد تبكي وهي قادمة، وعندما وصلت إلى جانب بيتها المهدم، ازداد بكاؤها، وكانت تبدو صائحة مستغيثة. مر في ذلك الوقت شاب بجوارنا. وقال منبهًا علينا:

                  - على كل شخص أن يأخذ الأشياء التي يستطيع حملها معه وعلينا أن نجتمع في ساحة القصبة، الهجرة إلى باكستان .. الهجرة! ... سمعنا نفس هذه الأصوات في الشوارع الأخرى. قال والد أحمد:

                  - من لم يتهدم بيته يأخذ أشياءه. أما نحن؟!.

                  قلت لهم: لا بد من إخراج الكيس الذي به الأسلحة.

                  فوافقوا سريعًا، وبدأنا كلنا في إزاحة الأحجار، ثم رأيت بعد قليل أمي تأتي بمفردها، لا بد أنها قلقت لتأخري، وعاشت أمي مع زوجة الشيخ وأم أحمد فرحة اللقاء وألم المنازل المُهدمة، وقُمْنَ هُنّ أيضًا بمساعدتنا، سألتُ أمي:

                  - ماذا حدث للعجائز؟.

                  - ذهبوا إلى ساحة القصبة، وعندما سمعوا خبر الهجرة فرحوا جدًا. أزحنا جانبًا من الأنقاض التي أغلقت الحجرة الكبيرة. وتناولت أنا كيس السلاح وكان اتسخ بالطين والوحل، وأخرجنا بعض بطانيات ممزقة ولم نفعل أكثر من هذا.

                  امتلأت ساحة القصبة، ووضع والد أحمد عودًا في عمامته حتى يُرى ولأنه طويل القامة كان لا بد أن يكون هذا الذي وضعه في عمامته ظاهرًا بين هذا الزحام، كان الوقت قد أصبح ظهرًا عندما جئنا إلى ساحة القصبة، كنا نحس بيوم مشرق مشمس بعد ليلة ثلجية وصباح تعصف فيه الرياح، كانت قبة المسجد تبدو أعلى من الأنقاض لم يصبها ضرر، وكان المسجد يبدو وكأنه دخل في قاع الأرض وقبته بقيت خارجها، لكن المئذنة كانت مهدمة، فقد كان قسمها العلوي يرقد بجانب القبة.

                  كنا في آخر نقطة خارج الزحام... وقفنا ننتظر أن يقوم أحد ليقول شيئًا. ولم يحدث. تداخلت بعض الجموع في بعض، ثم اتجه الناس كلهم في اتجاه الطريق الرئيسي.

                  وعندما نزلنا من القصبة تركنا الطريق لندخل في الوادي الذي على يسارنا، وكانت الثلوج قد أخذت في الذوبان. أحمد يطاولني في القامة. وكنا نمشي كل منا بجوار الآخر، ووالده كان بجواره، أما أمي وزوجة الشيخ وأم أحمد فقد كانوا وراءنا مباشرة، على ظهري كيس السلاح وعلى ظهور الآخرين أشياء أخرى مختلفة.

                  ولقد عبرت من جانبنا عربات الجليد التي يسحبها الناس، فقد كان في القافلة ناس مرضى. ربطت الأمهات أطفالهن الصغار على ظهورهن، وحمل كل فرد على ظهره كل ما استطاع أن يجده، سرنا ساعة، سرنا ساعتين، ثَقُلَ كيس السلاح على ظهري.

                  كنا نسير بخطواتنا في التلال الجليدية التي تلمع تحت أشعة الشمس، وفي الوديان التي لم تلمسها يد ولم يضع إنسان عليها أثر قدميه. كنا نسير ونحن أحيانًا نتخلف قليلاً وفي أحيان أخرى نتقدم قليلًا نتطلع إلى مئات الوجوه، ونسير بجانب مئات الأقدام. الوجوه باكية والأقدام مُجهدة، والنظرات عاجزة تحتاج إلى الأمل، والوجه المبتسم مفقود في هذه القافلة.

                  في ذلك اليوم وتلك الليلة سرنا كثيرًا، وكان ينتاب سيرنا أحيانًا فترات قصار نرتاح فيها، كانت ساقاي تتعباني كثيرًا وركبتاي توجعاني حتى أتصور أنهما سينكسران. وأتعبني ساعداي حتى أني تصورت أنهما يكادان ينفلتان من جسمي بعد أن ثقل عليهما كيس السلاح الصغير الذي فوق ظهري. وصلنا في الصباح التالي إلى قرية كبيرة.

                  استقبلنا الناس في هذه القرية بالعناق وعيونهم تسبح بالدموع. وامتلأت القرية بنا، جامع القرية وقاعة الضيوف في القرية، وكل بيوتها بل حتى حظائرها. وكان الجامع ملجأنا ولأنني لم أتمكن من العثور على مكان أجلس فيه بعيدًا عن الزحام داخل الجامع، أخذت أمي وصعدنا إلى المئذنة. جلست على درجات سلمها. وأذكر أنني وضعت رأسي على آخر درجة في السلم من أعلى، ونمت. وزع علينا أهل القرية الطعام في المسجد.

                  نادت عليّ أمي مرة أو مرتين ثم لم ترد أن تزعجني عندما رأت أنني استغرقت في النوم. نمت في ذلك اليوم على هذه الحالة حتى المساء، كانت درجات سلم المئذنة أكثر راحة لجسمي المتعب من الفراش الناعم. وعندما استيقظت، كانت أشعة الشمس الأخيرة تأتي من نافذة المسجد. وكانت أمي تنام مستندة إلى الجدار الخشبي من المئذنة. وهي تضع رأسي - وأنا نائم - على ركبتها. عظام وجنتيها بارزة بدرجة ملحوظة وقد استقرت حلقات بنفسجية تحت عينيها، وجهها ذابل وشفتاها جافتان، فمها مفتوح قليلًا وتنام آنّة، وضعت يدي على جبهتها، وجدت حرارتها مرتفعة، نظرت إلى أسفل، فوجدت أم أحمد وزوجة الشيخ تتهامسان، لَوّحت بيدي إليهما، رأياني، أشرت إلى أمي، فجاءتا، قلت لهما:

                  - أمي مريضة، حرارتها في جبهتها مرتفعة كالنار. وضعت أم أحمد يدها على جبهة أمي. وهزت رأسها تؤكد مخاوفي، ثم ابتعدت عنا بهدوء، ثم التفتت إليّ وهي تخرج من الباب مشيرة بيدها أن أنتظر.

                  انتظرنا أم أحمد حوالي ساعة، وساد الظلام داخل المسجد، كنت بين الحين والحين أطمئن على أمي التي تئنُّ، بوضع يدي على جبهتها وعلى وجهها. كان نفسها ساخنًا وغير منتظم. استيقظت، ربما من لمسات يدي، وسريعًا بحثت عني، لمست وجهي ورأسي بيديها الساخنتين سخونة الجمرة، وقالت:

                  - إني تعبة.

                  - كنت تئنين في نومك، وحرارتك مرتفعة يا أمي. وبسرعة تدخلت في الكلام زوجة الشيخ لتقول:

                  - لقد أصابك البرد على الأغلب.

                  قلت لأمي:

                  - يبدو هذا.

                  لم نكن نرى بعضنا من شدة الظلام، وكنا نتحدث همسًا نظرًا لازدحام المسجد بالناس. رأينا رجلًا مسنّاً يدخل المسجد وفي يده مصباح، أخذ المصباح ليضعه بجانب المحراب، فغمر ضوء باهت أرجاء المسجد، وكان هناك طفل صغير يبكي بجوار المحراب مباشرة، تذكرت أنني استيقظت عدة مرات على صوت هذا الطفل.

                  أثَّر في الناس - وهم جالسون على الأرض - كلٌ من ضوء المصباح وبكاء الطفل، تحولت الهمسات التي بدأت ذات اليمين وذات الشمال إلى طنين. كان هناك رجل ضخم على باب المسجد، تقدم نحو الأمام والمصباح في يده، وعندما رأيت وجهه عرفت أنه رئيس المجاهدين، ملأ الجامع بصوته القوي. وقال:

                  - إخواني. إننا نعود من هنا، المسنون والنساء والأطفال يأخذون طريقهم، والطريق ابتداء من هنا ليس خطرًا، عندما تعبرون حدود الباكستان تحركوا في الطرق الرئيسية بحذر، الرجال الذين يحملون السلاح يلحقون بنا، وبإذن الله عن قريب ستعودون إلى وطنكم. سنجعل من أفغانستان مقبرة للعدو، وسنجبر هذا العدو أن يندم لاحتلاله بلادنا، وإنكم عائدون بإذن الله إلى بلدكم الذي عانى ويلات الحريق والهدم، وقدَّم أبناءه شهداء في سبيل الله، وستبنون بيوتكم مرة أخرى، وستُظهرون لأبنائكم أسمى معاني البطولة.

                  أبلغوا سلامنا إلى أخواننا في الدين، في باكستان، رافقتكم السلامة. بدأ الطنين يدوي في المسجد، ظلال الناس في الضوء الخافت تخرج خلف الرئيس من الجامع في أعقاب بعضهم، أحسست أن قلبي أصبح كالقوس متوترًا، أريد أن أحارب العدو، وليس هذا انفعالًا أو حماسًا بل هو قرار ثابت، انطلقت من مكاني، وجدت الرئيس وسط الازدحام خارج المسجد، اقتربت منه، كان ضوء المصباح الذي يحمله ينير وجهه الصارم فيبدو كالصخور الحادة، قال لي:

                  - أتريد شيئًا أيها الولد؟.

                  - أريد أن ألتحق بكم، أجيد إطلاق الرصاص، قتلت في القصبة ثلاثًا من الجنود الروس ببندقية ماوزر، ولا أخاف الموت، وأتحمل السفر الشاق، وأتحمل الجوع. وأعدوا عدوًا سريعًا.

                  نزل الرئيس الضخم الجسم على ركبتيه. تأثّر كل الناس الذين حولنا بحديثي. وصاح رجل ذو لحية كبيرة مكبّرًا:

                  الله أكبر ... الله أكبر ...

                  قال الرئيس:

                  - كم عمرك؟.

                  - اثنتا عشرة سنة.

                  - أأنت الطفل الذي فجَّر الصخور التي في مدخل القصبة بالديناميت؟.

                  - نعم.

                  - أنا أبحث عنك منذ أيام، أريد أقبلك من جبهتك... أريد أن أحييك. ما اسمك؟.

                  - كريم.

                  قال الرجل ذو اللحية الكبيرة:

                  - حفظك الله الكريم.

                  قال الآخرون:

                  - آمين.

                  - أليس لك أحد هنا؟.

                  - أمي وهي الجالسة في منبر الجامع، مريضة وحرارتها مرتفعة، التفت الرئيس إلى العجوز قائلًا:

                  -يا إسماعيل آغا، خذ هذه المرأة في عربة الجليد، وخذ معك عدة مزالج مشابهة من القرية، وهناك مستشفيات في الطريق والقافلة أمانة في عنقك.

                  كان هذا الرجل المسن النوراني الوجه الذي أُودِعَتْ أمي وبقية المسافرين أمانة في عنقه، يستمع إلى الرئيس في احترام كبير، وقال:

                  - سمعًا وطاعة.

                  التفت الرئيس نحوي وقال:

                  - يمكن أن تأتي معنا إذا أذنت أمك في هذا.

                  - دخلت المسجد. قابلت أحمد على باب المنبر.

                  قال لي:

                  - أمك تسأل عنك.

                  كانت أم أحمد وزوجة الشيخ وسيدة لا أعرفها، مهتمات بشأن أمي. تُرى كيف أبلغ أمي أنني سألحق بالمجاهدين؟ لو لم تكن مريضة لكان الأمر سهلًا. لن ترغب في أن ترسلني معهم، وإذا قلت لها هذا ستبكي. ستقول لا تذهب، وأنا أريد الذهاب أكثر من أي وقت مضى، سأجد أبي وسننطلق نحو دبابات العدو كما رأيت في الرؤيا. وكان الرئيس ينتظرني في الخارج. تمر الدقائق. والنسوة الثلاث لا يتركون أمي بمفردها. خرجت من فم زوجة الشيخ كلمة رهيبة:

                  - ماتت ...!!

                  أحسست لحظتها كأن القبة تنهار على رأسي. ضاق قلبي. وتوقف لساني. قالت أم أحمد لزوجة الشيخ:

                  - اسكتي.

                  وكأنها لم تكن تعلم أني أسمع ذلك. ربما تكون هذه اللحظة هي أشدُّ لحظة اضطراب أحسست بها، لم تعد ساقاي تتحملاني، لم أستطع أن أخطو خطوة واحدة، صيحة تأتي من داخلي لتقول "يا أمي" لكن صوتي لا يخرج. أحسست بأن الدموع الساخنة تنسكب من عيني لتنساب على وجهي ورقبتي. أمسكتني زوجة الشيخ ثم أخذت هي تبكي. ثم استطعت أن أقول:

                  - أمي.

                  امتلأ المكان حولي في الضوء الباهت بالنساء المسنات وبالأمهات اللاتي يحملن أطفالهن في أحضانهن. تهامس الجميع بألمي، وساد الهمس بين الموجودين. لقد هزَّ هذا الخبر الأليم أصوات الناس حتى تلك النسوة اللاتي لا يعرفن أمي قط. وكان عليّ السفر بعد قليل. كنت سأكون بجانب المجاهدين في كل الجبال وأحارب معهم ضد العدو. وسيأتي يوم التقي فيه بأبي، وسيقول لي والدي:

                  - كيف حال أمك؟

                  ساعتها ماذا سأقول له؟ وماذا سيفعل أبي عندما أقول له:

                  - ماتت في منبر خشبي في جامع صغير، في قرية جبلية؟

                  كنت أبكي وأنا أنظر إلى الناس الذين تحلَّقوا حولي. وكان كل واحد منهم يبكي عندما أنظر إليه، كنت أقول أمي، لن أحس بدفئك مرة أخرى، بكيت بحرقة حتى تأثرت أحبال صوتي، بكيت وأنا أتطلع إلى وجهها الذابل بظلاله في الضوء الباهت. احتضنت أمي وبكيت بشدة... أمي التي ربتني، وأحبتني أكثر من روحها،

                  ولم تكن تود أن أبتعد عنها، التي تشمني كما تشم الوردة وتقبلني بحرارة وتتحدث معي بدفء وتربت عليّ بأجمل الأحاسيس، وتسكن آلامي، وتهدئني عندما أضطرب وتمسح دموع عيني عندما أبكي وتجد حلًا لكل مشاكلي وآلامي، إني لم أستطع عمل شيء قط من أجلك يا أمي في هذه القرية الغريبة. والآن سأتركك في هذه الحالة وسأذهب...

                  سامحيني... سامحيني يا أمي. بكيت وأنا أفكر في كل هذا. وأسبلت عينيها المفتوحتين. ولم تعد أنفاسها الحارة تصدر من بين شفتيها المفتوحتين قليلًا.

                  (( إن المسلم لم يخلق ليندفع مع التيار ولا ليساير الركب البشري حيث اتجه وسار بل خلق ليوجه العالم والمجتمع والمدنية ويفرض على البشرية اتجاهه ، ويملي عليها إرادته ، لأنه صاحب الرسالة وصاحب العلم واليقين.. لأنه المسؤول عن هذا العالم وسيره واتجاهه فليس مقامه مقام التقليد والاتباع ، إن مقامه مقام الإمامة والقيادة ، ومقام الإرشاد والتوجيه ، ومقام الآمر الناهي ))

                  الشاعر الباكستاني محمد إقبال

                  تعليق


                  • #10

                    المُجاهد الصَّغير
                    ( الفصل التاسع ..)


                    كان أبو أحمد أيضًا سيذهب مع المجاهدين، لم يكن أحمد يود أن يتركني ولكن والده و والدته اعترضا على ذلك .

                    سلَّمنا على الموجودين ثم خرجنا إلى طريقنا . أعطيت الرئيس مُسدسًا من المسدسات الموجودة في الكيس الذي معي، وَ أُعطيت مسدسًا مثله إلى والد أحمد . وواحد خصَّصته لاستعمالي .. قال الرئيس :

                    - أهذا غنيمتك ؟

                    كان عند المُجاهدين أسلحة كثيرة من هذا النوع، كما كان معهم الكثير من خزائن الرصاص ذات الخمسين طلقة، كان السلاح الذي انتهت رصاصاته من نصيب والد أحمد، أعطاه الرئيس واحدًا من الخزائن كما أعطاني واحدًا لكي يكون معي احتياطًا، وضعته في حزامي .

                    كُنا نسير من الطريق الرئيسي نحو الحدود الروسية، كان سيرنا في الطريق المُعبّد الواسع أكثر من السير في الجبال .

                    لم يكن الرئيس يتركني أبتعد عنه، وذات مرة توجه بكلامه إلى والد أحمد قائلًا :

                    - هل اسمك أبو أحمد ؟

                    ذلك لأنني لم أكن متذكرًا اسمه، لذا كنت أتحدّث عنه هكذا دائمًا ، قال والد أحمد :

                    - اسمي سيِّد محمود .

                    قال الرئيسُ لي :

                    - هل عرفت الآن أيها المُجاهد الصَّغير ؟

                    لقد أصبح اسمي بعد ذلك " المُجاهد الصَّغير " وكان اسمي الأصليّ وهو كريم قد انتهى بموت أمي

                    في المنبر الذي ماتت فيه، مشينا حتى الفجر، وقرب الصباح .. وزعوا علينا خُبزًا جلسنا على حافّة الطريق ووجدناها فرصة نأكل فيها الطّعام وفي نفس الوقت لنستريح قليلًا .

