بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تحياتى للجميع
[align=center]وجدت هذا الكتاب ... وأعتقدت بإنه يهم شريحة كبيرة من أعضاء المنتدى والذين يسعون جاهدين لبناء شخصياتهم الابداعية وفق علم وثقافة
أتمنى أن أكون ساهمت بقليلا من المعرفة فى هذا المنتدى المعطى
إليكم الجزء الاول من كتاب أدوات النص للكاتب محمد تحريشى[/align]
[grade="00008B FF0000 008000 4B0082"]تقديم
إن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، كيف نتعامل مع النص، و ما هي الأدوات التي تستطيع أن تفك شفراته؟ وهل أن هذه المفاتيح هي عناصر خارجية على النص؟ أو أن كل نص يفرض أدواتٍ إجرائية تناسبه، وتنبع من داخله، وتستطيع أن تقدم قراءة فنية جمالية تكشف عن خصوصية الكائن والمحتمل، وتقتضي هذه القراءة ترسانة من المفاهيم الكفيلة بتقديم كتابات كثيرة يكون فيها المتلقي مستهلكاً ومنتجاً لنص جديد تمتزج فيه تجربة الكاتب و القارئ على حد سواء.
ويقف النص القرآني شامخاً بانفتاحه على قراءات متعددة، و تقبله لعدد من المقاربات الجريئة والتي قد تنغلق أمام انفتاح هذا النص وقابليته للتأويل. لقد بدأت منذ الاتصال الأول بهذا النص، مروراً بجهود علماء استطاعوا أن يقدموا قراءة حديثة كأبي عبيدة في "مجاز القرآن"، وصولاً إلى القراءات المعاصرة التي استفادت من مناهج القراءة الحداثية. وهي قراءة تضمن، في غالب الأحيان، للنص القرآني تفوقه وعلوه وامتيازه، وفي الوقت ذاته تعاملت معه كأي نص لغوي. واقتضت هذه القراءات حضور النص الغائب من خلال استحضار نصوص من المأثور من قول العرب.
واستفاد النقاد من هذه الأدوات التي قرأ بها النص القرآني في الاقتراب من النصوص البشرية، ومع ذلك يبقى السؤال مطروحاً فما هي جمالية هذه القراءة، ولنا أن نتساءل هل يقرأ النص لمضمونه، أو يقرأ لشكله؟ ونحن ها هنا لا نفصل بينهما، ولكن نشير إلى أن النص هو حامل، وفي الوقت ذاته تجربة في الكتابة تحتفل باللغة، ومن أجل اللغة، وهي قبل هذا وذاك لغة.
ويقودنا هذا إلى سؤال آخر، فهل هناك قراءة نموذجية تزعم لنفسها أنها القراءة الأولى والأخيرة، وأنها الممكنة والمحتملة؟ في الواقع ليس هناك قراءة تستطيع أن تحقق لنفسها هذا الزعم، و إنما يمكن أن تقترب منه. إنها قراءة تتجه نحو تأسيس فعل يستمر من خلال تلك الأدوات الإجرائية التي ترسم معالم جمالية للنص، و هي قراءة استفادت من ذلك التراكم المعرفي لنصوص من التراث ومن الفكر المعاصر ومن السرديات ومن الشفوية، هذا الصرح المتحدي للكتابة والمستمر فينا عبر النشاط الإنساني، الخلاق. إنها قراءة، كما دعا إلى ذلك الدكتور عبد الملك مرتاض، تذهب من الحداثة إلى التراث لتعود إلى الحداثة ثانية، إنها قراءة تأصيلية لهذا الفعل المؤسس للمعرفة.
وإذا كانت هذه حال النص القرآني، فما هي حال النص الأدبي في الجزائر؟ وما مدى استقلالية هذا الأدب العربي عن صنوه في المشرق، وعن الأدب الإنساني العالمي؟ ولماذا هذه الخصوصية؟ وهل استطاع أن يوجد تفاعلاً ضمن حقل دلالي يتماشى وطموحات المبدع في آن واحد؟ وإن كانت هناك خصوصية، فهل هي فنية أو جغرافية إقليمية ترتبط بالحيز وبالتجربة الإبداعية؟ وهل يمكن أن نقول أن هناك أدباً جزائرياً متميزاً؟ وإلى أي حد استطاعت تلك النصوص المكتوبة باللغة العربية أو باللغة الفرنسية أن تشكل هوية جزائرية؟ وما مدى تميز هذا الأخير عن الأدب الفرنسي؟ إن كاتب ياسين ومولود معمري ومالك حداد، أو غيرهم من الذين كتبوا باللغة الفرنسية، أمدوا نصوصهم بخاصية فنية تنطلق من الارتباط بالوطن على الرغم من الغربة في لغة الأخر؛ فالرؤية الفنية والزخم الفكري والتجربة اللغوية استمدت حضورها من الواقع الجزائري، ومن ثم أسست لخطاب أدبي على مستوى أسلوب كتابة التجربة اللغوية. إن رواية "نجمة" تجربة سردية استطاعت أن تشكل نصاً سردياً باللغة الفرنسية، ومن الصعب نسبتها إلى أدب هذه اللغة؛ أي أن هؤلاء الكتاب وظفوا اللغة الفرنسية، من حيث التركيب اللغوي والبناء الجمالي، لخدمة القضايا الجزائرية من خلال تعبيرها عن واقع مرتبط بالجزائر.
وأمدت تجربة عبد الملك مرتاض السردية الجزائرية من خلال نصي: "الخنازير وصوت الكهف" بتدفقات لغوية وبناءات جمالية جعلت الرواية الجزائرية تتفتح على عالم أرحب، فلم تعد التجربة عملية تقنية بقدر ما هي إنتاج لنص لغوي متميز تتدفق فيه اللغة تدفقاً سلساً تلاحق فيه الأفكار وتنتصر عليها. إن التجربة اللغوية في عالم عبد الملك مرتاض تجربة غنية تتعامل مع اللغة من موقع العالم والعارف، لا من موقع المتعلم الذي يجهل تلك الفروق الدلالية بين معاني الكلمات، أو ذاك الذي يجد صعوبة في إيجاد للمعنى أكثر من لفظ للمعنى، أو أكثر من سياق أو توظيف. إن اللغة الروائية عند هذا الرجل أداة طيعة مطواعة لا تستطيع أن تتمنع حتى لو أرادت. وبذلك فرضت هذه اللغة سلطانها على العمل الإبداعي فانتصر النص وتحرر من قيد المبدع. في حين أن هناك نصوصاً لم تستطع أن تتخلص من التجربة الأولى فدارت في فلكها، ولم تتملك آليات التجدد والتحول والاستمرارية وكأنها تقول إن المبدع لا يكتب إلا عملاً واحداً تصدر عنه ارتدادات في الأعمال اللاحقة. ويعود الأمر في الأساس إلى عدم قدرتها على إنتاج نص جديد يواكب التغيرات بالمشاركة في إنتاج النص من جديد، وتصبح بذلك كل قراءة للنص بمثابة إعادة إنتاجه من جديد.
ومن أسئلة الكتابة الملحة، لماذا هذا الاهتمام بالخطاب الروائي؟ ولماذا يعطي له كل الحيز وهذا المستوى من التفاعل على مستوى القراءة والمقاربة والدراسة، فهل يرجع هذا إلى أن الخطاب الروائي هو أكثر الأجناس الأدبية ارتباطاً بالواقع؟ أو لغزارة هذا الإنتاج قياساً إلى الشعر؟ أو أن يحقق مقروئية معينة؟ وهل هناك أسباب أخرى؟
لقد استطاع عبد الملك مرتاض أن يوجد توظيفاً جديداً للشخصية في هذين العملين الروائيين، فلم تعد تلك الشخصية التي نعرفها بماضيها وحاضرها ومستقبلها، إنها مفهوم وليست كائناً حياً، وكل من مر بحدث أو بتصرف يشبه تصرف شخصية معينة فهو منها، معتمدة على تدفق لغوي هائل يبعد اللغة عن أبعادها النمطية الدلالية المعروفة، ويعطيها لغة متحررة من أي مدلول مسبق، وفي الوقت ذاته يحافظ على أيديولوجية النص التي تعكس مستوى من الرؤية والتفكير عند القارئ ينطلق من الوعي باللغة. إنه علاقة حميمية تنشأ بين النص والقارئ، الذي يصبح شريكاً في بناء النص وإبداعه.[/grade]
في جمالية النص التراثي
لعل أول سؤال يطرح، لماذا هذا التوجه نحو الأدب الجزائري القديم؟ ولماذا هذه الخصوصية؟ التي قد تطرح إشكالات منهجية تعترض الباحث، أو الدارس لهذا الأدب، الذي ضاعت أغلب نصوصه، والتي وصل إلينا منها القليل القليل، مع صعوبة تحديد الحقل الأدبي في هذه الفترة الزمنية، وكذا الإجراء النقدي المختار للكشف عن الخصوصية الفنية والجمالية لهذه النصوص، فهل يكون التوجيه شمولياً؟ أو يختار مجالاً واحداً ؟.
إنّ الاعتماد على تفاعل هذين التوجهين كفيل بالوصول إلى نتائج مرضية ترتقي بهذه النصوص إلى مرتبة تليق بها، خاصة وأنّ الأدب الجزائري أخذ مساراً تكوينياً خاصّاً إلى حد بعيد، تشاكل فيه المحلي بالوافد سلما أو قهرا، مما ولد أنماطاً تعبيرية ارتبط فيها الكتاب بالتقليد الفني العربي، وربطوا ذلك بواقعهم المعيش.
ويبدو أنّ هذه الخصوصية أنضجت التجربة الإبداعية في هذا العصر، فأنتجت نصوصاً على أقليتها، استطاعت أن تحافظ على وجودها في التراث الأدبي العربي، على الرغم من طابعها التسجيلي المرتبط بالأحداث السياسية والاجتماعية لدولة بني حماد فحافظت على الذاكرة الحمادية، وسجلت أهم الوقائع التي مرت بها هذه الدولة، فأوجدت لها قراءة تسربهم التجربة الأدبية في الكشف عن غور هذه التجربة.
ومع هذا كله يبقى السؤال مطروحاً بكيفية أخرى، كيف تفاعل المحلي بالوافد؟ أو كيف تفاعل سكان الجزائر مع الثقافة العربية الإسلامية الوافدة؟ ألم يولد فيهم هذا التفاعل صدمة نتيجة التقاء مستويين ثقافيين متميزين، الثقافة الوافدة من جهة، والثقافة البربرية من جهة أخرى.
ويبدو أن الثقافة العربية الإسلامية تقدمت كثيراً، فأخذت لنفسها مكانها اللائق، لكون اللغة العربية لغة عالمة تنقل المعارف والعلوم، لغة مؤسساتية تعكس السيادة والإبداع والتفكير. لقد كانت اللغة الرسمية للدولة؛ واللغة الرسمية "مرتبطة في بعض جوانبها بالدولة سواء من حيث نشأتها أم من حيث توظيفاتها الاجتماعية التي تسيطر عليها لغة رسمية"(1).
وهناك سؤال آخر مهم، يطرح نفسه بإلحاح شديد، فلماذا كان فتح المغرب من أكثر الفتوحات الإسلامية مشقة، ومن أطولها زمناً؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا يصب الأدب هذه الصدمة؟ فمن "المتوقع أن تكون هذه الخاصة التي اتسم بها الفتح العربي قد أحدثت نوعاً من عدم الاستقرار بالنسبة للبربر، وكانت عاملاً من عوامل قبولهم لحركات الخروج على الدولة الإسلامية، لكن من المؤكد أن أساليب العرب في الاندماج مع البربر، سواء بالاشتراك في الحروب ضد الوثنية الباقية، أو في فتح الأندلس، أو عن طريق المصاهرة، أو في العادات الاجتماعية، فضلاً عن وسائل الاندماج التي تحتمها طبيعة الفاتحين المسلمين، حيث أحس المسلمون من سكان البلاد الأصليين أن العرب جاؤوا من أرض النبي (صلى الله عليه وسلم)، ومن هنا أسلموهم القيادة في كثير من الأحوال" (2).
ولعلّ من أهم العوامل التي ساعدت على مثل هذه المعاملة، هو أن القيادة السياسية كانت واعية بهذا الأمر، فقضت على كل ما يؤدي إلى القطيعة والاختلاف والتفرقة، كما أنها لم تترك الوقت للتفكير وأخذ المبادرة، ثم إنها استفادت من خصوصية الفتح الإسلامي الذي جاء يدعو إلى العدل والتسامح، والسلم، وهي قيم إنسانية ونبيلة يسعى البشر إليها.
وإذا كان الأمر كذلك، فهل استطاعت تلك الكتابات أن توصل إلى الجمهور خطاباً معيناً يعكس ذلك الوجه الحضاري لدولة بني حماد؟ وتبدو الإجابة عن هذا السؤال سابقة لأوانها، قبل الاحتكام إلى تلك النصوص الأدبية، التي جاءت لتكشف عن البنيات الذهنية المكوّنة للمؤسسات الثقافية الحمادية، والتي يوجهها النشاط الفكري للمجتمع الحمادي.
ومن الأسئلة المهمة في هذا المجال، ما مدى استقلالية هذا الأدب عن الأدب العربي في المشرق، وما مدى تبعيته له؟ وهل استطاع أن يوجد فعالية نقدية تتعامل معه تعاملاً فنياً تنظيمياً حتى يكون أدباً فاعلاً، وحقلاً منتجاً يتماشى وطموحات الدولة الحمادية، التي وظفت الأدب وسيلة للمساهمة في تكوين الدولة والدعاية لها، وفي تسيير شؤونها من خلال تلك الرسائل التي كانت تتبادل بين المسؤول والرعية. "ويمكننا الحكم على أدب الجزائر في هذه الفترة، بأنه أدب تقليدي يلتزم السجع في النثر، والديباجة التقليدية في الشعر. من رصانة لفظية إلى محسنات بديعية إلى موضوعات تكاد تكون هي نفسها المعروفة في المشرق، ويغلب على أكثرها المدح في الشعر والكتابة الديوانية في النثر" (3).
1- في البنية الثقافية للحماديين:
تتحد البنية الثقافية للمجتمع الحمادي بتلك الأصول البربرية والتوجه العربي الإسلامي لهذا المجتمع، وقد أعطى هذا التزاوج بين الثقافة البربرية والثقافة العربية الإسلامية نتائج ساهمت في ارتفاع هذا المجتمع، وتأسيس الدولة الحمادية وإرساء قواعدها، كما ساهمت في وجود علماء في الفقه ومبادئ علم الكلام، ناظروا فقهاء العرب في قواعد الأصول وتفاريع الفقه(4).
وقد كان توجه الثقافة الحمادية عربياً أسوة بالمشرق العربي، ينهل من المضامين الإسلامية. ذلك "أن المغرب محاط من كل جوانبه بثقافات عربية، إن في الأندلس، وإن في المشرق، مما يجعلنا نطمئن إلى أن الثقافة العربية الإسلامية هي الثقافة الأم في الدولة الحمادية وهي مناط عناية الدولة واتجاهها الرسمي"(5) وهذا ما جعل للغة العربية قيمة لا مثيل لها عند البربر المكونين للدولة الحمادية، حيث أصبحت "ربة المنزل وصاحبة الأمر والنهي على القرائح والعقول"(6).
ولعلّ من العوامل المساعدة في المحافظة على هذه المكانة والقيمة، الأثر الثقافي الذي خلفه زحف القبائل العربية على المغرب، فقد "أثرت لغة التخاطب لقبائل بني هلال في اللسان البربري الذي كان طاغياً على اللسان العربي في الأرياف والمدن أيضاً، وسارت عملية الاستعراب بسير عملية المزج والاحتكاك"(7).
ومن الظروف التي أثرت هذا التوجه، أنّ اللغة العربية أصبحت لغة عالمة، تساهم في نقل المعارف والعلوم، فقد أخذها الحماديون لغة لدولتهم، وإذا كان الأمر كذلك، فإننا لا نعدم أنّ اللغة البربرية كانت لغة عالمة مساعدة عن طريق نقلها للعادات والتقاليد من جيل إلى جيل، وبذلك تم الحفاظ على التوازن الداخلي لإنسان المجتمع الحمادي. مع العلم أن تفاعل ثقافتين قد يؤدي إلى ثقافة مهيمِنة وثقافة مهيمَنة، خاصة أن بني حماد قد بذلوا جهوداً كبيرة في سبيل تعريب البلاد مستفيدين من ذلك الإرث الذي تركه وجود اللغة العربية السابق
(8) ومع ذلك كله فإنه من الصعوبة بمكان أن نحكم في هذه القضية، ونفصل في المهيمِن في دولة بني حماد.
ثم إنّ من العناصر المكونة لهذه البنية الثقافية الحمادية، وجود مذهب الإمام مالك وانتشاره من دون المذاهب الإسلامية الأخرى، مما أدى إلى توحد التوجه الفكري لأغلب سكان المغرب العربي عامة، للحماديين بوجه أخص. فسلمت بذلك دولة بني حماد من ذلك النزاع المذهبي الذي كان له أثر سلبي في المشرق العربي، وفي بعض الأحيان كان مدمراً، حيث أفضى إلى نزاعات هدامة من الناحية السياسية، وإن كانت مفيدة من الناحية الفكرية والأدبية، لأنها أسهمت في بناء الذات وتشكلها المعرفي. ولا يمكن تجاهل "زحف مذهب مالك بدءاً من مدرسة القيروان، انتشاراً في القسم الغربي للعالم الإسلامي كله، بما فيه الأندلس، وعبوره إلى غرب إفريقية حيث لا يزال المذهب الغالب في هذه البلاد"(9).
إنّ هذا التنوع الثقافي سمة من سمات المكوِّن الثقافي للحماديين وهو الذي أدى بهم إلى رعاية الثقافة والمثقفين والمفكرين فيجزلون لهم العطاء، ويجودونهم بالهدايا والأموال، فقد "كان الناصر بن علناس أطول الملوك الحماديين باعاً في هذا المضمار، فقد كان يؤمه الأدباء ويقصده الشعراء، فيغدق صلاته عليهم"(10)، وكذا كان يفعل أغلب الملوك الحماديين أسوة بنظرائهم من الملوك العرب الذين كانوا يشجعون الأدباء ويحفزونهم على الكتابة الجيدة، والإبداع المتميز. فقد كان المعز بن باديس "مكرماً لأهل العلم كثير العطاء لهم كريماً، وهب مرة مائة ألف دينار للمستنصر الزناتي، وكان عنده، وقد جاءه المال فاستكثره، فأمر به فأفرغ بين يديه ثم وهبه له، فقيل له لم أمرت بإخراجه من أوعيته. قال لئلا يقال لو رآه ما سمحت نفسه به. وكان لـه شعر
حسن"(11).
