( القصة الواقعية الثانية )
و نسأل الله أن ينفعنا بها ، وان نعتبر بما سنقر ( قدرة الله )
* بداية القصة : كان رجلا معدماً ولكنه كان سعيداً ، وكانت له عائلة من زوجة و خمسة أولاد وأختين ووالدة طاعنة في السن ، له حانوت يبيع فيه الخضراوات .. اليقطين و الباذنجان و السلق و الفجل و الطماطم .... الخ .
حانوته هذا في الطريق فرعية ، يبيع فيه سلعته على جيرانه من الفقراء ، فلم يكن له من المال ما يؤجر به حانوتاً في موقع ممتاز أو يشتري به سلعة ممتازة .
أما داره الخربة فتسمى من باب المجاز داراً ، وهي في حقيقتها غرفة واحدة حولها ركام من الأنقاض ، وفي هذه الغرفة ينام أفراد العائلة يطبخون و يستحمون .
وإذا ما عاد الرجل إلى داره بعد غروب الشمس ، ومعه الخضرة واللحم و الخبر ، و تستقبله العائلة كلها بالفرح و التصفيق والغاني و الأهازيج ، ويتناولون منه ما بيديه من الطعام ، ويهرعون إلى القدر لاعداد العشاء .
ولم يكن في كل يوم يحضر اللحم ، فإذا كان مبيعه اليومي رابحاً و استطاع أن يشتري لحماً وإلا فعشاء عائلته من بقايا ما كسد من خضرة حانوته .
وكانت تلك العائلة تسكن إلى جوار حاكم في المحكمة العليا ، وكان ذلك الحاكم يعطف على تلك العائلة و يزورها بين حين و أخر .
وهذا الحاكم كثيراً يتحدث عن هذه العائلة قائلاً : لم أر في حياتي عائلة سعيدة مثل هذه العائلة ، ولم أرى فرحاً غامراً كالفرح الذي يشيع في العائلة عندما يعود ربها من عمله مساء ، وكنت كثيراً ما احب أن أعيش وقتاً سعيداً بينها حين يصل جاري إلى داره فتستقبله العائلة كلها بالتهليل و التكبير ، ثم يبدا عملها الدائب في إعداد العشاء ، فإذا نضج الطعام بداوا بتناوله من إناء كبير فإذا انتهوا من عشائهم حمدوا الله و شكروه ، واكثروا من حمده وشكره ، ثم أووا إلى فراشهم الخلق البسيط فرحين قانعين ، لا يتمنون على الله غير الستر و العافية وإلا يحتاجون إلى إنسان .
وفي يوم من أيام الخريف ، كانت العائلة تنتظر رجلها مساءً على باب الدار ، فإذا بهم يرون بعض الشرطة يحملون نعشاً ، فلما تبينت العائلة الأمر وجدت معليها الوحيد هو المحمول في النعش .
كان قد اغلق حانوته ، و قصد المجاور فاشترى لحماً ، وقصد الخباز القريب فاشترى خبزا ، وحمل بقايا خضرته من دكانه ، فلما أراد عبور الشارع دهسته سيارة طائشة ، فمات الرجل فوراً ، وتبعثر ماكان معه من زاد .
و تجمع الجيران حول النعش ، وجمعوا من ستراتهم بعض المال ، أنفقوا على تجهيز الجثة الهامدة بعض ما جمعوه ، و قدموا ما تبقى من مال زهيد إلى العائلة ، وفي الصباح اليوم التالي واروا الفقيد إلى مقره الأخير .
وكان أكبر أولاده في سن الخامسة عشرة ، و يدرس في الصف الثاني في المدرسة المتوسطة ، ليعد نفسه ليكون موظفاً صغيراً بعد تخرجه من الإعدادية فيعاون أهله .
وبعد يومين من موت والده ، نفد أخر ما جمعه الجيران من مال للعائلة ، وفي اليوم الثالث قصد حانوت والده .
وبدا يعمل فيه ليعول أمه واخوته الصغار وعمته وجدته ..
وكان يعود كل يوم غروب الشمس كما كان يفعل والده ..
ولكن الابتسامات غاضت إلى غير رجعة .. و الفرح مات إلى الأبد .. وكان الطعام الذي تتناوله العائلة ممزوجاً بالدموع ... لقد دفنت العائلة سعادتها مع فقيدها الحبيب ..