                    قال الرئيس للرجل الضخم الذي يجاوره، وكان في مثل ضخامته :

                    - كم تبقّى ؟

                    نظر الرجل حواليه ثم قال :

                    - إن شاء الله نكون في بدخشان بعد ساعتين

                    نهض الرئيس على قدميه قائلًا :

                    - بسم الله

                    وتبعه الآخرون، أخذت أعُدُّ مجموعتنا .. ويبدو أن الرئيس لاحظ ذلك فالتفت إليَّ قائلًا :

                    - كم عددنا ؟

                    قلت له :

                    - لم أنتهِ من العدّ بعد .

                    - أقول لك عددنا ستٌ وأربعون ونصف .

                    نظرت إليه وأنا في حالة تعجُّب !!

                    أثار وجهه الحسن بسمة لطيفة وقال :

                    - إذا لم ندخلك في حساب عددنا، فنحن ست وأربعون .

                    الآن فقط فهمت معنى مزحه .. يعتبرني نصفًا !!

                    سرنا حوالي ساعتين، ودخلنا شارعًا واسعًا يتفرّع من الطريق الرئيسي . انتهت التلال الصخرية التي كانت على مسيرتنا، ولكن هناك تلال أخرى نهاية الطريق الذي دخلناه، وبعد أن سرنا قليلًا بدأت تظهر أمامنا المدينة التي تُسمّى " بدخشان "، وبأمر من الرئيس تركنا الطريق وبدأنا نتجه نحو التلال ثم وقفنا على تل مطل تمامًا على المدينة ، قال الرئيس :

                    - استريحوا قليلًا وسأقول لكم ماذا سنقوم بعمله ليلًا .

                    وجلسنا نستريح ننتظر المساء، رأى الرئيس دوريات تجوب الأطراف ومراقبين يفتشون المدينة دومًا وقد لاحظ منهم من سيستلم النوبة من هؤلاء بعد ساعتين .. فأخذ يصدر تعليماته وكانت موجزة وقوية وواضحة ..

                    وعندما أكمل تكليف البعض بمهمات جهادية ، أخذ كل واحد بطانية وبساطه ومعطفه وما استطاع حمله ليفرشه أيضًا .. دلكت ركبتيّ وكانتا تؤلماني، دلكتها وقتًا طويلًا، وأكلت الخبز الذي وُزّع علينا، أكلته ابتلاعًا وكنت آخذ في كفِّي قليلًا من الثّلج لأبلع اللقمة إذا وقفت في حلقي ، غضب الرئيس لذلك وقال :

                    - تمرض بهذا الشّكل !!

                    بلعت اللقمة التي وقفت في حلقي بعد تنبيه الرئيس، وباستثناء عدة أشخاص كان الباقي لا يعرف ماذا عليه أن يعمل ومنهم أنا وعندما أخذ الليل يرخي سدوله، نهض الرئيس على قدميه وأشار أن نجمع أنفسنا وتحلّقنا حول الرئيس ..

                    كان اللون الأصفر الداكن لغروب الشمس قد أثر في أسطح المنازل التي عليها ثلوج، وكان الرئيس يشير بأصبعه بدءًا من تحت التل الذي نحن فيه إلى المدينة الممتدة إلى الطريق الرئيسي وقال :

                    - أيها الإخوة، لدينا معلومات تقول إن في هذه المدينة وحدة عسكرية روسية مكونة من مئتي فرد ( 200 ) . وعلينا مهاجمة مبنى الحكومة هجومًا مباشرًا، وعند بدء إطلاق النار سيقوم الناس في بدخشان بتعطيل الدوريات الحكومية التي تجوب الشوارع، وبذلك يعاوننا في الهجوم ، الآن سأوزعكم إلى أربع جماعات :

                    الجماعة الأولى سأهاجم بهم مجموعة العدو الروسية، وهي موجودة في الدور الأعلى في المبنى .

                    وجماعتنا الثانية عليها إطلاق سراح إخواننا المُجاهدين المحبوسين في الطابق السفلي للمبنى، أما مجموعتنا الثالثة فستنقسم إلى زمرتين عند دخولها المبنى، وتهاجم التقسيمات التي على اليمين والشمال ومجموعتنا الرابعة تنتظر خارج المبنى، وعليها إبطال حركة الجنود المناوبين المحيطين بالمبنى وتسهيل عملياتنا وجماعتنا الرابعة هذه عليها السيطرة في نفس الوقت على موقف السَّيارات .


                    أثّر في القلب كثيرًا صوت الرئيس وهو صوت يذكرنا برعد السماء،لا أدري بالضبط ماهو شعور الآخرين لكن الذي أعلمه أنه أثار حماسي جدًا، أمسك الآن بمسدسي الآلي بقوة، ولقد علمني الرئيس في الطريق كيفية استخدام هذا السلاح وتغيير مخزن طلقات الرَّصاص فيه . .

                    استرحنا جيّدًا، وأكلنا الخبز الذي وُزّع علينا ، أكلناه بكامله مرة واحدة، قسم الرئيس المجاهدين إلى أربع جماعات، واختار أربعة أُمراء على رأس الجماعات الأربع، المُختلفة أعدادها ..

                    نبّه عليهم ما يجب عليهم عمله، كل واحد منهم على حدة مكررًا قوله ليمكن استيعابه ، ولم يأخذ معه إلا خمسة أشخاص، ولم يضمني إلى أيّ جماعة ولم أكن أنا أبتعد عنه، وكنت أسير بقامتي القصيرة كأني عصا بجانب الرئيس، الرجل العملاق .. حدّثنا الرئيس قائلًا :

                    - إن علينا السير من الشوارع الخلفية حتى نصل إلى مبنى الحكومة وضرورة التحرّك كالبرق بمجرد اقترابنا من المبنى .

                    وعندما هبط الليل وعمّ الظلام .. بدأنا النزول من التل في صمت، كانت المدينة كالميت تعطي إحساسًا بأنها مدينة مهجورة .. كان لدى بعض أهل المدينة خبر بما سيحدث الليلة،

                    وقد يكون الآخرون الذين لا علم لهم بالأمر قد أحسوا أن بالأمر شيئًا لذلك عادوا إلى منازلهم وأطفؤوا الأضواء .. كانت مصابيح الشارع موقدة بأنوار باهتة، عبرنا المنازل وأغلبها من طابق واحد ولها حدائق، وهي في طرف المدينة ثم بدأنا نقترب من المركز .

                    كان كل أمير جماعة يتقدم جماعته، كانت جماعتنا تسير في المُقدّمة ، خلعنا نعالنا عندما دخلنا المدينة، وألقينا بها جانبًا حتى لا تحدث صوتًا فوق أرصفة الشوارع .

                    كان من الصّعب جدًا في الوهلة الأولى وضع قدميَّ الحافيتين على الأرصفة الباردة إلا إنني تعوّدت على هذا بسرعة، وعندما اقتربنا من الشارع الرئيسي وقفنا بإشارة من يد الرئيس هامسًا

                    بأمر لاثنين من المجاهدين الذين معه، وبناء على هذا الهامس، أطلق كل من هذين المجاهدين ومن مكانه، سهمًا قتلا بهما صمت العسكريين الروسيين الذين كانا يسيران دورية في الشّارع ..

                    ورأيت عدة أشخاص يهربون من الشارع الكبير إلى الشوارع الخلفية .. راقب الرئيس اتّجاهَي الشارع وأخذ في المسير نحو الجانب الأيمن، قال الرئيس :

                    - مبنى الحكومة في مواجهتنا مباشرة .

                    الجماعة الأولى والثانية من اليمين، والثالثة والرابعة من اليسار، في شكل صف واحد من جانب الطريق وكلها تسير بسرعة جدًا إلى الهدف .

                    فجأة أخذ المجاهدون الذين تجمّعوا في وسط الشارع، في الانتقال إلى اليمين وإلى اليسار بناء على تعليمات الرئيس، وأصبح وسط الشارع فارغًا .

                    كان هناك مبنى كبير أضواؤه كثيرة، قد أخذ يظهر أمامنا، كان الرئيس يسير في أول المُقدِّمة من الجانب الأيمن من الطريق .

                    اقتربنا جدًا من المبنى، كان على البوابة الرئيسية أربعة جنود يتناوبون الحراسة والمراقبة، ويسيرون مترددين ذهابًا وإيابًا أمام الباب، قام الرئيس فجأة بالانطلاق إلى وسط المكان وفي يديه الاثنتين مسدسان أوتوماتيكيان و انهال بالرَّصاص دون توقّف على جنود الحراسة الأربعة وكانوا مشدوهين فتساقطوا، وانفلت كالبرق إلى داخل المبنى، وأنا خلفه ... وانطلقنا على السلالم الصاعدة إلى الدور الأعلى سراعًا كل ثلاث درجات أو أربعة في قفزة، وامتلأ المكان مرة واحدة بأصوات نيران السلاح، كنت أسمع وأنا أصعد إلى أعلى، الهجمة المفاجئة التي قام بها المجاهدون الذين اقتحموا الأقسام الجانبية، وصوت سيل نيرانهم، وبينما كنا لا نزال على السلالم إذ بأصوات الرّصاص قادمة من أعلى .. وانتظرت قليلًا جانبًا حتى لا أكون مانعًا أمام المجاهدين الذين سيهاجمون الدور الأعلى .

                    وكنت آخر من صعد من الجماعة، وفي هذا الدور أيضًا بابان جانبيان مفتوحان على اليمين وعلى الشمال .. كما أن في المواجهة مباشرة بابًا كبيرًا . وعندما وصلتُ إلى أعلى، كان الرئيس يخرج خارج الباب الكبير صاح قائلًا :

                    - هنا، تمام

                    كانت صورته وهو مندفع في الهجوم يُصدر أوامره تذكرني بهجوم واندفاع الأسد وهو يزأر ويزمجر، سقطت عمامته من فوق رأسه وانسدل شعره الأسمر المُبعثر على جبهته وعندما دخل إلى الجناح الأيمن خرج ضابط جريح من الباب الكبير وكان في يده سلاح صوبه نحو ظهر الرئيس، ولا أدري كيف حدث ما حدث، كل ما هناك أنني وجهت إلى الضابط مسدسي الأوتوماتيكي وضغطت على زناده فإذا بالضابط يسقط صريعًا، صحيح أنني أطلقت عليه النار

                    لكني لم أصب الهدف فقط، بل تعدّاه الرصاص وكسر كل زجاج الباب الكبير .. التفت الرئيس نحو صوت الطلقات فرأى ذلك الضابط على الأرض، ابتسم لي و واصل دخوله الجناح .. ولقد تأكد أنني اشتركت في هذه العملية العسكريّة، عندما ضربت هذا الضابط، جريت خلف الرئيس وكان بجواره مجاهدان قد أجبرا مجموعة من العساكر الروس على الوقوف صفًا على الحائط وأيديهم إلى أعلى وقال الرئيس :

                    - أيها المجاهد الصغير، أسرع بالجري إلى أسفل وأبلغْ أنه على المحبوسين الذين تم إنقاذهم أن يكونوا على السلم صفًا واحدًا لتسليمهم السلاح، فالسلاح هنا .

                    عدوت بسرعة ونزلت إلى أسفل، أبلغت أمر الرئيس إلى المجاهدين الخارجين توًا من الطابق السفلي، سكتت أصوات الأسلحة داخل المبنى، خرج الجنود الروس من أجنحة وغرف الطابق الأرضي وأيديهم فوق رؤوسهم، لقد سيطر المجاهدون على الموقف في وقت قصير جدًا

                    نعم لقد بذل المجاهدون جهدًا مضنيًا وانتصروا، كانت هناك أصوات طلقات قليلة تُسمع آتية من خارج المبنى، وبعد قليل دخل الأسرى الروس

                    القادمين من الطابق الأعلى ومن الطابق السفلي إلى المكان الذي تم تخليص المُجاهدين منه، في الطابق السفلي وأغلق عليهم .. وعيّن عليهم اثنين من المجاهدين يحرسونهم ويراقبونهم .

                    كانت هناك جموع هائجة صائحة من الشعب تتجه نحو مبنى الحكومة، أنزلوا العلم الروسي من الصاري الذي أمام المبنى ثم رفعوا العلم الأفغاني بدلًا منه،

                    لقد شاهدت هذا المنظر ودموع عيني تنهمر وكنت في غاية الفرح والابتهاج .

                    والواقع أن العلم الذي أنزلوه من على الصاري لم يكن علمًا روسيًا، كان علمًا جديدًا ارتضته الحكومة الأفغانية الموالية لروسيا، لكن الناس أطلقوا عليه اسم ( العلم الروسي ) .

                    لم تترك هذه الجموع الشعبية المكان ولم يتحركوا من أمام مبنى الحكومة إلا في ساعة متأخرة من الليل، كانت القلوب فرحة بسماع أصداء التكبير تتردد في السماء لم يكن الناس يودون أن يتركونا وحدنا، وكان الرئيس مشغولًا بتنظيم أمور الجهاد أيضًا بعد هذه العملية، أمر أن يصعد رجال من الاستطلاع إلى الطريق الرئيسي، وأرسل قوات إلى مدخل ومخرج المدينة ، وأمر بوضع مدفعين مضادين للدبابات فوق مبنى الحكومة، وأمر بالقبض على كل الموظفين التابعين لبابراك كارمال، وعيّن بدلًا منهم رجالًا موثوقًا فيهم .

                    كانت أوامره حاسمة لم يكن يشوبها خوف أو تردد حكى لي عنه معاونه كثيرًا أثناء ما كنا في طريقنا إلى بدخشان، فذكر أنه كافح منذ سنين في الجبال ضد الحكومات الخاضعة لروسيا،

                    وإن الحكومة أصدرت أوامرها بقتله في المكان الذي يظهر فيه، وأن المجاهدين الجدد مازالوا لا يعرفونه، وإخوانه في السلاح لا ينادونه إلا باسم " الرئيس الصاعقة " .

                    لقد عرفه زملاؤه الجدد بهذه الصّفة، وأدركوا مدى الجدّية اللازمة عند التحدث إليه، لقد كنا كلنا نشعر بالفخر بالعمل معه والجهاد تحت لوائه، ليس هذا فقط ولكن لبطولته الأسطورية هذه .

                    لم نستطع النوم حتى الصباح في ذلك اليوم الذي تحررت فيه المدينة من احتلال العدو، كنت أجلس على مائدة أمامه فأغفيت وذهبت في سُباتٍ عميق، فأيقظني الرئيس، وكان بجانبه رجل عجوز بلحية بيضاء ووجه نوراني معه ولد في مثل سني ينظر إليّ ويبتسم في حلاوة وبراءة .

                    قال الرئيس :

                    - أيها المُجاهد الصَّغير، ستنزل ضيفًا على منزل هذا الشيخ، وإذا مسَّت الحاجة إليك فسأرسل في طلبك من عنده .

                    أخذت سلاحي الذي كنت تركته تحت المنضدة، قبّلت يد الرئيس وسلّمت عليه مودعًا، وسرت خلف العجوز ومعي الولد الحلو الابتسامة، كان خفيف الدم، اجتماعيًا ويسأل كثيرًا أثناء الطّريق

                    - هل اسمك المجاهد الصغير ؟

                    - هكذا يسمونني، اسمي الأصلي كريم . واسمك ؟

                    - أبو بكر .

                    - هل أنت في المدرسة ؟

                    - نعم، لكن المدارس مُغلقة، وهل أنت في مدرسة ؟

                    - كنت أدرس، والآن أحارب .

                    - ألم تقتل جنديًا من العدو أبدًا ؟

                    - أكثر من واحد

                    - لقد أنقذتَ حياة الرئيس .

                    - !!!

                    - هل تخاف ؟

                    - ممن ؟

                    - من العدو

                    - ولماذا أخاف ؟ هم الذين يجب أن يخافوا مني .

                    - أين أمك وأبوك ؟

                    - !!!

                    - أليس لك أخوة ؟

                    - ...

                    - إنك لا تُجيب، أتغضب مني لأني أسألك ؟

                    - لا، لا أغضب . كل المسألة أنك تسأل أسئلة صعبة الإجابة ، أو مؤلمة .

                    - إني أزعجك دون أن أدري .

                    - لقد انزعجتُ بحيث لا يزعجني بعد ذلك شيء

                    ووصلنا إلى بيتهم ونحنُ نتحدث مع بعضنا بهذا الشكل، وأثناء كل ذلك لم يلتفت إلينا الرجل العجوز النوراني الوجه، ولم ينظر إلينا حتى وصلنا البيت، يبدو أنه لم يكن يحب أن يقطع علينا أنا وأبي بكر الحديث، دخلنا بيتًا من طابق واحد فيه حديقة أشجار جافّة .

                    كان أثاث البيت متواضعًا، استقبلتنا عند الباب فتاة في حوالي السابعة من عمرها، اقتربت في البداية منا وابتسمتْ ثمّ جَرت إلى الداخل وصاحت بصوتها الرقيق قائلة :

                    - جاؤوا ..

                    ودخلت معنا، جلست في المكان الذي حدده لي العجوز، بعد ذلك جاءه سيدة ملابسها واضحة النظافة وقالت :

                    - أهلًا بك في منزلنا أيها المُجاهد الصَّغير .

                    - أهلًا بكِ يا سيّدتي .

                    قلت لها هذا وأنا واقف، لقد قال لهم الرئيس عني بما فيه الكفاية، فكانوا يعرفون كل شيء عملته، لقد كانوا ينظرون إليّ نظرتهم إلى بطل، والواقع أن هذا كان يضايقني كثيرًا .