ولقد أسهم التفاعل بين المشرق العربي ومغربه في تزكية البنية الثقافية للحماديين، سواء عن طريق ذلك الرباط الروحي الذي يجمع الأقاليم الإسلامية، أم عن طريق ذلك الشعور بأنّ المشرق هو أصل الثقافة العربية الإسلامية ومرجعها الأساسي، ولا بد للمغرب أن ينهل من هذا الأصل؛ فحصل تبادل للرحلات والهجرات بين المشرق والمغرب.(12)
لقد أسهمت هذه البنية الثقافية في جعل العاصمة الحمادية مركزاً ثقافياً يعجّ بالمختصين في كل الفروع، وخاصة رجال الدين والفقه، ويشهد على ذلك أبو علي المسيلي بقوله "أدركت ببجاية ما ينيف على تسعين مفتياً ما منهم من يعرفني، وإذا كان المفتون تسعين، فكم يكون من المحدثين ومن النحاة والأدباء وغيرهم ممن تقدم عصرهم ممن يدركه... لقد كان الناس على اجتهاد، وكان الأمراء لأهل العلم على ما يراد"(13).
ويعكس هذا النشاط الفكري مستوى التحام البربر بالإسلام، وعدم رفضهم لهذا الدين الجديد الوافد، على الرغم من أن هناك من رأى في تلك المقاومات التي رافقت دخول الإسلام شمال غرب إفريقيا، رفضاً للإسلام الذي فرض عليهم بالقوة- وقد ردّ عبد القادر جغلول على هذا الزعم قائلاً: "وبدل أن يعارض الإسلام، كان الشعب المغربي من الدعاة له، والجيوش التي حملت الجهاد إلى أوربا، وخاصة إسبانيا كانت مؤلفة في غالبيتها من البربر الحديثي العهد بالإسلام، وأخيراً الثورة الكبرى للخوارج التي هزّت المغرب في النصف الثاني، مع أنها تعبّر عن رغبة استقلال المغرب، لأنها سمحت للدين الإسلامي بالانتشار فوق كافة أراضي المغرب"(14).
ويبدو أنّ هذا الرأي وجيه، ويعكس الحقيقة أغلبها، ومع ذلك؛ فإنّ هذا التعليل يصح بعد دخول الإسلام واستوطانه المغرب، أما قبل ذلك فقد لقي مواجهة تعكس موقفاً ما من الإسلام- وقد يعود هذا إلى أن البربر لم يميزوا بين الحركات الاستعمارية السابقة، وبين وفادة الإسلام، واحتاج ذلك منهم فترة زمنية، حتى تيقنوا أن الإسلام يريد بهم خيراً، وهو دين تسامح ورحمة وتكافؤ فرص؛ لذلك اتجهوا نحوه فرادة وجماعات، فأسهموا في انتشاره في المغرب، وفي فتح الأندلس.
وإذا لم يكن الأمر كذلك، فكيف نعلل تلك الصراعات التي دامت سنين ألم تكن استمراراً للصراع التوحيدي الكبير للحصول على الاستقلال؟.
لقد جاء الإسلام ليطرح نظاماً سياسياً جديداً تعدى الإطار القبلي، و"إذا كان الإسلام قد انتشر بسرعة وبكثافة بين المغاربة، فذلك يعني أنّ الإسلام ليس ديناً سهلاً وعادلاً فحسب؛ بل لأنه أداة تطور اقتصادي واجتماعي في المغرب. بالإضافة إلى كون هذا الدين داعياً للوحدة السياسية. ومعنى أنه قرن صراعات معنى مزدوج: المغرب وخاصة الأوسط خرج من هذه الصراعات منتصراً، فقد حافظ على استقلاله، لكن هذا النصر ليس نفياً للحضارة الإسلامية والعكس تماماً، فبتحوله الجذري واعتناقه الإسلامي واستيعابه للحضارة الإسلامية، استطاع المغرب أن يحافظ على استقلاله، وفي الوقت ذاته، اندماجه مع الأمة الإسلامية حيث يلعب دوراً هاماً"(15).
ونحن نعالج هذه الأمور، تصادفنا قضية ذات أهمية بالغة، إذ كيف لنا أن نعالج مفهوم الجزائري في العصر الحمادي؟ وهل هذا الإجراء علمي ومنهجي، ولا يتعارض وطروحات علمية أخرى؟.
ولعل من البدهي أن المغرب الأوسط حافظ على استقلاله عن المركزية الحاكمة في الإسلام، وقد كان له وضع خاص عن بقية الأقاليم الإسلامية، وهذا ما يدفع إلى الاعتقاد إلى أنّ الأمة الجزائرية كانت في دور التشكل، والتي ستنهل من الحضارة العربية الإسلامية، وفي الوقت ذاته تحافظ على خصوصية الحيز الذي تشغله. فعلى الصعيد الثقافي "كان المغرب تقاطع طرق هام، ظهرت عنه التأثيرات الشرق الأوسطية والأندلسية كما أهدى بدوره آثاراً هامةً للتراث العربي الإسلامي"(16). أي أنه لم تكن هناك حدود ثقافية كالحدود السياسية لهذه الدويلات، فإذا كانت حدود الدولة الحمادية الشرقية معروفة، فإن حدودها الغربية كانت متغيرة ومتحولة بفعل الظروف السياسية بين حكم وحكم آخر. فقد عرف المغرب نهضته الكبرى تحت حكم الحماديين من خلال المركزين الحضاريين، قلعة بني حماد وبجاية، فقد دام حكمهم قرناً ونصف قرن من الزمن، مخلدين آثاراً حضارية، جعلت الحضارة الحمادية من أرقى الحضارات المغربية في النصف الأول من القرن السادس(17) التي تركت أثراً واضحاً في الحضارات المتعاقبة على المغرب الأوسط. ثم "إنّ ازدهار المملكة الحمادية لم يكن مرتبطاً بكونها منطقة عبور فحسب بل بنشاطاتها الزراعية والحرافية"(18) التي تعكس مستوى ثقافياً يكشف عن أصالة هذه الدولة، والتي استطاعت أن تجذب إليها "مفكري إفريقيا والأندلس وبالتالي إلى ولادة مجمع ثقافي عظيم الأهمية. كانت قاعة مجمع بجاية تضم 104 من مشاهير الحقوق، الطب والشعر. وكان في المدينة عدد من الأولياء المسلمين علماء الدين، ومن هنا جاءت تسميتها بمكة الصغيرة"(19).
ولعلّ دراسة هذا التفاعل الحيوي دراسة أنثربولوجية تعكس لنا بوجه صادق، ثقافة المجتمع الحمادي وتوجهه الفكري، وتكشف عن نزوع عربي مستقل عن المركزية، ومحقق لكيان خاص، ويدفعنا إلى القول بأن المغرب الأوسط كان دائماً يبحث عن هوية جعلت منه إقليماً غير متجانس، تحكمه تأثيرات دينية وعسكرية ومالية، وهذا ما أدى إلى تعاقب الدويلات عليه. "فمن غير الممكن-في حالة المغرب الأوسط- أن نأخذ مركزاً حكومياً ثابتاً كنقطة استدلال على اختلاف المغرب العربي (فاس) وإفريقيا (القيروان) كل الحقبة الوسطية كانت مميزة بحركة تناقضية مزدوجة نابذة وجاذبة نحو إفريقيا والمغرب في إثبات هوية خاصة، فإنه يستمر أيضاً في التطلع نحو الشرق والغرب- والمراكز الحكومية التي تكونت أثناء هذه الحقبة تكشف هذه الحركة المزدوجة: عاشير، القلعة وبجاية من جهة، وتلمسان من جهة أخرى- إن عدم وجود حدود بالمعنى الدقيق خلق ظروفاً معينة لتعاقب الحكومات"(20). ويصبح هذا الزعم مبرراً لتناول الموضوع على أساس الأدب الجزائري في عصر الحماديين؛ لأننا في الواقع نواجه إشكالاً، إذ كيف يمكن إلحاق مفهوم جديد معاصر، بحقبة زمنية سابقة له؟.
إنّ تلك التفاعلات، وتلك التعقبات السياسية، هي التي أوجدت مفهوم "الجزائري" لأنها كانت تنزع إلى الاستقلال السياسي والالتزام الثقافي والعقائدي والاجتماعي الذي كانت المركزية العربية المرجع بالنسبة إليه. "وفي ظل السياسة التي اعتبرت من أكبر مآثر الحماديين، وهي سياسة ترويض القبائل العربية وتوظيفها في صنع الحضارة العربية... وفي ظل هذه السياسة حمى الحماديون الحضارة المغربية من الدمار الكامل، وكانوا الوريث لحضارة القيروان التي فرض عليها الأعراب الدمار والتشتت، وكان في الإمكان- لولا السياسة الحمادية- أن يلقى المغرب الأوسط، ثم المغرب كله المصير
نفسه"(21).
ثمّ إنّ هذا التوجه كان أساساً للبنية الثقافية الحمادية التي تؤكد رقي الحضارة الإسلامية في المغرب الأوسط، والتي كانت تنهل من ترابط مقومات ثلاثة هي القبيلة، القوة المالية، والإشعاع الديني، و"هذا الترابط بين العصبية القبلية والتعاون الديني والقوة المالية يظهر واضحاً في عملية تكوين الدول. وكل التجارب الكبرى للتنظيم الحكومي التي جرت في المغرب الأوسط، جرت باسم حركة التجديد الديني... إن التنظيم القبلي يمثل مع ذلك الدور المحرّك في مؤسسات البناء الحكومي... ويعطي التنظيم الحكومي لنفسه المال اللازم لتحقيق هذا المشروع بالسيطرة على تجارة القبائل"(22).
وإذا كنا نقرّ بعلاقة التنظيم القبلي بالتنظيم الحكومي؛ فإن من الضروري السؤال عن التناقض المحتمل بين التنظيمين فلكل منهما مرجعية خاصة، وهذا "التناقض بين التنظيم القبلي والتنظيم الحكومي، والذي هو تناقض خارجي وتناقض داخلي في الدولة في آن معاً، يشكل أساس تطورها"(23)، ومع ذلك يبقى السؤال مطروحاً، فكيف يؤدي التناقض إلى التطور؟ قد يكون ذلك ممكناً إذا ائتلف الشيء مع نقيضه للوصول إلى التوازن والانسجام والاعتدال، وقد وفقت الدولة الحمادية في إيجاد مزاوجة بين التنظيمين، واستثمار هذا المزج في سبيل بناء الدولة، فالتنظيم القبلي يعتمد على العلاقات الاجتماعية وأصول القرابة التي تربط العائلات والقبائل، في حين أنّ التنظيم الحكومي يقوم على علائق تربط المؤسسات المكوّنة لهذا التنظيم. وقد يستفيد كل تنظيم من الآخر في إرساء أسسه وقواعد سيره؛ لأنّ الدولة في المجتمع العربي لم تستطع التخلص من تأثير القبائل في بناء ذاتها، بل إنها كثيراً ما عوّلت على علاقاتها مع القبائل في تقوية دعائم وجودها، وخاصة أن هذه الأخيرة كانت تتحكم في النشاطات التجارية التي تعتمد عليها الدولة في جلب الأموال واستثمارها. وعلى الرغم من وجود علاقات اجتماعية جديدة فإنه "لم ينكشف في تكوين جماعات جديدة نوعاً متجانساً إلى حد كاف، قوية وقادرة على تكوين أساس اجتماعي تستطيع الدولة من خلاله التخلص من علاقاتها بالقبائل وهدم علاقات
القرابة"(24).
ولقد كان هذا الأمر عنصر تقوية بالنسبة للتنظيم الحكومي، وفي الوقت ذاته هو عنصر إضعاف، وقد يؤدي في الأخير إلى زوال هذا التنظيم، وبمعنى آخر، فإنه سلاح ذو حدين، قد ينفع، وقد يضر ويصبح التكيف معه أمراَ ضرورياً وملحاً، مما يفتح المجال واسعاً للتنظيم الديني ليلعب دوراً مهماً للوصول إلى التناسب والانسجام والتوافق بين التنظيمات الثلاثة، خاصة إذا تعلق الأمر بالتوسع العسكري والتجاري والسياسي.
هذا وقد استثمرت الدولة الحمادية كثيراً هذه التنظيمات الثلاثة في بناء بنيتها الفكرية والثقافية، كما استفادت مما وصلت إليه الدويلات السابقة لها في الوجود، وعدلت ما يحتاج التعديل، وهكذا تشكلت البنية الثقافية لديها.
النثر الجزائري على عهد الحماديين:
ونحن نقدم على تناول هذا الموضوع، نطرح سؤالاً مهماً، ما محور علاقة هذه النصوص النثرية، على قلتها، بالحماديين، على وجه الخصوص، وبالجزائر على وجه العموم، خاصة إذا انطلقنا من المفهوم التعبيري التكويني للأسلوب، على أنه يعبر عن شخصية الكاتب أو المرسل. ومن نافلة القول إنّ هذا النثر عكس خصوصيته وتفرده، وفي الوقت ذاته انتماءه إلى الثقافة العربية.
لقد كان النثر ضرورة حياتية بالنسبة إلى الحماديين "فاحتياج الدولة إلى الكتابة في مثل هذه الموضوعات لتسيير شؤونها، يستوجب انتخاب كتّاب نبهاء ذوي مروءة وحذق، إن كانوا موجودين في الأمة، وهذا متوقع إبان نشأة دولة بني حماد؛ لأنهم لم يستقدموا كتّاباً، في ما علم عنهم؛ لأن مملكتهم كانت مزدهرة بالعلوم والآداب، وفيها فقهاء وأدباء."(25)
لقد اتخذ النثر في هذا العصر اللغة العربية وسيلة في التعبير، كما اتخذ نظام الحكم اللغة نفسها لغة رسمية، ثم إن حماداً مؤسس الدولة الحمادية نشأ بالقيروان نشأة عربية إسلامية، درس الفقه والجدل وعلوم العربية(26).
ولعل هذه الثقافة هي التي وجهت الإنتاج الأدبي على عهد الحماديين هذا التوجه العربي، فقد اتخذ الحكام الحماديون لأنفهسم كتّاباً لتصريف الشؤون الإدارية للدولة، "واتخذ الأمراء الكتاب، وكان ديوان الإنشاء مصلحة من مصالح الدولة على أرقى ما يمكن تصوره من النظام، ترتب له الدواوين، وينتخب له الكتّاب من كل ذي قلم سيال وقريحة وقادة وبلاغة نادرةٍ."(27).
وعلى الرغم من أن الدولة الحمادية استمرت قرناً ونصف القرن من الزمن؛ إلا أن الوصول إلى نثرها أو رسائلها أمر صعب، لضياع أغلب النصوص مع ما ضاع من تراث ثقافي وفكري. وهذا ما دفع أحد الدارسين إلى القول: "بحثت عن الرسائل الفنية ظاناً أن أعثر عليها اعتماداً على بعض المصادر التي أشار أصحابها إلى رسائل رسمية صدرت من بعض الأمراء والوزراء، لكنهم لم يدونوا نصوصها، فحرمونا منها مختارين، أو مضطرين لعدم تمكنهم منها" (28) ومثل هذا الزعم يدفع إلى اليأس والقنوط، ويجعل عملية الوقوف على خصائص هذا النثر أمراً محفوفاً بالمخاطر، إن لم يكن مستحيلاً؛ لأن أغلب المصادر التي اهتمت بهذه المرحلة أشارت إلى وجود نصوص إبداعية، ولكنها لم تقيدها، فابن الأثير، على سبيل المثال، أشار إلى وجود ثلاث رسائل سلطانية(29) واكتفى بالإشارة والتلميح دون التقييد.
I- ويبدو أن من أهم نصوص هذه الفترة، نص لأبي عبد الله محمد الكاتب المعروف بابن دفرير، والذي جعله صاحب الخريدة أحد كتاب الدولة الحمادية المتصرفين في الكتابة السلطانية، وأورد له رسالة كتبها عن سلطانها يحيى بن العزيز الحمادي، وقد فرّ من مدينة بجاية أمام عسكر عبد المؤمن يستنجد بعض أمراء العرب بتلك الولاية.
نص الرسالة:
"كتابنا ونحن نحمد الله على ما شاء وسرّ، ورضى بالقسم، وتسليماً للقدر، وتعويلاً على جزائه الذي به من شكر، ونصلي على النبي محمد خير البشر، وعلى آله وصحبه ما لاح نجم بسحر، وبعد، فإنه لما أراد الله أن يقع ما وقع، لقبح آثار من خان في دولتنا وضبع استفز أهل موالاتنا الشنآن، وأغرى من اصطنعناه وأنعمنا عليه الكفران، فأتوا من حيث لا يحذرون، ورموا من حيث لا ينصرون، فكنا في الاستعانة بهم والتعويل عليهم كمن يستشفي من داء بداء، ويفرّ من صل خبيث إلى حية صمادٍ، حتى بغث مكرهم، وأعجل عن التلافي أمرهم، ويرد بال أمرهم إليهم، فعند ذلك اعتزلنا محلة الفتنة، وملنا إلى مظنة الأمنة، وبعثنا في أحياء هلال نستنجد منهم أهل النجدة ونستقر من كنا نراه للهمم عدة، وأنتم في هذا الأمر أول من يليهم الخاطر، وتثنى عليه الخناصر"(30)
إن معالجة هذه الرسالة معالجة نقدية حديثة تستدعي الاعتماد على أدوات إجرائية تكشف عن جماليات هذا النص التراثي، وعن المثيرات الأسلوبية في حدود نظام لغوي خاص، والوقوف على أهم مفاتيح مكوّنات هذا الخطاب للوصول إلى القيم الأسلوبية والجمالية التي تقدمها هذه العناصر والمكوّنات.
خاصية التقابل والتشاكل:
تتحدد هذه الخاصية من خلال علاقة الألفاظ بعضها ببعض، ومن خلال علاقة هذه الألفاظ بالنظام اللغوي للنص، فقد "ذهب هيالمساليف إلى أن الأسلوب يمكن أن يحدد من زاوية علاقة الألفاظ بالأشياء، كما يحدد أيضاً من خلال روابط الألفاظ بعضها ببعض، وكذلك من خلال علاقة مجموع الألفاظ بجملة الجهاز اللغوي الذي تتنزل فيه، فالأسلوب في نفسه دال يستند إلى نظام إبلاغي متصل بعلم دلالات السياق، أما مدلول ذلك الدال، فهو ما يحدث لدى القارئ من انفعالات جمالية تصحب إدراكه للرسالة."(31)
لقد استفاد ابن دفرير من هذه الخاصية في نصه الذي جمع بين ثنائيات متضادة، كالجمع بين انتصار عسكر عبد المؤمن، وفرار يحي بن عبد العزيز الحمادي، أو الجمع بين الشعور بالهزيمة والمرارة، والرغبة في الانتصار بطلب النجدة والعون من قبائل بني هلال. ولعل هذا الجمع دال على ذلك التنازع النفسي وحدة المزاج والعصبية الذي عانى منه السلطان وكاتبه ابن دفرير، لقد جاء هذا الجمع كـ"تفريغ لغوي صادق لمعاناة نفسية واقعية"(32)، وليدل دلالة قوية على امتداد الصوت وشموله واتساعه، لينقل بصدق ذلك الشعور الذي يجمع الشمول والاتساع، ومن "الوجهة النفسية ينحصر الفعل اللغوي الأساسي في إعطاء قيمة رمزية للعلاقة"(33). ويبدو أن دلالة الألفاظ على معان متضادة تساعد المبدع على مراوغة اللغة لإبداع نصوص أدبية تثير الناقد وتحفزه على مقاربتها، فالنقاد العرب القدماء، على سبيل المثال، تتبعوا ذلك من خلال مدوناتهم. فلقد "أثار التقابل بين الدال والمدلول عند علماء اللغة العربية نشاطاً لغوياً لترصد بعض الظواهر"(34) كالترادف والأضداد والمشترك اللفظي، ولا يمكن الوقوف عند هذه القضايا وقوفاً مثمراً إلا من خلال السياق الأسلوبي الذي ترد فيه، فابن الأنباري قرن الألفاظ المتضادة بالاستعمال من خلال ذكره نصوصاً استعملت فيها هذه الألفاظ(35).
