أبو جراب
بقلم : علي البيماني
كلية العلوم التطبيقية بعبري
بقلم : علي البيماني
كلية العلوم التطبيقية بعبري
لم تكن عادة سعيد لبس جوارب في قدميه، غير أن القدر حتم عليه ذلك، فبدأ يتقبل الفكرة وبنى بها شكله الجديد، سعيد تلتف حول وجهه شعيرات كثيفة شديدة البياض باعثة في نفس من حوله الوقار، ووجه آخذ بالتجعد مع بزوغ عينيه قليلا، رسم عادي للوجوه في ذلك المكان..حيث أشجار النخيل تلتف مع بعضها والبيوت تتلاصق بأسوارها، وحياة قروية لا تنشد الحداثة ، كل شي كان عاديا في نظر الجميع، إلا أن سعيد لم يكن كذلك..
كان يرى نفسه أنه غير عادي أبدا، تصنع هيئته همسات عندما يمشي بين الناس، كان يكره تلك الهمسات ، يمقتها، حاول بما في وسعه تدميرها إلا أنه يأس من محاولاته، كيف لا ييأس وكاد أن يكون سببا في موت أحد أولاد الحارة الأشقياء الذي لا يفتأون يتقفون حركاته ويصرخون بملء أشداقهم "سعيد ...أبو جراب" "سعيد ..أبو جراب" ، فيثور غضبا لهم ، يشتمهم ، يرجمهم ، يتبعهم حيث ما يسيرون، لكنهم يراوغونه في الشوارع والطرقات، يهربون من لعناته وهجماته ، غير عابئ بما حولهم من حياة ، الهرب كان همهم ولكن الحياة تترجم لهم أصطدام جسد أحدهم الهش بسيارة صلبة تتطرحه أرضا يقفون إثر هذا الحدث غير عابئ بسعيد التنين الثائر، يذرفون دموع الخيبة والندم ، وسعيد إثر ذلك يقف أيضا مشدوها لتبرد أعصابه ويسكب غضبه في الطريق، نادما على مهاجمتهم..
يتذكر سعيد أيامه في رحلة شبابه، حيث لا همسات تكدر صفوه ولا كلمات تجرح شعوره ، وتبعات صبيانه تقض من خاطره ، يتذكر كيف كان يمشي خفيفا في ظله ، خفيفا في دورانه، خفيفا في كل شي، كان صباحا يصافح يومه بكل أريحية، يصلي الفجر مع من حوله، يصافحهم بود دون أن تكون هناك همسات، يزرع بينهم المرح، يستمع لحكاياهم، ينصت بإصغاء لكل كلمة تخرج منهم ، ثم يبادلهم شعورهم ، بعدها يذهب لحقله يملئه بحياة خضراء تترجم حبه لأرضه..
لم يكن سعيد حينها يرتدي الجوارب في قدميه، بل لم يكن يعرفها أصلا، حتى أستفاق ذات يوم في فراش أبيض وبجانبه اجهزة تغني، وكمادات تغطي أحدى ساقيه، حاول سعيد الحركة إلا أن صعقة شديدة تسربت من قدمه شلت قدرته على فعل ذلك، صرخ بتأوهات الألم وصاح في وجوه من حوله، فأتاه الجواب صعقة أخرى غاصت في نفسه وبقت تنخرها إلى يومه هذا، لم يتقبل حياته يومها ولم يستطع أن يبني له أي ذرة من أمل، بدأت تتسرب في داخله حبيبات من شعور الوحدة، بدأ يرى ذاته تتمحور حول نفسها، تحاول الإبتعاد عن الآخرين ، حتى حديثه المرح والمعهود خفت ، وبدأ يرى نفسه أنه أنسان غير عادي ، مميز بجواربه تلك ، حيث تغطي قدميه، لم يكن يعتبرها قدمين، سماها قدم واحدة ، كيف يحق له أن يسميها قدمين؟؟ فهو يمتلك واحدة فقط والأخرى قطعة من البلاستيك مشكلةً على شكل قدم تنوب عن القدم الأخرى..
أفِلت بسمة سعيد وغابت في السراب ، أصبح شريد الذهن ، يعيش عالمه الخاص ، يسرد ذكرياته ويكررها على قدمه البلاستيكية الحديثة التي كانت جديدة على جسده النحيل ، يسرد لها كيف كان يمشي بقدمين ، يسبح في فراغ هذه الكرة الأرضية، دون الحاجة إلى عصا خشبي أو عكاز يتكأ عليه، هكذا يمشي حرا طليقا ، لكن ما طار طير وارتفع حتى كما طار وقع ، وقع سعيد ، وقع تحت مقصلة المرض ، مرض ..، فجأة ، أشتد عليه المرض ، رأى روحه تحاول الخروج ، أنطلق مباغتا إلى طبيبه ، أستقبله ، فحصه ، حدثه قائلا:
- يجب علينا بتر إحدى قدميك !!
صعق من جوابه ، سأل وهل م مفر ؟؟
- اليوم قدم واحدة ؟؟ وإن جأت غدا فالأخرى ستتبعها ..أنصحك بالقبول ..
أنسدت الأعذار، بدأت العجلة تدور عكس ما كان يتوقع ، حاول أن يبدي شجاعة لكنه لم يستطع ، حاول أيضا أن لا يقبل ، ولكن رآى قدمه الأخرى تنتعش حياة فحزن لها، دارت في خلده عشرات الأسئلة ، ماذا يصنع؟؟ لكنه في النهاية رضخ ، لم يقنع ذاته بذلك ، بل كان رضوخ يائس خشية الوقوع في مغبة أخرى ..
بترت رفيقة جسده ، بقي بعمود واحد يحاول حفظ قوامه به ، وبدأ هكذا يمشي ، يمشي ثقيلا ، أصبح ثقيلا في حركته ، ثقيلا في دورانه، حتى أنه أصبح ثقيلا في ضله ..
والناس التي تعكس لهم عيونهم مشهد القدمين البلاستيكية والبشرية المغطاتين بجوارب ، تثير فيهم الدهشة ، وتجعلهم يهمسون فيما بينهم ، هكذا فقط يهمسون، غير عابئ بنيران سعيد الداخلية، حتى تجرأ أحدهم ذات يوم وصرخ مداعبا
- " سعيد ..أبو جراب " ...
تعليق