                    هذه أول مرة أشرب فيها حساء ساخنًا منذ أيام وأيام .

                    كدت أُقبِّل الخبز الذي في يدي قبل أكله ومضغه، لقد كان طريًا في يدي .

                    كانوا يريدون أن آكل جيِّدًا لأنهم يعرفون حالتي، وعندما انتهى الأكل بدأنا في الكلام . حكيتُ لهم قصةُ حياتي باختصار، بيتنا في كابول، ودكاننا، وأبي الذي لا أعرف أين هو وفي أي جبل يُحارب، وأخي الكبير الذي قتلته السلطة، وأمي التي ماتت في منبر مسجد في قرية جبلية .

                    كان هؤلاء الناس الطيبون يستمعون إليّ باهتمام وتأثر كبير ظاهر، كانت ابتساماتهم تختفي تدريجيًا كُلّما حدثتهم عن الأحداث التي آلمتني، وتظهر على وجوههم بدلًا منها تعبيرات حزينة .

                    أخذت السَّيدة في البُكاء بشفاه مرتعشة وعندما رأت البنت الصغيرة أمها تبكي عانقتها وأخذت تمسح عنها دموعها، أما الرجل العجوز فقد علّق نظراته في الشوارع ورأيته يتأوه آهة عميقة، احمرت عينا أبي بكر، وسكتُّ أنا عندما وجدت نفسي عاجزًا عن ضبط مشاعري، فهموا هم أيضًا أنني على وشك البُكاء، وذلك من ارتعاش آخر كلمة تفوَّهتُ بها .

                    خرجت المرأة من الغُرفة، ومرّت فترة لم نتكلم بكلمة واحدة، وبعد صمتٍ قليل قال العجوز :

                    - هذان حفيداي، استشهد والدهم، أمهما ابنتي . وليس لي أقارب، والآن انضممت أنت إلينا، وأنت الآن بمثابة حفيدي، وبمثابة ابن آخر لابنتي، وأخٍ لأبي بكر، وأخ لعائشة، أنعش هذا الكلام المخلص الدافئ روحي . لكنّي كُنت متأثرًا متكدِّرًا، من قول الرّجل العجوز بأنني الآن انضممتُ إليهم، وظننت أن معنى هذا أن الرئيس أراد أن يبعدني عنه، وأنني لستُ هامًا في الجهاد، أو أني لم أستطع أن أكون بمثابة جُنديٍّ تابع له وبسرعته الرائعة، ولو كنت مجاهدًا جيّدًا لم يكن ليبعدني هكذا .

                    دخلت المرأة الغرفة مرة أخرى، بعد أن أعدّت لي فراشًا وقالت :

                    - أنت مُجهد يا بُني، أيها المُجاهد الصّغير . استرح ونم ثم نتكلم كثيرًا بعد ذلك .

                    عندما نمت في الفراش الذي أُعدَّ لي، أحسست بوجع يشمل كل عظامي، كنت أسمع كلام أبي بكرٍ وأمّه لكني لم أكن أستطع تبيّن ما يقولون، لكن لا يعلم أحدٌ كم أثار من المواجع واعتصر قلبي من الآلام، قول هذه السَّيدة يا ابني، تذكرتُ أمي، كم قاست - رحمها الله -، دفنت وجهي في الوسادة وسحبت اللحاف على جسمي، وبكيت بحرقة، تذكرت وجه أمي الذابل وشفتيها المُرتعشتين وعينيها الدامعتين، كان يبدو لي أن أمي هي إليّ تتلفّظ هذه الكلمات .... نمت وأنا أبكي بكاء شديدًا .

                    (( إن المسلم لم يخلق ليندفع مع التيار ولا ليساير الركب البشري حيث اتجه وسار بل خلق ليوجه العالم والمجتمع والمدنية ويفرض على البشرية اتجاهه ، ويملي عليها إرادته ، لأنه صاحب الرسالة وصاحب العلم واليقين.. لأنه المسؤول عن هذا العالم وسيره واتجاهه فليس مقامه مقام التقليد والاتباع ، إن مقامه مقام الإمامة والقيادة ، ومقام الإرشاد والتوجيه ، ومقام الآمر الناهي ))

                    الشاعر الباكستاني محمد إقبال

                    تعليق


                    • #11

                      وقعت أسيرًا
                      ( الفصل العاشر ..)





                      وفي اليوم الثاني توجهت رأسًا إلى الرئيس ، وقلت له إنني لا أريد الجلوس في البيت واللعب في الشوارع ، بل أريد أن أنضم إليهم في الجهاد ، أخذ وجهي بين كفيه تمامًا كما فعل عندما رآني أول مرة في ساحة القصبة ، رقّ صوته وقال لي :

                      - طبعًا لا بد أن تجاهد ، لكنك لا تستطيع أن تبقى معنا هنا ، لقد صرحت لك بإجازة ثلاثة أيام حتى تستريح لأنك تعبت كثيرًا وستأتي إن شاء الله في اليوم الرابع لتبدأ عملك ، وطالما أننا هنا ، فإن نومك سيكون في ذلك البيت ، مفهوم ؟

                      - فهمت يا سيدي

                      - والآن هيا لتستريح

                      من المستحيل الاعتراض على صاحب هذا الصوت أو الاعتراض معه ، إنه يتحدث معي ومع بعض كبار السن هكذا بصوت رقيق ، وبقدر رقة صوته تسري أوامره سريان السهم ، لم تكن نظراته تعطي لأحد فرصة التفكير ، ولقد رأيته وهو يحارب ، إنه لا يسير بل يهب كالريح ، لا يتكلم لكنه يبدو كأنه يزأر ، إن عدوه مهما كان جريئًا وجسورًا لا يستطيع أن يعمل أمامه أي شيء غير أن يلقي السلاح ويرفع يديه إلى أعلى .

                      لقد سكب ما قاله لي الرئيس على قلبي ماءً باردًا ، معنى ذلك أنه لم يبقَ لي غير يومين لأستأنف عملي ، كنت أتعجل على انتهائهما ، لقد تصادقت مع أبي بكر ، وعرّفني بإخوانه ، وأراني المدينة ، ولقد عرفته من قرب خلال هذه الأيام الثلاثة التي هي إجازتي ، كنا نرجع إلى البيت مساءًا ، نأكل ثم نأخذ في التحدث ، وكان جده يحكي لنا حكايات إسلامية ، كانت ملابسي تغسل ، وأتوا لي بحذاء جديدة ، وعملت لي أمه جوربًا من الصوف .


                      وعندما انتهت الأيام الثلاثة ، توجهت إلى الرئيس ، وأرسلني على الفور إلى دورية من دوريات الطريق ، عينني مع سيد محمود والد أحمد صديقي في القصبة ؛ لأنه يعرف أنني تعرفت عليه من قبل وأحسست بالسرور البالغ لأنني أقوم بأعمال الدورية .

                      أسلحتنا الآلية في أيدينا ، وقنابل مهيأة للانفجار نضعها في أحزمتنا ، وكان في يد سيد محمود آغا صفارة ، كان علينا أن نقوم بالدورية في الطريق الرئيسي ، وكان علينا أن نخبر المجاهدين إذا مرت وحدات مدرعة من الطريق ، ولم يكن لدينا القوة على الحرب ضد الوحدات المدرعة في هذا الطريق ، لكن هذه الوحدات لو عرجت على المدينة ، كنا سنقذف بالقنابل تحت الدبابة الأولى من هذه الوحدات ، ومع تعطل الدبابة الأولى لن تستطيع الدبابات الأخرى دخول المدينة ، ويكون صوت الانفجار هو الإشارة منا إلى إخواننا للانتباه والاستعداد .


                      خرجنا إلى الطريق الرئيسي ونحن نلقي السلام على إخواننا من الدوريات المجاهدة التي تجوب طرق المدينة ، تقدمنا ساعات وساعات في الطريق المعبد الواسع ، ليس في الطريق أحد ، تحدثنا مع بعضنا كثيرًا ، ولقد كانت آلامنا وآمالنا تتوزع وتتناثر على الطريق الإسفلتي المبلل بالجليد الذي أذابته شمس الظهيرة ، جاءت لحظة جلس فيها سيد محمود آغا على الطريق ورقد وأسند أذنه إلى الأرض ، يقول إنه بهذه الطريقة يمكن جيدًا معرفة الوحدات المدرعة القادمة من بعيد ، عملت مثله فتبللت أذني ووجهي ، لكني لم أسمع أي صوت ، قال :

                      - سمعت صوتًا .

                      رقدنا على المانع الذي كنا ثبتناه من قبل ، كان المانع على طريق المدينة ، كنا نعرف جيدًا ماذا نفعل إذا عرجت الدبابات ِإلى المدينة ، انتظرنا ما يقرب من نصف ساعة في هذا المانع ، سمعنا دمدمات محركات تذكّر برعد السماء أخذت تتجه إلينا ، أخرجت قنبلة من التي معي وجهزتها ، كانت الدبابات هي أكبر أعدائي ، وكذلك الطائرات .. . أعدت القنبلة إلى مكانها مرة أخرى عندما رأيت أن الدبابة الأولى لم تغير اتجاهها ولم تعرج على المدينة ، وإنما استمرت في سيرها في الطريق الرئيسي ، مرت خمس عشرة دبابة بأصواتها الرهيبة التي أصمّت أذني ، ثم ثلالث من سيارات الجيب كانت تسير بين الدبابات ، انطلقت فورًا من مكاني وجريت نحو المدينة بأقصى سرعة لأخبر الرئيس ، قابلنا الرئيس وهو يأتي نحونا بالجيب ، لقد رأى الدبابات بالمنظار المكبر ، فهمت أنه غاضب ومحتد كثيرًا وهو يتكلم ، قال :

                      - كلمتهم باللاسلكي ، إنهم سيضربونهم في ممر خيبر ، الضرب هناك مناسب ، لكن الطائرات خطر ، ولقد أخذت معي مدفعًا مضادًا للطائرات ، وسنسير وراءهم ، وستحدث المعركة في خيبر .

                      قلت له دون أن أفكر :

                      - خذني معك

                      - هل يستطيع أحد ترك نوبته ؟

                      - أنا لا أقوم بالنوبة ، أريد الحرب

                      - يا ولد ، القيام بالنوبة جزء من الحرب

                      - أرجوك أيها الرئيس ، خذني إلى الحرب

                      - حسنًا ، هيا اقفز خلفي


                      رأيت عندما قفزت إلى السيارة الجيب خمسة مجاهدين آخرين مع الرئيس ، تحركت الجيب ، كنا نسير ببطء ملحوظ ، واستغرقنا نحن في حديث عميق ، ولا أدري كم قطعنا من الطريق ، كان الرئيس هو الذي يسوق الجيب ، وكان مضاد الطائرات في وسطنا ، وكنا نجلس متزاحمين في السيارة ، لم يكن من الممكن تحمّل السفر بهذا الشكل لولا الفرح والرغبة بالواجب والصحبة الطيبة ، لاحظت في هذه الأثناء أن سيارة الجيب قد غيرت طريقها ، لقد خرجنا من الطريق الرئيسي وأخذنا طريقًا آخر، كانت الجيب تهتز كثيرًا ، فكنا أحيانًا نتكوّم على بعضنا ، لذا أحسست بغثيان في معدتي وأن رأسي تدور ، كان الرئيس يضحك وهو يقول :

                      - تماسكوا


                      كنا نأخذ بالجيب طريقنا نحو التلال من طرق الجبل المتعرجة ، ونحن نسير في منحنيات في غاية الخطورة ، عندما توقفت الجيب نزلنا منها ، وشكرنا الله كثيرًا على سلامتنا ، قال أحدهم :

                      - أهلاً بكم أيها الرئيس الصاعقة

                      كان المتحدث رجلاً ملتحيًا قصير القامة

                      - لم نكن نتوقع مجيئكم

                      - قررت ذلك فيما بعد ، الدبابات جاءت في حماية الطائرات لذا أحضرت لكم مدفعًا مضادًّا للطائرات

                      - جزاك الله خيرًا

                      التفت الرئيس إلينا وقال :

                      - انزلوه من السيارة

                      أنزلنا المدفع ، وأقاموه بجانب صخرة أشار الرئيس إليها ، وجّهوا فوهته نحو وجه السماء وانتظروا ، قال المجاهد القصير القامة :

                      - إن الطائرات قد ذهبت ، وأنها كانت تطير على ارتفاع منخفض

                      قال الرئيس :

                      - إننا إذا هاجمنا الدبابات ، ستعود الطائرات ثانية وتكشف من الجو مكاننا وتدمرنا .

                      وعندما بدأت دمدمات الدبابات تأتي إلى مسامعنا ، أرسلنا الرئيس من جوار المدفع المضاد للطائرات إلى الخلف ، ووقف هو بنفسه على رأس المدفع ، كان علينا أن ندحرج الصخور على الدبابات ، ونلقي عليها القنابل لكي تحدث بها خسائر ، وكان هناك مجاهدون على الجانب الآخر من الممر ، وكانوا أيضًا ينتظرون إشارة من الرجل القصير القامة الذي بجوارنا ، الدبابات قادمة ، تسير الآن سيرًا بطيئًا من الطريق الرئيسي وهي تهز الجبال هزًّا ، وعلى التل صخرة كبيرة حفر حولها المجاهدون ووضعوا تحتها طرف شجرة طويلة بهدف دحرجة هذه الصخرة على الطريق في الوقت المناسب ، ومهمة هذه الشجرة هي مهمة الرافعة ، وعند الضغط على طرفها الآخر تتدحرج الصخرة على الطريق ، وعندما وصلت الدبابة الأولى تحت التل الذي نَـعلوه مباشرة ، أنزل المجاهد القصير القامة يده التي كان يرفعها في الهواء ، أنزلها إلى أسفل بسرعة ، وبإنزاله يده هكذا صاح المجاهدون بكلمة "يا الله " وضغطوا على طرف الشجرة فإذا بالصخرة الهائلة هذه تتحرك من مكانها ثم تأخذ بالنزول بسرعة إلى أسفل ، وأخذت الصخرة الكبيرة في طريقها وهي تتدحرج عدة صخور أخرى معها ، اقتلعتها من مكانها لتنزل كلها على الدبابات ، وتدحرجت في نفس الوقت صخرة هائلة من الجهة المقابلة ، لتنزل إلى أسفل التل ، ولقد شاهدنا الصخرة التي تدحرجت من التل المقابل تسقط بين دبابتين لتغلق الطريق .

                      أشار المجاهد القصير القامة بيده إلينا أن نرقد فورًا على المانع ، واتجهت فوهات الدبابات التي استطعت رؤيتها نحو التلال بحركات بطيئة ، انقطع بعد قليل ضجيج الدبابات وحل محلها أصوات المدافع والبنادق السريعة الطلقات ، وأخذت الدبابات تطلق نيرانها في نظام متتابع في اتجاه التلال ، واضطررنا للتراجع إلى الخلف ورأينا سحابًا من نار وتراب يتصاعد في الجو من جانب التل الذي كنا فيه ، وبدا الأمر وكأن السماء ترمي الدبابات بحجارة من الجبل ، وكانت طلقات الدبابات من ناحية ، والحجارة التي انتزعت من التلال من ناحية أخرى تقع على الطريق وعلينا ، فتراجعنا بعيدًا إلى الخلف عندما أشار إلينا بذلك المجاهد القصير القامة .

                      قال أحدهم :

                      - لقد قفلوا الطرق جيدًا

                      ورد عليه الآخر :

                      - فليقفلوه ، هذا أحسن

                      ولم تمضِ على ذلك فترة كبيرة إلا وسمعنا أصوات الطائرات ، وصلت الطائرات وهي تلقي بقنابلها على التلال المجاورة للممر ، وأخذ الرئيس الصاعقة يضرب الطائرات بالمدفع المضاد للطائرات ، وبدأت إحدى الطائرات في إخراج دخان أسود من بطنها .

                      قال المجاهد القصير القامة :

                      - أصاب الرئيس إحدى الطائرات

                      انخفض ارتفاع الطائرة التي خرج الدخان من بطنها وهي تتجه نحو التلال المقابلة ثم تحطمت على التلال البيضاء وهي تخرج نارًا حمراء ، عادت الطائرة الأخرى مرة ثانية وبدأت في ضرب المكان الذي نحن فيه بالقنابل ، أشار المجاهد القصير القامة لكي ننسحب ونتراجع أكثر ونحن متفرقون ، زحفت أنا عكس هذه الإشارة ووصلت إلى مكان أستطيع منه رؤية الدبابات ، وأثار المنظر الذي رأيته أعصابي كثيرًا ، أول دبابة تصب جام نيرانها في الاتجاه الذي به الرئيس ، ونجحت الدبابة الثانية في سحب الصخرة التي في المقدمة إلى جانب الطريق ، وسقطت واحدة بين الصخرتين الكبيرتين على جانب الطريق ولم تستطع الصخور النازلة في الممر بفعل نيران الدبابات من أن تمنع مرورها ، تذكرت الرؤيا التي رأيتها أثناء مرضي في القصبة ، نعم الآن معي قنبلة عالية القدرة التخريبية ، لا بد من تفجير هذه القنبلة بجانب دبابة ، يقولون إن أضعف مكان في الدبابات هو طبقة بطنها ، لو ألقيت القنبلة من المكان الذي أنا به لن تعمل أكثر من ِإثارة ضجة ولا غير .