وقد نبه بعض الدارسين المحدثين على أهمية السياق الأسلوبي في العمل الأدبي إذ يقول: "السياق الأسلوبي هو نموذج لساني مقطوع بوساطة عنصر غير متوقع، والتناقض الناتج عن هذا التداخل هو المنبه الأسلوبي... وتكمن القيمة الأسلوبية للتناقض، في نسق العلاقات الذي يعمل التناقض نفسه على إقامته بين عنصرين متضادين"(36).
لقد استطاع ابن دفرير أن يوظف الألفاظ توظيفاً حسناً ليكشف عن قمة المعاناة كقوله "استفز أهل مولاتنا الشنآن، وأغرى من اصطنعناه وأنعمنا عليه الكفران فأتوا من حيث لا يحذرون، ورموا من حيث لا ينصرون، فكنا في الاستعانة بهم والتعويل عليهم كمن يستشفى من داء بداء"(37) لقد استطاعت هذه الجمل أن توجه القارئ إلى جمالية هذا التعبير الذي اعتمد على التقابل بين جمل متوالية في مقام أول ثم على تقابل الألفاظ في تواليها في مقام ثانٍ فأنتج ذلك دلالة خاصة للنص على إبداع علاقات إسنادية جديدة، اعتمد فيها على التشبيه، والتي أدت إلى تواصل دلالي ناتج عن تواصل الكلمات والجمل ومع ذلك فهل اختار الكاتب ألفاظه أو أن سياق الحال فرض عليه معجماً لغوياً فرضاً طوعياً؟.
يبدو أنّ سياق الحال، والموقف الإنساني الذي مرّ به الكاتب وجّه ذلك الاختيار فجاء متماشياً وذلك الموقف، ولعلّ هذا الأمر، يعدّ من صميم الدراسة الأسلوبية، "وإذا كانت الأسلوبية لا تهتم بالكلام الحيّ، بل بتفصيله النسيجوي، وباللفظة المجردة التي هي في خدمة قدرة الفنان على التحكم والتطويع، فإنّ ذلك لا يسمح للكاتب بانتقاء ما يراه أكثر مناسبة وتعبيرية من غيره من الألفاظ، لا سيما إذا ارتبط اللفظ المنتقى بحالة شعورية معينة، أو باصطلاحات مهنية خاصة، أو بفئة اجتماعية ذات معجم مميز"(38). ولعل هذا ما يميز الكلام العادي عن الإبداع، ونص ابن دفرير، وإن كان تغلب عليه المباشرة والتقريرية، نص مبدع مرتبط بعصره، وبظرف سياسي واجتماعي خاصين، وهو نص له أسلوبه الخاص به، و"الأسلوب هو اختيار الكاتب لما من شأنه أن يخرج بالعبارة عن حيادها وبنقلها من درجتها الصفر إلى خطاب يتميز بنفسه، وهذا معناه أن الأسلوب رسالة أنشأتها شبكة من التوزيع قائمة على مبدأ الاحتمال والتوقع"(39).
إنّ اختيار الكاتب ألفاظه، أنتج دلالات تقربنا إلى واقع النص الذي تشاكلت ألفاظه، وجمله لتضفي على المعنى إجلالاً، وجمالاً كقوله على سبيل المثال: "... فعند ذلك اعتزلنا محلة الفتنة، وملنا إلى مظنة الأمنة، وبعثنا في أحياء هلال نستنجد منهم النجدة، ونستفز من كنا نراه للمهم عدة، وأنتم في هذا الأمر أول من يليهم الخاطر، وتثني عليه العناصر". فجاء هذا النسق اللغوي ليؤكد على المعنى الذي أراده الكاتب، على الرغم من أنّ اللفظ يمكن أن ينصرف إلى أكثر من دلالة لعدم تقيّده بسياق واحدٍ، إلاّ أنه، ههنا، قد جاء مقيداً بضرورة إثراء النص، فالأفعال اعتزلنا، ملنا، بعثنا، نستنجد" تشاكلت لتسهم في بناء النص بناءً يتماشى، وطبيعة الموضوع، والظرف السياسي، ثم تشاكلت مع ما يليها من ألفاظ لترسم واقع النص.
2- في البنية اللغوية للنص:
لقد جاءت بنية النص اللغوية بنية تقليدية أخذت من خصائص النص القديم الفنية والجمالية وفق أنساق اعتمدت ألفاظاً بسيطة سهلة غير مستعصية على الفهم. وقد جاءت هذه البنية في جمل إسمية، وجمل فعلية، ومع تفاوت نسبي بينها. وقد قلت الجمل الإسمية، والتي تدل على الثبات والسكون مقابل الجمل الفعلية التي تعني الحركة والفعالية.
-البنية الفعلية للنص:
لقد غلبت على هذا النص البنية الفعلية، فكانت أغلب جمله جملاً فعلية،
تدلّ على الحركة والحيوية والفعالية، لترصد الحدث وتساهم في رسم حيز النص ولحمته. وقد أكثر الكاتب من استعمال الأفعال الثلاثية ليعبّر عن ديمومة الحدث وحركته، ويعكس نوعاً من الرضى والاستسلام، وقبول ما وقع بأسى وتحسر.
لقد أدّت جمل النص الفعلية إلى تماسكه هذا من خلال علاقات الجمل الاستنادية لتدلّ دلالة طردية بين الحركات، حيث تكون الحركة السابقة والأفعال ترسم لنا الخط الرأسي التصاعدي. يقول ابن دفرير: "فإنه لما أراد الله أن يقع ما وقع لقبح آثار من خان في دولتنا وضبع*، استفز أهل موالاتنا الشنآن** وأغرى من اصطنعناه وأنعمنا عليه الكفران، فأتوا من حيث لا يحذرون، ورموا من حيث لا ينصرون".
وهكذا نجد الجمل الفعلية تتوارد وتتوالى، وقد توزعت بين جمل في زمن الماضي، وجمل في زمن الحاضر أو المستقبل، لتؤكد على الحركة التي قد تتطلع إلى الثورة والتغيير والتجدد، وبذلك ابتعد عن الحياد فحدد موقفاً مما حدث فطغت الحركة على السكون لتعبر عن طلب النجدة من قبائل بني هلال "وبعثنا في أحياء بني هلال نستنجد منهم أهل النجدة، ونستنفر من كنا نراه للمهم عدة".
إن هذه الجمل الفعلية مدّت النص بجمالية خاصة تعتمد على الانسجام والتوافق، ويصبح ما ذكره عبد المالك مرتاض حول نص "أين ليلاي" مهماً في هذا المجال. يقول "والذي أفضى إلى هذا الانسجام في النظام التركيبي لهذا النص تتابع ملفوظات تكاد أن تستميز بالخصائص الإيقاعية نفسها في تشكيلات... حيث إن كل تشكيلية تتخذ لها نظاماً تركيبياً يقرب أجزاءها، بعضها من بعض من وجهة، ولا يجعلها تنأى، في تركيبتها العامة عن التشكيلات الأخريات من وجهة أخرى(40) ويبدو أن هذه الخصائص هي نفسها خصائص ابن دفرير الذي جاء نصه خفيفاً مؤدياً للغرض المنوط به، وجاء ذلك عن طريق اختيار المؤلف للألفاظ التي كونت لحمة هذا النص وانسجامه من خلال السياق الذي وردت فيه "إن معنى الألفاظ المفردة غالباً ما يكون عاماً وغامضاً، ويتلاشى هذا الغموض في معاني الألفاظ المفردة إذا دخل اللفظ في ضماء تركيبية تحدد معناه وتخصصه. ومن هنا يتولد من المعنى المعجمي للفظ معنى آخر."(41).
إن البنية الفعلية لهذا النص استفادت من بلاغية الألفاظ، حيث استعملت استعمالاً مجازياً فانزاحت الألفاظ عن معانيها الحقيقية لتساهم في رسم جمالية هذا النص، وقد وفق الكاتب أيما توفيق في إيراد ألفاظ بحمولات تعكس موقفه وموقف السلطان مما حدث، وتجعل القارئ يلتفت إلى ما حدث ووقع بكثير من التعاطف"... فكنا في الاستعانة بهم والتعويل عليهم كمن يستشفي من داء بداء، ويفر من صل خبيثٍ إلى حيةٍ صماد، حتى بغث مكرهم، وأعجل عن التلاقي أمرهم ويرد بال أمرهم، فعند ذلك اعتزلنا محلة الفتنة، وملنا إلى مظنة الأمنة، "لقد عكس هذا النسق اللغوي عدول الألفاظ عن معانيها الحقيقية وقد اعتمد على البنية الفعلية في ذلك والتي حققت تواصلاً دلالياً بين الكلمات والجمل عن طريق إيجاد علاقات جديدة بين الألفاظ، وعن طريق البدء بالفعل الماضي ثم الانتقال إلى الفعل المضارع لاستحضار الحدث والتأكيد عليه لصنع المقابلة بين الأزمنة (الماضي، الحاضر) لإثارة القارئ حتى يتفاعل مع النص من الداخل، ففي الواقع" ... هناك قراءتان: قراءة الناقد والقارئ طبعاً، وقراءة النص التي يخلقها النص، يعني النص نفسه يفتح فضاء أو لا يفتح."(42).
ويبدو أن هذا النص قد فتح فضاء خاصاً، ودعا إلى قراءة تنبع من داخله وتفترض الانطلاق من سياقه التاريخي والاجتماعي والسياسي، إلاّ أن هذا الانفتاح ظل محدوداً لطبيعة الموضوع وتقييده بالظرف الزمني فجاء راصداً للحوادث طارحاً لموقف الكاتب وسلطانه فأوجد سياقاً خاصاً به قد يتقاطع مع سياقات مشابهة له، فالحوادث التاريخية كثيراً ما تتشابه.
2- بنية النص الدلالية:
يرتكز نص ابن دفرير على فكرة محورية تقوم على تحديد الموقف لأخذ العبرة والعظة، فرصدت لذلك مجموعة من الألفاظ ترتبط دلالياً لتعبر تعبيراً صادقاً عن الأسى والحزن والأسف.
والواقع أننا لا نستطيع أن ندرك كلمة من كلمات هذا النص إلاّ ضمن مجموع الكلمات المتصلة بها دلالياً أو كما يقول ليونس LYONS "يجب دراسة العلاقات بين المفردات داخل الحقل أو الموضوع الفرعي."(43) وبهذا أسهمت تلك الألفاظ في بناء حقل دلالي خاص بهذا النص، والذي يمكن أن يحيل إلى نصوص أخرى مشابهة من الأدب الحمادي، وقد تتقاطع مع نصوص من الأدب العربي؛ لأن الحوادث متشابهة والمواقف منها أيضاً متشابهة.
لقد اعتمد هذا النص على علائق إسنادية نهلت من خصائص اللغة العربية الإبداعية من خلال إيجاد علاقة طردية بين الكلمات المكونة لهذا النص، والتي تجسد حقلاً دلالياً، فالحقل الدلالي هو مجموعة من المفاهيم تنبني على علائق لسانية مشتركة، ويمكن لها أن تكون بنية من بنى النظام اللساني.(44)
فلا شك أن هناك علاقة لا انفصام لها بين الكلمات المكونة لهذا النص، فلو أخذنا على سبيل المثال قوله "... فعند ذلك اعتزلنا محلة الفتنة، ووصلنا إلى مظنة الأمنة، وبعثنا في أحياء هلال نستنجد منهم أهل النجدة ونستنفر من كنا نراهم للهمم عدة "لوجدناه حقلاً جزئياً ينضوي تحت الحقل الكبير للنص، ولوجدنا أيضاً أن هذا النسق اللغوي قد استخدم ألفاظاً من مثل "اعتزل، مال، بعث، استنجد" وربط هذه الألفاظ بكلمات أخرى كقوله "الفتنة، مظنة الأمنة، أهل النجدة، عدة" وبهذا فقد أسهمت كل هذه المداخل المعجمية في رسم الحقل الدلالي الخاص بها، والذي هو جزء من الحقل الدلالي العام. ويبدو "أن تصور الحقول الدلالية التي تكون نظاماً لسانياً ما، يختلف من باحث إلى آخر، وما ذلك إلاّ لأن تحديد الحقل يخضع خضوعاً إلزامياً لذاتية الباحث نفسه دون تدخل أي عامل موضوعي أو لساني بحث."(45) ولعل هذا التحديد متعلق بالناحية النظرية، أما من الناحية التطبيقية، فإن تحديد الحقل يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالسياق الذي يجمع هذه الألفاظ أو تلك في حقل دلالي معين أو يرصدها في حقل دلالي آخر. وربما يخضع هذا الأمر للاستعمال والإبداع اللذين يجوزان هذه العملية عن طريق العلائق الإسنادية التي يوجدانها؛ لأن هناك مقاييس موضوعية(46) تساهم في ضبط الحقل الدلالي.
إن البنية الدلالية لهذا النص تستمد حضورها من الخطاب السياسي السلطوي الذي فرض نفسه على الخطاب الحمادي في ذلك العصر، وتندرج هذه البنية في السياق الفكري والثقافي للدولة الحمادية مشكلة بنية مفرداتية للخطاب والتي توزعت على المحاور التالية:
أ- ألفاظ دالة على الله تعالى، أو على صفة من صفاته: الله، شاء، القسم والقدر، الجزاء.
ب- ألفاظ دالة على الرسول، صلى الله عليه وسلم، أو على صفة من صفاته: النبي، محمد، خير البشر.
جـ- ألفاظ دالة على الإنسان أو على فعل من أفعاله، وهي أغلب الألفاظ التي جاءت بعد حمد الله والصلاة على رسوله من مثل خان، ضبع، أهل موالاتنا، أغرى، الاستعانة، المكر... الخ.
II ومن أهم الكتاب الحماديين، أبو القاسم عبد الرحمن الكاتب المعروف بابن القالمي، والذي قيد له صاحب الخريدة نصاً لعله من أهم نصوص النثر في الأدب الحمادي، وهو نص خفيف جمع بين الغرض من وضعه، والإنسيابية والتدفق للتعبير والإبلاغ.
النص:
"ولما كنت في مضمار سلفك جارياً، ولنا موالياً، وفي قضاء طاعتنا متباهياً، رأينا أن نثبت مبانيك، ونؤكد أواخيك، ونوجب لك ولخلفك، ما أوجبه سلفنا لسلفك، تمييزاً لهم عن الأكفاء، ومجازاة لهم عن محض الصفاء والولاء، فاستدم هذه النعمة العظيم خطرها بالشكر فأنت به جدي [ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً إن الله غفور شكور]"(74)
1-في البنية الدلالية للنص:
يندرج هذا النص في إطار أدب المعاملات الرسمية بين الحاكم ورعيته، والرعية والحاكم، كالنصح والإرشاد. وقد استفاد من مستويات دلالية توحي بوضوح الخطاب وتضفي عليه نوعاً من الاستحباب والتودد والاقتراب، ويبدو أن التحليل الدلالي هو الذي يكشف عن هذه المستويات، "وبموجب مبدأ البنية المكونة تتألف الوحدات اللغوية الكبرى من وحدات لغوية أصغر، وأن أي جزء من الكلام هو بنيوياً مؤلف على أكثر من مستوى، والمستويات اللغوية الثلاثة: الصوتي، التركيبي، والدلالي تتكامل عناصرها في خدمة القدرة اللغوية والتي بوساطتها تقوى على توليد الجمل، أياً كانت، كما نقوى على فهمها."(48) ونحن لا يمكننا الاقتراب من النص إلا من خلال هذه المستويات التي تكشف عن جماليته، والتي من الصعب الفصل بينها في إحداث التأثير في المخاطب وتوصيل الرسالة.
أ- المستوى الصوتي:
لقد جاء الصوت في هذا النص غنياً ومثمراً للعملية التواصلية، وقد شكل تكراره ظاهرة مميزة، خاصة في أواخر الفواصل، فساهم في البناء الدلالي للنص، للصلة القائمة بين الصوت وما يدلّ عليه، أو بين الرمز ودلالته في ذهن المتكلم وذهن المخاطب، والذي اعتمد على مبدأ الاختيار، والميل إلى أصوات دون غيرها؛ فانتقى لذلك ألفاظاً تساعد حروفها على التواصل والالتقاء نتيجة انسجام هذه الحروف وتلاؤمها من الناحية الصوتية، وهذا التآلف والتناسق هو الذي يجعل اللفظ سهلاً على اللسان من جهة، وعلى السمع من جهة أخرى،، وقد سمى الجاحظ هذه الخاصية "القران"(49) وهي ترتبط ببنية اللفظ الصوتية التي تتمثل في انسجام الأصوات المكوّنة له وتآلفها- وقد اهتم الدارسون العرب المحدثون بهذه الخاصية، يقول أحدهم "لقد لاحظ الأقدمون أنّ الكلمة العربية إذا أريد لها أن تكون فصيحة مقبولة: فإنّها تتطلب في مخارج حروفها أن تكون متناسقة ولا تتسامح اللغة فتتخلى عن هذا المطلب إلا في الحدود في مثل حالات الزيادة والإلصاق ونحوهما."(50)
ويبدو أن هذا النص قد حقق هذا الهدف، فكانت بنياته منسجمة صوتياً أسهمت في جماليته، والذي جاء في فواصل نهايتها بأربعة أصوات، فالفواصل الأولى انتهت بصوت الياء الممدودة والتي تدعو المخاطب وتناديه ليتقبل الرسالة- وكانت هذه المقاطع الصوتية ممدودة لتعلن عن المشاركة الوجدانية بين المتكلم والمتلقي، وتساهم في فصاحة الكلام ووضوحه- قال ابن القالمي"ولما كنت في مضمار سلفك جارياً، ولنا موالياً، وفي قضاء طاعتنا متباهياً" فجاء الخطاب واضحاً مباشراً يعتمد على مبدأ الجملة الشرطية لاستحضار مجموعة من الأفعال المرجعية التي تبرر ما يأتي بعدها وتدعو إليه، وتحفز المخاطب وتهيئه إلى سماع الباقي وتقبله، بل إنها قد توّجه الخطاب بحسب إرادة المتكلم، ولهذا جاءت الفواصل الثانية موجهة الرسالة إلى المخاطب مباشرة جواباً عن الجملة الشرطية قال الكاتب"... رأينا أن نثبت مبانيك، ونؤكد أواخيك، ونوجب لك ولخلفك، ما أوجبه سلفنا لسلفك.." ويبدو أن صوت الكاف في أواخر هذه الفواصل جاء لتنبيه المتلقي، وتوجيه الخطاب إليه للكشف عن العلاقة التي تجمع المتكلم بالمخاطب، وحرف الكاف حرف ذو جرس قوي يأتي للتوكيد على المعنى، والتنبيه والإشارة إلى ما يريده المتكلم، وقد قرنه ابن القالمي بالأسماء ليعقد القران بين هذه الألفاظ الدالة على أفعال إنجازية، وبين المخاطب للوصول إلى المشاركة الوجدانية والتفاعل الحيوي والشعور بالمسؤولية.