و مرت الأيام ثقيلة بطيئة ، ودار الزمن دورته ، فأنقضت ثلاث سنوات ، ودعى الولد الكبير إلى الخدمة في الجندية بعد أن استكمل الثامنة عشرة من عمره ..
و اجتمعت العائلة تتداول الرأي هل يترك الابن الثاني مدرسته وقد اصبح في الصف الرابع الإعدادي ولم تبق له غير سنه ليتخرج من الإعدادية ليتولى حانوت أخيه ؟ وإذا لم يفعل فمن يعيل أهله ؟
واستقر رأي العائلة علي بيع الدار ، ولو أن الخروج منها كخروج الشاة من جلدها ، لا يسمى إلا موتاً أو سلخاً ...
والتحق الابن الكبير بالجندية في بلد مجاور يتدرب عل استعمال السلاح ، وكان معلم التدريب العسكري يلاحظه فيجد فيه ذهولاً وانصرافاً عن التدريب ، فكان ينصحه تارة ، ويعاقبه بالتعليم الإضافي تارة أخرى ... دون جدوى .
لقد كان حاضراً كالغائب ، وكان جسمه فقط مع إخوانه الجنود في التدريب ، ولكن عقلة كان بعيداً .. هناك عند عائلته .
واستدعاه معلمه يوماً ، وسأله عن مشكلته ، ففتح له قلبه واخبره بأمره ، فبادله المعلم الإنسان حزنا بحزن واسى بأسى ، وكف عن ملاحقته في أمر إتقان التدريب .
وعرض المعلم مشكلته على أمر الفصيلة ، فامر بتعينه في مطبخ الجنود يغسل القدور ، ويقطع اللحم ، ويوقد النار ، و يوزع الطعام ، أما أمه .. فكانت هي أيضا حاضرة كالغائبة استقرضت بعض المال من أحد سماسرة يبيع الدور لتطعم العائلة به ، ورهنت سند الدار عند السمسار وعرضت الدار للبيع ..
واستمر عرض الدار اياماً على الراغبين بشرائه ، و أخيرا وبعد مرور عشرين يوما ، باعت الدار بأربعمائة دينار ، ثم قضت تسعة أيام في معاملات حكومية رتيبة لنقل ملكيتها إلى المالك الجديد .
وبقى يوم واحد على موعد إعطاء البدل النقدي عن ولدها ، و كان عليها أن تسافر إلى المدينة التي استقر فيها ولدها في الجندية مساء اليوم التاسع و العشرين ، لتسلم البدل النقدي صباح اليوم الثلاثين ، فإذا تأخرت عن ذلك الموعد ساعة فلن يقبل من ابنها البدل النقدي .
* وقصدت ألام مأوى السيارات التي تنقل الركاب من بلدتها إلى بلدة ولدها ، فوجدت السيارات ولم تجد الركاب .
كان الوقت قبيل الغروب من أيام الصيف ، وانتظرت ساعة في مأوى السيارات دون أن يحضر مسافر واحد ، وانتظرت على أحر من الجمر ، وقد غابت الشمس ، و المسافة بين المدينتين تقريباً أربعين ومائتي كيلومتر تقطع بالسيارات في ساعتين ونصف فإذا لم تسافر ليلاً ضاع عليها الوقت ولن تصل إلى المدينة ولدها إلا في صباح اليوم التالي .
وعرضت على سائق أحد السيارات أن تستأجر _ وحدها _ سيارته على أن تسافر بها فوراً ، وقبض السائق أجرة سيارته كاملة من المرأة وتحركت السيارة في طرق جبلية وفي طريق تحدث السائق إلى المرأة ، فعلم منها قصة بيع الدار ، وقصة دفع البدل النقدي عن ولدها .
و تدخل الشيطان بينهما ، فلعب دوره في تخريب ضمير السائق ، فعزم على تنفيذ خطة لاغتصاب المال من المرأة المسكينة .
وفي أحد منعطفات الطريق ، حيث إلى جانب الطريق الأيمن واد صخري سحيق ، أوقف السائق سيارته فجأة ، و سحب المرأة قسراً من السيارة إلى خارجها ، ونزلا إلى مسافة عشرين متراً في الوادي السحيق ، وهناك طعن المرأة بخنجره عدة طعنات ، فما تراخت وظن أنها فارقت الحياة ، سلبها مالها ، وعاد إلى سيارته تاركاً المرأة في مكانها تنزف الدماء من جروحها .