                      بدأت في الانسحاب من المكان الذي أنا فيه ببطء إلى أسفل ولم يكن من الممكن أن يروني لأن الليل آخذ في الهبوط ، أخذت اقترب نحو الدبابة التي في المقدمة يكاد قلبي لحظتها يتوقف لشدة انفعالي ، واختلط ساعتها ضجيج الطائرات وأصوات المدافع والآليات ، وعندما وصلت منتصف التل ، أخرجت القنبلة من بين حزامي ثم أعددتها بحيث يكون فتيلها متجهًا نحو الخارج ، وتركت المسدس الأوتوماتيكي الذي كان في يدي فلم يعد لي حاجة إليه ، كل ما أفكر فيه لحظتها أن أخرّب أول دبابة لهذا العدو العملاق ، وبذلك يكون العدو قد أصيب بالضرر وأكون قد منعت مرور الدبابات الأخريات ، نمت على ظهري وبدأت في التزحلق إلى أسفل ببطء ، لم أكن خائفًا لا من الموت ولا من التدمير ، ولم تكن يداي ولا ركبتاي ترتعشان ، وعندما نزلت إلى الطريق كان نظري متجهًا نحو جنزيري الدبابة الواقفة على بعد خطوتين ، كان هناك شيء كدهليز مظلم ضيق ، نمت على وجهي نطقت بالشهادتين ودخلت بين جنزيري الدبابة ، كان هناك ظلال ناس يتجهون نحوي من خلف الدبابة الثانية ، وكان لا بد لي من إنهاء مهمتي قبل القبض عليّ ، دخلت جيدًا تحت الدبابة ، جذبت فتيل القنبلة ، كنت ساعتها أسمع أصوات الناس مختلطة بأصوات الرصاص ، نزعت الفتيل وأغمضت عيني ، كان الانفجار الذي يمكن أن يحدث في بطني بعد خمسة عشر ثانية يمكن أن يحطم كومة الصلب التي فوقي .

                      فتحت عيني باضطراب ، وضعت يدي في حزامي وأخرجت القنبلة ، مضت دقائق ولم يحدث الانفجار ، وبكل قوتي دفعت القنبلة تحت الدبابة ، لكنه لم يحدث شيء ، لم تنفجر ! ، كدت أبكي ، وإذا بصباح يد ينير الظلام السائد بين الجنزيرين وأيادٍ قوية تسحبني من ساقي إلى خارج المكان الذي دخلت فيه ، نفس الأيادي تجرجرني وتأخذني بسرعة ، لذا كانت رأسي وذراعي تضربان في الأرض ، أوقفوني ثم رموا بي في داخل آلية ، حاولت الوقوف داخل هذه الآلية ، لكن كانت تنهال على ذراعي وعلى رأسي ضربات موجعة ، فتركت نفسي منطرحًا على وجهي .


                      رقدت وأنا في حالة شبه إغماء مدة نصف ساعة ، ثم تحركت الآلية التي كنت في داخلها ، وفهمت أن الطريق مفتوحة جيدًا ، وأنهم يتحركون ، فهمت ذلك من أصوات حركة الدبابات ، كانوا يتحدثون بلغة لا أفهمها ، وكان واضحًا من أصواتهم أنهم في منتهى الحدة والغضب ، وضعت ذراعي تحت رأسي لأني كنت أحاول منع اصطدام رأسي بأرض الآلية عندما تهتز هذه أثناء تحركها ، واستمر الحال على هذا مدة طويلة ، كنت بردان ، كان كل جزء منّي يوجعني ، وأسوأ ما في الأمر كله فشلي في القيام بعمل أحببت كثيرًا أن أؤديه ، تُرى لماذا لم تنفجر القنبلة ؟ لقد علمني الرئيس الصاعقة كيف أفجر القنبلة ، شرحها لي جيدًا ، وإني واثق من أني فعلت كما علمني !! قد يكون هناك عيب في نفس القنبلة ، لا يحزنني الآن غير هذا ، كنت أريد أن أستشهد في سبيل الله ، سميت باسم الله ، وتلفظت بالشهادتين ، وأغلقت عيني ، ثم انتظرت أن أستشهد ، لكني أعيش ، بل أنا الآن تحت أقدام العدو أعيش وعظامي تئن من وجع الضربات التي كالها لي هؤلاء الأعداء ، أفكر في أبي الذي لا أدري في أي الجبال يعيش ، وأفكر في أمي التي ماتت في منبر أحد المساجد ، وأفكر في أخي الكبير الذي قتلوه في كابول ، أفكر في كل هذا وأنا أعيش ، تخيلت أمامي شيخي الشهيد الذي أصيب في جبهته ، جاءني وهو يتفرج عليّ بابتسامته المعهودة ، إني أتجه إلى نهايتي وأنا أهتز في هذه الآلية الباردة ، ودموع عيني الساخنة تنهمر بغزارة ، ما أبشع العيش هكذا تحت الأقدام .


                      لا أدري كم قطعنا من الطريق ، توقفت الآلية التي كنت فيها ، وارتجفت برفسة أصابتني في خاصرتي ، أشار إلي جندي روسي كان واقفًا بجواري أن أنهض ، حاولت الوقوف على قدمي بصعوبة بالغة ، كنت داخل سيارة ناقلة جنود مغلقة ، ضوء باهت في الداخل ، ويوجد ضابط روسي معه حوالي عشرة جنود من الروس أيضًا ، كان الضابط الروسي يتحدث كأنه يشتم ، يكشر من أسنانه الصفراء ، ويبصق يمينًا وشمالاً وهو يصيح ، لم أستطع أن أجيب عليه بأي شيء لأنني لم أكن أفهم كلامه ، فتح أحدهم باب السيارة ودخل ملازم ثانٍ أفغاني ومعه جنديان من الأفغان ، اقترب الملازم مني مباشرة :

                      - قل لي أيها القط الصغير !! مع من تعمل ؟

                      - .....

                      - لن تجيب أليس كذلك ؟ لا أحد يستطيع أن يقول شيئًا في شجاعتك عندما بعت روحك لكي تدمر الدبابة ، لكنك لو عرفت قباحة فعلتك هذه لخجلت من نفسك .


                      لم أجب على أسئلة الملازم حاول معي بكل الوسائل ، قال لي إن الذين يحاربون في الجبال _ يقصد المجاهدين _ إنما هم حفنة من الأشرار ، قطاع الطرق ، وأنهم أعداء الشعب ، أما الروس فإنهم ضيوفنا ، وأنهم جاؤوا لمساعدتنا في قمع التمرد ، وأنه لا بد أن نتصرف تجاههم تصرفًا طيبًا ، و قال لي إنني إذا أدليت بمعلومات عن المجاهدين الذين في بدخشان ، فإنه سيأخذني من يدي ويذهب بي إلى كابول ويعيد تسجيلي في المدرسة ، وسيعثر على والدي ويطلق سراحه ، وأنه سيجد عملاً طيبًا لأبي ، ووعدني وعودًا كثيرة أخرى ، كان يظن أنه يستطيع خداعي بسهولة ، وبنى ذلك على صغر سني ولم أثق أبدًا بما قاله ذلك لأن ما رأيته لا يتفق مع ما تحدث به ، إن الجنود الروس الذين قال عنهم إنهم ضيوفنا ، نهبوا القرى والقصبات ، ولم يتركوا عملاً تعذيبيًا إلا وجربوه في الناس .


                      كانوا يقتلون الأبرياء ، ويحرقون ويدمرون ، وهناك ناس طيبون أعرفهم لم يستطيعوا تحمل هذا الظلم فتمردوا عليه ، واتخذوا من الجبال ميدانًا لتجمعهم ومقرًا لحركاتهم ، شيخي النوراني الوجه ، ووالدي حبيبي ، ورئيس الصاعقة ، وعشرات الآلاف من الذين يحاربون وهم في أشد حالات الفقر لا يمكن أن يكون كل هؤلاء أشرارًا قطاع طرق ، لم أستطع أن أقول للملازم أفكاري هذه ، كنت أستمع في صمت لحديثه الذي لم أكن أؤمن به ، ولا بد أن يكون قد فهم أن لن يستطيع الحصول مني على إجابة لذلك ترك السيارة في عصبية ، وقال للجنود الأفغان أثناء خروجه من الباب :

                      - هاتوه إلى سيارة الجيب


                      نزلت مع الجنود الأفغان من ناقلة الجنود ، كنت كلما خطوت خطوة أحس بألم في ركبتي ، بالإضافة إلى الوجع الذي أحسسته من رفسهم لي في ركبتي وفوق فخذي.

                      قال جندي أفغاني ونحن نسير نحو الجيب :

                      - لقد ابتلت القنبلة منك ، لم تنفجر لأن بارودها كان مبتلاً

                      أبرق البرق في رأسي ، فقد تذكرت أني نمت ساعات في الماء وعلى الجليد ، والقنبلة كنت أحملها في وسطي ، وكانت أفكار الجندي الآخر في شيء آخر ، قال لي :

                      - أعجبتني جدًّا شجاعتك ، لم تهمك حياتك ، ولم تبال بالتهديد ، إنك صغير السن ، نعم ، لكن لك قلب شجاع ، أليس كذلك يا علي ؟

                      قال الجملة الأخيرة هذه وهو يلتفت إلى الجندي الذي بجواره ، ولم أكن أطمع في مثل هذا المديح ، لذلك أجبته باختصار :

                      - لم يدور بخلدي أن الأبطال مثلكم يعاونون هؤلاء الكفار ، والذين في الجبال ليسوا لصوصًا ، وإنما مسلمون يحبون دينهم ووطنهم .

                      نظر كل منهم إلى الآخر ، وصلنا إلى السيارة الجيب ، كان الضابط الأفغاني الذي كان يحقق معي قبل قليل ينتظر بجوار السيارة ، أشار إلى الجنديين أن يضعاني في السيارة ، وركبنا في السيارة في الخلف ، وتحركت الجيب عندما صعد إليها الملازم ، طارت فوقنا طائرة ثم غابت في التلال المجاورة ، فهمت بذلك أن الطائرة الثانية لم تسقط ، إذن ، ماذا حدث للرئيس الصاعقة وإخوانه المجاهدين ؟ فكرت فيهم ساعات طويلة ، تخيلت أن الرئيس الصاعقة يتعقبنا بخطواته العملاقة ، وتصورته مصابًا ، دار رأسي وأصابني الغثيان ، كنت أغفو أحيانًا فأرى أجزاء من الرؤى فيما يرى النائم ، قطعنا الطريق في تلك الليلة وحتى مساء اليوم التالي ، استرحنا خلالها أحيانًا ، ولم يطعمني أحد إلا قطعة خبز ، وكان ذلك قبيل الظهر ، ولم يكن الملازم يتركني بغير سؤال وتحقيق كلما توقفنا للاستراحة ، الجنديان الأفغانيان كان يتألمان لحالي كثيرًا ، أحدهم اسمه علي ، والآخر اسمه وحيد ، كنت أنظر إلى وجوههم مستاءً ، لم يكتفوا بقيد الحديد في معصمي بل وربطوا في ساقي سلسلة حديدية وأحكموا ربطها في الحديد الخلفي في سيارة الجيب ، قال الملازم :

                      - كل شيء يُنتظر من هذا القط الوحشي الصغير

                      وفي لحظة غاب فيها الملازم من السيارة ناولني الجنديان الأفغانيان _ وعلى سرعة كبيرة _ شيئًا من الحساء الذي كان معهما ، توسلت إليهما أن يفكا القيود الحديدية التي ربطوني بها ، واقترحت عليهما أن نهرب معًا إلى الجبال .

                      خافا وقالا :

                      - إن هذا خطر كبير ، وإذا رأونا سيقتلوننا فورًا .

                      (( إن المسلم لم يخلق ليندفع مع التيار ولا ليساير الركب البشري حيث اتجه وسار بل خلق ليوجه العالم والمجتمع والمدنية ويفرض على البشرية اتجاهه ، ويملي عليها إرادته ، لأنه صاحب الرسالة وصاحب العلم واليقين.. لأنه المسؤول عن هذا العالم وسيره واتجاهه فليس مقامه مقام التقليد والاتباع ، إن مقامه مقام الإمامة والقيادة ، ومقام الإرشاد والتوجيه ، ومقام الآمر الناهي ))

                      الشاعر الباكستاني محمد إقبال

                      تعليق


                      • #12

                        السـجـن
                        ( الفصل الحادي عشر ..)



                        لم أسألهم إلى أين نحن ذاهبون , ولم يقولوا لي ماذا سيفعلون في المكان الذي نذهب إليه . ضاقت نفسي عندما رأيت أن الجيب تدخل مدينة أعرفها , إنها كابول .

                        مساءً وتحت آخر أضواء أشعة الشمس وهي تغيب فوق كابول , استطعت أن أرى وجوه الناس تراقب بخوف واشمئزاز الدبابات التي أتت من خلفنا . وعرجت سيارتنا الجيب إلى شارع آخر , واتجهت إلى السجن مباشرة . فتح جنود البوابة الباب ووقفوا وهم يؤدون التحية . تقدمت الجيب في فناء السجن , وهو فناء واسع ثم توقفت أمام المبنى الأصفر , وعلى جانبيَّ الجنديان الأفغانيان ونسير جميعاً خلف الملازم .

                        ولتسهيل صعودي السلالم أمسك بي الجنديان الأفغانيان من ذراعيَّ ورفعاني من على الأرض . سرنا في ممر مضيء , وانتظرنا أمام باب الغرفة التي في آخر الممر الذي دخل فيه الملازم . وعندما جاء الأمر بإحضاري , أدخلني الجنديان إلى الغرفة . وكان فيها ضابط أفغاني كبير الرتبة على منضدة وعلى جانبيه جنديان , ورجل مدني نهض واقفًا عندما رآني , كان هذا الرجل يجلس بجانب المنضدة مباشرة . لقد عرفته . إنه المدرس الذي كان قد سكن حديثًا بجوار بيتنا . وعرفني هو بالتالي , وفورًا أصابه الاضطراب في البداية , ثم أخذ ينظر إلي مباشرة بابتسامة مصطنعة , وهمس بشيء في أذن الضابط الكير , وهو ينظر لي من طرف . ابتعد المدرس جانبًا ونظر الضابط إليّ وهزّ رأسه وركز نظراته عليّ وحدجني بنظراته من قمة رأسي إلى أخمص قدميّ . وقال :

                        - فكّوا وثاقه .

                        فكّ الجنود وثاقي الذي في ذراعي , مرة أخرى نظر الضابط إليّ وكذلك المدرس بنظرات وادعة ثم قال :

                        - لقد خدعوا هذا الصغير . إن وجهه بريء ولا يمكن أن يكون متمردًا .

                        نظر إلى وجهي لكي أصادق على كلامه , ثم قال :

                        - أليس كذلك يا صغيري , خدعك المتمردون !!

                        - لم يخدعني أحد .

                        - من قال لك أن تدخل تحت الدبابة لكي تفجرها بقنبلة ؟.

                        - أبي .

                        - وأين أبوك ؟.

                        - لا أدري .

                        - وكيف لا تدري ؟ كيف قال لك وأنت لا تعرف مكانه ؟.

                        - في رؤياي .

                        - انتفض واقفًا وضرب بقبضتيه على المنضدة , فانكسر زجاجها وازرقَّ وجهه .

                        - أتهزأُ بنا ؟.

                        - ألا يرى الإنسان والده في الرؤيا ؟.

                        - يعني هذا أن والدك جاءك في الرؤيا . وأعطاك القنبلة وقال لك , فجّر هذه القنبلة تحت الدبابة ؟.

                        - القنبلة لم يعطها لي والدي .

                        - إذن فمن أعطاها لك ؟.

                        - !!! .

                        - أعرف كيف أُجبرك على الكلام , لقد تألمت لحالك قائلاً لنفسي إنه ما زال طفلاً. والواقع أنك مجرم صغير .

                        اقذفوا بهذا ... إلى الزنزانة .

                        وبدأت حياتي في السجن بهذا الأمر . قذفوا بي في زنزانة مظلمة لا يأتيها ضوء من أي مكان , وتنبعث منها روائح كريهة . ما كنت أستطيع أن أرى الضوء منها إلا عندما يفتحون بابها , وهو ضوء الممر , وفي ذلك الوقت كنت أستطيع أن أتنفس بهواء مختلف . أحياناً يقدمون طعامًا مرتين . قطعة خبز وطبق طعام وما بين الوجبتين وقت طويل , ولم أكن أدرك الليل من النهار , إذا فتحوا باب الزنزانة واستطعت رؤية أضواء المصابيح أعرف أننا في الليل وإذا لم تكن مضاءة فأحكم بأن الوقت نهار , سحبوني للتحقيق عدة مرات . لم أكن أتحدث بشيء . كانوا يضربونني بالصفعات والرفس بأقدامهم . وأعود إلى الزنزانة وجسمي ينبض بآثار الضرب والأذى , وفمي دامِ وكذلك وجهي , ضعفت جدًّا . ولم تعد طاقتي كالسابق . وعلمت من الجندي الجديد بأنهم لن يقدموا لي إلّا وجبة واحدة في اليوم . وأخذت أكتب بأظافري على الحائط خطًا عند كل طعام


                        الوحدة في حياة السجن تعلم الإنسان التفكير , ولم يكن لديّ ما أعمله في غرفة ضيقة مظلمة غير التفكير وغير الدعاء . في هذا الجو المنتن للسجن الذي تعودت عليه , كنت أدعو الله لهؤلاء الأبطال الذين يحاربون في الجبال , وأدعو الله أن أتخلص من هذا السجن , كما كنت أقرأ الفاتحة كثيرًا على أرواح أمي وشيخي . وبقية الشهداء . إن الموت أفضل من معاناة هذا التعذيب , وبخاصة الاستشهاد . كم هو الموت جميل في سبيل الله ؟! لم أستطع أن أكون شهيدًا , كنت سأصبح في عداد الشهداء لو أن القنبلة التي كانت معي لم تبتل !!