ويبدو أن الصوت لن يؤدي دوره المنوط به إلا ضمن سياق تركيبي، على الرغم من أن لكل كلمة مفردة صوتاً فعلياً يساهم في تحديد دلالتها، فإن الكلمة إذا ما ركبت مع كلمات أخرى أنتجت مجموعة من الأصوات توجه معنى النص، ضمن السياق في نظام تركيبي وترتيبي للجمل. ومن هنا يصبح ما نبه عليه ريني وليك أمراً مهماً. يقول "لقد حلل اللغويون المحدثون الأصوات الكامنة على أنها عناصر أولى ذات دلالة كما أن بإمكانهم أن يحللوا أيضاً الوحدات الصوتية المعنوية الأولى، والوحدات النحوية؛ فالجملة مثلاً لا توصف فقط بأنها نطق مقصور على غرض معين، بل إنها طراز ترتيب الكلام."(51) ولا شك أن ابن القالمي قد ربط بين أصوات هذا النص وبين تراكيبه وبين معانيه وقد وفق في ذلك أيما توفيق.
ثم كانت الفواصل الصوتية الأخيرة للنص"... تمييزاً لهم عن الأكفاء، ومجازاة لهم عن محض الصفاء والولاء، فاستدم هذه النعمة العظيم خطرها بالشكر فأنت به جدير..." فجاءت هذه الفواصل منطلقة الصوت معتمدة على صوت الهمزة المسبوق بألف المد لتفصح عن الغرض، وتعلن في الوقت ذاته نهاية الرسالة باقتباس من القرآن الكريم الذي زود النص بحمولة تنهل من حمولة الخطاب الديني الإسلامي، ويبدو أن أي تغيير يصيب البنية الصوتية للنص أو حتى التركيبية يؤدي إلى فساده وضياع غرضه.
لقد جاء النص فصيحاً مبيناً لفصاحة ألفاظه ووضوحها، فهي ليست غريبة وغير مخالفة للقياس في اللغة العربية، ثم إن حروفها غير متنافرة وهذه صفات اشترطها العلماء في فصاحة اللفظ. قال أحد الباحثين "وإذا كانت سمة الفصاحة تتحقق لدى المتكلم بوضوح النطق وطلاقة اللسان، فإن فصاحة الكلمة تتحقق بالتناسق أو التآلف الصوتي الذي يجعل النطق باللفظ سهلاً خفيفاً عن اللسان من جهة، كما يجعل أثره السمعي واضحاً مقبولاً على الأذن من جهة أخرى."(52) ويبدو أن نص ابن القالمي قد كان له ذلك فحقق الفصاحة المرجوة في كل نص إبداعي لتأكيد العملية التواصلية وقد ابتعد عن ظاهرة التنافر الصوتي.
ب-المستوى اللغوي:
لقد اختار ابن القالمي لنصه مستوى لغوياً تقليدياً سار فيه على نهج القدماء في كتابة النصوص النثرية، فبنى النص بناء تركيبياً يرتكز على أنساق لغوية تستفيد من جماليات التعبير للغة العربية.
1- الأنساق اللغوية للنص:
لقد جاء النص في ثلاثة أنساق لغوية تتكون من وحدات تركيبية تتفاوت في الطول والقصر والتوزيع بحسب ورودها في النص. والتوزيع كما حدده أحد الباحثين بقوله "يحدد توزيع عنصر بأنه مجموع العناصر التي تحيط به، ومحيط عنصر (أ) يتكون من ترتيب العناصر التي ترد معه، أي العناصر الأخرى التي يتواقف كل منها في موقع معين مع العنصر في تركيب كلامي، والعناصر التي ترد مع العناصر (أ) في موقع معين تدعى انتقاء هذا العنصر لهذا الموقع."
(53) ويبدو أن ابن القالمي قد انتقى هذه العناصر التي تحقق المحتوى الفكري لكلامه في الواقع، وتجسد تلك المعاني الذهنية التي أراد التعبير عنها، والكاتب في الواقع "ليس حراً سوى في اختياره لوحدات الفئات التي ترد عادة معاً، ولا يقوم باختيارها إلا في الترتيب الذي ترد فيه هذه الفئات."(54)
لقد جاءت هذه الوحدات التركيبية للأنساق اللغوية المكونة لهذا النص متآلفة متجانسة، تدعو الواحدة الأخرى في شكل فني خفيف، وكأنها تنتمي إلى حقل دلالي واحد تكشف عن حسن توزيع الكاتب لها، وقد جاءت هذه الأنساق كالآتي:
النسق الأول: يتكون هذا النسق من الوحدات التركيبية التالية:
أ- ولما كنت في مضمار سلفك جارياً
ب- ولنا موالياً
جـ- وفي قضاء طاعتنا متباهياً
لقد جاء هذا النسق في ثلاث وحدات متفاوتة من حيث الطول والقصر ليعكس إرادة الكاتب في تهيئة المخاطب بجملة شرطية تجعله في وضع تأهب وترقب لسماع المزيد والاستعداد للقيام بما يطلب منه؛ ولهذا جاءت هذه الوحدات اللغوية محصورة الدلالة تدعو إلى معنى هو ردف المعنى المركزي أو صنوه أو ما يترتب عنه. لقد كانت الوحدتان (أ،جـ) طويلتين بالقياس إلى الوحدة (ب) لحاجة المعنى المعبر عنه لذلك. ثم إن الوحدة (أ) جاءت في ثلاثة عناصر هي المخاطب والسلف واتباع آثار السلف، ثم هناك الفعل الكلامي الذي يربط بين هذه العناصر في وحدة تركيبية اعتمدت التقديم والتأخير بما تقتضيه خصائص اللغة العربية في التعبير، فلو قلنا ولما كنت جارياً في مضمار سلفك لفسد المعنى وذهب رونقه.
أما الوحدة الثانية (لنا مواليا) فكانت في عنصرين هي المتكلم والمخاطب والعلاقة التي تجمع بينهما هي الولاء الذي لا يكون إلا بين اثنين؛ ولهذا لم يحتج الكاتب إلى أكثر من هذا ليغطي هذا المعنى. ثم إن (نا) المتكلم جاءت لتدل على عظمة المتكلم وعلو شأنه ومرتبته، والتي تحتم على المخاطب الولاء والاحترام والانقياد، وقد اقترنت بـ(موالياً) لتعكس تلك العلاقة الرابطة بين المتكلم والمخاطب وهي علاقة تجاور وبناء، وعلاقة تزكية المعنى ليبدو فخماً، خاصة إذا قرأ في سياقه التاريخي والاجتماعي والأدبي.
وجاءت الوحدة الثالثة "وفي قضاء طاعتنا متباهياً" فعلاً كلامياً يؤكد تلك العلاقة التي تربط المتكلم بالمتلقي إلى درجة التباهي بالإخلاص والطاعة، والقيام بالخدمة. لقد جاءت هذه الوحدة في موقع المفعول لفعل وفاعل "كنت" وهي رابطة النسق بوحداته الثلاثة.
-النسق الثاني: لقد تشاكل هذا النسق مع النسق الأول، فأسهم في تقوية المعنى عن طريق وحداته المتفاوتة نسبياً في الطول، فأعطت النص إيقاعاً خاصاً. لقد تكوّن هذا النسق من الوحدات التالية:
أ- رأينا أن تثبت مبانيك
ب- ونؤكد أواخيك
ج- ونوجب لك ولخلفك ما أوجبه سلفنا لسلفك
د- تمييزاً لهم عن الأكفاء، ومجازاة لهم عن محض الصفاء والولاء
ولعل اللافت للنظر أن هذه الوحدات قد غلبت عليها الجمل الفعلية، والتي جاءت لتدلّ على الحدث والحركة والفاعلية، وتطالب بموقف يكون جواباً على الجملة الشرطية التي بدأ بها النسق الأول وقد اختار الكاتب الفعل "رأى" هذا الفعل المفتوح الدلالة، والذي يقبل الدخول على الأسماء وعلى الأفعال على حد سواء ليوجهها نحو دلالات جديدة ومتنوعة تفهم من سياق الكلام. لقد وفق ابن القالمي في اختيار هذه الوحدات المكوّنة لهذا النسق، كما وفقّ في تركيب هذه الوحدات داخلياً على مستوى كل واحدة، وخارجياً على مستوى كل الوحدات من حيث المعنى والمبنى، ولعل "التطابق بين جدول التوزيع الذي للرصف، وجدول الاختيار الذي للنمطية الاستبدالية يقرر الانسجام بين مفردات النص الأدبي، باعتبارها* علامات استبدالية، أي وحدات لغوية معجمية في عملية الإبلاغ."(55)
إنّ وحدات هذا النسق جاءت متعادلة من حيث دلالة التركيب على معناه، فتعادلت التراكيب مع دلالتها، وأدّت إلى نمطية لغوية ومعجمية لهذا النص، وعلى الرغم من أنّ صيغته كانت تقليدية، إلاّ أنه نص قائم بذاته، له خصوصية أسلوبية وبنوية تتجه دلالياً نحو المعنى لتكشف عن المضمون الإبلاغي للعلامات اللغوية عن طريق تشاكل ألفاظ هذا النسق وتقابلها، كاقتران تثبيت المباني وتوكيد الأواخي، حيث تطابقت هذه الألفاظ مع بعضها لتقوية المعنى وإرساليته.
لقد احتوى هذا النسق على ألفاظ متقابلة، من مثل "توجب لك ولخلفك، ما أوجبه سلفنا لسلفك" فذكره الخلف والسلف كان مكوناً مباشراً اعتمد على الجمع بين هذين المتناقضين، وبهذا أدى هذا النسق وظيفته الأسلوبية المتعددة الجوانب من حيث علاقتها، كعلاقة النص بالمتكلم، أو علاقة المتكلم بالمخاطب، أو علاقة النص بالمخاطب إلى غير ذلك من العلاقات الممكنة.
لقد حدد جاكبسون الوظيفة الأسلوبية انطلاقاً من مثل هذه العلاقات وكانت هذه الوظيفة متنوعة انطلاقاً من الرسالة والباث والمتلقي.(56)
1-الوظيفة المرجعية : وهي متمركزة حول السياق اللفظي أو القابل أن يكون لفظياً ذلك الذي تحيل إليه الإرسالية.
2-الوظيفة الإنفعالية : وهي متمركزة حول المرسل
3-الوظيفة الإفهامية : وهي متمركزة حول المرسل إليه
4-الوظيفة الانتباهية : وهي متمركزة حول الحفاظ على التواصل بين المسنن ومفكك السنن.
5-الوظيفة الميتالغوية: (المعجمية) وهي متمركزة حول السنن المشترك بين المرسل والمرسل إليه.
6-الوظيفة الشعرية : وهي متمركزة حول قصد الإرسالية باعتبارها* كذلك- وهذه الوظيفة هي التي توضح الجانب الملموس من الدلائل، وتعمّق هذه الوجهة نفسها، الثنائية الأساسية للدلائل والموضوعات.
-النسق الثالث: هذا النسق نهاية للرسالة وختاماً لها، وقد جاء في وحدة لغوية واحدة مرتكزة على اقتباس من القرآن الكريم. قال ابن القالمي: "... فاستدم هذه النعمة العظيم خطرها بالشكر فأنت به جدير، (ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكورا]، وبذلك قوّى هذا الكتاب من خطابه الإقناعي بهذا الاقتباس الذي كان بمثابة قفل الخطاب، وحسناً فعل لما استثمر الحمولة المعرفية للنص الديني في سبيل تمرير رسالته، وفي الوقت ذاته توجيه المخاطب نحو فعل إنجازي معين، ولم يكن هذا الاستثمار استثماراً مغلقاً يستعمل النص الديني استعمالاً معيارياً، بل أوجد آفاقاً مفتوحة من ربطه لما سبق من الكلام، فكان تزكية للمعنى وتفخيماً له لأهميته.
111- ومن النصوص النثرية المهمة في هذا العصر، نص لأبي بكر ابن القصيرة كتبه عن أبي الحسن علي بن يوسف بن تاشفين إلى صاحب قلعة حماد إجابة له عن رسالة بعث بها إليه. يقول ابن القصيرة: "وصل كتابك الذي أنفذته من وادي منى صادراً عن الوجهة التي استظهرت عليك بأضدادك، وأجحفت بطارفك وتلادك، وأخفقت فيها من مطلبك ومرادك، فوقفنا على معانيه، وعرفنا المصرح به، والمشار إليه فيه، ووجدناك تجعل سيئك حسناً، ونكرك معروفاً، وخلافك صواباً بيّناً. وتقضي لنفسك بفلج الخصام، توليه الحجة البالغة في صحيح الأحكام، ولم تتأول أنّ وراء كل حجة أدليت بها ما يدحضها. إزاء كل دعوة أبرمتها ما ينقضها."(57).
يعدّ هذا النص من أرقى النصوص النثرية الجزائرية في العصر الحمادي لاشتماله على خصائص أسلوبية جمالية في حدود نظام لغوي خاص يكشف عن حسن تمكن الكاتب من ناصية اللغة، وتطويعها لخدمة متصوراته الذهنية، فكانت رسالته رداً منطقياً على رسالة صاحب القلعة، قرنت الحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان؛ فكانت خطاباً إقناعياً يكشف عن قوة شخصية الكاتب، ووثوقه في نفسه. حيث انطلق من موقع قوة في مخاطبة صاحب القلعة، وكانت لغته لغة داحضة لكل مزاعم الرسالة الأولى.
خصائص النص الأسلوبية:
أ- ويبدو أنّ ابن القصيرة استفاد من الخصائص الأسلوبية للغة العربية، حيث استثمر الألفاظ المتقابلة والألفاظ المتشاكلة في بناء لحمة النص وبنيته، وأوجد علاقة إسنادية بين هذه الألفاظ في سبيل تكوين الجهاز اللغوي لهذه الرسالة الذي ينهل من حقيقة هذه الألفاظ ومن مجازها في تناسب وتناسق يخدمان هذا الخطاب. "فأقسام التقابل يمكن أن تندرج تحت مفهوم التناسب، حيث تتقابل وحدات معنوية مع وحدات معنوية أخرى نحو قوله تعالى: "فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً" فالضحك يتناسب مع البكاء، والقلة تناسب الكثرة." (85)
إنّ هذا الصنيع يعمل على تحريك الدلالة وتحويلها مما يجعل للجهاز اللغوي قدرات تعبيرية، وآفاقاً واسعة للكشف عن المتصورات الذهنية عن طريق هذه الاستعمالات.
وابن القصيرة استعمل الألفاظ هذا الاستعمال، يقول، على سبيل المثال: "... فوقفنا على معانيه، وعرفنا المصرح به، والمشار إليه فيه، ووجدناك تجعل سيئك حسناً، ونكرك معروفاً، وخلافك صواباً بيّناً..." فوّفق الكاتب في إيجاد تناسب بين الألفاظ المتقابلة كالتصريح، والإشارة أو كالسيء والحسن، أو النكر والمعروف، أو الخلاف والصواب.
وعلى الرغم من تناقض هذه الألفاظ، إلاّ أنها في هذا النص قد استطاعت أن تتناسب وتتوافق في سبيل الكشف عما أراده الكاتب، وفي التأثير على المخاطب خلال تمكّنه من اللغة، فشكّلها كيف ما أراد، واستعمل الألفاظ استعمالاً متقابلاً مراعياً في ذلك قواعد اللغة التعبيرية؛ لأن المتكلم عندما يختار المادة اللغوية يقع بلا شك تحت تأثير النظام الخاص بلغته، والذي يأخذ بهذه الخاصية الأسلوبية سواء عند المتكلم أو عند السامع.
وتؤدي هذه الخاصية إلى التوازن اللفظي والتوازن المعنوي للنص من خلال فواصله المكوّنة له.
إنّ هذه الفواصل أدّت إلى تكرار نمطي يأخذ صورة أكثر إيقاعاً، ويوّلد تناسباً صوتياً يساهم في الكشف عن الغرض من وضع الخطاب، وقد اشترط "البلاغيون أن تكون فواصل الأسجاع موضوعة على أن تكون ساكنة الإعجاز، موقوفاً عليها بالسكون في حال الوقف والدرج؛ لأن الغرض معه هو التناسب بين القرائن أو المزاوجة بين النثر وذلك لا يتم إلا بالوقف والسكون." (59) وعودة إلى ما ذكرناه من النص تؤكد هذا التكرار النمطي الذي جاء عن طريق تقابل الألفاظ ومعانيها، فالتصريح يقابل الإشارة، والإحسان يقابل الإساءة وهكذا.
ثم إنّ الفواصل المكوّنة للنص اتسمت بخاصية الوقف والسكون سواء الفواصل الأولى التي انتهت بصوت الكاف، أو الثانية التي انتهت بصوت الهاء، ثم الفواصل الأخرى التي انتهت بالتنوين إلى آخر النص وبهذا جاء فصيحاً بعيداً عن التنافر والتماثل الذين يؤديان إلى اللبس والغموض معتمداً على مبدأ التخالف الذي يحقق التناسب بين المعاني المتخالفة ويعطي الخطاب أبعاداً جمالية تحقق التواصل.