وقصد المدينة التي كان متجهاً أليها فقد خشي أن يعود إلى المدينة التي خلفها وراءه لئلا ينكشف أمره ، إذ يعود إليها بدون مسافرين ، وقبل الوقت المعقول لذهابه و إيابه .... وعندما وصل إلى المدينة ، آوى إلى مأوى السيارات ، فزعم لاصاحبه أن المسافرين الذين كانوا معه غادروا سيارته بعد عبور الجسر ، ووجد ركاباً ينتظرون السفر إلى البلدة التي غادرها مساء ، فسافر بهم عائداً من نفس الطريق .
وحين وصل إلى المكان الذي ارتكب فيها جريمته الشنعاء ، أوقف سيارته ، وادعى لركابها بأنه يريد أن يقضي حاجته ثم يعود إليهم فوراً ... وانحدر إلى الوادي ، أستمع أنينا خافتاً ، فقصد المرأة السابحة ببركة من الدم ، وقال لها " ملعونة ألا تزالين على قيد الحياة حتى الأن " وجمدت المرأة في مكانها ، وانتظرت مزيداً من الطعنات .....
وانحى السائق إلى الصخرة ضخمة ليحطم بها راس المرأة الجريحة ، وما كاد يضع يديه تحت الصخرة إلا وصرخ صرخة عظيمة هزت الوادي الصخري السحيق ، ورددتها جنباته الخالية إلا من الوحوش و الأفاعي و الهوام ، وسمعها ركاب السيارة ، فهرعوا لنجدته .
كانت تحت تلك الصخرة الضخمة التي أراد السائق المجرم رفعها ليقذف بها راس المرأة الجريحه ، حية سامة لدغته حين كان يهم بحمل الصخرة العاتية ، فسقط إلى جانب المرأة يستغيث و يتألم ...
و حمل المسافرون السائق ، وحملوا المرأة ، وانتظروا حتى قدمت سيارة أخرى ، فاستوقفوها وطلبوا من سائقها حمل المرأة و السائق إلى المستشفى التي كانت في المدينة التي يستقر فيها ولد المرأة الجريحه .
وفي الطريق فارق الحياة ذلك السائق المجرم متأثرا بالسم الزعاف .
وفي المستشفى ، قدم الشرطة و المحققون العدليون ، فعرفوا القصة كاملة ، وانتزعوا مال المرأة من طيات جيوب السائق اللعين .. وطلب المرأة حضور ولدها ، فحضر في الهزيع الأخير من الليل ... وراحت المرأة في غيبوبة عميقة ، فظن الأطباء و الممرضون أنها تعاني سكرات الموت ... وعمل الطبيب على نقل الدم أيليها .
وفي ضحى اليوم التالي فتحت عينها لتقول لولدها " ادفع البدل النقدي سريعاً " ثم أغمضت عينها وراحت في سبات عميق ، ودفع الولد بدله النقدي ، وسرح من الجيش .. وتحسنت صحة امه يوماً بعد يوم ، حتى تماثلت للشفاء ، حيث غادرت المستشفى إلى أهلها ..
* وذهبت قصة نجاتها ، وقصة موت السائق ، وقصة الحية المنقذة ، شرقاً وغرباً ، واصبح حديث الناس جميعاً .. ولقد كان الوادي الذي ارتكب السائق فيه الجريمته ، والذي قذف بين الصخور المرأة الجريحه ، من الوديان الموحشة الخالية من الماء و الكل ، فلا يسلكه الناس ولا يطرقونه ، حتى الرعاة لا يجدون فيه ما يفيد ماشيتهم فاصبح موطناً أمناً للذئاب و الأفاعي .
وما كانت المرأة الجريحه لتسلم من الموت الكيد ، لولى قدرة الله عز وجل ، ثم عودة الجاني مدفوعاً بغريزة حب الاستطلاع ، وما كان المسافرون مع الجاني لعرفوا موضع المرأة ، لو لم يصرخ الجاني صرخة مدوية بدون شعور ولا تفكير متألماً من لدغة الأفعى السامة .