                        عددت عدد الخطوط التي نقشتها بأظافري على حائط الزنزانة في مرة فتح فيها باب الزنزانة , ولم يعترض جندي النوبة على هذا , كان على الحائط مائتان وأربعون خطًا بالضبط . معنى هذا أنني هنا منذ ثمانية أشهر كاملة . وإذا حسبت أن آخر أيام قضيتها في الجبل كانت في شهر فبراير . إذن فنحن الآن في شهر أكتوبر . يعني أمضيت في هذه الزنزانة فصل الربيع والصيف والخريف . ولم أستطع رؤية الأشجار وتفتُّح الورود وحصول الثمرات . والخريف الآن على وشك الانتهاء وبدأت أوراق الأشجار في التساقط . وبقيت عدة أشهر أخرى في هذه الزنزانة .

                        عندما قذفوا بي إلى غرفة واسعة فيها السجناء الآخرون كان التاريخ هو شهر يناير من عام 1981 . وكان في هذه الغرفة ثمانية عشر سجيناً غيري . كانوا جميعًا في حالةٍ يرثى لها . وكنت أكثرهم بؤسًا بل ما كنت أستطيع رؤية ذراعي وساقي جيدًا بعد سنة إلاّ بضوء ضعيف باهت قادم من النوافذ . لقد أصبحت عبارة عن جلد أسمر وعظام. دُهش المسجونون عندما رأوني , أصابتهم جميعاً الدهشة لتعذيب طفل ما زال في الثالثة عشرة من عمره .

                        كان في الغرفة وسائد نباتية مرتكنة على حوائط قذرة , وعندما يحل المساء نضع هذه الوسائد أرضاً في نظام نستطيع به النوم عليها . كانت إدارة السجن تأخذ المسجونين ثلاثة ثلاثة أو أربعة أربعة للتحقيق معهم . وكنا ندرك أن من لا يرجع من التحقيق منهم لا بد أن يكون قد لقي حتفه رميًا بالرصاص . ويبدو أنهم فقدوا الأمل في أن أتكلم لذلك لم يعد أحد يطلبني للتحقيق .

                        كان عدد المقبوض عليهم في زنزانتا متغيرًا , وفي مرّةِ وصل عددنا إلى أكثر من أربعين شخصًا . وحدث ذات ليلة أن أعدموا ثلاثة وثلاثين شخصًا منّا رميًا بالرصاص , فتأثرنا وحَزِنّا وأصبحنا في أيام كثيرة بعدها لا نستطيع تناول الطعام , وكانت عقوبة من لا يستطيع تناول طعامه الضرب , فكان الجنود يدخلون الزنزانة ويضربوننا جميعًا بالسِّياط , ومع ذلك فكنا لا نجد رغبةً في الطعام , لقد أفقدنا الأمل بالحياة إعدام ثلاثة وثلاثين سجينًا في ليلة واحدة , إلا أن الجوع يمنع الإنسان من التفكير الطبيعي , ويكسر حدَّة المقاومة ويجعله ينهار , فاضطررنا أخيرًا لأن نأكل ما يقدم لنا من طعام .

                        أخذوني ذات صباح للتحقيق , عرفت على الفور ذلك الضابط الكبير الذي رأيته في المبنى الأصفر أول يوم جئت فيه إلى هنا . وتذكرني هو بصعوبة , قال لي :

                        - لقد تغيرت كثيرًا . إنك تشبه الهيكل العظمي . ولو لم تتمرد , لما أصبحت في هذه الحالة . والآن عليك بالإجابة على هذا السؤال , هل أنت نادم على ما فعلت؟.

                        بدأت أفكر , إذا قلت لست نادمًا , سيعيدونني إلى الزنزانة ثانية , وربما يعدمونني رميًا بالرصاص ولم أكن أخاف من هذا , لكن لا أريد أن أموت قبل أن أرى والدي , وقررت أن أراوغ فقلت :

                        - نعم إني نادم .

                        - حسنًا أخيرًا عقلت . لو كنت قلت هذا الكلام قبل سنة لكنت الآن تذهب إلى المدرسة وأنت ترتدي أحلى الثياب وأنظفها , لقد آذيت نفسك عبثًا , لو كنت قلت لنا ما كنا نريد معرفته منك لما كنت أتعبتنا إلى هذا الحد , ولكنا استطعنا اصطياد ذلك المجرم الذي يسمونه بالرئيس الصاعقة . لقد آذانا كثيرًا ... لكنه مات ... قتلناه .. !!

                        أهاجني هذا الكلام وشعرت كأن البرق ضرب في مخي , فأمسكت نفسي بقوة حتى لا أهجم وأخنق هذا الضابط , كما كنت أضبط نفسي بصعوبة حتى لا أبكي , حاولت ألاّ يحسَّ الضابط بأني ضغطت على قبضتي يدي وعلى أسناني .

                        تركوني حرًّا في ذلك اليوم وأخرجوني من السجن . سرت في شوارع كابول على غير هدى مدة ساعتين كانت قدماي تلتفان على بعضهما ويبدو أنني نسيت كيف يسير الإنسان على قدميه , لم أكن أستطيع النظر إلى الشمس , أقاربي الذين كنت أصادفهم في الشارع لم يعرفوني . قال لي الضابط الكبير عندما كنت أخرج من المبنى الأصفر الذي في حديقة السجن :

                        - انتبه ... إننا سنراقبك ... ستذهب إلى مركز الشرطة القريب منك كل مساء لكي يوقع المسؤول هناك في دفترك .

                        اضطربت كثيرًا وأنا أدخل الشارع الذي فيه منزلنا . كانت الوجوه التي تعرفني تنظر إليّ بعيون حيرى .

                        منزلنا بابه ونافذته مهدمتان , حائطه منفلق من أوله إلى آخره , أُخذت الأشياء التي فيه , منزلنا أصبح خرابًا . جلست أمام النافذة المهدومة , نظرت إلى كل سنتيمتر عبر الحائط والسقف , فكرت في الأيام المُرَّة والحلوة التي عشتها في هذا المنزل مع أبي وأمي وأخي الكبير . إنه بيتنا ولو كان فارغًا , إنه مملوء بذكرياتهم . إن آلام الذكريات المريرة قد جثمت على قلبي , وبكيت كثيرًا على هذه الذكريات .

                        وفي المساء ذهبت إلى مركز شرطة منطقتنا فوقَّعوا لي في الدفتر المخصص لي . ولم أستطع أن أتخذ قراراً في : هل أعود إلى البيت مرة أخرى أم لا ؟ ماذا أعمل في هذا البيت الفارغ في هذه الليلة الباردة ؟ تذكرت منزل شيخي وذهبت إليه سريعًا , فتح لي الباب ناس لا أعرفهم ثم أغلقوه في وجهي قبل أن أحدثهم عن مشكلتي وقالوا :

                        - ليس لدينا ما نعطيه لك .

                        عدت إلى بيتي مهمومًا وعندما كنت أمام بيتنا مباشرة سمعت صوتاً من خلفي يقول :

                        - كريم ! هل خرجت من السجن ؟

                        كان صاحب هذا الصوت هو المدرس الخائن , لقد استطاع أن يعرفني على هيئتي هذه لأنه رآني في السجن عدة مرات . مع أن جيراننا لم يعرفوني وأنا بحالي هذا . ماذا كان من الممكن قوله لهذا المدرس ؟ اقترب مني وهو يبتسم , كان رجلا مواليًا لبابراك كارمال , لو شتمته فسأعاقب . انتظرت دون أن أقول شيئاً . قال :

                        - لقد ضعفت كثيرًا .

                        أجبته بالإيجاب , أمسكني من ذراعي وأخذني مباشرة إلى منزله . لقد دخل أبي السجن بسبب هذا الرجل , وضربوني كثيرًا بسبب هذا الرجل , إني اشمئز منه , لكني لم أستطع القيام بشيء لضعفي على مواجهته , هذا الضعف الذي لم أجد له معنى .

                        كنا نأكل الأكل الذي أعدته زوجته في منزله الدافئ المؤثث تأثيثًا لطيفًا . كان المدرس يتكلم باستمرار . قال :

                        - سيأتي يوم يندم فيه هؤلاء المتمردون على ما يقومون به من أعمال تخريبية , سيفهموننا , أكثر المتمردين مساكين غُرّر بهم , لا يدرون ماذا يفعلون , لابد من تنوير الشعب , لابد من فسخ الرباط الذي يربط بين هؤلاء المتمردين وبين الشعب .

                        كنت أصطنع الاستماع إليه , كان أحيانًا يريد أن أصادق على كلامه فكان يقول :

                        - أليس كذلك ؟

                        فكنت أحني رأسي بعلامة : " وما أدراني " ؟

                        كانت زوجة المدرس مشغولة بطفل صغير , ونحن نتحدث , لم يكن لديهما أي أطفال من قبل , معنى ذلك أن هذا الطفل قد جاءهما من بعد .

                        أخذ المدرس يتحدث أمامي هكذا حتى منتصف الليل . ولم تكن زوجته تتدخل في هذا الحديث قطُّ . إنها كانت مثلي لا تعترض ولا توافق , أحسست بطيبة زوجته وبراءة طفله وأنهما ليسا شريكين في خيانة المدرس .

                        بتُّ ليلتي في سرير مريح في منزل المدرس , كنت في تلك الليلة أكثر بؤساً من الليالي التي قضيتها في السجن , فلم أستطع النوم حتى الصباح , أحياناً كنت أغفو لكي أفيق مرة أخرى , وكنت أنتظر الصبح على أحرَّ من الجمر , صليت صلاة الصبح وعينا المدرس تتهكمان عليّ , وتركت منزله على عجل , أصرّ هو وزوجته أن أحضر إليهما في المساء , فقلت لهما :

                        - سأذهب إلى أقارب أمي .

                        سرت كثيرًا في الشوارع في ذلك اليوم أيضًا , لم يكن لي قريب مخلص يمكن أن أذهب إلى بيته , أغلبهم ترك كابول , أما الباقين فلم يكونوا يحبوننا لأننا كنا معارضين لبابراك كارمال , فكرت في لحظة أن أبقى في منزل المدرس وأحرق البيت , فتذكرت زوجته وطفله . إنَّ حرقهما أو على الأقل تركهما بلا مأوى لذنب عظيم .

                        ذهبت إلى مركز الشرطة ووقعوا لي توقيع اليوم الثاني .

                        ازداد الجو برودة ولم يكن معي ملابس ثقيلة , السماء تمطر ثلجًا, كنت أرتعش بجوار الحائط مثل القطّ المولود حديثًا ولا مأوى له , ظنّ أحد المارة أنني متسول فمد يده بنقود أعطاها لي في يدي فجريت خلفه وأعدت إليه النقود , نظر إلي الرجل بدهشة ثم ابتعد .

                        وعندما أحسست جيدًا أنني جائع ندمت على أني أعدت للرجل نقوده , كنت على الأقل اشتريت بها رغيفًا من الخبز .

                        فكرت في حالي قبل سنتين , كان لي أسرة , وكان لنا دخل عادي , وكنت طالباً في المدرسة وكان لنا بيت أذهب إليه مهرولاً كل مساء , ولا يقدر نعمة البيت إلا من يفقد بيته مثلي , إن صبياّ مثلي جائع بردان لا يستطيع المشي أكثر في شوارع كابول في هذا المساء البارد .

                        أريد مغادرة هذه المدينة ... أريد الذهاب إلى الجبال والانضمام إلى المجاهدين ... أريد الحرب ... أريد الجهاد ... وتحرير بلادي من العدو الكافر الذي احتلها .

                        كنت أسير في الشوارع وهذه الأفكار تملأ رأسي , لو وقفت في مكان ما فسأتجمد , الجو يزداد برودة وهطول الثلج يزداد ويتكاثف , وأدركت أنني لا أستطيع أن أكون هكذا في الشوارع والعراء ولابد من وجود مأوى أحتمي به , وتذكرت أن هناك مأوى عندما سمعت أذان العشاء وكان بصوت خاشع حزين .

                        كنت أمام أكبر جامع في كابول , توضأت بسرعة ودخلت , صليت مع الجماعة , وما حدث هو أنني بدون إرادة مني لم أكن أستطيع السيطرة على ارتعاشاتي من تأثير البرد وأنا أصلي , وبذلك أزعجت من يصلي على يميني ومن على شمالي . وعندما غادر المصلون الجامع , انزويت أنا إلى ركن أنتظر إمام الجامع لأشرح له موقفي وأستأذنه أن أبيت في الجامع حتى الصباح , لكني وأنا أنتظر وصول الإمام إذا بشاب طويل القامة يقترب مني ويقول :

                        - هل أنت مريض يا أخي ؟.

                        - لا .

                        - كنت ترتعش جدًا وأنت تصلي .

                        - أصابني البرد .

                        - ألن تخرج ؟.

                        - ليس لي مكان أخرج إليه .

                        - ألست من هنا ؟.

                        - بلى . أنا من هنا .

                        - ولماذا لا تذهب إلى بيتكم ؟.

                        - !!! .

                        - تكلم يا أخي . أليس لك أب وأم ؟.

                        - لا .

                        - أين كنت قبل هذا ؟.

                        - في السجن .

                        - أنت !! .. في السجن !! ... ياه !!! .

                        نظرت إلى عينيه . كانت مليئة بتعبير ينم عن الدهشة الكاملة , اقترب الإمام منا في هذه اللحظة , قال الشاب لإمام الجامع :

                        - أخونا هذا كان في السجن , أبوه وأمه ليسا موجودين ... وليس له مكان يأوي إليه .

                        نظر الإمام فترة طويلة إلى عيني , أمسكني من ذراعي وأخذني تحت الثريا مباشرة . وبدأ مرة أخرى ينظر إلى عيني بدقة .

                        - أنت ... أنت ابن عمر ؟! ... ابن عمر الكتبي ؟!!.

                        - نعم .

                        احتضنني الإمام وأخذ يبكي كثيرًا .

                        - ما سبب حالك هذا ؟ لقد كنت طفلا كالورود .

                        وبدأت أنا أيضًا في البكاء , تُبكي المواساةُ الإنسانَ أحيانًا أكثر من الألم نفسه , حكيت له باختصار المصائب التي مرت بي , استمعا إليّ بدهشة , كان الشاب طويل القامة , شقيق الإمام ويسكنان في نفس البيت , أخذاني إلى بيتهما وقدّما لي الطعام فأكلت حتى شبعت , ونمت على سرير دافىء , لقد مرضت من كثرة تجوالي في ذلك اليوم وبسبب برودته الشديدة القاسية , تذكرت أمي وأنا أحدث الإمام . إن درجة حرارتي مرتفعة وكانت حرارة أمي مرتفعة عندما ماتت , أحسست بالخوف من الموت , لكني نمت بعد ذلك .

                        لم أستطع مغادرة الفراش في اليوم التالي , ولا بعد اليوم التالي , رأسي تدور وعيناي تظلمان . اسْتَعَدْتُ نفسي قليلًا بعد الحقن والحبوب التي كتبها لي الطبيب , واستخدمتها يومين متواليين .

                        اهتم بي الإمام اهتمامًا صادقًا , كان صديقًا لوالدي . ويعرف أنه ذهب إلى الجبال ويعرف أنه قبض عليه ثم هرب . وقال إن والدي يبحث عني فقد جاء عندما لم نكن في كابول واختبأ ثلاثة أيام في بيت الإمام , ثم تركه وعاد إلى الجبال ثانية ولم يقل إلى أين يذهب . كما أنهم لم يسألوه .

                        وبينما كان الإمام يتحدث عن والدي كنت أستمع إليه بانتباه شديد , وكنت أريد أن يقول لي كل ما يعرف عن والدي , واشتعلت في قلبي الرغبة في البحث عن أبي . قلت ذات يوم لشقيق الإمام :

                        - أنذهب سويًا إلى الجبال ؟.

                        نظر إلي الشاب نظرة أسى وألم ثم قال :

                        - صحتك لم تتحسن بعد . ثم إن الذهاب إلى الجبال مهمتنا نحن قبل أن تكون مهمتك , أنت ضعيف جدًا . استعد صحتك أولاً .

                        - أريد أن أجد والدي . كما أني تعودت على الجبال . لم أمرض هناك قطّ , أصابني الجوع هناك أيامًا كثيرة هناك , وسرت كثيرًا , ولم أمرض .

                        - الواقع أنه من الصعب تصديق ما مرَّ بك من مصائب , ولا أدري كيف استطعت تحمل كل هذا البؤس والألم , ولكن ذهابك إلى الجبال وأنت في هذه الحالة جناية.

                        - بعد كم يوم أستطيع الذهاب ؟.

                        - لا أستطيع القطع بهذا , المهم أن تستعيد صحتك أولا .

                        معنى هذا الكلام أنه لابد من شفائي سريعًا , وبعد ذلك اليوم لم أنم في الفراش نهارًا , وبدأت أخفي عنهما آلامي التي أحسُّ بها واعتلال صحتي , لابد أن أجعلهما يعتقدان أني شفيت .

                        تُطارد الأيام بعضها بعضًا , والسجون تمتلئ وتغصُّ بالأبرياء , ويزداد يومًا بعد يوم هؤلاء الناس الذين يجوبون شوارع كابول , جوعى , حزانى , بلا مأوى , وأصبح من المعتاد أن نرى ونسمع يومياً شباباً يقتلون بالرصاص في شوارع كابول , ولا يستطيع الناس في كابول التجمع مع بعضهم في الشوارع , ولو رأت السلطات ثلاثة أشخاص يحدثون فيما بينهم تسرع بالقبض عليهم والتحقيق معهم .