ب- لقد اختار الكاتب ألفاظه اختياراً موفقاً من حيث التقابل أو التشاكل في سبيل تزكية المعنى وتوضيحه وتوصيله إلى المخاطب، يقول ابن القصيرة، على سبيل المثال: "... ولم تتأول أنّ وراء كل حجة أدليت بها ما يدحضها. إزاء كل دعوة أبرمتها ما ينقضها." فأسهم مثل هذا التشاكل والتجاور في تقوية القدرة الإيحائية للنص؛ لأن التشاكل يقوم "على اكتساب الألفاظ من المجاورة تمازجاً في الدلالة يخرجها عن النمط المألوف، ويعدل بها عن دلالة المطابقة إلى الناحية الإبداعية، وهذا التمازج لا يتمثل في التكرار المجسم في العبارة، بل إنه يتحقق ذهنياً من خلال تقدير المجاورة في الدلالة وما يستتبع ذلك من تمازجها."(60)
لقد استعمل الكاتب ألفاظه استعمالاً إبداعياً يعتمد على مراوغة اللغة من خلال إعطاء هذه الألفاظ دلالات جديدة عن طريق تجاوزها وتوزيعها داخل النص، فأفاد في تشاكل الجمل فيما بينها لتحقق التواصل من خلال العلائق الإسنادية التي أوجدها الكاتب؛ لأنّ اللفظ قد يحمل أكثر من دلالة لعدم ارتباطه بسياق واحد، وهو ههنا مرتبط بالسياق الذي أورده فيه ابن القصيرة. ويكشف هذا العمل عن حسن تصرف في الأداء الفنيّ للغة. "فالكلام يدور بين احتمالات ثلاثة هي خلو الذهن عن الحكم، أو التردد في قبوله، وإنكاره كلية، والصياغة تأخذ خواصها التركيبية في كل حالة باستخدام الأدوات اللغوية التي تقدم الكلام خالياً من التوكيد أو المؤكد مراعاة لمقتضى الحال."(61)
ويبدو أنّ هذا النص لا يتماشى والاحتمال الأول، بينما يتردد بين الاحتمالين الثاني والثالث، فالمتخاطبان على علم بحال الخطاب، وهناك تردد في قبول الحكم أو إنكاره كلية، ولهذا عمد ابن القصيرة إلى إقناع المخاطب، ونقله من حال التردد إلى حال القبول والانصياع، نقله من اليقين فيما يزعم إلى الشك فيه والتحول عنه إلى اليقين المخاطب، فجاءت الرسالة رداً منطقياً على رسالة صاحب القلعة في أسلوب متين، وفي سجع جميل، وبألفاظ منتقاة فصيحة محققاً لشروط الصناعة اللفظية التي اشترطها ابن الأثير(1) وهي:
1- اختيار الألفاظ المفردة، وحكم ذلك اللآلي المبددة، فإنها تتخير وتنتقي قبل النظم.
2- نظم كل كلمة مع أختها المشاكلة لها، لئلا يجيء الكلام قلقاً نافراً عن مواضعه، وحكم ذلك حكم العقد المنظوم في اقتران كلؤلؤة منه بأختها المشاكلة لها.
3- الغرض المقصود من ذلك الكلام على اختلاف أنواعه، وحكم ذلك حكم الموضع الذي يوضع فيه العقد المنظوم، فتارة يجعل إكليلاً على الرأس، وتارة يجعل قلادة في العنق، وتارة يجعل شنقاً في الأذن، ولكل موضع من هذه المواضع هيئة من الحسن تخصه.
جـ- جماليات هذا النص، حسن استعماله الضمائر، والتحول من ضمير المخاطب إلى ضمير الغيبة ثم العودة إلى ضمير المخاطب ثانية، وهكذا دواليك. فقد انتهت الفواصل الأولى من هذه الرسالة بضمير الكاف الذي يستعمل للدلالة على المخاطب. يقول ابن القصيرة "وصل كتابك الذي أنفذته من وادي منى صادراً عن الوجهة التي استظهرت عليك بأضدادك، وأجحفت بطارفك وتلادك، وأخفقت فيها من مطلبك ومرادك." وهذا لأنّ الكاتب أراد أن يستحضر المخاطب ويواجهه مباشرة لشدّ انتباهه وتشويقه ليكون أكثر جدية في استقبال الرسالة وتتبع مضمونها، وإعطائها القيمة والاهتمام اللذين تحتاجهما.
ثم انتقل إلى الضمير الغائب في الفواصل التالية"... فوقفنا على معانيه، وعرفنا المصرح به، والمشار إليه فيه." ليوّجه الحديث عن الرسالة الأولى، وهذا نوع من الالتفات.
"والالتفات نقل الكلام من حالة المتكلم أو الخطاب أو الغيبة إلى حالة أخرى."(62) وقد أراد الكاتب أن يلفت النظر إلى الرسالة، موضوع الحديث، التي أراد الردّ عليها.
وليكشف عن أن استقبالها تم بطريقة جيّدة وحسنة، فقد فهمت كل معانيها الظاهرة والخفية، الحقيقية والمجازية، وبعد هذا عاد الكاتب إلى كاف المخاطب حيث يقول: "ووجدناك تجعل سيئك حسناً، ونكرك معروفاً، وخلافك صواباً بيّناً. وتقضي لنفسك بفلج الخصام، توليه الحجة البالغة في صحيح الأحكام" وتحمل هذه النقلة خصوصية أسلوبية؛ ذلك أنه أراد أن يخص المخاطب ثانية بالحديث ويوجه الكلام إليه ليكون ذلك أكثر إقناعاً وتوجيه لهذا المخاطب، وليضعف عنده قوة الحجة والبرهان، ليسفه من أمره وشأنه وشأن رسالته. وجمع في الفواصل التالية بين الضميرين، يقول "ولم تتأول أنّ وراء كل حجة أدليت بها ما يدحضها. إزاء كل دعوة أبرمتها ما ينقضها." لينقل الحديث إلى مستوى آخر لتقوية الخطاب ليكون إقناع وبذلك يؤدي وظيفته.
[grade="0000FF FF6347 008000 4B0082"]الإحالات
1- Bourdicu. P cc que parler vcut dire ED Fayard 1982. P. 27
2- عبد الحليم عويس 1980 دولة بني حماد 28 ط1 دار الشروق. وينظر أحمد شلبي 1972 التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية 6: 168 ط1 مكتبة النهضة المصرية.
3- دولة بني حماد 268.
4- ينظر عبد العزيز بن عبد الله 1962 تاريخ الحضارة المغربية 2: 22 دار السلمى- دار البيضاء.
5- دولة بني حماد 247.
6- الكعاك عثمان بلاغة العرب في الجزائر 29 مكتبة العرب تونس.
7- رلبح بونار 1968 المغرب العربي تاريخه وحضارته 283 الشركة الوطنية للنشر والتوزيع.
8- ينظر الكعاك عثمان 1925 موجز التاريخ العام للجزائر 280 نشر مكتبة العرب بتونس.
9- دولة بني حماد 249.
10- المغرب العربي 282.
11- ابن الأثير الكامل في التاريخ 8: 91 ط:6 دار الكتاب العربي بيروت.
12- ينظر ابن بسام القسم الرابع من المجلد الأول من الذخيرة- كما ترجم المقري في نفح الطيب لمائتين وخمسين ممن رحلوا من الأندلس إلى المشرق من العلماء والأدباء والفقهاء، وترجم لمن رحلوا من المشرق إلى الأندلس.
13- أبو العباس الغبريني 1328هـ عنوان الدراية من عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية 32 المطبعة الثعالبية الجزائر.
14- عبد القادر جغلول 1982 مقدمات في تاريخ المغرب العربي القديم والوسيط 40.
15- المرجع نفسه 41.
16- نفسه 43.42.
17- ينظر دولة بني حماد 283.
18- مقدمات في تاريخ المغرب العربي 59.
19- المرجع نفسه 72.71.
20- دولة بني حماد 285.
21- مقدمات في تاريخ المغرب العربي 72. 73. 74.
22- المرجع نفسه 78.
23- المرجع نفسه 78
24- أحمد محمد أبو زراق 1979 الأدب في عصر بني حماد 173 الشركة الوطنية للنشر والتوزيع.
25- ينظر لسان الدين بن الخطيب 1964 أعمال الأعمال فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام 71- 85 القسم الثالث، تح أحمد مختار العبادي، محمد إبراهيم الكتاني- الدار البيضاء.
26- موجز التاريخ العام للجزائر 267.
27- الأدب في عصر دولة بني حماد 174.
28- ابن الأثير الكامل في التاريخ 8: 102.
29- العماد الأصفهاني 1973 خريدة القصر وجريدة العصر قسم شعراء المغرب 1: 179 تح محمد المرزوقي. محمد العروسي المطوي، الجيلاني بن الحاج يحيى، النشرة الثانية. الدار التونسية للنشر.
30- عبد السلام المسدي 1983 النقد والحداثة 59 ط1 دار الطليعة بيروت.
31- محمد العيد 1989 النقد والإبداع الأدبي 61 ط1 دار الفكر للدراسات القاهرة.
32- فندريس. ج. اللغة 36 تر: عبد الحميد الدواخلي، محمد القصاص. مكتبة الأنجلو مصرية.
33- فائز الداية 1985 علم الدلالة العربي 77 ط1 دار الفكر دمشق
34- ابن الأنباري الأضداد.
35- ميكائيل ريفاتير 1993 معايير تحليل الأسلوب 56 ط1 تر: حميد لحمداني منشورات دار سال، الدار البيضاء.
36- اللغة والإبداع الأدبي 207.
37- النقد والحداثة 58.
38- عبد الملك مرتاض 1992 أ. ي. 70 ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر.
39- اللغة والإبداع الأدبي 35.
40- عز الدين مناصرة وآخرون- ندوة العلوم الإنسانية والقراءات 11 مجلة كتابات معاصرة- المجلد الرابع العدد 15 أيلول 1992 بيروت.
41- أحمد مختار عمر 1988 علم الدلالة 80 ط1 عالم الكتب القاهرة عن Theory og mcaning. 14.
42- ينظر. Gcorgc Mounin clcfs pour la linguistiquc P. 160 Paris Scghcr 1971
43- أحمد حساني 1994 مباحث في اللسانيات 164 ديوان المطبوعات الجامعية- الجزائر.
44- المرجع نفسه 164 وما بعدها.
45- الشورى: 28.
46- الخريدة: 180- 181
47- عدنان بن ذريل 1981 اللغة والدلالة 111 منشورات اتحاد الكتاب العرب- دمشق.
48- الجاحظ، أبو بحر عثمان 1969 البيان والتبيين 1: 206 تح عبد السلام هارون مطبعة الخانجي مصر.
49- تمام حسان اللغة العربية معناها ومبناها 265 دار الثقافة الدار البيضاء المغرب.
50- رينيه ويليك 1985 نظرية الأدب 159 ط 111 تر: محيي الدين صبحي المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
51- كريم زكي حسام الدين 1992 الدلالة الصوتية 148 ط1 مكتبة الأنجلو مصرية.
52- زكرياء ميشال 1980 الألسنية (علم اللغة والحديث) مبادئها وأعلامها 254 ط1 المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر بيروت.
53- المرجع نفسه 246.
54- عدنان بن ذريل الأسلوبية 256 مجلة الفكر العربي العدد 25 عدد خاص بنظرية الأدب والنقد الأدبي.
55- ينظر معايير تحليل الأسلوب 68.
56- أبو نصر الفتح بن خاقان 1320 هـ قلائد العيان في محاسن الأعيان 49 مطبعة التقدم العلمية، القاهرة.
57- محمد عبد المطلب 1984 البلاغة والأسلوبية 217 الهيئة المصرية للكاتب.
58- المرجع نفسه 218.
59- المرجع نفسه 225.
60- المرجع نفسه 192.
61- ابن الأثير المثل السائر 1: 210 ط1 تح: أحمد الحوفي، بدوي طبانة نهضة مصر
اللغة والإبداع الأدبي 15.[/grade]
نكمل إن شاء الله
عبدالله عمر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تحياتى للجميع
[align=center]وجدت هذا الكتاب ... وأعتقدت بإنه يهم شريحة كبيرة من أعضاء المنتدى والذين يسعون جاهدين لبناء شخصياتهم الابداعية وفق علم وثقافة
أتمنى أن أكون ساهمت بقليلا من المعرفة فى هذا المنتدى المعطى
إليكم الجزء الاول من كتاب أدوات النص للكاتب محمد تحريشى[/align]
[grade="00008B FF0000 008000 4B0082"]تقديم
إن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، كيف نتعامل مع النص، و ما هي الأدوات التي تستطيع أن تفك شفراته؟ وهل أن هذه المفاتيح هي عناصر خارجية على النص؟ أو أن كل نص يفرض أدواتٍ إجرائية تناسبه، وتنبع من داخله، وتستطيع أن تقدم قراءة فنية جمالية تكشف عن خصوصية الكائن والمحتمل، وتقتضي هذه القراءة ترسانة من المفاهيم الكفيلة بتقديم كتابات كثيرة يكون فيها المتلقي مستهلكاً ومنتجاً لنص جديد تمتزج فيه تجربة الكاتب و القارئ على حد سواء.
ويقف النص القرآني شامخاً بانفتاحه على قراءات متعددة، و تقبله لعدد من المقاربات الجريئة والتي قد تنغلق أمام انفتاح هذا النص وقابليته للتأويل. لقد بدأت منذ الاتصال الأول بهذا النص، مروراً بجهود علماء استطاعوا أن يقدموا قراءة حديثة كأبي عبيدة في "مجاز القرآن"، وصولاً إلى القراءات المعاصرة التي استفادت من مناهج القراءة الحداثية. وهي قراءة تضمن، في غالب الأحيان، للنص القرآني تفوقه وعلوه وامتيازه، وفي الوقت ذاته تعاملت معه كأي نص لغوي. واقتضت هذه القراءات حضور النص الغائب من خلال استحضار نصوص من المأثور من قول العرب.
واستفاد النقاد من هذه الأدوات التي قرأ بها النص القرآني في الاقتراب من النصوص البشرية، ومع ذلك يبقى السؤال مطروحاً فما هي جمالية هذه القراءة، ولنا أن نتساءل هل يقرأ النص لمضمونه، أو يقرأ لشكله؟ ونحن ها هنا لا نفصل بينهما، ولكن نشير إلى أن النص هو حامل، وفي الوقت ذاته تجربة في الكتابة تحتفل باللغة، ومن أجل اللغة، وهي قبل هذا وذاك لغة.
ويقودنا هذا إلى سؤال آخر، فهل هناك قراءة نموذجية تزعم لنفسها أنها القراءة الأولى والأخيرة، وأنها الممكنة والمحتملة؟ في الواقع ليس هناك قراءة تستطيع أن تحقق لنفسها هذا الزعم، و إنما يمكن أن تقترب منه. إنها قراءة تتجه نحو تأسيس فعل يستمر من خلال تلك الأدوات الإجرائية التي ترسم معالم جمالية للنص، و هي قراءة استفادت من ذلك التراكم المعرفي لنصوص من التراث ومن الفكر المعاصر ومن السرديات ومن الشفوية، هذا الصرح المتحدي للكتابة والمستمر فينا عبر النشاط الإنساني، الخلاق. إنها قراءة، كما دعا إلى ذلك الدكتور عبد الملك مرتاض، تذهب من الحداثة إلى التراث لتعود إلى الحداثة ثانية، إنها قراءة تأصيلية لهذا الفعل المؤسس للمعرفة.
وإذا كانت هذه حال النص القرآني، فما هي حال النص الأدبي في الجزائر؟ وما مدى استقلالية هذا الأدب العربي عن صنوه في المشرق، وعن الأدب الإنساني العالمي؟ ولماذا هذه الخصوصية؟ وهل استطاع أن يوجد تفاعلاً ضمن حقل دلالي يتماشى وطموحات المبدع في آن واحد؟ وإن كانت هناك خصوصية، فهل هي فنية أو جغرافية إقليمية ترتبط بالحيز وبالتجربة الإبداعية؟ وهل يمكن أن نقول أن هناك أدباً جزائرياً متميزاً؟ وإلى أي حد استطاعت تلك النصوص المكتوبة باللغة العربية أو باللغة الفرنسية أن تشكل هوية جزائرية؟ وما مدى تميز هذا الأخير عن الأدب الفرنسي؟ إن كاتب ياسين ومولود معمري ومالك حداد، أو غيرهم من الذين كتبوا باللغة الفرنسية، أمدوا نصوصهم بخاصية فنية تنطلق من الارتباط بالوطن على الرغم من الغربة في لغة الأخر؛ فالرؤية الفنية والزخم الفكري والتجربة اللغوية استمدت حضورها من الواقع الجزائري، ومن ثم أسست لخطاب أدبي على مستوى أسلوب كتابة التجربة اللغوية. إن رواية "نجمة" تجربة سردية استطاعت أن تشكل نصاً سردياً باللغة الفرنسية، ومن الصعب نسبتها إلى أدب هذه اللغة؛ أي أن هؤلاء الكتاب وظفوا اللغة الفرنسية، من حيث التركيب اللغوي والبناء الجمالي، لخدمة القضايا الجزائرية من خلال تعبيرها عن واقع مرتبط بالجزائر.
وأمدت تجربة عبد الملك مرتاض السردية الجزائرية من خلال نصي: "الخنازير وصوت الكهف" بتدفقات لغوية وبناءات جمالية جعلت الرواية الجزائرية تتفتح على عالم أرحب، فلم تعد التجربة عملية تقنية بقدر ما هي إنتاج لنص لغوي متميز تتدفق فيه اللغة تدفقاً سلساً تلاحق فيه الأفكار وتنتصر عليها. إن التجربة اللغوية في عالم عبد الملك مرتاض تجربة غنية تتعامل مع اللغة من موقع العالم والعارف، لا من موقع المتعلم الذي يجهل تلك الفروق الدلالية بين معاني الكلمات، أو ذاك الذي يجد صعوبة في إيجاد للمعنى أكثر من لفظ للمعنى، أو أكثر من سياق أو توظيف. إن اللغة الروائية عند هذا الرجل أداة طيعة مطواعة لا تستطيع أن تتمنع حتى لو أرادت. وبذلك فرضت هذه اللغة سلطانها على العمل الإبداعي فانتصر النص وتحرر من قيد المبدع. في حين أن هناك نصوصاً لم تستطع أن تتخلص من التجربة الأولى فدارت في فلكها، ولم تتملك آليات التجدد والتحول والاستمرارية وكأنها تقول إن المبدع لا يكتب إلا عملاً واحداً تصدر عنه ارتدادات في الأعمال اللاحقة. ويعود الأمر في الأساس إلى عدم قدرتها على إنتاج نص جديد يواكب التغيرات بالمشاركة في إنتاج النص من جديد، وتصبح بذلك كل قراءة للنص بمثابة إعادة إنتاجه من جديد.