وما كان ولدها ليدفع البدل النقدي لو قدمت أول سيارة من المدينة التي كان فيها ، لأنها ستنقل أمه ، ولضاع عليه الوقت المحدود لدفع البدل النقدي ، لقد كان ذلك كله من تدبير العلي القدير ...
* و سمع الحاكم القصة كاملة كما سمعها الناس ، فا اشترك مع الجيران الآخرين و جمع ثمن دار جارته حتى تستعيدها من صاحبها الجديد
و سمع صاحب الدار الجديد هو الأخر بقصتها ، فأعاد إليها سند الدار و ملكيتها ، وبقى المبلغ الذي جمعه لها الجيران مع ثلاثمائة دينار من اصل ثمن الدار ، فجددت بذلك المبلغ بناء الدار ، واقبل الناس على حانوت ولدها ، يشترون سلعته ويتسابقون على معاونته .. وفي خلال سنه واحدة تضخم عمله ، و أقبلت عليه الدنيا ، فانتقل إلى حانوت كبير في شارع عام في موقع محترم ..
** و مرت السنوات ، وفي كل عام كان في الدار بناء جديد ، وتخرج أولاد من مدارسهم واحداً بعد الأخر ، فاصبح أحدهم مهندساً و الأخر طبيباً ، و الثالث ضابطاً في الجيش .. ولم يعد طعامهم اليومي من الشاي و الخبر و الخضرة بل كان لهم لحم في كل يوم مع ألون شهية أخرى من الطعام وفتح الله عليها باب بركته ، وأغدق عليهم رعايته ، و جعلهم مثالاً للخلق الكريم بين الناس متعاونين في السراء و الضراء .
(( أن الناس يغفلون وينامون ، والله وحده لا يغفل ولا ينام ، و ما من دابة إلا على الله رزقها .. والله لا ينسى رزق النملة في الصخرة القاسية وسط عباب المحيط ، فكيف ينسى أرزاق الأرامل و اليتامى ؟ ))
والناس يخشون الناس ، والله أحق أن يخشوه .. والله يمهل .. ولكن لا يهمل ...
{ ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حاجب }
تحياتي أختكم الماسة انتظرو القصة الثالثة (الأخيرة)
و نسأل الله أن ينفعنا بها ، وان نعتبر بما سنقر ( قدرة الله )
* بداية القصة : كان رجلا معدماً ولكنه كان سعيداً ، وكانت له عائلة من زوجة و خمسة أولاد وأختين ووالدة طاعنة في السن ، له حانوت يبيع فيه الخضراوات .. اليقطين و الباذنجان و السلق و الفجل و الطماطم .... الخ .
حانوته هذا في الطريق فرعية ، يبيع فيه سلعته على جيرانه من الفقراء ، فلم يكن له من المال ما يؤجر به حانوتاً في موقع ممتاز أو يشتري به سلعة ممتازة .
أما داره الخربة فتسمى من باب المجاز داراً ، وهي في حقيقتها غرفة واحدة حولها ركام من الأنقاض ، وفي هذه الغرفة ينام أفراد العائلة يطبخون و يستحمون .
وإذا ما عاد الرجل إلى داره بعد غروب الشمس ، ومعه الخضرة واللحم و الخبر ، و تستقبله العائلة كلها بالفرح و التصفيق والغاني و الأهازيج ، ويتناولون منه ما بيديه من الطعام ، ويهرعون إلى القدر لاعداد العشاء .
ولم يكن في كل يوم يحضر اللحم ، فإذا كان مبيعه اليومي رابحاً و استطاع أن يشتري لحماً وإلا فعشاء عائلته من بقايا ما كسد من خضرة حانوته .
وكانت تلك العائلة تسكن إلى جوار حاكم في المحكمة العليا ، وكان ذلك الحاكم يعطف على تلك العائلة و يزورها بين حين و أخر .
وهذا الحاكم كثيراً يتحدث عن هذه العائلة قائلاً : لم أر في حياتي عائلة سعيدة مثل هذه العائلة ، ولم أرى فرحاً غامراً كالفرح الذي يشيع في العائلة عندما يعود ربها من عمله مساء ، وكنت كثيراً ما احب أن أعيش وقتاً سعيداً بينها حين يصل جاري إلى داره فتستقبله العائلة كلها بالتهليل و التكبير ، ثم يبدا عملها الدائب في إعداد العشاء ، فإذا نضج الطعام بداوا بتناوله من إناء كبير فإذا انتهوا من عشائهم حمدوا الله و شكروه ، واكثروا من حمده وشكره ، ثم أووا إلى فراشهم الخلق البسيط فرحين قانعين ، لا يتمنون على الله غير الستر و العافية وإلا يحتاجون إلى إنسان .