                        وذات مساء حدثني الإمام وأخوه أن المجاهدين يواجهون حربًا ضروسًا في جبال هندوكوش , وأن الإمدادات المعادية تصل إلى وحدات العدو يومياً , وأن مدداً سيتوجه هذه الليلة من كابول ليدعم قوات العدو في صراعها ضد المجاهدين . لو قلت لهما الخطَّةَ الرهيبة التي فكرت فيها عندما سمعت هذا الخبر ؛ لمنعاني بكل تأكيد فقد عرفت المكان الذي ستتحرك منه قوات النجدة . هناك ثكنة عسكرية ضخمة أمام مطار كابول , الآليات المدرعة في حركة دائمة يومياً فيها , والقوات التي تأتي من روسيا بالطائرات تأتي إلى هذه الثكنة . كنت عرفت هذه المعلومات من المسجونين في السجن . كان لابد لي أن أجد لنفسي حجة مقنعة لتطبيق الخطة التي فكرت فيها وأنا أستمع إلى الإمام وأخيه , لذلك قلت :

                        - أريد الذهاب إلى بيتنا .

                        قال الأخ شقيق الإمام :

                        - سنذهب سويًا .

                        - كما أني سأذهب إلى مركز الشرطة لكي يوقعوا لي في دفتر المراقبين ولا يصح أن يَرَوْك معي , إنهم يعرفون أنني أقيم في بيتي .

                        توضيحي لدور مركز الشرطة هكذا كان أمرًا جيدًا لأنني قررت أن أختفي فجأة , ولم أكن أحب أن يُحقق مع أحد بسببي .

                        (( إن المسلم لم يخلق ليندفع مع التيار ولا ليساير الركب البشري حيث اتجه وسار بل خلق ليوجه العالم والمجتمع والمدنية ويفرض على البشرية اتجاهه ، ويملي عليها إرادته ، لأنه صاحب الرسالة وصاحب العلم واليقين.. لأنه المسؤول عن هذا العالم وسيره واتجاهه فليس مقامه مقام التقليد والاتباع ، إن مقامه مقام الإمامة والقيادة ، ومقام الإرشاد والتوجيه ، ومقام الآمر الناهي ))

                        الشاعر الباكستاني محمد إقبال

                        تعليق


                        • #13

                          العودة إلى الجبال والجهاد
                          ( الفصل الثاني عشر ..)



                          ذهبت إلى مركز الشرطة وجعلتهم يوقعون على الدفتر , وخرجت خارج المدينة . الحراسة موضوعة على مداخل المدينة ومخارجها , لكن كان من السهل جدًا الدخول والخروج من المدينة بالنسبة لي دون أن يراني العساكر . لم أكن أضطرب عندما أراهم كما أنني اعتدت على إيجاد عذر إذا سألوني , لا يفكر أحد من الذين لا يعرفونني أنني يمكن أن أشكل خطراً عليهم ولو قيد أُنملةٍ لصغر سني , تركت المدينة من خلال الشوارع الخلفية وسرت إلى المطار دون أن أخرج من الطريق الرئيسي , وعندما اقتربت من الوحدة العسكرية سرت بدقة شديدة في اتجاه التلال .

                          في الطريق الرئيسي , تقف ثلاث دبابات وثلاث سيارات نقل جنود في صف واحد . لابد أن تكون هذه الآليات هي التي عليها الذهاب الليلة إلى جبال هندوكوش . أخذت في الزحف على الأرض بين الجليد حتى اقتربت من هذه الآليات , كان الجنود يضعون صناديق في السيارة الأخيرة . كان أحد المسجونين قد قال لي ذات مرَّة " لابد أن تكون إحدى هذه الآليات مملوءة بالذخيرة والتموين " . كان هذا السجين قد سافر ذات مرة في آلية بهذا الشكل , ونجح في الهروب بعربة العدو , ونسف سيارة التموين والذخيرة . وكنت أنوي تكرار ما فعله هذا المجاهد , كانت هذه هي الفكرة الرهيبة التي فكرت فيها.

                          انتهى الجنود من تحميل السيارة , فرحت عندما رأيت أضواء الكشافات تحول إلى الآليات الأخرى , لأنه من المستحيل أن أركب السيارة إذا لم يبتعد الضوء عنها , فلقد كان الكشاف يحول المنطقة التي يُوجّه عليها إلى نهار .

                          زحفت وأنا أكتم أنفاسي حتى اقتربت من سيارة صناديق الذخيرة . الجنود يركبون السيارات الأخرى , كنت أدرك أن الوقت قصير . وكان من الخطر الشديد أن يراني أحد . كنت بجانب نتوء على جانب الطريق تمامًا ولم يكن بيني وبين السيارة المحملة بالصناديق غير مسافة صغيرة , نظرت ذات اليمين وذات الشمال , كانت هناك أشباح أشخاص في الأمام لكنها بعيدة عن مقدمة السيارة الأخيرة التي كان عليّ ركوبها .

                          سميت باسم الله وقطعت هذه المسافة القصيرة بمساعدة يدي . وعندما وصلت خلف السيارة توقفت لحظة لأستمع إلى أية أصوات , فلم أسمع صوتًا غريبًا , لمحت داخل السيارة شيئًا كالظل , فالصناديق لم تملأ إلا نصف السيارة والجزء الخلفي فارغ , استطعت أن أعرف هذا بحركة خفيفة من يدي في الظلام . سيكون الوضع رديئًا للغاية إذا ركب الجنود هذا الفراغ الذي خلف السيارة . يجب التفكير في هذا من الآن . فتشت صندوقين فكانا خفيفين , المعروف أن الذخيرة ثقيلة . صعدت فوق الصناديق , وعندما انتقلت إلى الأمام رأيت جنودًا من النافذة الصغيرة التي تطل على داخل كبينة السائق ,وكان الضوء يأتي منها . انسللت إلى الفراغ الذي أمام النافذة ونزلت فيه . لم يكن هناك أحد بعد في كابينة السائق . فهمت أنهم رصّوا صناديق الذخيرة في الجانب الأمامي نظرًا لأنها ثقيلة , وضعت في واحدة من هذه الصناديق القنبلة المجهزة التي أعددتها لهذا الأمر وتركت من طرف الفتيل مقدار شبر .

                          جاء بعض الجنود إلى كبينة السائق , وفي نفس الوقت ركب جنديان في فراغ السيارة الخلفي . سعدت جداً بأني استطعت الاستقرار في هذا الفراغ الأمامي قبل مجيء هذين الجنديين .

                          تحركت السيارة وهي تهتز . أدركت أن الجنديين اللذين في الفراغ الخلفي أفغانيان من نشيد تغنيا به , شاركتهما في نفس هذا النشيد . كنت في نشوة غريبة كمن يحتفل بالنجاح . أدركت أن دباباتٍ تأتي من خلفنا , من أصواتها . لقد أبعدت دمدماتها التي تطِنُّ في أُذنيَّ شعور الفرحة التي في داخلي . لأني متى سمعت أصوات هذه الدمدمات أتذكر فورًا بحزن وأسى , المجاهدين الذين ماتوا في القصبة والمعركة التي خسرناها بسببها .

                          رقدت من الفراغ أنظر من النافذة المطلة على كبينة السائق . قضينا على الطريق ساعات وساعات بين اهتزازات السيارة المنتظمة وبين ضجيج الدبابات , نظرت عدة مرات إلى كبينة السائق , كان هناك ضابط يجلس بجوار الجندي الذي يقود السيارة واثنان في الفراغ الخلفي والخامس أنا . الخامس الذي لا يدري به الأربعة !!

                          أخاف من أن أتحرك أو أحدث جلبة , بقيت جاثمًا على ركبتيَّ هكذا لعدة ساعات ,ولم يكن لي حيلة في هذا إذ لم يكن هناك مكان أمدّ فيه ساقيّ .كنت أحس بالألم يسري في ركبتيَّ وفي كعوب ساقيّ . ولم يكن لي خيار فأخذت أضغط وأصرّ على أسناني , لا أدري كم استمر هذا السفر المرهق المخيف .

                          لاحظت أن السيارة التي أنا بها قد توقفت ونزل منها الضابط والسائق اللذان في المقدمة ومشيا , وعندما نزل الجنديان اللذان في كابينة السيارة في الخلف جاء وقت اتخاذ القرار لبدء العمل , فأشعلت فتيل القنبلة الذي كنت أعددته من قبل , ثم استطعت أن أرفع الصناديق وأخرج من مكاني , وعبرت من الفراغ الخلفي من كابينة السيارة , فرأيت الجنديين اللذين نزلا من كابينة السيارة يقفان بعيدًا قليلا عن السيارة وقد يرونني إذا نزلت , وأدركت أنني استعجلت في إشعال الفتيل , ولكن سبق السيف العذل , ومن المستحيل العودة إلى إطفائه , وانتظاري معناه أن أطير بعد قليل في الهواء أشلاء متناثرة , اضطربت لكني نزلت من الآلية بحرص وأنا أُسمِّي الله . لم يظهر على الجنود الذين نزلوا قبلي دليل على سماع أي حركة مني عند نزولي من السيارة . انحنيت جيدًا حتى لا يراني أحد , وسرت إلى جانب الطريق متخفيًا ما أمكنني .

                          أحسست أن قلبي يدق بسرعة غريبة , ومع هذا لم يستطع الاضطراب أن يؤثر عليّ , وتلفَتُّ على الجانبين وعندما وجدت أن لا أحد يحس بي , سرت بيدي وقدمي بين النتوءات الثلجية وأخذت في الابتعاد عن المكان , عقلي مشتت وأعصابي متوترة . وعندما ابتعدت عن الطريق حوالي مائتي متر نهضت على قدميّ وأخذت أجري نحو التلال , ولا أدري كم استغرق جريي هذا . وفجأة وجدتني أنبطح أرضًا بفعل الانفجار الرهيب المذهل الذي حدث . انتظرت مدة في المكان الذي أرقد فيه منبطحًا على وجهي , رأيت أن المكان كله يُومض لحظة ثم يسودُّ . وسمعت أيضًا أصوات القطع المتناثرة الساقطة من السماء . فكرت قائلاً إن الجنود عندما يفيقون من صدمة المفاجأة سيبحثون في الأماكن المحيطة بالانفجار عن أحد , ولم أكن بعيدًا تمامًا . كان التل الذي أمامي مضيئًا يتلألأ في ضوء القمر . أخذت أنحني وأجري نحو التل . أسمع أصواتًا تأتي خلفي , تقترب مني هذه الأصوات التي لم أستطع معرفتها وأنا أجري بكل ما أوتيت من قوة , التفت في لحظة . آه, لقد رأوني !! وهم الآن يجرون خلفي ... إن القبض علي أصبح مسألة لحظة أو أقلّ .. آه , لو كان بيدي سلاح لحاربتهم به فإذا متُّ بعدها فلن أحزن ... إنهم لا يطلقون الرصاص عليّ رغم شدَّة اقترابهم مني !! ربما يريدون القبض عليَّ حيًّا ! ... إنني أهرب خوفًا من أمور أخرى ... خوفًا من التعذيب الوحشيّ الذي سألقاه على يد جلاديهم ... إذا قبضوا عليَّ ... سيقتلونني مائة مرة من شدة التعذيب قبل أن أموت ... الخوف من التعذيب أعطى ساقيًّ قوة .

                          وعندما رأيت عدة جنود يقطعون الطريق عليّ ويقبلون نحوي أدركت أنني قد انتهيت , نظرت إلى التلال فوجدت نفسي أتجه إليها وأتسلقها دون تفكير مني . وعندما رأوني أتسلق التلَّ أطلقوا الرصاص عليّ . كنت ألاحظ أن الرصاص ينصبُّ على الأماكن التي حولي . ظهري يتخدَّر . توقعت ألمًا سببه الرصاص الذي قد يكون أصابني . وعندما وصلت إلى أعلى التلِّ تمامًا , شعرت بألم في ساقي ... تابعت الجري دون اكتراث , وفي الاتجاه المعاكس ووصلت إلى مكان صخريّ . أسندت ظهري إلى الحجارة الباردة كالجليد. ونظرت في الاتجاه الذي جئت منه . الجنود لا يأتون خلفي , الجنود يجرون بعيدًا عني نحو الأمام , لقد أضاعوني !!! كنت أستطيع رؤيتهم في ضوء القمر بمنتهى الراحة من المكان الذي أنا فيه !! إنهم يجرون ذات اليمين وذات الشمال كالحيوانات المتوحشة , وبعد مدة لم أعد أراهم . عاودت الجري مرة أخرى خشية أن يعودوا ويبحثوا عني , الألم الذي في ساقي يزداد شدّة , كنت مضطرًا نسيان هذا الألم , لابد أن تكون رصاصة أصابتني في ساقي , لم أستطع أن أتحسس بيدي المكان الذي يحرقني ألمًا , وجريت من تل إلى تل , وبدأت ساقي الجريحة تعاكسني فأصبحت أخطو بمشقة . رأسي يدور وعيناي تضطربان . كنت في أرض مستوية ناصعة البياض بين التلال , وكان البرد في غاية الشدة , جرحي يزداد ألمه , وأصبحت غير قادر على أن أخطو ولو خطوة واحدة ولم أكن أدري إلى أين أتجه . كانت التلال البيضاء مُشعَّة في ضوء القمر , انهارت قواي وسقطت فوق الثلوج . خطر على ذهني في هذه اللحظة أنني سأموت في الجبال مثل ذئب جريح , تذكرت أمي التي ماتت في منبر مسجد جبلي , أصبت بحالة من الإحباط , جرحي يلتهب كالنار , تذكرت أبي أيضًا, إنني الآن أحتاج إلى ذراعيه القويتين , قمت بآخر ما أستطيع من جهد وفتحت يدّي ... وتوسلت إلى الله الذي خلق الكون من العدم ... أن يعينني ... الله وحده هو الذي يراني على حالي هذا ... وهو الذي يستطيع إنقاذي توسلت إلى الله وأنا أبكي ... ثم فقدت وعيي .

                          وجدني رجال الرئيس صباحًا هنا , وجدوني مغمى عليّ , وحملوني إلى مخبئهم في المغارة . أخرجوا الرصاصة من ساقي ولفوا مكان الجرح وها أنا ذا هنا منذ ثلاثة أيام , أشكر الله رب العالمين أن لي عمراً أعيشه , وما زلت على قيد الحياة وأتحدث الآن معك . لقد حكيت لك قصة حياتي المليئة بالأسى .

                          بدأتُ الحياة مرة أخرى في اللحظة التي ظننت فيها أنني انتهيت وانتهى فيها كل شيء وانطفأ فيها الأمل . وأحسُّ في هذه اللحظة أنني أقوى مما كنت .

                          (( إن المسلم لم يخلق ليندفع مع التيار ولا ليساير الركب البشري حيث اتجه وسار بل خلق ليوجه العالم والمجتمع والمدنية ويفرض على البشرية اتجاهه ، ويملي عليها إرادته ، لأنه صاحب الرسالة وصاحب العلم واليقين.. لأنه المسؤول عن هذا العالم وسيره واتجاهه فليس مقامه مقام التقليد والاتباع ، إن مقامه مقام الإمامة والقيادة ، ومقام الإرشاد والتوجيه ، ومقام الآمر الناهي ))

                          الشاعر الباكستاني محمد إقبال

                          تعليق


                          • #14

                            مُغادرة المغارة
                            ( الفصل الثالث عشر ..)



                            أبكى كريم صديقه نور الله , بحكاياته عن حياته بكل آلامها ومرارتها , والتي استمرت ذلك اليوم كلَّه حتى الصباح . هذا " العصفور الجريح " كما لقبه المجاهدون , في الواقع بطل كبير . ازداد إعجاب نور الله واحترامه لكريم عندما سمع حكايته . حكاها كما يقرأ ملحمة بصوت مليء بالحزن وعينين تشعان بالأسى وعندما انتهى من حكايته نظر بعينيه إلى جدران ومدخل المغارة ثم استغرق في تفكير عميق .

                            تذكر نور الله ما قاله الرئيس عندما خرج , لقد قال له إذا لم نعد حتى الصباح , أحضر أحدًا من القرية يساعدك في نقل كريم . فقال نور الله لكريم :

                            - نم أنت , وأنا أذهب إلى القرية لأجد من يساعدني , وربما آتي بمزلجة نحملك عليها ونذهب بك إلى القرية . ونعيش معًا هناك , وأهتم بك وعندما تشفى تعلمني استخدام السلاح , وننضم سويًا إلى الجهاد .

                            - غمر النور وجه كريم , لقد ذكره نور الله بأخيه الكبير . ولو أن أخاه الكبير عاش في المدينة , لكنه كان مقداماً ويعرف استخدام السلاح . والحق أن الجهل باستخدام السلاح يعتبر عيبًا خصوصاً في أفغانستان , لأن الحروب الطويلة دامت من قبل سنوات عديدة جعلت من الأفغان أمة محاربة , قال كريم :

                            - حسنًا . لو أستطيع المشي لما كان هناك أيَّ داع لذهابك إلى القرية وعودتك , ولكن . إذا أحببت ننتظر الرئيس قليلا .

                            - ننتظر .

                            - ألم تَجُعْ ؟

                            - نسيت الجوع وأنا أستمع إليك .

                            - وبعد أن أكلا وشربا , حساءً ساخنًا نام كريم وراح في سبات عميق , وخرج نور الله ذاهباً إلى القرية .