ومن أسئلة الكتابة الملحة، لماذا هذا الاهتمام بالخطاب الروائي؟ ولماذا يعطي له كل الحيز وهذا المستوى من التفاعل على مستوى القراءة والمقاربة والدراسة، فهل يرجع هذا إلى أن الخطاب الروائي هو أكثر الأجناس الأدبية ارتباطاً بالواقع؟ أو لغزارة هذا الإنتاج قياساً إلى الشعر؟ أو أن يحقق مقروئية معينة؟ وهل هناك أسباب أخرى؟
لقد استطاع عبد الملك مرتاض أن يوجد توظيفاً جديداً للشخصية في هذين العملين الروائيين، فلم تعد تلك الشخصية التي نعرفها بماضيها وحاضرها ومستقبلها، إنها مفهوم وليست كائناً حياً، وكل من مر بحدث أو بتصرف يشبه تصرف شخصية معينة فهو منها، معتمدة على تدفق لغوي هائل يبعد اللغة عن أبعادها النمطية الدلالية المعروفة، ويعطيها لغة متحررة من أي مدلول مسبق، وفي الوقت ذاته يحافظ على أيديولوجية النص التي تعكس مستوى من الرؤية والتفكير عند القارئ ينطلق من الوعي باللغة. إنه علاقة حميمية تنشأ بين النص والقارئ، الذي يصبح شريكاً في بناء النص وإبداعه.[/grade]
في جمالية النص التراثي
لعل أول سؤال يطرح، لماذا هذا التوجه نحو الأدب الجزائري القديم؟ ولماذا هذه الخصوصية؟ التي قد تطرح إشكالات منهجية تعترض الباحث، أو الدارس لهذا الأدب، الذي ضاعت أغلب نصوصه، والتي وصل إلينا منها القليل القليل، مع صعوبة تحديد الحقل الأدبي في هذه الفترة الزمنية، وكذا الإجراء النقدي المختار للكشف عن الخصوصية الفنية والجمالية لهذه النصوص، فهل يكون التوجيه شمولياً؟ أو يختار مجالاً واحداً ؟.
إنّ الاعتماد على تفاعل هذين التوجهين كفيل بالوصول إلى نتائج مرضية ترتقي بهذه النصوص إلى مرتبة تليق بها، خاصة وأنّ الأدب الجزائري أخذ مساراً تكوينياً خاصّاً إلى حد بعيد، تشاكل فيه المحلي بالوافد سلما أو قهرا، مما ولد أنماطاً تعبيرية ارتبط فيها الكتاب بالتقليد الفني العربي، وربطوا ذلك بواقعهم المعيش.
ويبدو أنّ هذه الخصوصية أنضجت التجربة الإبداعية في هذا العصر، فأنتجت نصوصاً على أقليتها، استطاعت أن تحافظ على وجودها في التراث الأدبي العربي، على الرغم من طابعها التسجيلي المرتبط بالأحداث السياسية والاجتماعية لدولة بني حماد فحافظت على الذاكرة الحمادية، وسجلت أهم الوقائع التي مرت بها هذه الدولة، فأوجدت لها قراءة تسربهم التجربة الأدبية في الكشف عن غور هذه التجربة.
ومع هذا كله يبقى السؤال مطروحاً بكيفية أخرى، كيف تفاعل المحلي بالوافد؟ أو كيف تفاعل سكان الجزائر مع الثقافة العربية الإسلامية الوافدة؟ ألم يولد فيهم هذا التفاعل صدمة نتيجة التقاء مستويين ثقافيين متميزين، الثقافة الوافدة من جهة، والثقافة البربرية من جهة أخرى.
ويبدو أن الثقافة العربية الإسلامية تقدمت كثيراً، فأخذت لنفسها مكانها اللائق، لكون اللغة العربية لغة عالمة تنقل المعارف والعلوم، لغة مؤسساتية تعكس السيادة والإبداع والتفكير. لقد كانت اللغة الرسمية للدولة؛ واللغة الرسمية "مرتبطة في بعض جوانبها بالدولة سواء من حيث نشأتها أم من حيث توظيفاتها الاجتماعية التي تسيطر عليها لغة رسمية"(1).
وهناك سؤال آخر مهم، يطرح نفسه بإلحاح شديد، فلماذا كان فتح المغرب من أكثر الفتوحات الإسلامية مشقة، ومن أطولها زمناً؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا يصب الأدب هذه الصدمة؟ فمن "المتوقع أن تكون هذه الخاصة التي اتسم بها الفتح العربي قد أحدثت نوعاً من عدم الاستقرار بالنسبة للبربر، وكانت عاملاً من عوامل قبولهم لحركات الخروج على الدولة الإسلامية، لكن من المؤكد أن أساليب العرب في الاندماج مع البربر، سواء بالاشتراك في الحروب ضد الوثنية الباقية، أو في فتح الأندلس، أو عن طريق المصاهرة، أو في العادات الاجتماعية، فضلاً عن وسائل الاندماج التي تحتمها طبيعة الفاتحين المسلمين، حيث أحس المسلمون من سكان البلاد الأصليين أن العرب جاؤوا من أرض النبي (صلى الله عليه وسلم)، ومن هنا أسلموهم القيادة في كثير من الأحوال" (2).
ولعلّ من أهم العوامل التي ساعدت على مثل هذه المعاملة، هو أن القيادة السياسية كانت واعية بهذا الأمر، فقضت على كل ما يؤدي إلى القطيعة والاختلاف والتفرقة، كما أنها لم تترك الوقت للتفكير وأخذ المبادرة، ثم إنها استفادت من خصوصية الفتح الإسلامي الذي جاء يدعو إلى العدل والتسامح، والسلم، وهي قيم إنسانية ونبيلة يسعى البشر إليها.
وإذا كان الأمر كذلك، فهل استطاعت تلك الكتابات أن توصل إلى الجمهور خطاباً معيناً يعكس ذلك الوجه الحضاري لدولة بني حماد؟ وتبدو الإجابة عن هذا السؤال سابقة لأوانها، قبل الاحتكام إلى تلك النصوص الأدبية، التي جاءت لتكشف عن البنيات الذهنية المكوّنة للمؤسسات الثقافية الحمادية، والتي يوجهها النشاط الفكري للمجتمع الحمادي.
ومن الأسئلة المهمة في هذا المجال، ما مدى استقلالية هذا الأدب عن الأدب العربي في المشرق، وما مدى تبعيته له؟ وهل استطاع أن يوجد فعالية نقدية تتعامل معه تعاملاً فنياً تنظيمياً حتى يكون أدباً فاعلاً، وحقلاً منتجاً يتماشى وطموحات الدولة الحمادية، التي وظفت الأدب وسيلة للمساهمة في تكوين الدولة والدعاية لها، وفي تسيير شؤونها من خلال تلك الرسائل التي كانت تتبادل بين المسؤول والرعية. "ويمكننا الحكم على أدب الجزائر في هذه الفترة، بأنه أدب تقليدي يلتزم السجع في النثر، والديباجة التقليدية في الشعر. من رصانة لفظية إلى محسنات بديعية إلى موضوعات تكاد تكون هي نفسها المعروفة في المشرق، ويغلب على أكثرها المدح في الشعر والكتابة الديوانية في النثر" (3).
1- في البنية الثقافية للحماديين:
تتحد البنية الثقافية للمجتمع الحمادي بتلك الأصول البربرية والتوجه العربي الإسلامي لهذا المجتمع، وقد أعطى هذا التزاوج بين الثقافة البربرية والثقافة العربية الإسلامية نتائج ساهمت في ارتفاع هذا المجتمع، وتأسيس الدولة الحمادية وإرساء قواعدها، كما ساهمت في وجود علماء في الفقه ومبادئ علم الكلام، ناظروا فقهاء العرب في قواعد الأصول وتفاريع الفقه(4).
وقد كان توجه الثقافة الحمادية عربياً أسوة بالمشرق العربي، ينهل من المضامين الإسلامية. ذلك "أن المغرب محاط من كل جوانبه بثقافات عربية، إن في الأندلس، وإن في المشرق، مما يجعلنا نطمئن إلى أن الثقافة العربية الإسلامية هي الثقافة الأم في الدولة الحمادية وهي مناط عناية الدولة واتجاهها الرسمي"(5) وهذا ما جعل للغة العربية قيمة لا مثيل لها عند البربر المكونين للدولة الحمادية، حيث أصبحت "ربة المنزل وصاحبة الأمر والنهي على القرائح والعقول"(6).
ولعلّ من العوامل المساعدة في المحافظة على هذه المكانة والقيمة، الأثر الثقافي الذي خلفه زحف القبائل العربية على المغرب، فقد "أثرت لغة التخاطب لقبائل بني هلال في اللسان البربري الذي كان طاغياً على اللسان العربي في الأرياف والمدن أيضاً، وسارت عملية الاستعراب بسير عملية المزج والاحتكاك"(7).
ومن الظروف التي أثرت هذا التوجه، أنّ اللغة العربية أصبحت لغة عالمة، تساهم في نقل المعارف والعلوم، فقد أخذها الحماديون لغة لدولتهم، وإذا كان الأمر كذلك، فإننا لا نعدم أنّ اللغة البربرية كانت لغة عالمة مساعدة عن طريق نقلها للعادات والتقاليد من جيل إلى جيل، وبذلك تم الحفاظ على التوازن الداخلي لإنسان المجتمع الحمادي. مع العلم أن تفاعل ثقافتين قد يؤدي إلى ثقافة مهيمِنة وثقافة مهيمَنة، خاصة أن بني حماد قد بذلوا جهوداً كبيرة في سبيل تعريب البلاد مستفيدين من ذلك الإرث الذي تركه وجود اللغة العربية السابق
(8) ومع ذلك كله فإنه من الصعوبة بمكان أن نحكم في هذه القضية، ونفصل في المهيمِن في دولة بني حماد.
ثم إنّ من العناصر المكونة لهذه البنية الثقافية الحمادية، وجود مذهب الإمام مالك وانتشاره من دون المذاهب الإسلامية الأخرى، مما أدى إلى توحد التوجه الفكري لأغلب سكان المغرب العربي عامة، للحماديين بوجه أخص. فسلمت بذلك دولة بني حماد من ذلك النزاع المذهبي الذي كان له أثر سلبي في المشرق العربي، وفي بعض الأحيان كان مدمراً، حيث أفضى إلى نزاعات هدامة من الناحية السياسية، وإن كانت مفيدة من الناحية الفكرية والأدبية، لأنها أسهمت في بناء الذات وتشكلها المعرفي. ولا يمكن تجاهل "زحف مذهب مالك بدءاً من مدرسة القيروان، انتشاراً في القسم الغربي للعالم الإسلامي كله، بما فيه الأندلس، وعبوره إلى غرب إفريقية حيث لا يزال المذهب الغالب في هذه البلاد"(9).
إنّ هذا التنوع الثقافي سمة من سمات المكوِّن الثقافي للحماديين وهو الذي أدى بهم إلى رعاية الثقافة والمثقفين والمفكرين فيجزلون لهم العطاء، ويجودونهم بالهدايا والأموال، فقد "كان الناصر بن علناس أطول الملوك الحماديين باعاً في هذا المضمار، فقد كان يؤمه الأدباء ويقصده الشعراء، فيغدق صلاته عليهم"(10)، وكذا كان يفعل أغلب الملوك الحماديين أسوة بنظرائهم من الملوك العرب الذين كانوا يشجعون الأدباء ويحفزونهم على الكتابة الجيدة، والإبداع المتميز. فقد كان المعز بن باديس "مكرماً لأهل العلم كثير العطاء لهم كريماً، وهب مرة مائة ألف دينار للمستنصر الزناتي، وكان عنده، وقد جاءه المال فاستكثره، فأمر به فأفرغ بين يديه ثم وهبه له، فقيل له لم أمرت بإخراجه من أوعيته. قال لئلا يقال لو رآه ما سمحت نفسه به. وكان لـه شعر
حسن"(11).
ولقد أسهم التفاعل بين المشرق العربي ومغربه في تزكية البنية الثقافية للحماديين، سواء عن طريق ذلك الرباط الروحي الذي يجمع الأقاليم الإسلامية، أم عن طريق ذلك الشعور بأنّ المشرق هو أصل الثقافة العربية الإسلامية ومرجعها الأساسي، ولا بد للمغرب أن ينهل من هذا الأصل؛ فحصل تبادل للرحلات والهجرات بين المشرق والمغرب.(12)
لقد أسهمت هذه البنية الثقافية في جعل العاصمة الحمادية مركزاً ثقافياً يعجّ بالمختصين في كل الفروع، وخاصة رجال الدين والفقه، ويشهد على ذلك أبو علي المسيلي بقوله "أدركت ببجاية ما ينيف على تسعين مفتياً ما منهم من يعرفني، وإذا كان المفتون تسعين، فكم يكون من المحدثين ومن النحاة والأدباء وغيرهم ممن تقدم عصرهم ممن يدركه... لقد كان الناس على اجتهاد، وكان الأمراء لأهل العلم على ما يراد"(13).
ويعكس هذا النشاط الفكري مستوى التحام البربر بالإسلام، وعدم رفضهم لهذا الدين الجديد الوافد، على الرغم من أن هناك من رأى في تلك المقاومات التي رافقت دخول الإسلام شمال غرب إفريقيا، رفضاً للإسلام الذي فرض عليهم بالقوة- وقد ردّ عبد القادر جغلول على هذا الزعم قائلاً: "وبدل أن يعارض الإسلام، كان الشعب المغربي من الدعاة له، والجيوش التي حملت الجهاد إلى أوربا، وخاصة إسبانيا كانت مؤلفة في غالبيتها من البربر الحديثي العهد بالإسلام، وأخيراً الثورة الكبرى للخوارج التي هزّت المغرب في النصف الثاني، مع أنها تعبّر عن رغبة استقلال المغرب، لأنها سمحت للدين الإسلامي بالانتشار فوق كافة أراضي المغرب"(14).
ويبدو أنّ هذا الرأي وجيه، ويعكس الحقيقة أغلبها، ومع ذلك؛ فإنّ هذا التعليل يصح بعد دخول الإسلام واستوطانه المغرب، أما قبل ذلك فقد لقي مواجهة تعكس موقفاً ما من الإسلام- وقد يعود هذا إلى أن البربر لم يميزوا بين الحركات الاستعمارية السابقة، وبين وفادة الإسلام، واحتاج ذلك منهم فترة زمنية، حتى تيقنوا أن الإسلام يريد بهم خيراً، وهو دين تسامح ورحمة وتكافؤ فرص؛ لذلك اتجهوا نحوه فرادة وجماعات، فأسهموا في انتشاره في المغرب، وفي فتح الأندلس.
وإذا لم يكن الأمر كذلك، فكيف نعلل تلك الصراعات التي دامت سنين ألم تكن استمراراً للصراع التوحيدي الكبير للحصول على الاستقلال؟.
لقد جاء الإسلام ليطرح نظاماً سياسياً جديداً تعدى الإطار القبلي، و"إذا كان الإسلام قد انتشر بسرعة وبكثافة بين المغاربة، فذلك يعني أنّ الإسلام ليس ديناً سهلاً وعادلاً فحسب؛ بل لأنه أداة تطور اقتصادي واجتماعي في المغرب. بالإضافة إلى كون هذا الدين داعياً للوحدة السياسية. ومعنى أنه قرن صراعات معنى مزدوج: المغرب وخاصة الأوسط خرج من هذه الصراعات منتصراً، فقد حافظ على استقلاله، لكن هذا النصر ليس نفياً للحضارة الإسلامية والعكس تماماً، فبتحوله الجذري واعتناقه الإسلامي واستيعابه للحضارة الإسلامية، استطاع المغرب أن يحافظ على استقلاله، وفي الوقت ذاته، اندماجه مع الأمة الإسلامية حيث يلعب دوراً هاماً"(15).
ونحن نعالج هذه الأمور، تصادفنا قضية ذات أهمية بالغة، إذ كيف لنا أن نعالج مفهوم الجزائري في العصر الحمادي؟ وهل هذا الإجراء علمي ومنهجي، ولا يتعارض وطروحات علمية أخرى؟.
ولعل من البدهي أن المغرب الأوسط حافظ على استقلاله عن المركزية الحاكمة في الإسلام، وقد كان له وضع خاص عن بقية الأقاليم الإسلامية، وهذا ما يدفع إلى الاعتقاد إلى أنّ الأمة الجزائرية كانت في دور التشكل، والتي ستنهل من الحضارة العربية الإسلامية، وفي الوقت ذاته تحافظ على خصوصية الحيز الذي تشغله. فعلى الصعيد الثقافي "كان المغرب تقاطع طرق هام، ظهرت عنه التأثيرات الشرق الأوسطية والأندلسية كما أهدى بدوره آثاراً هامةً للتراث العربي الإسلامي"(16). أي أنه لم تكن هناك حدود ثقافية كالحدود السياسية لهذه الدويلات، فإذا كانت حدود الدولة الحمادية الشرقية معروفة، فإن حدودها الغربية كانت متغيرة ومتحولة بفعل الظروف السياسية بين حكم وحكم آخر. فقد عرف المغرب نهضته الكبرى تحت حكم الحماديين من خلال المركزين الحضاريين، قلعة بني حماد وبجاية، فقد دام حكمهم قرناً ونصف قرن من الزمن، مخلدين آثاراً حضارية، جعلت الحضارة الحمادية من أرقى الحضارات المغربية في النصف الأول من القرن السادس(17) التي تركت أثراً واضحاً في الحضارات المتعاقبة على المغرب الأوسط. ثم "إنّ ازدهار المملكة الحمادية لم يكن مرتبطاً بكونها منطقة عبور فحسب بل بنشاطاتها الزراعية والحرافية"(18) التي تعكس مستوى ثقافياً يكشف عن أصالة هذه الدولة، والتي استطاعت أن تجذب إليها "مفكري إفريقيا والأندلس وبالتالي إلى ولادة مجمع ثقافي عظيم الأهمية. كانت قاعة مجمع بجاية تضم 104 من مشاهير الحقوق، الطب والشعر. وكان في المدينة عدد من الأولياء المسلمين علماء الدين، ومن هنا جاءت تسميتها بمكة الصغيرة"(19).
ولعلّ دراسة هذا التفاعل الحيوي دراسة أنثربولوجية تعكس لنا بوجه صادق، ثقافة المجتمع الحمادي وتوجهه الفكري، وتكشف عن نزوع عربي مستقل عن المركزية، ومحقق لكيان خاص، ويدفعنا إلى القول بأن المغرب الأوسط كان دائماً يبحث عن هوية جعلت منه إقليماً غير متجانس، تحكمه تأثيرات دينية وعسكرية ومالية، وهذا ما أدى إلى تعاقب الدويلات عليه. "فمن غير الممكن-في حالة المغرب الأوسط- أن نأخذ مركزاً حكومياً ثابتاً كنقطة استدلال على اختلاف المغرب العربي (فاس) وإفريقيا (القيروان) كل الحقبة الوسطية كانت مميزة بحركة تناقضية مزدوجة نابذة وجاذبة نحو إفريقيا والمغرب في إثبات هوية خاصة، فإنه يستمر أيضاً في التطلع نحو الشرق والغرب- والمراكز الحكومية التي تكونت أثناء هذه الحقبة تكشف هذه الحركة المزدوجة: عاشير، القلعة وبجاية من جهة، وتلمسان من جهة أخرى- إن عدم وجود حدود بالمعنى الدقيق خلق ظروفاً معينة لتعاقب الحكومات"(20). ويصبح هذا الزعم مبرراً لتناول الموضوع على أساس الأدب الجزائري في عصر الحماديين؛ لأننا في الواقع نواجه إشكالاً، إذ كيف يمكن إلحاق مفهوم جديد معاصر، بحقبة زمنية سابقة له؟.