وفي يوم من أيام الخريف ، كانت العائلة تنتظر رجلها مساءً على باب الدار ، فإذا بهم يرون بعض الشرطة يحملون نعشاً ، فلما تبينت العائلة الأمر وجدت معليها الوحيد هو المحمول في النعش .
كان قد اغلق حانوته ، و قصد المجاور فاشترى لحماً ، وقصد الخباز القريب فاشترى خبزا ، وحمل بقايا خضرته من دكانه ، فلما أراد عبور الشارع دهسته سيارة طائشة ، فمات الرجل فوراً ، وتبعثر ماكان معه من زاد .
و تجمع الجيران حول النعش ، وجمعوا من ستراتهم بعض المال ، أنفقوا على تجهيز الجثة الهامدة بعض ما جمعوه ، و قدموا ما تبقى من مال زهيد إلى العائلة ، وفي الصباح اليوم التالي واروا الفقيد إلى مقره الأخير .
وكان أكبر أولاده في سن الخامسة عشرة ، و يدرس في الصف الثاني في المدرسة المتوسطة ، ليعد نفسه ليكون موظفاً صغيراً بعد تخرجه من الإعدادية فيعاون أهله .
وبعد يومين من موت والده ، نفد أخر ما جمعه الجيران من مال للعائلة ، وفي اليوم الثالث قصد حانوت والده .
وبدا يعمل فيه ليعول أمه واخوته الصغار وعمته وجدته ..
وكان يعود كل يوم غروب الشمس كما كان يفعل والده ..
ولكن الابتسامات غاضت إلى غير رجعة .. و الفرح مات إلى الأبد .. وكان الطعام الذي تتناوله العائلة ممزوجاً بالدموع ... لقد دفنت العائلة سعادتها مع فقيدها الحبيب ..
و مرت الأيام ثقيلة بطيئة ، ودار الزمن دورته ، فأنقضت ثلاث سنوات ، ودعى الولد الكبير إلى الخدمة في الجندية بعد أن استكمل الثامنة عشرة من عمره ..
و اجتمعت العائلة تتداول الرأي هل يترك الابن الثاني مدرسته وقد اصبح في الصف الرابع الإعدادي ولم تبق له غير سنه ليتخرج من الإعدادية ليتولى حانوت أخيه ؟ وإذا لم يفعل فمن يعيل أهله ؟
واستقر رأي العائلة علي بيع الدار ، ولو أن الخروج منها كخروج الشاة من جلدها ، لا يسمى إلا موتاً أو سلخاً ...
والتحق الابن الكبير بالجندية في بلد مجاور يتدرب عل استعمال السلاح ، وكان معلم التدريب العسكري يلاحظه فيجد فيه ذهولاً وانصرافاً عن التدريب ، فكان ينصحه تارة ، ويعاقبه بالتعليم الإضافي تارة أخرى ... دون جدوى .
لقد كان حاضراً كالغائب ، وكان جسمه فقط مع إخوانه الجنود في التدريب ، ولكن عقلة كان بعيداً .. هناك عند عائلته .
واستدعاه معلمه يوماً ، وسأله عن مشكلته ، ففتح له قلبه واخبره بأمره ، فبادله المعلم الإنسان حزنا بحزن واسى بأسى ، وكف عن ملاحقته في أمر إتقان التدريب .
وعرض المعلم مشكلته على أمر الفصيلة ، فامر بتعينه في مطبخ الجنود يغسل القدور ، ويقطع اللحم ، ويوقد النار ، و يوزع الطعام ، أما أمه .. فكانت هي أيضا حاضرة كالغائبة استقرضت بعض المال من أحد سماسرة يبيع الدور لتطعم العائلة به ، ورهنت سند الدار عند السمسار وعرضت الدار للبيع ..