                            استيقظ كريم قبيل الظهر , وعندما وجد نفسه بمفرده أدرك أن نور الله قد ذهب إلى القرية . تحرك من مكانه , وجد أن ساقه لا تؤلمه , أنزل ساقه اليسرى إلى الأرض وسحب بيديه ساقه اليمنى إلى الأرض أيضاً وحاول أن يقف على قدميه . أحس ألماً فظيعاً في ساقه المصابة . ثم وقع أرضًا . قام بصعوبة ونجح في الرقاد مرة أخرى حيث كان ينام . ندم أنه قام بهذه المحاولة لأن الألم بدأ مرَّة أخرى .

                            لم يمض وقت طويل إلا وكان نور الله قد جاء وفي صحبته أحد أصدقائه . حملا كريماً وأجلساه على المزلجة , ثم أخذا ما في المغارة من الطعام وبعض الأشياء . جر نور الله وصديقه المزلجة , وكان كريم مرتاحاً , فلم تكن المزلجة تهتز . لكنه كان يتعب عندما كان نور الله وصديقه يسحبان المزلجة ليصعدا بها التلال . وكان يبدو في غاية الراحة عندما يجرانها أثناء النزول من التلال وفي الأراضي المستوية .

                            وصلوا إلى القرية قبيل المغرب . أودع الصديقان كريماً في منزل نور الله , كانت أم نور الله في غاية الحنوّ على الفتى الجريح . كانت تردد بين آونة وأخرى :

                            - آه لو لم يكن الروس قد أخذوا ماشيتنا لكنت أسقيتك من اللبن الطازج يوميًا وكنت أطبخ لك لحمًا طازجًا . أنت ضعيف جدًا . لابد من إطعامك جيدًا .

                            جاء القرويون في ذلك المساء لزيارة الفتى الجريح والسؤال عن حاله . نسي كريم جرحه وألمه . كان يفكر في الرئيس وإخوانه الذين لم يعودوا إلى المغارة . تُرى لماذا لم يعودوا ؟ عندما عاد القرويون إلى منازلهم , ترك نور الله ووالدته كريماً بمفرده وخرجا من الغرفة .

                            أمضى كريم ساعات طويلة قلقًا . نعم إنه لم يمت لكنه لا يستطيع السير ولا يستطيع أن ينهض ويبحث عن والده ولهذا يحزن . آه لو استطاع أن يمشي , لخرج يبحث عن المجاهدين ليطمئن عليهم .

                            جاء في الصباح اثنان من القرويين الذين كانوا ضمن الذين خرجوا مع الرئيس . فرح كريم كثيرًا بهذا الخبر عندما سمعه , ألحَّ في رجائه لنور الله أن يمكنه من التحدث مع هذين المجاهدين , فذهب نور الله إلى الرجلين ونقل لهما رغبة كريم , فجاءا إليه حيث يرقد , وبعد أن سلَّما عليه سألهما كريم :

                            - لماذا لم يعد الرئيس إلى الغارة ؟

                            تحدث هذان القرويان في ارتباك ظاهر , ذلك لأن هذه هي المرة الأولى التي يشتركان فيها في عملية جهاد عسكرية .

                            قال أحدهم :

                            - ذهبنا إلى القصبة . وهناك دخلنا في إمرة رئيس أكبر , أصبح رئيسنا مساعداً لهذا الرئيس الكبير .

                            سأله كريم :

                            - ومن هو هذا الرئيس الكبير ؟

                            قال القروي الآخر :

                            - يسمونه الرئيس الصاعقة . والرجل صاعقة بالفعل !!.

                            كاد كريم يصاب بالإغماء من شدة فرحته عندما سمع اسم الرئيس الصاعقة . وفي عجالة قال لهما أنه يعرفه , وأنه حارب بجانبه قبل عام , وأخذ يروي لهما ما كان شارك به من معارك مع الرئيس الصاعقة .

                            نظر القرويان كل منهما إلى الآخر , كان واضحاً أنهما لم يُصدِّقا كلامه . قال لهما كريم :

                            - أقرآه السلام مني , وقولا له إنك أسميته " المجاهد الصغير " .. سيتذكرني , كما انقلا سلامي إلى الرئيس حسين وإلى المجاهدين الآخرين .

                            كان القرويان يستمعان إليه في دهشة . إذا كان ما يقوله لهما صحيحاً فإن هذا الفتى الجريح مجاهد شجاع أقدم منهما في الجهاد .

                            كان الرئيس الصاعقة يقوم بمحاصرة مدينة ليخلصها من العدو , نفذ الطعام لديهم فطلب المساعدة من المناطق المحيطة , جمع القرويون الطعام ووضعوه في مزلجة قادها هذان القرويان المجاهدان وودَّعوهما . كان كريم ينظر إليهما بعينين دامعتين من نافذة غرفة الحجرة التي ينام فيها وكان مبتئسًا جدًا لأنه لا يستطيع الذهاب معهما .

                            رقد العصفور الجريح على فراشة خمسة عشر يوماً متواصلة

                            أصبح أهل القرية يتناقلون بطولته والمصائب التي مرَّ بها , كان الجميع يتبارون في اقتسام خبزهم وطعامهم معه , وانضم للجهاد كل من في هذه القرية من الذين يستطيعون حمل لسلاح , ولم يبق في القرية غير المسنين والأطفال والنساء . وكان يزور كريم كل مساء اثنا عشر شخصًا على الأقل . وكان مضطرًا أن يحكي للزائرين نفس الحكاية التي حكاها لصديقه نور الله .

                            أحس كريم بفرحة غامرة في اليوم الذي استطاع فيه النهوض على قدميه والوقوف عليها , لدرجة أنه بكى من فرط تأثره . ورغب أن يترك القرية فورًا في نفس اليوم , وضغط المسنون عليه أن يبقى , قالت له أم نور الله :

                            - أيها العصفور الجريح , تفكر في الطيران بمجرد أن استطعت وضع قدميك على الأرض.

                            - جرحي التأم الحمد لله , وأنا أستطيع الذهاب .

                            قالوا كلهم :

                            - لا تستطيع الذهاب .

                            حاول نور الله ومرزا صديقا كريم كل ساعة من ساعات اليوم يرجوانه ألاّ يذهب .

                            كان كريم يعلم جيداً وأكثر من أي واحد آخر أنه متعجل وأنه ليس في قدرته تمامًا الآن الذهاب , لكنه لا يستطيع الصبر على عدم رؤية الرئيس الصاعقة .

                            أخرج نور الله البندقية التي خبأها والده من المكان الذي حفظها فيه وجاء بها إلى كريم, وقال له :

                            - لقد وعدتني أن تعلمني كيف أستخدم السلاح .

                            علم كريم نور الله استخدام البندقية التي معه , كما علمه أيضًا كيفية استخدام المسدس الأتوماتيكي . وبعد أن التأم جرح كريم تمامًا وذهب عنه الألم بقي ساقه الأيمن به عرج خفيف . ما زال القرويون يسمونه " العصفور الجريح " كلهم ارتأوا هذا الاسم وأحبوه .

                            استيقظ كريم صباح ذات يوم جمعة باضطراب ظاهر . روى لنور الله ولوالدته أنه رأى والده في الرؤيا وأن والده يناديه , قال لهما :

                            - كان والدي في ضفة مواجهة لأحد الممرات , وكنت جريحًا بين الثلوج والأحجار , والمكان الذي فيه والدي تغمره الخضرة تفتحت الزهور على الأشجار , وكانت الزهور ناصعة البياض .

                            كان الممر يقسم المكان إلى قسمين , في كل قسم منهما موسم مختلف عن الموسم الذي في الآخر . كنت أنا في موسم الشتاء . ووالدي يعيش في الربيع . كان يناديني وهو يصيح أن " أعبر إلى هذا الجانب " وكنت أقول له أني جريح ولا أستطيع العبور. فكان يقول لي " قل باسم الله , وانطلق " . انطلقت إلى الجانب الذي فيه والدي , ولم أشعر إلا وقد استيقظت من نومي .

                            قال نور الله :

                            - إني ذاهب معك .

                            - أخذت أمه تبكي بشدة وتطلب منه ألا يذهب , وتذكر كريم والدته التي كانت تبكي دومًا , إنها أيضًا كانت تقول لكريم لا تذهب . وها هي ذي أم نور الله تقول لابنها لا تذهب لذا قرر كريم أن يذهب بمفرده , ولم يعد كبار السن من القرويين يمنعونه من الذهاب . قرر أن يأخذ طريقه بعد أدائه لصلاة الجمعة مباشرة , قدّم أحد المسنين في القرية مسدسه إلى كريم . وقال له " ادعُ لي " وبينما كان كريم يستعد لبدء السفر فإذا بخبر يأتي من الرئيس الصاعقة , قال هذا الذي أتى بالخبر :

                            - إن الرئيس الصاعقة ورجاله قد استولوا على ناحيتي الممر . وإنه خطط لضرب وحدة عسكرية للعدو ستأتي لمساعدة القصبة غدًا .

                            وقال الرجل أيضًا , بأن التموين قد نفذ من المجاهدين .

                            قال كريم :

                            - كيف هذا ؟! لقد ضرب الرئيس الصاعقة بدخشان بقوة قليلة .

                            ضحك الرجل وابتسم بألم وقال :

                            - ليس معنا سلاح . ولقد قبض العدو على رجالنا الذين ذهبوا لسرقة الذخيرة التي في القصبة , وتقول المعلومات التي وصلت إلينا أنهم ناموا مجبرين على الثلوج ثلاثة أيام , وهم عراة تمامًا . ومع ذلك لم يستطع أحد من العدو أن يجبرهم على التكلم أو الإدلاء بأي معلومات وماتوا ثلاثتهم في اليوم الثالث متجمدين من البرد , وقال الرئيس الصاعقة ليس معنا سلاح يعتدّ به . وإذا أذن الله بانتصارنا غدًا فسيكون السلاح كثيرًا معنا .

                            - أرسل القرويون كل ما أمكنهم إرساله إلى الرئيس الصاعقة , وأحضروا مزلجة كبيرة وملؤها بالطعام . ذهب كريم مع مندوب الرئيس الصاعقة . ولقد ساعد نور الله في سحب المزلجة , وعندما وصلوا إلى التل تعانقا وتوادعا .

                            أطاع نور الله والدته وعاد إليه لكن عقله وقلبه كانا مع كريم .

                            وفي المساء بعد أن هبط الظلام على التلال , كان كريم ومندوب الرئيس الصاعقة وقد وصلا بالمزلجة التي كانا يسحبانها إلى مقر المجاهدين . عرف كريم بسرعة الرئيس حسين الذي رآه في المغارة من قبل , علم منه أن المجاهد حمد الله آغا العجوز الذي أطلق عليه اسم " العصفور الجريح " قد استشهد . لم يعرف المجاهدون كريمًا مع أنهم رأوه في المغارة من قبل , لقد كان في ذلك الوقت ضعيفًا وشاحبًا , لكنه الآن في صحة أفضل .

                            تضايق كريم عندما علم أن الرئيس الصاعقة موجود في الناحية الأخرى من الممر . لأن كريم كان يتشوق لرؤيته . قالوا له إنه سيأتي الآن , فجلس ينتظره .

                            غربت الشمس وأخذت النجوم في الظهور واللمعان قليلا قليلا . كانوا في نقطة ضيقة من نقاط الممر . النقطة التي تحتهم عميقة تمامًا . فكر في الرؤيا التي رآها على الجانب الآخر من الممر . تُرى هل والده فعلا هناك في الضفة الأخرى من الممر ؟

                            ولقد كان الشتاء هو الفصل المسيطر ببرده على جبال الهندوكوش وعلى ضفتي الممر . مع أنه رأى في رؤياه أن الجانب الآخر من الممر مثل الجنة . سمع صوتًا خشنًا من خلفه أثناء ما كان مستغرقًا في التفكير :

                            - كل شيء على ما يرام ؟ .

                            عرف كريم هذا الصوت , التفت بسرعة . كان الرئيس الصاعقة يقف كالصقر بجوار صخرة ضخمة وهو مرتدٍ معطفه . نادى كريم :

                            - يا رئيس .

                            التفت الرئيس الصاعقة إلى مصدر الصوت الرقيق وانحنى ليستطيع رؤية صاحبه . وكما كان يفعل من قبل أخذ وجه كريم بين راحتيه وأخذ ينظر إليه . قال له كريم :

                            - يا رئيس , أنا المجاهد الصغير !!

                            - أهو أنت ! يا حبيبي المجاهد الصغير , أبلغوني سلامك كيف حال ساقك ؟ .

                            - الحمد لله . أعرج قليلا .

                            - عندي مسألة هامة أريد التحدث فيها معك ...

                            - بعد أن ننتهي من هذه العملية التي معنا . إذا كان في العمر بقية , نجلس ذات يوم ونتحدث كثيرًا .

                            - إن شاء الله .

                            واحتضنه الرئيس الصاعقة كثيرًا والتفت إلى من حوله وقال لهم :

                            - لقد كان الضيق مستوليًا عليّ , وعندما رأيت المجاهد الصغير ذهب عني الضيق . لا تنظروا إلى قامته . إني أعلم جيداً مقدار بلائه في الجهاد وبطولته .

                            ولم يلحظ أحد في هذا الظلام الأبلج وجه كريم وهو يحمر . لكنهم سمعوا بكاءه عندما أخذ يقبّل يدي الرئيس .

                            قال الرئيس الصاعقة :

                            - كنا أقوياء جدًا في فترة من الفترات . ولم يكن لدينا السلاح الثقيل , لكن كان مع كل منا مسدس أتوماتيكي .

                            طبعًا إني أتحدث عن وحدتي , لأن في الجبال مجاهدين ليس معهم سلاح من أي نوع كان . والواقع أن وحدتنا الآن في موقف سيء , سلاحنا قليل أخذنا من هنا ومن هناك , عندنا ما لا يقل عن ثمانين شخصاً ليس معهم سلاح من مجموع ثلاثمائة .

                            - ثلاثمائة ؟ .

                            سأل كريم سؤاله هذا في حيرة لأنه لا يرى حوله إلا ثلاثين مجاهدًا .

                            - نعم . وصل عدد وحدتنا إلى ثلاثمائة , ولله الحمد . إذا تم تسليح هؤلاء لهجمت بهم على كابول .

                            نعم , يفعلها إذا وضع أمرًا في ذهنه ينفذه بل يهاجم روسيا نفسها . إذا كانت في يده إمكانات لجعل العدو يعيش أوقاته في رعب . قال كريم :

                            - أريد أن أسألك سؤالا .

                            لقد قال لي ضابط – عندما كنت في سجن كابول – إنك متّ ؟! .

                            قال الرئيس الصاعقة :

                            - عندما ظهرت لهم من جديد أثيرت دهشتهم وأصابهم الذهول وجُنَّ جنونهم ... لأنهم كانوا آمنوا جيدًا بموتي , فقد قبضوا على أخي في " أخلاط " في الصيف الماضي , وظنوه إياي للتشابه الكبير بيننا , وقال لهم أخي أنه هو الرئيس الصاعقة لكي أستطيع العمل جيدًا , فقتلوه , وأقاموا عيدًا عندما ظنوا أنهم قتلوني . بقيت في ذلك الوقت بمفردي , وأخذت أجمع رجالا من جديد وهاجمت العدو الذي لم أكن هاجمته منذ فترة , فكان من الطبيعي أن يثير هذا دهشتهم .

                            (( إن المسلم لم يخلق ليندفع مع التيار ولا ليساير الركب البشري حيث اتجه وسار بل خلق ليوجه العالم والمجتمع والمدنية ويفرض على البشرية اتجاهه ، ويملي عليها إرادته ، لأنه صاحب الرسالة وصاحب العلم واليقين.. لأنه المسؤول عن هذا العالم وسيره واتجاهه فليس مقامه مقام التقليد والاتباع ، إن مقامه مقام الإمامة والقيادة ، ومقام الإرشاد والتوجيه ، ومقام الآمر الناهي ))

                            الشاعر الباكستاني محمد إقبال

                            تعليق


                            • #15

                              الضربة الكبرى
                              ( الفصل الرابع عشر ..)





                              تماماً مثلما كنت في الهجوم على بدخشان , كنت هنا كذلك , يعني لم أفارق الرئيس الصاعقة , فقد كنت كظله . ولقد كان هو يمطر من حوله يمينًا وشمالا بالأوامر الصارمة ويراقب تجهيز الديناميت الذي سيفجّر الصخور ويغلق الطريق أمام آليات ودبابات العدو. وأنا أجري خلفه أينما ذهب . كان جريي هنا وهناك بين هؤلاء الشجعان الكبار وأنا أعرج على قدمي اليمنى , يثير انتباه الأكثرية . وانتشر تماماً بين المجاهدين , اسمي الجديد , حتى الرئيس الصاعقة لم يعد يناديني إلا بلقبي " العصفور الجريح " . قال لي :

                              - هذه المعركة في غاية الأهمية بالنسبة لنا أيها العصفور الجريح , أولا سنسد الطريق عليهم وبعد ذلك نقوم بالهجوم على الدبابات . سنهجم بالحجارة والعصي على هذا العدو الذي يمتلك البنادق الآلية السريعة الطلقات , سنأخذ هذا السلاح من أيدي هذا العدو الخائب , لنعطيه للمجاهدين , سيستشهد البعض منا , وسيجرح البعض , إلا أن النصر بإذن الله لنا في هذه المعركة . وبإذن الله سنكسب المعركة إذا استطعنا أن نستفيد من الذعر الذي سيصيب العدو في بداية الهجوم . وهذه المسألة مسألة جسارة وسرعة .

                              - سننتصر بإذن الله أيها الرئيس .

                              - لو تمكنوا من دحرنا مرة واحدة , سيكون الأمر صعبًا علينا بعد ذلك . لأننا لن نستطيع الانتفاع بالموانع إطلاقاً . وفي أيديهم أسلحتهم هذه .