إنّ تلك التفاعلات، وتلك التعقبات السياسية، هي التي أوجدت مفهوم "الجزائري" لأنها كانت تنزع إلى الاستقلال السياسي والالتزام الثقافي والعقائدي والاجتماعي الذي كانت المركزية العربية المرجع بالنسبة إليه. "وفي ظل السياسة التي اعتبرت من أكبر مآثر الحماديين، وهي سياسة ترويض القبائل العربية وتوظيفها في صنع الحضارة العربية... وفي ظل هذه السياسة حمى الحماديون الحضارة المغربية من الدمار الكامل، وكانوا الوريث لحضارة القيروان التي فرض عليها الأعراب الدمار والتشتت، وكان في الإمكان- لولا السياسة الحمادية- أن يلقى المغرب الأوسط، ثم المغرب كله المصير
نفسه"(21).
ثمّ إنّ هذا التوجه كان أساساً للبنية الثقافية الحمادية التي تؤكد رقي الحضارة الإسلامية في المغرب الأوسط، والتي كانت تنهل من ترابط مقومات ثلاثة هي القبيلة، القوة المالية، والإشعاع الديني، و"هذا الترابط بين العصبية القبلية والتعاون الديني والقوة المالية يظهر واضحاً في عملية تكوين الدول. وكل التجارب الكبرى للتنظيم الحكومي التي جرت في المغرب الأوسط، جرت باسم حركة التجديد الديني... إن التنظيم القبلي يمثل مع ذلك الدور المحرّك في مؤسسات البناء الحكومي... ويعطي التنظيم الحكومي لنفسه المال اللازم لتحقيق هذا المشروع بالسيطرة على تجارة القبائل"(22).
وإذا كنا نقرّ بعلاقة التنظيم القبلي بالتنظيم الحكومي؛ فإن من الضروري السؤال عن التناقض المحتمل بين التنظيمين فلكل منهما مرجعية خاصة، وهذا "التناقض بين التنظيم القبلي والتنظيم الحكومي، والذي هو تناقض خارجي وتناقض داخلي في الدولة في آن معاً، يشكل أساس تطورها"(23)، ومع ذلك يبقى السؤال مطروحاً، فكيف يؤدي التناقض إلى التطور؟ قد يكون ذلك ممكناً إذا ائتلف الشيء مع نقيضه للوصول إلى التوازن والانسجام والاعتدال، وقد وفقت الدولة الحمادية في إيجاد مزاوجة بين التنظيمين، واستثمار هذا المزج في سبيل بناء الدولة، فالتنظيم القبلي يعتمد على العلاقات الاجتماعية وأصول القرابة التي تربط العائلات والقبائل، في حين أنّ التنظيم الحكومي يقوم على علائق تربط المؤسسات المكوّنة لهذا التنظيم. وقد يستفيد كل تنظيم من الآخر في إرساء أسسه وقواعد سيره؛ لأنّ الدولة في المجتمع العربي لم تستطع التخلص من تأثير القبائل في بناء ذاتها، بل إنها كثيراً ما عوّلت على علاقاتها مع القبائل في تقوية دعائم وجودها، وخاصة أن هذه الأخيرة كانت تتحكم في النشاطات التجارية التي تعتمد عليها الدولة في جلب الأموال واستثمارها. وعلى الرغم من وجود علاقات اجتماعية جديدة فإنه "لم ينكشف في تكوين جماعات جديدة نوعاً متجانساً إلى حد كاف، قوية وقادرة على تكوين أساس اجتماعي تستطيع الدولة من خلاله التخلص من علاقاتها بالقبائل وهدم علاقات
القرابة"(24).
ولقد كان هذا الأمر عنصر تقوية بالنسبة للتنظيم الحكومي، وفي الوقت ذاته هو عنصر إضعاف، وقد يؤدي في الأخير إلى زوال هذا التنظيم، وبمعنى آخر، فإنه سلاح ذو حدين، قد ينفع، وقد يضر ويصبح التكيف معه أمراَ ضرورياً وملحاً، مما يفتح المجال واسعاً للتنظيم الديني ليلعب دوراً مهماً للوصول إلى التناسب والانسجام والتوافق بين التنظيمات الثلاثة، خاصة إذا تعلق الأمر بالتوسع العسكري والتجاري والسياسي.
هذا وقد استثمرت الدولة الحمادية كثيراً هذه التنظيمات الثلاثة في بناء بنيتها الفكرية والثقافية، كما استفادت مما وصلت إليه الدويلات السابقة لها في الوجود، وعدلت ما يحتاج التعديل، وهكذا تشكلت البنية الثقافية لديها.
النثر الجزائري على عهد الحماديين:
ونحن نقدم على تناول هذا الموضوع، نطرح سؤالاً مهماً، ما محور علاقة هذه النصوص النثرية، على قلتها، بالحماديين، على وجه الخصوص، وبالجزائر على وجه العموم، خاصة إذا انطلقنا من المفهوم التعبيري التكويني للأسلوب، على أنه يعبر عن شخصية الكاتب أو المرسل. ومن نافلة القول إنّ هذا النثر عكس خصوصيته وتفرده، وفي الوقت ذاته انتماءه إلى الثقافة العربية.
لقد كان النثر ضرورة حياتية بالنسبة إلى الحماديين "فاحتياج الدولة إلى الكتابة في مثل هذه الموضوعات لتسيير شؤونها، يستوجب انتخاب كتّاب نبهاء ذوي مروءة وحذق، إن كانوا موجودين في الأمة، وهذا متوقع إبان نشأة دولة بني حماد؛ لأنهم لم يستقدموا كتّاباً، في ما علم عنهم؛ لأن مملكتهم كانت مزدهرة بالعلوم والآداب، وفيها فقهاء وأدباء."(25)
لقد اتخذ النثر في هذا العصر اللغة العربية وسيلة في التعبير، كما اتخذ نظام الحكم اللغة نفسها لغة رسمية، ثم إن حماداً مؤسس الدولة الحمادية نشأ بالقيروان نشأة عربية إسلامية، درس الفقه والجدل وعلوم العربية(26).
ولعل هذه الثقافة هي التي وجهت الإنتاج الأدبي على عهد الحماديين هذا التوجه العربي، فقد اتخذ الحكام الحماديون لأنفهسم كتّاباً لتصريف الشؤون الإدارية للدولة، "واتخذ الأمراء الكتاب، وكان ديوان الإنشاء مصلحة من مصالح الدولة على أرقى ما يمكن تصوره من النظام، ترتب له الدواوين، وينتخب له الكتّاب من كل ذي قلم سيال وقريحة وقادة وبلاغة نادرةٍ."(27).
وعلى الرغم من أن الدولة الحمادية استمرت قرناً ونصف القرن من الزمن؛ إلا أن الوصول إلى نثرها أو رسائلها أمر صعب، لضياع أغلب النصوص مع ما ضاع من تراث ثقافي وفكري. وهذا ما دفع أحد الدارسين إلى القول: "بحثت عن الرسائل الفنية ظاناً أن أعثر عليها اعتماداً على بعض المصادر التي أشار أصحابها إلى رسائل رسمية صدرت من بعض الأمراء والوزراء، لكنهم لم يدونوا نصوصها، فحرمونا منها مختارين، أو مضطرين لعدم تمكنهم منها" (28) ومثل هذا الزعم يدفع إلى اليأس والقنوط، ويجعل عملية الوقوف على خصائص هذا النثر أمراً محفوفاً بالمخاطر، إن لم يكن مستحيلاً؛ لأن أغلب المصادر التي اهتمت بهذه المرحلة أشارت إلى وجود نصوص إبداعية، ولكنها لم تقيدها، فابن الأثير، على سبيل المثال، أشار إلى وجود ثلاث رسائل سلطانية(29) واكتفى بالإشارة والتلميح دون التقييد.
I- ويبدو أن من أهم نصوص هذه الفترة، نص لأبي عبد الله محمد الكاتب المعروف بابن دفرير، والذي جعله صاحب الخريدة أحد كتاب الدولة الحمادية المتصرفين في الكتابة السلطانية، وأورد له رسالة كتبها عن سلطانها يحيى بن العزيز الحمادي، وقد فرّ من مدينة بجاية أمام عسكر عبد المؤمن يستنجد بعض أمراء العرب بتلك الولاية.
نص الرسالة:
"كتابنا ونحن نحمد الله على ما شاء وسرّ، ورضى بالقسم، وتسليماً للقدر، وتعويلاً على جزائه الذي به من شكر، ونصلي على النبي محمد خير البشر، وعلى آله وصحبه ما لاح نجم بسحر، وبعد، فإنه لما أراد الله أن يقع ما وقع، لقبح آثار من خان في دولتنا وضبع استفز أهل موالاتنا الشنآن، وأغرى من اصطنعناه وأنعمنا عليه الكفران، فأتوا من حيث لا يحذرون، ورموا من حيث لا ينصرون، فكنا في الاستعانة بهم والتعويل عليهم كمن يستشفي من داء بداء، ويفرّ من صل خبيث إلى حية صمادٍ، حتى بغث مكرهم، وأعجل عن التلافي أمرهم، ويرد بال أمرهم إليهم، فعند ذلك اعتزلنا محلة الفتنة، وملنا إلى مظنة الأمنة، وبعثنا في أحياء هلال نستنجد منهم أهل النجدة ونستقر من كنا نراه للهمم عدة، وأنتم في هذا الأمر أول من يليهم الخاطر، وتثنى عليه الخناصر"(30)
إن معالجة هذه الرسالة معالجة نقدية حديثة تستدعي الاعتماد على أدوات إجرائية تكشف عن جماليات هذا النص التراثي، وعن المثيرات الأسلوبية في حدود نظام لغوي خاص، والوقوف على أهم مفاتيح مكوّنات هذا الخطاب للوصول إلى القيم الأسلوبية والجمالية التي تقدمها هذه العناصر والمكوّنات.
خاصية التقابل والتشاكل:
تتحدد هذه الخاصية من خلال علاقة الألفاظ بعضها ببعض، ومن خلال علاقة هذه الألفاظ بالنظام اللغوي للنص، فقد "ذهب هيالمساليف إلى أن الأسلوب يمكن أن يحدد من زاوية علاقة الألفاظ بالأشياء، كما يحدد أيضاً من خلال روابط الألفاظ بعضها ببعض، وكذلك من خلال علاقة مجموع الألفاظ بجملة الجهاز اللغوي الذي تتنزل فيه، فالأسلوب في نفسه دال يستند إلى نظام إبلاغي متصل بعلم دلالات السياق، أما مدلول ذلك الدال، فهو ما يحدث لدى القارئ من انفعالات جمالية تصحب إدراكه للرسالة."(31)
لقد استفاد ابن دفرير من هذه الخاصية في نصه الذي جمع بين ثنائيات متضادة، كالجمع بين انتصار عسكر عبد المؤمن، وفرار يحي بن عبد العزيز الحمادي، أو الجمع بين الشعور بالهزيمة والمرارة، والرغبة في الانتصار بطلب النجدة والعون من قبائل بني هلال. ولعل هذا الجمع دال على ذلك التنازع النفسي وحدة المزاج والعصبية الذي عانى منه السلطان وكاتبه ابن دفرير، لقد جاء هذا الجمع كـ"تفريغ لغوي صادق لمعاناة نفسية واقعية"(32)، وليدل دلالة قوية على امتداد الصوت وشموله واتساعه، لينقل بصدق ذلك الشعور الذي يجمع الشمول والاتساع، ومن "الوجهة النفسية ينحصر الفعل اللغوي الأساسي في إعطاء قيمة رمزية للعلاقة"(33). ويبدو أن دلالة الألفاظ على معان متضادة تساعد المبدع على مراوغة اللغة لإبداع نصوص أدبية تثير الناقد وتحفزه على مقاربتها، فالنقاد العرب القدماء، على سبيل المثال، تتبعوا ذلك من خلال مدوناتهم. فلقد "أثار التقابل بين الدال والمدلول عند علماء اللغة العربية نشاطاً لغوياً لترصد بعض الظواهر"(34) كالترادف والأضداد والمشترك اللفظي، ولا يمكن الوقوف عند هذه القضايا وقوفاً مثمراً إلا من خلال السياق الأسلوبي الذي ترد فيه، فابن الأنباري قرن الألفاظ المتضادة بالاستعمال من خلال ذكره نصوصاً استعملت فيها هذه الألفاظ(35).
وقد نبه بعض الدارسين المحدثين على أهمية السياق الأسلوبي في العمل الأدبي إذ يقول: "السياق الأسلوبي هو نموذج لساني مقطوع بوساطة عنصر غير متوقع، والتناقض الناتج عن هذا التداخل هو المنبه الأسلوبي... وتكمن القيمة الأسلوبية للتناقض، في نسق العلاقات الذي يعمل التناقض نفسه على إقامته بين عنصرين متضادين"(36).
لقد استطاع ابن دفرير أن يوظف الألفاظ توظيفاً حسناً ليكشف عن قمة المعاناة كقوله "استفز أهل مولاتنا الشنآن، وأغرى من اصطنعناه وأنعمنا عليه الكفران فأتوا من حيث لا يحذرون، ورموا من حيث لا ينصرون، فكنا في الاستعانة بهم والتعويل عليهم كمن يستشفى من داء بداء"(37) لقد استطاعت هذه الجمل أن توجه القارئ إلى جمالية هذا التعبير الذي اعتمد على التقابل بين جمل متوالية في مقام أول ثم على تقابل الألفاظ في تواليها في مقام ثانٍ فأنتج ذلك دلالة خاصة للنص على إبداع علاقات إسنادية جديدة، اعتمد فيها على التشبيه، والتي أدت إلى تواصل دلالي ناتج عن تواصل الكلمات والجمل ومع ذلك فهل اختار الكاتب ألفاظه أو أن سياق الحال فرض عليه معجماً لغوياً فرضاً طوعياً؟.
يبدو أنّ سياق الحال، والموقف الإنساني الذي مرّ به الكاتب وجّه ذلك الاختيار فجاء متماشياً وذلك الموقف، ولعلّ هذا الأمر، يعدّ من صميم الدراسة الأسلوبية، "وإذا كانت الأسلوبية لا تهتم بالكلام الحيّ، بل بتفصيله النسيجوي، وباللفظة المجردة التي هي في خدمة قدرة الفنان على التحكم والتطويع، فإنّ ذلك لا يسمح للكاتب بانتقاء ما يراه أكثر مناسبة وتعبيرية من غيره من الألفاظ، لا سيما إذا ارتبط اللفظ المنتقى بحالة شعورية معينة، أو باصطلاحات مهنية خاصة، أو بفئة اجتماعية ذات معجم مميز"(38). ولعل هذا ما يميز الكلام العادي عن الإبداع، ونص ابن دفرير، وإن كان تغلب عليه المباشرة والتقريرية، نص مبدع مرتبط بعصره، وبظرف سياسي واجتماعي خاصين، وهو نص له أسلوبه الخاص به، و"الأسلوب هو اختيار الكاتب لما من شأنه أن يخرج بالعبارة عن حيادها وبنقلها من درجتها الصفر إلى خطاب يتميز بنفسه، وهذا معناه أن الأسلوب رسالة أنشأتها شبكة من التوزيع قائمة على مبدأ الاحتمال والتوقع"(39).
إنّ اختيار الكاتب ألفاظه، أنتج دلالات تقربنا إلى واقع النص الذي تشاكلت ألفاظه، وجمله لتضفي على المعنى إجلالاً، وجمالاً كقوله على سبيل المثال: "... فعند ذلك اعتزلنا محلة الفتنة، وملنا إلى مظنة الأمنة، وبعثنا في أحياء هلال نستنجد منهم النجدة، ونستفز من كنا نراه للمهم عدة، وأنتم في هذا الأمر أول من يليهم الخاطر، وتثني عليه العناصر". فجاء هذا النسق اللغوي ليؤكد على المعنى الذي أراده الكاتب، على الرغم من أنّ اللفظ يمكن أن ينصرف إلى أكثر من دلالة لعدم تقيّده بسياق واحدٍ، إلاّ أنه، ههنا، قد جاء مقيداً بضرورة إثراء النص، فالأفعال اعتزلنا، ملنا، بعثنا، نستنجد" تشاكلت لتسهم في بناء النص بناءً يتماشى، وطبيعة الموضوع، والظرف السياسي، ثم تشاكلت مع ما يليها من ألفاظ لترسم واقع النص.
2- في البنية اللغوية للنص:
لقد جاءت بنية النص اللغوية بنية تقليدية أخذت من خصائص النص القديم الفنية والجمالية وفق أنساق اعتمدت ألفاظاً بسيطة سهلة غير مستعصية على الفهم. وقد جاءت هذه البنية في جمل إسمية، وجمل فعلية، ومع تفاوت نسبي بينها. وقد قلت الجمل الإسمية، والتي تدل على الثبات والسكون مقابل الجمل الفعلية التي تعني الحركة والفعالية.
-البنية الفعلية للنص:
لقد غلبت على هذا النص البنية الفعلية، فكانت أغلب جمله جملاً فعلية،
تدلّ على الحركة والحيوية والفعالية، لترصد الحدث وتساهم في رسم حيز النص ولحمته. وقد أكثر الكاتب من استعمال الأفعال الثلاثية ليعبّر عن ديمومة الحدث وحركته، ويعكس نوعاً من الرضى والاستسلام، وقبول ما وقع بأسى وتحسر.
لقد أدّت جمل النص الفعلية إلى تماسكه هذا من خلال علاقات الجمل الاستنادية لتدلّ دلالة طردية بين الحركات، حيث تكون الحركة السابقة والأفعال ترسم لنا الخط الرأسي التصاعدي. يقول ابن دفرير: "فإنه لما أراد الله أن يقع ما وقع لقبح آثار من خان في دولتنا وضبع*، استفز أهل موالاتنا الشنآن** وأغرى من اصطنعناه وأنعمنا عليه الكفران، فأتوا من حيث لا يحذرون، ورموا من حيث لا ينصرون".
وهكذا نجد الجمل الفعلية تتوارد وتتوالى، وقد توزعت بين جمل في زمن الماضي، وجمل في زمن الحاضر أو المستقبل، لتؤكد على الحركة التي قد تتطلع إلى الثورة والتغيير والتجدد، وبذلك ابتعد عن الحياد فحدد موقفاً مما حدث فطغت الحركة على السكون لتعبر عن طلب النجدة من قبائل بني هلال "وبعثنا في أحياء بني هلال نستنجد منهم أهل النجدة، ونستنفر من كنا نراه للمهم عدة".
إن هذه الجمل الفعلية مدّت النص بجمالية خاصة تعتمد على الانسجام والتوافق، ويصبح ما ذكره عبد المالك مرتاض حول نص "أين ليلاي" مهماً في هذا المجال. يقول "والذي أفضى إلى هذا الانسجام في النظام التركيبي لهذا النص تتابع ملفوظات تكاد أن تستميز بالخصائص الإيقاعية نفسها في تشكيلات... حيث إن كل تشكيلية تتخذ لها نظاماً تركيبياً يقرب أجزاءها، بعضها من بعض من وجهة، ولا يجعلها تنأى، في تركيبتها العامة عن التشكيلات الأخريات من وجهة أخرى(40) ويبدو أن هذه الخصائص هي نفسها خصائص ابن دفرير الذي جاء نصه خفيفاً مؤدياً للغرض المنوط به، وجاء ذلك عن طريق اختيار المؤلف للألفاظ التي كونت لحمة هذا النص وانسجامه من خلال السياق الذي وردت فيه "إن معنى الألفاظ المفردة غالباً ما يكون عاماً وغامضاً، ويتلاشى هذا الغموض في معاني الألفاظ المفردة إذا دخل اللفظ في ضماء تركيبية تحدد معناه وتخصصه. ومن هنا يتولد من المعنى المعجمي للفظ معنى آخر."(41).