واستمر عرض الدار اياماً على الراغبين بشرائه ، و أخيرا وبعد مرور عشرين يوما ، باعت الدار بأربعمائة دينار ، ثم قضت تسعة أيام في معاملات حكومية رتيبة لنقل ملكيتها إلى المالك الجديد .
وبقى يوم واحد على موعد إعطاء البدل النقدي عن ولدها ، و كان عليها أن تسافر إلى المدينة التي استقر فيها ولدها في الجندية مساء اليوم التاسع و العشرين ، لتسلم البدل النقدي صباح اليوم الثلاثين ، فإذا تأخرت عن ذلك الموعد ساعة فلن يقبل من ابنها البدل النقدي .
* وقصدت ألام مأوى السيارات التي تنقل الركاب من بلدتها إلى بلدة ولدها ، فوجدت السيارات ولم تجد الركاب .
كان الوقت قبيل الغروب من أيام الصيف ، وانتظرت ساعة في مأوى السيارات دون أن يحضر مسافر واحد ، وانتظرت على أحر من الجمر ، وقد غابت الشمس ، و المسافة بين المدينتين تقريباً أربعين ومائتي كيلومتر تقطع بالسيارات في ساعتين ونصف فإذا لم تسافر ليلاً ضاع عليها الوقت ولن تصل إلى المدينة ولدها إلا في صباح اليوم التالي .
وعرضت على سائق أحد السيارات أن تستأجر _ وحدها _ سيارته على أن تسافر بها فوراً ، وقبض السائق أجرة سيارته كاملة من المرأة وتحركت السيارة في طرق جبلية وفي طريق تحدث السائق إلى المرأة ، فعلم منها قصة بيع الدار ، وقصة دفع البدل النقدي عن ولدها .
و تدخل الشيطان بينهما ، فلعب دوره في تخريب ضمير السائق ، فعزم على تنفيذ خطة لاغتصاب المال من المرأة المسكينة .
وفي أحد منعطفات الطريق ، حيث إلى جانب الطريق الأيمن واد صخري سحيق ، أوقف السائق سيارته فجأة ، و سحب المرأة قسراً من السيارة إلى خارجها ، ونزلا إلى مسافة عشرين متراً في الوادي السحيق ، وهناك طعن المرأة بخنجره عدة طعنات ، فما تراخت وظن أنها فارقت الحياة ، سلبها مالها ، وعاد إلى سيارته تاركاً المرأة في مكانها تنزف الدماء من جروحها .
وقصد المدينة التي كان متجهاً أليها فقد خشي أن يعود إلى المدينة التي خلفها وراءه لئلا ينكشف أمره ، إذ يعود إليها بدون مسافرين ، وقبل الوقت المعقول لذهابه و إيابه .... وعندما وصل إلى المدينة ، آوى إلى مأوى السيارات ، فزعم لاصاحبه أن المسافرين الذين كانوا معه غادروا سيارته بعد عبور الجسر ، ووجد ركاباً ينتظرون السفر إلى البلدة التي غادرها مساء ، فسافر بهم عائداً من نفس الطريق .
وحين وصل إلى المكان الذي ارتكب فيها جريمته الشنعاء ، أوقف سيارته ، وادعى لركابها بأنه يريد أن يقضي حاجته ثم يعود إليهم فوراً ... وانحدر إلى الوادي ، أستمع أنينا خافتاً ، فقصد المرأة السابحة ببركة من الدم ، وقال لها " ملعونة ألا تزالين على قيد الحياة حتى الأن " وجمدت المرأة في مكانها ، وانتظرت مزيداً من الطعنات .....
وانحى السائق إلى الصخرة ضخمة ليحطم بها راس المرأة الجريحة ، وما كاد يضع يديه تحت الصخرة إلا وصرخ صرخة عظيمة هزت الوادي الصخري السحيق ، ورددتها جنباته الخالية إلا من الوحوش و الأفاعي و الهوام ، وسمعها ركاب السيارة ، فهرعوا لنجدته .
كانت تحت تلك الصخرة الضخمة التي أراد السائق المجرم رفعها ليقذف بها راس المرأة الجريحه ، حية سامة لدغته حين كان يهم بحمل الصخرة العاتية ، فسقط إلى جانب المرأة يستغيث و يتألم ...
و حمل المسافرون السائق ، وحملوا المرأة ، وانتظروا حتى قدمت سيارة أخرى ، فاستوقفوها وطلبوا من سائقها حمل المرأة و السائق إلى المستشفى التي كانت في المدينة التي يستقر فيها ولد المرأة الجريحه .