                              - كما أن للطائرات خطرها .

                              - ماذا سيحدث ؟ ... يعلمه الله , فلا نملك أي سلاح مضاد للطائرات .

                              وبينما نحن على هذا الحال إذا بأحدهم يأتي وهو منقطع الأنفاس ليقول للرئيس الصاعقة خبرًا . قال له :

                              - إنهم قادمون . وبأعداد هائلة .

                              أخرج الرئيس مصباحًا يدويًا من جيبه ووجهه نحو الجهة المقابلة ثم أشعله وأطفأه ثلاث مرات . وجاء الرد من الجهة المقابلة ضوء يُشعل ويطفأ ثلاث مرات . صاح الرئيس الصاعقة قائلا :

                              - المختصون بالديناميت عليهم البقاء هنا وليكونوا في انتظار الإشارة , وكل من ليس له عمل هنا فلينزل إلى الأسفل . وسيبدأ الهجوم . في لحظة الانفجار .

                              - نزلت خلفه إلى الأسفل ورأيت على جانبي الممر , المجاهدين وهم ينتظرون الأمر بالهجوم وكانوا مختبئين خلف الصخور .

                              بدأت أصوات ضجة الدبابات تُسمع وهي قادمة . وقف الرئيس الصاعقة منتصب القامة في وسط الطريق تمامًا . كان واقفًا في الظلام كأنه العملاق , ينتظر وهو متوجه للاتجاه الذي ستأتي منه الدبابات , إن العمل معه ليمنح الإنسان الثقة , إن منظره العملاق هذا كان له تأثيره الكبير في قلوب إخوانه .

                              وعندما اقتربت أصوات الدبابات , ورفع الرئيس يديه في الهواء عاليًا . تذكرت على الفور ليلة الهجوم على مقر الحكومة في بدخشان . فهمت أنه سيعطي إشارة لبدء التفجير والهجوم . رفع يديه في الهواء ثم انتظر مدة . ثم أطلق صيحة أعلى من أصوات الدبابات . وكانت هذه الصيحة


                              - الله أكبر ... !!

                              وإذا بانفجارات هائلة متعاقبة على جانبي الممر الضيق , في المقدمة قليلا , وإذا بأصوات المجاهدين تعقب هذه الانفجارات , ترتفع عالية ويتردد صداها في الصخور ..

                              الله أكبر ... الله أكبر ... وبسرعة فائقة هاجموا وحدات العدو وهي في حالة ذهول من المفاجأة . وكنت أنا أعزل لم يكن معي سلاح . رقدت على الأنقاض التي في الطريق أنتظر نتيجة هذا العراك الرهيب . ولم يكن من الممكن رؤية شيء في ضوء القمر غير موجات من الأشباح تتداخل فيما بينها .

                              تختلط في هذه اللحظة أصوات التكبير " الله أكبر !! الله أكبر !! " بأصوات البنادق الآلية السريعة الطلقات . تذكرت فوراً , كلام الرئيس الذي قاله قبل قليل " إذا استطاعوا دحرنا سيكون الأمر سيئاً بالنسبة لنا " فأخذت في الدعاء , من حيث أرقد أرضاً . في خصري مسدس خال من الطلقات أعطاه لي أحد القرويين , لكن في هذه اللحظة بالذات لابد من سلاح يؤدي دورًا ويؤثر في النصر . كان أغلب المجاهدين لا يملكون السلاح , فتراهم يتدافعون على العدو ويهاجمونه بالعصيّ . ولم أجد في نفسي القدرة على فعل ذلك .

                              سدّت الصخور والأنقاض التي كنت فوقها الممر تمامًا . لا تستطيع قوات العدو المرور من فوق هذه الأنقاض . كان الأمر يبدو وكأن الجبال قد نزلت إلى الطريق .

                              ضجة حركة الدبابات ارتفعت مرة أخرى . الدبابات وقد أوقفتها الانفجارات , عادت متراجعة إلى الخلف . السيارات حاملة الجنود التي تتقدم الدبابات لم تتمكن من التراجع , ذلك لأن المجاهدين هاجموها . ولم تعد الدبابات التي في الخلف تستطيع إطلاق نيرانها على الناس الذين اختلط حابلهم بنابلهم عند السيارات . فوجدت الخلاص في الفرار .

                              واستمرت المعركة عند السيارات وحولها نصف ساعة . ثم هدأت أصوات الأسلحة وانقطعت . عندها نهضت من المكان الذي أرقد فيه وسرت في اتجاه السيارات .

                              انتصر رجالنا في هذه المعركة . وجمعوا الجنود في مكان متسع وأياديهم فوق رؤوسهم . وكان هؤلاء الجنود من الأفغان . وكانوا حيارى مغلوبين على أمرهم لا يستطيعون عصيان أوامر بابراك كارمال . ويعاونون الروس الذين يحتلون وطنهم .

                              صعد الرئيس على إحدى السيارات , وقال مخاطبًا بصوته الجهوري الجنود الذين وقعوا في أسر المجاهدين :

                              - ها أنتم ترون بأعينكم أن البنادق السريعة الطلقات لم تحرز لكم نصرًا. وانحنيتم للعصي التي في أيدينا , ذلك لأننا نحارب في سبيل الله , وأنتم تعاونون الملحدين . إننا نعامل أسرانا المعاملة الإنسانية . وأنتم تعذبون مجاهدينا . مَنْ صاحب هذه البلاد ؟ أليس هم الأفغان ؟ هيا ردّوا عليّ ... عمن يبحث جنود العدو في ثكناتكم ؟ متى ستعلمون الحقيقة ؟ ... سادتكم يقولون عنّا إننا أعداء الشعب . إننا ندخل القرى والقصبات ونحن نهز أيدينا وأذرعنا في راحة ونأكل الخبز على موائد الناس . وأنتم تستولون بقوة السلاح على خبز الناس . فمن منّا عدوّ الشعب ؟ أأنتم الذين تبصقون على وجوه الناس ؟ أم نحن الذين نحتضنهم ؟ إن سادتكم يصنعون من العدو الذي لا يحبه الله ولا يحبه الناس تاجًا يضعونه على رؤوسهم . ونحن نحاربهم في سبيل الحق ومن أجل الناس . لماذا لا تنزعون علامات رتبكم وتلقونها أرضًا ؟ لماذا لا تتخذون مكانكم بجانب الشعب ؟ ألا تؤمنون بيوم الحساب ؟ .

                              أبكت هذه الخطبة , كل المجاهدين وبعض الأسرى .

                              أنهى الرئيس حديثه بالتالي :

                              - إذا كنتم ستستمرون في خيانتكم فهيا أسرعوا والحقوا بالدبابات الهاربة . وإني أقسم باسم الله أني لن أسمح بإطلاق أي رصاصة عليكم .

                              ساد الجو صمت كبير . سادت بعض همهمات بين الجنود . وبدأ فريق منهم في السير نحو الاتجاه الذي اتجهت الدبابات إليه . إن الشقاق الذي ساد بين الأسرى , استمر فترة . تركنا حوالي نصف هؤلاء الجنود . واضطر المجاهدون إلى الكلام فقال الرئيس :

                              - اتركوهم يذهبوا , لن نسيء إليهم . إنهم سيحاربون معنا دون رغبة منهم لأنهم لم يستطيعوا الهرب مع إخوانهم . كما أننا لا نستطيع أن نؤمن لهم الطعام , ذهابهم أفضل . هيّا اركبوا سياراتكم واذهبوا . وأذكركم منبّهًا لكم أن تحسنوا معاملة الأسرى من المجاهدين . لأن هذا ما أمرنا به الله ورسوله . ثم وجه كلامه إلى المجاهدين وقال :

                              - اركبوا باقي السيارات واستريحوا بها حتى الصباح .

                              ركبت في السيارة الأولى وجلست في محل السائق . وبالطبع بجوار الر ئيس الصاعقة . حكى لي الرئيس ما مر به من أحداث بعد أن افترقنا عن بعضنا . بدء من اليوم الذي قبضوا فيه عليّ من تحت الدبابة مع القنبلة المبتلة .

                              كان قد وقع مغمى عليه وهو بجوار المدفع المضاد للطائرات بعد أن أصيب بجُرح في كفته وظهره . وعندما أفاق رأى كل المجاهدين الذين معه قد استشهدوا . بحث كثيراً عن جثتي فلم يعثر عليّ . لجأ – رغم أنه جريح – إلى قرية جبلية وعولج أشهراً كثيرة . وعندما تحسنت صحته عمل على جمع الرجال من حوله وعاد مرة أخرى إلى صراع العدو .

                              حكيت له أنا أيضًا ما مرّ بي , في اختصار ؛ حياتي في السجن , تدميري لسيارة كبيرة للعدو محملة بالذخيرة , وإصابتي بينما كنت أهرب . واستمع لكل هذا باهتمام بالغ .

                              داعبت يداه الضخمتان شعري . وهو يقول لي :

                              - يا بطل !! ... يا شهم !! ...

                              وعندما أصبح الصباح . خرجنا من السيارات ودفنا موتانا . لقد استشهد منا سبعة وثلاثون . وعدد الجنود الموتى من العدو كان تسعًا وسبعين . وبقي معنا واحد وأربعون جنديًا , جميعهم كان مصمما على الانضمام إلينا . دفنا موتانا وأخذنا طريقنا وكان في الاتجاه الذي ذهبت منه الدبابات . وقبل أن نغادر المكان أحرقنا السيارات . تفرج الرئيس على الحريق وهو حزين , وقال :

                              - لا نستطيع استخدام هذه السيارات في الجبال , ستكون ضرورية لنا عندما ننتصر , لكن هذا اليوم لم يأت بعد . سنستمر فترة أخرى في معارك " اضرب واهرب " سنستمر على هذا حتى نقيم توازنًا في السلاح مع العدو .

                              كانت معنا مسدسات سريعة الطلقات . وعندما حكيت للرئيس أسفي على عدم تمكني من الاشتراك في المعركة , أعطاني واحدًا منها . سرنا من الطرق الجبلية فوصلنا مقرّ القيادة الجديد قبيل العصر . أقول الجديدة , ذلك لأن الرئيس غيَّر المقر الأول بعد الضربة .

                              ومرة أخرى كنا خلف التلال البيضاء . كان هناك عدة بيوت قديمة متروكة ونصف مهدمة , وحول المكان أشجار عارية وصخور . قام المجاهدون في ذلك اليوم بتعمير البيوت المهدمة , ووضعوا التموين والذخيرة التي أخذوها من سيارات العدو , في غرف صغيرة , واتخذوا من إحدى الغرف مطبخًا . كان الرئيس يعاين ويقرر كل شيء في سرعة أثبتت أنه صاحب خبرة في مثل هذه الأمور .

                              مقر قيادتنا الجديد , كان قريبًا أيضًا من الممر . كان ينزل نحو الممر يميل مقدار 45 درجة من القمة التي نحن فيها . وكان هذا المطلع سالكًا . عيّن الرئيس أيضًا المجاهدين المناوبين وكذلك الدوريات . ثم نمنا في منتصف الليل .

                              لقد كنت سعيدًا بهذه الحياة الجبلية المضطربة , لم أستطع أن أجد مأوى لي في كابل , ولم أستطع الانتظار في القرية . وكنت أتوق أن أكون بين المجاهدين في الجبال . وأشتاق الآن أن ألتقي بأبي , كنت أسأل كل من أتعرّف به وكل من أتحدّث إليه من المجاهدين عن أبي , وكانت كل الإجابات التي أتلقاها تُضعف فيّ الأمل . سمعت في كابل أن أبي ذهب إلى جبال هندوكوش , والمكان الذي نحن فيه الآن , نقطة من هذه الجبال . قد يكون أبي في مقرّ قيادة قريبة منّا , حكيت للرئيس عن أبي , قلت له إنني أريد أن ألقاه , قال الرئيس :

                              -أغلب المجاهدين لا يعرف بعضهم عن بعض شيئًا .

                              سألني عن التنظيم الذي يتبعه أبي ولم أستطع الإجابة عن هذا السؤال . والحقيقة أنهم حدثوني في السجن عن هذه التنظيمات . لكني لا أعرف إلى أيِّها انضم أبي . كان الإمام الذي في كابل منضمًا إلى منظمة حزب إسلامي , وكان رئيسهم في الباكستان . المنظمات الجهادية الأخرى رؤساؤهم الكبار أيضًا كانوا في الباكستان , يديرون منظماتهم من هناك , يجمعون ويتلقون من هناك المساعدات للجهاد الأفغاني . ويدربون الناس ويرسلونهم إلى الجهاد , ويشرحون للدنيا كلها عدالة كفاحهم . قال الرئيس الصاعقة :

                              - سنبحث عن والدك , وسنجده حتمًا بإذن الله إذا كان في هذه الجبال .

                              قوّت هذه الكلمات التي قالها لي الرئيس من أملي وأخذت أفكر في أبي ليلا ونهارًا .

                              بدأ في المقر استعداد مكثف فقد وصلنا خبر مؤدّاه أن مكاننا قد علمه العدو , وأن غارة ستحدث ضدنا . قال الرئيس الصاعقة , إنه لن يستطيع تغيير مقر القيادة وعلينا أن نواجه الهجوم , لكنه غيّر مكان مخزن الذخيرة . كما أنه أعد الموانع على بُعد خمسمائة متر من المقر , وإذا تعرض المعسكر لهجوم جوّي فعلينا تركه فورًا واللجوء إلى الموانع . استمرت هذه الاستعدادات يومين بلا انقطاع . كان أثناءهما الرئيس يعمل مثلما يعمل أي فرد من المجاهدين الآخرين , كان يساعد في حفر الموانع وعمل سدّ كبير من الأحجار وكان عمله هكذا مع الجميع يثير فينا كلنا الحماسة والاندفاع إلى العمل . لقد كان حفر الموانع وعمل حوائط في هذا البرد من الأمور الصعبة الشاقة جدًا .

                              وذات مساء , أوى الجميع للاستراحة من تعب اليوم في الغرف الواسعة في المقر . وغلبنا النوم سريعًا وفجأة استيقظ الجميع وقفزوا من مكانهم على صوت صفارات أطلقتها الدوريات . استيقظ كل من كان غارقًا في النوم , وتوقف كل من كان يحادث الآخر بصوت هامس , وانتبه كل من كان مستغرقًا وسابحًا في تفكير عميق . سمعنا صوت الرئيس من الخارج :

                              - أسرعوا أيها الأبطال إلى الموانع !! ... الموانع أيها الأسود !! ... أسرعوا ...

                              وكنت أنا من بين الذين أخذهم النوم , وعندما سمعت صوت الرئيس حملت سلاحي وبطانيتي وانطلقت إلى الخارج . كان المجاهدون يجرون نحو الموانع وتوقفت أنا في انتظار الرئيس الصاعقة , صاح عليّ بأعلى صوته :

                              - ألا تسمعني أيها العصفور الجريح ؟ هيّا إلى الموانع ! .

                              فجريت مسرعًا . كان مكان كل واحد منا واضحًا في المانع , كنا قمنا ببيان عملي على هذا عدة مرات من قبل , وفهمت الآن جيداً مدى أهمية هذه التدريبات العملية .

                              لم يكن قد مضى من الوقت خمس دقائق على سماعنا صفارات الإنذار , حتى لم يكن هناك أحد في المكان . رأيت طائرتين تطيران على علوٍ منخفض من فوق التلال البعيدة وتتجه إلينا . كنا كلنا ننظر إليهما ونتابعهما باهتمام , كانت الطائرتان تطيران بهدوء , وعندما وصلتا فوق مقرّ العسكر تماماً أسقطتا قنابلهما . حدث انفجاران متتاليان سوّيا معسكرنا بالأرض . تذكرت الطائرات التي دمرت القصبة , وتذكرت حالة التدمير التي أصابت مبنى المدرسة وبناء البلدية , والجامع .

                              كانت تعليمات الرئيس ألاّ نترك أماكننا حتى بعد ابتعاد الطائرات . علم الرئيس بخطة الهجوم الذي سيحدث ضدنا , علمه بواسطة جواسيسه فأعدّ له خطة مضادة . وعندما ابتعدت الطائرتان سُمعت أصوات الدبابات وهي تقترب من الممر , عرفت سريعًا صوت دمدمة الدبابات , أصبحت أصواتها أحب الأصوات إليّ . كانت هذه الدبابات تمثِّل قبضة العدو الحديدية التي تهدم وطني , وكنت أنظر باشمئزاز وحقد دائمًا نحو هذه القبضات الحديدية .

                              سكت صوت حركة الدبابات التي كانت تحت القمة التي فيها مقرنا تمامًا . وسكتت أيضًا أصوات الدبابات التي كانت آتية من هناك , والتي كنا ننتظرها بانتباه شديد . كان الرئيس على أول مانع متقدم وتحته , كان ينتظر خبرًا من رجل أرسله إلى مكان يطل من التل على الممر . وكنا نحن بدورنا ننتظر الإشارة التي سيوجهها إلينا .

                              (( إن المسلم لم يخلق ليندفع مع التيار ولا ليساير الركب البشري حيث اتجه وسار بل خلق ليوجه العالم والمجتمع والمدنية ويفرض على البشرية اتجاهه ، ويملي عليها إرادته ، لأنه صاحب الرسالة وصاحب العلم واليقين.. لأنه المسؤول عن هذا العالم وسيره واتجاهه فليس مقامه مقام التقليد والاتباع ، إن مقامه مقام الإمامة والقيادة ، ومقام الإرشاد والتوجيه ، ومقام الآمر الناهي ))

                              الشاعر الباكستاني محمد إقبال

                              تعليق

                              يعمل...
                              X