وفي الطريق فارق الحياة ذلك السائق المجرم متأثرا بالسم الزعاف .
وفي المستشفى ، قدم الشرطة و المحققون العدليون ، فعرفوا القصة كاملة ، وانتزعوا مال المرأة من طيات جيوب السائق اللعين .. وطلب المرأة حضور ولدها ، فحضر في الهزيع الأخير من الليل ... وراحت المرأة في غيبوبة عميقة ، فظن الأطباء و الممرضون أنها تعاني سكرات الموت ... وعمل الطبيب على نقل الدم أيليها .
وفي ضحى اليوم التالي فتحت عينها لتقول لولدها " ادفع البدل النقدي سريعاً " ثم أغمضت عينها وراحت في سبات عميق ، ودفع الولد بدله النقدي ، وسرح من الجيش .. وتحسنت صحة امه يوماً بعد يوم ، حتى تماثلت للشفاء ، حيث غادرت المستشفى إلى أهلها ..
* وذهبت قصة نجاتها ، وقصة موت السائق ، وقصة الحية المنقذة ، شرقاً وغرباً ، واصبح حديث الناس جميعاً .. ولقد كان الوادي الذي ارتكب السائق فيه الجريمته ، والذي قذف بين الصخور المرأة الجريحه ، من الوديان الموحشة الخالية من الماء و الكل ، فلا يسلكه الناس ولا يطرقونه ، حتى الرعاة لا يجدون فيه ما يفيد ماشيتهم فاصبح موطناً أمناً للذئاب و الأفاعي .
وما كانت المرأة الجريحه لتسلم من الموت الكيد ، لولى قدرة الله عز وجل ، ثم عودة الجاني مدفوعاً بغريزة حب الاستطلاع ، وما كان المسافرون مع الجاني لعرفوا موضع المرأة ، لو لم يصرخ الجاني صرخة مدوية بدون شعور ولا تفكير متألماً من لدغة الأفعى السامة .
وما كان ولدها ليدفع البدل النقدي لو قدمت أول سيارة من المدينة التي كان فيها ، لأنها ستنقل أمه ، ولضاع عليه الوقت المحدود لدفع البدل النقدي ، لقد كان ذلك كله من تدبير العلي القدير ...
* و سمع الحاكم القصة كاملة كما سمعها الناس ، فا اشترك مع الجيران الآخرين و جمع ثمن دار جارته حتى تستعيدها من صاحبها الجديد
و سمع صاحب الدار الجديد هو الأخر بقصتها ، فأعاد إليها سند الدار و ملكيتها ، وبقى المبلغ الذي جمعه لها الجيران مع ثلاثمائة دينار من اصل ثمن الدار ، فجددت بذلك المبلغ بناء الدار ، واقبل الناس على حانوت ولدها ، يشترون سلعته ويتسابقون على معاونته .. وفي خلال سنه واحدة تضخم عمله ، و أقبلت عليه الدنيا ، فانتقل إلى حانوت كبير في شارع عام في موقع محترم ..
** و مرت السنوات ، وفي كل عام كان في الدار بناء جديد ، وتخرج أولاد من مدارسهم واحداً بعد الأخر ، فاصبح أحدهم مهندساً و الأخر طبيباً ، و الثالث ضابطاً في الجيش .. ولم يعد طعامهم اليومي من الشاي و الخبر و الخضرة بل كان لهم لحم في كل يوم مع ألون شهية أخرى من الطعام وفتح الله عليها باب بركته ، وأغدق عليهم رعايته ، و جعلهم مثالاً للخلق الكريم بين الناس متعاونين في السراء و الضراء .
(( أن الناس يغفلون وينامون ، والله وحده لا يغفل ولا ينام ، و ما من دابة إلا على الله رزقها .. والله لا ينسى رزق النملة في الصخرة القاسية وسط عباب المحيط ، فكيف ينسى أرزاق الأرامل و اليتامى ؟ ))
والناس يخشون الناس ، والله أحق أن يخشوه .. والله يمهل .. ولكن لا يهمل ...
{ ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حاجب }
تحياتي أختكم الماسة انتظرو القصة الثالثة (الأخيرة)
تعليق