إن البنية الفعلية لهذا النص استفادت من بلاغية الألفاظ، حيث استعملت استعمالاً مجازياً فانزاحت الألفاظ عن معانيها الحقيقية لتساهم في رسم جمالية هذا النص، وقد وفق الكاتب أيما توفيق في إيراد ألفاظ بحمولات تعكس موقفه وموقف السلطان مما حدث، وتجعل القارئ يلتفت إلى ما حدث ووقع بكثير من التعاطف"... فكنا في الاستعانة بهم والتعويل عليهم كمن يستشفي من داء بداء، ويفر من صل خبيثٍ إلى حيةٍ صماد، حتى بغث مكرهم، وأعجل عن التلاقي أمرهم ويرد بال أمرهم، فعند ذلك اعتزلنا محلة الفتنة، وملنا إلى مظنة الأمنة، "لقد عكس هذا النسق اللغوي عدول الألفاظ عن معانيها الحقيقية وقد اعتمد على البنية الفعلية في ذلك والتي حققت تواصلاً دلالياً بين الكلمات والجمل عن طريق إيجاد علاقات جديدة بين الألفاظ، وعن طريق البدء بالفعل الماضي ثم الانتقال إلى الفعل المضارع لاستحضار الحدث والتأكيد عليه لصنع المقابلة بين الأزمنة (الماضي، الحاضر) لإثارة القارئ حتى يتفاعل مع النص من الداخل، ففي الواقع" ... هناك قراءتان: قراءة الناقد والقارئ طبعاً، وقراءة النص التي يخلقها النص، يعني النص نفسه يفتح فضاء أو لا يفتح."(42).
ويبدو أن هذا النص قد فتح فضاء خاصاً، ودعا إلى قراءة تنبع من داخله وتفترض الانطلاق من سياقه التاريخي والاجتماعي والسياسي، إلاّ أن هذا الانفتاح ظل محدوداً لطبيعة الموضوع وتقييده بالظرف الزمني فجاء راصداً للحوادث طارحاً لموقف الكاتب وسلطانه فأوجد سياقاً خاصاً به قد يتقاطع مع سياقات مشابهة له، فالحوادث التاريخية كثيراً ما تتشابه.
2- بنية النص الدلالية:
يرتكز نص ابن دفرير على فكرة محورية تقوم على تحديد الموقف لأخذ العبرة والعظة، فرصدت لذلك مجموعة من الألفاظ ترتبط دلالياً لتعبر تعبيراً صادقاً عن الأسى والحزن والأسف.
والواقع أننا لا نستطيع أن ندرك كلمة من كلمات هذا النص إلاّ ضمن مجموع الكلمات المتصلة بها دلالياً أو كما يقول ليونس LYONS "يجب دراسة العلاقات بين المفردات داخل الحقل أو الموضوع الفرعي."(43) وبهذا أسهمت تلك الألفاظ في بناء حقل دلالي خاص بهذا النص، والذي يمكن أن يحيل إلى نصوص أخرى مشابهة من الأدب الحمادي، وقد تتقاطع مع نصوص من الأدب العربي؛ لأن الحوادث متشابهة والمواقف منها أيضاً متشابهة.
لقد اعتمد هذا النص على علائق إسنادية نهلت من خصائص اللغة العربية الإبداعية من خلال إيجاد علاقة طردية بين الكلمات المكونة لهذا النص، والتي تجسد حقلاً دلالياً، فالحقل الدلالي هو مجموعة من المفاهيم تنبني على علائق لسانية مشتركة، ويمكن لها أن تكون بنية من بنى النظام اللساني.(44)
فلا شك أن هناك علاقة لا انفصام لها بين الكلمات المكونة لهذا النص، فلو أخذنا على سبيل المثال قوله "... فعند ذلك اعتزلنا محلة الفتنة، ووصلنا إلى مظنة الأمنة، وبعثنا في أحياء هلال نستنجد منهم أهل النجدة ونستنفر من كنا نراهم للهمم عدة "لوجدناه حقلاً جزئياً ينضوي تحت الحقل الكبير للنص، ولوجدنا أيضاً أن هذا النسق اللغوي قد استخدم ألفاظاً من مثل "اعتزل، مال، بعث، استنجد" وربط هذه الألفاظ بكلمات أخرى كقوله "الفتنة، مظنة الأمنة، أهل النجدة، عدة" وبهذا فقد أسهمت كل هذه المداخل المعجمية في رسم الحقل الدلالي الخاص بها، والذي هو جزء من الحقل الدلالي العام. ويبدو "أن تصور الحقول الدلالية التي تكون نظاماً لسانياً ما، يختلف من باحث إلى آخر، وما ذلك إلاّ لأن تحديد الحقل يخضع خضوعاً إلزامياً لذاتية الباحث نفسه دون تدخل أي عامل موضوعي أو لساني بحث."(45) ولعل هذا التحديد متعلق بالناحية النظرية، أما من الناحية التطبيقية، فإن تحديد الحقل يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالسياق الذي يجمع هذه الألفاظ أو تلك في حقل دلالي معين أو يرصدها في حقل دلالي آخر. وربما يخضع هذا الأمر للاستعمال والإبداع اللذين يجوزان هذه العملية عن طريق العلائق الإسنادية التي يوجدانها؛ لأن هناك مقاييس موضوعية(46) تساهم في ضبط الحقل الدلالي.
إن البنية الدلالية لهذا النص تستمد حضورها من الخطاب السياسي السلطوي الذي فرض نفسه على الخطاب الحمادي في ذلك العصر، وتندرج هذه البنية في السياق الفكري والثقافي للدولة الحمادية مشكلة بنية مفرداتية للخطاب والتي توزعت على المحاور التالية:
أ- ألفاظ دالة على الله تعالى، أو على صفة من صفاته: الله، شاء، القسم والقدر، الجزاء.
ب- ألفاظ دالة على الرسول، صلى الله عليه وسلم، أو على صفة من صفاته: النبي، محمد، خير البشر.
جـ- ألفاظ دالة على الإنسان أو على فعل من أفعاله، وهي أغلب الألفاظ التي جاءت بعد حمد الله والصلاة على رسوله من مثل خان، ضبع، أهل موالاتنا، أغرى، الاستعانة، المكر... الخ.
II ومن أهم الكتاب الحماديين، أبو القاسم عبد الرحمن الكاتب المعروف بابن القالمي، والذي قيد له صاحب الخريدة نصاً لعله من أهم نصوص النثر في الأدب الحمادي، وهو نص خفيف جمع بين الغرض من وضعه، والإنسيابية والتدفق للتعبير والإبلاغ.
النص:
"ولما كنت في مضمار سلفك جارياً، ولنا موالياً، وفي قضاء طاعتنا متباهياً، رأينا أن نثبت مبانيك، ونؤكد أواخيك، ونوجب لك ولخلفك، ما أوجبه سلفنا لسلفك، تمييزاً لهم عن الأكفاء، ومجازاة لهم عن محض الصفاء والولاء، فاستدم هذه النعمة العظيم خطرها بالشكر فأنت به جدي [ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً إن الله غفور شكور]"(74)
1-في البنية الدلالية للنص:
يندرج هذا النص في إطار أدب المعاملات الرسمية بين الحاكم ورعيته، والرعية والحاكم، كالنصح والإرشاد. وقد استفاد من مستويات دلالية توحي بوضوح الخطاب وتضفي عليه نوعاً من الاستحباب والتودد والاقتراب، ويبدو أن التحليل الدلالي هو الذي يكشف عن هذه المستويات، "وبموجب مبدأ البنية المكونة تتألف الوحدات اللغوية الكبرى من وحدات لغوية أصغر، وأن أي جزء من الكلام هو بنيوياً مؤلف على أكثر من مستوى، والمستويات اللغوية الثلاثة: الصوتي، التركيبي، والدلالي تتكامل عناصرها في خدمة القدرة اللغوية والتي بوساطتها تقوى على توليد الجمل، أياً كانت، كما نقوى على فهمها."(48) ونحن لا يمكننا الاقتراب من النص إلا من خلال هذه المستويات التي تكشف عن جماليته، والتي من الصعب الفصل بينها في إحداث التأثير في المخاطب وتوصيل الرسالة.
أ- المستوى الصوتي:
لقد جاء الصوت في هذا النص غنياً ومثمراً للعملية التواصلية، وقد شكل تكراره ظاهرة مميزة، خاصة في أواخر الفواصل، فساهم في البناء الدلالي للنص، للصلة القائمة بين الصوت وما يدلّ عليه، أو بين الرمز ودلالته في ذهن المتكلم وذهن المخاطب، والذي اعتمد على مبدأ الاختيار، والميل إلى أصوات دون غيرها؛ فانتقى لذلك ألفاظاً تساعد حروفها على التواصل والالتقاء نتيجة انسجام هذه الحروف وتلاؤمها من الناحية الصوتية، وهذا التآلف والتناسق هو الذي يجعل اللفظ سهلاً على اللسان من جهة، وعلى السمع من جهة أخرى،، وقد سمى الجاحظ هذه الخاصية "القران"(49) وهي ترتبط ببنية اللفظ الصوتية التي تتمثل في انسجام الأصوات المكوّنة له وتآلفها- وقد اهتم الدارسون العرب المحدثون بهذه الخاصية، يقول أحدهم "لقد لاحظ الأقدمون أنّ الكلمة العربية إذا أريد لها أن تكون فصيحة مقبولة: فإنّها تتطلب في مخارج حروفها أن تكون متناسقة ولا تتسامح اللغة فتتخلى عن هذا المطلب إلا في الحدود في مثل حالات الزيادة والإلصاق ونحوهما."(50)
ويبدو أن هذا النص قد حقق هذا الهدف، فكانت بنياته منسجمة صوتياً أسهمت في جماليته، والذي جاء في فواصل نهايتها بأربعة أصوات، فالفواصل الأولى انتهت بصوت الياء الممدودة والتي تدعو المخاطب وتناديه ليتقبل الرسالة- وكانت هذه المقاطع الصوتية ممدودة لتعلن عن المشاركة الوجدانية بين المتكلم والمتلقي، وتساهم في فصاحة الكلام ووضوحه- قال ابن القالمي"ولما كنت في مضمار سلفك جارياً، ولنا موالياً، وفي قضاء طاعتنا متباهياً" فجاء الخطاب واضحاً مباشراً يعتمد على مبدأ الجملة الشرطية لاستحضار مجموعة من الأفعال المرجعية التي تبرر ما يأتي بعدها وتدعو إليه، وتحفز المخاطب وتهيئه إلى سماع الباقي وتقبله، بل إنها قد توّجه الخطاب بحسب إرادة المتكلم، ولهذا جاءت الفواصل الثانية موجهة الرسالة إلى المخاطب مباشرة جواباً عن الجملة الشرطية قال الكاتب"... رأينا أن نثبت مبانيك، ونؤكد أواخيك، ونوجب لك ولخلفك، ما أوجبه سلفنا لسلفك.." ويبدو أن صوت الكاف في أواخر هذه الفواصل جاء لتنبيه المتلقي، وتوجيه الخطاب إليه للكشف عن العلاقة التي تجمع المتكلم بالمخاطب، وحرف الكاف حرف ذو جرس قوي يأتي للتوكيد على المعنى، والتنبيه والإشارة إلى ما يريده المتكلم، وقد قرنه ابن القالمي بالأسماء ليعقد القران بين هذه الألفاظ الدالة على أفعال إنجازية، وبين المخاطب للوصول إلى المشاركة الوجدانية والتفاعل الحيوي والشعور بالمسؤولية.
ويبدو أن الصوت لن يؤدي دوره المنوط به إلا ضمن سياق تركيبي، على الرغم من أن لكل كلمة مفردة صوتاً فعلياً يساهم في تحديد دلالتها، فإن الكلمة إذا ما ركبت مع كلمات أخرى أنتجت مجموعة من الأصوات توجه معنى النص، ضمن السياق في نظام تركيبي وترتيبي للجمل. ومن هنا يصبح ما نبه عليه ريني وليك أمراً مهماً. يقول "لقد حلل اللغويون المحدثون الأصوات الكامنة على أنها عناصر أولى ذات دلالة كما أن بإمكانهم أن يحللوا أيضاً الوحدات الصوتية المعنوية الأولى، والوحدات النحوية؛ فالجملة مثلاً لا توصف فقط بأنها نطق مقصور على غرض معين، بل إنها طراز ترتيب الكلام."(51) ولا شك أن ابن القالمي قد ربط بين أصوات هذا النص وبين تراكيبه وبين معانيه وقد وفق في ذلك أيما توفيق.
ثم كانت الفواصل الصوتية الأخيرة للنص"... تمييزاً لهم عن الأكفاء، ومجازاة لهم عن محض الصفاء والولاء، فاستدم هذه النعمة العظيم خطرها بالشكر فأنت به جدير..." فجاءت هذه الفواصل منطلقة الصوت معتمدة على صوت الهمزة المسبوق بألف المد لتفصح عن الغرض، وتعلن في الوقت ذاته نهاية الرسالة باقتباس من القرآن الكريم الذي زود النص بحمولة تنهل من حمولة الخطاب الديني الإسلامي، ويبدو أن أي تغيير يصيب البنية الصوتية للنص أو حتى التركيبية يؤدي إلى فساده وضياع غرضه.
لقد جاء النص فصيحاً مبيناً لفصاحة ألفاظه ووضوحها، فهي ليست غريبة وغير مخالفة للقياس في اللغة العربية، ثم إن حروفها غير متنافرة وهذه صفات اشترطها العلماء في فصاحة اللفظ. قال أحد الباحثين "وإذا كانت سمة الفصاحة تتحقق لدى المتكلم بوضوح النطق وطلاقة اللسان، فإن فصاحة الكلمة تتحقق بالتناسق أو التآلف الصوتي الذي يجعل النطق باللفظ سهلاً خفيفاً عن اللسان من جهة، كما يجعل أثره السمعي واضحاً مقبولاً على الأذن من جهة أخرى."(52) ويبدو أن نص ابن القالمي قد كان له ذلك فحقق الفصاحة المرجوة في كل نص إبداعي لتأكيد العملية التواصلية وقد ابتعد عن ظاهرة التنافر الصوتي.
ب-المستوى اللغوي:
لقد اختار ابن القالمي لنصه مستوى لغوياً تقليدياً سار فيه على نهج القدماء في كتابة النصوص النثرية، فبنى النص بناء تركيبياً يرتكز على أنساق لغوية تستفيد من جماليات التعبير للغة العربية.
1- الأنساق اللغوية للنص:
لقد جاء النص في ثلاثة أنساق لغوية تتكون من وحدات تركيبية تتفاوت في الطول والقصر والتوزيع بحسب ورودها في النص. والتوزيع كما حدده أحد الباحثين بقوله "يحدد توزيع عنصر بأنه مجموع العناصر التي تحيط به، ومحيط عنصر (أ) يتكون من ترتيب العناصر التي ترد معه، أي العناصر الأخرى التي يتواقف كل منها في موقع معين مع العنصر في تركيب كلامي، والعناصر التي ترد مع العناصر (أ) في موقع معين تدعى انتقاء هذا العنصر لهذا الموقع."
(53) ويبدو أن ابن القالمي قد انتقى هذه العناصر التي تحقق المحتوى الفكري لكلامه في الواقع، وتجسد تلك المعاني الذهنية التي أراد التعبير عنها، والكاتب في الواقع "ليس حراً سوى في اختياره لوحدات الفئات التي ترد عادة معاً، ولا يقوم باختيارها إلا في الترتيب الذي ترد فيه هذه الفئات."(54)
لقد جاءت هذه الوحدات التركيبية للأنساق اللغوية المكونة لهذا النص متآلفة متجانسة، تدعو الواحدة الأخرى في شكل فني خفيف، وكأنها تنتمي إلى حقل دلالي واحد تكشف عن حسن توزيع الكاتب لها، وقد جاءت هذه الأنساق كالآتي:
النسق الأول: يتكون هذا النسق من الوحدات التركيبية التالية:
أ- ولما كنت في مضمار سلفك جارياً
ب- ولنا موالياً
جـ- وفي قضاء طاعتنا متباهياً
لقد جاء هذا النسق في ثلاث وحدات متفاوتة من حيث الطول والقصر ليعكس إرادة الكاتب في تهيئة المخاطب بجملة شرطية تجعله في وضع تأهب وترقب لسماع المزيد والاستعداد للقيام بما يطلب منه؛ ولهذا جاءت هذه الوحدات اللغوية محصورة الدلالة تدعو إلى معنى هو ردف المعنى المركزي أو صنوه أو ما يترتب عنه. لقد كانت الوحدتان (أ،جـ) طويلتين بالقياس إلى الوحدة (ب) لحاجة المعنى المعبر عنه لذلك. ثم إن الوحدة (أ) جاءت في ثلاثة عناصر هي المخاطب والسلف واتباع آثار السلف، ثم هناك الفعل الكلامي الذي يربط بين هذه العناصر في وحدة تركيبية اعتمدت التقديم والتأخير بما تقتضيه خصائص اللغة العربية في التعبير، فلو قلنا ولما كنت جارياً في مضمار سلفك لفسد المعنى وذهب رونقه.
أما الوحدة الثانية (لنا مواليا) فكانت في عنصرين هي المتكلم والمخاطب والعلاقة التي تجمع بينهما هي الولاء الذي لا يكون إلا بين اثنين؛ ولهذا لم يحتج الكاتب إلى أكثر من هذا ليغطي هذا المعنى. ثم إن (نا) المتكلم جاءت لتدل على عظمة المتكلم وعلو شأنه ومرتبته، والتي تحتم على المخاطب الولاء والاحترام والانقياد، وقد اقترنت بـ(موالياً) لتعكس تلك العلاقة الرابطة بين المتكلم والمخاطب وهي علاقة تجاور وبناء، وعلاقة تزكية المعنى ليبدو فخماً، خاصة إذا قرأ في سياقه التاريخي والاجتماعي والأدبي.
وجاءت الوحدة الثالثة "وفي قضاء طاعتنا متباهياً" فعلاً كلامياً يؤكد تلك العلاقة التي تربط المتكلم بالمتلقي إلى درجة التباهي بالإخلاص والطاعة، والقيام بالخدمة. لقد جاءت هذه الوحدة في موقع المفعول لفعل وفاعل "كنت" وهي رابطة النسق بوحداته الثلاثة.
-النسق الثاني: لقد تشاكل هذا النسق مع النسق الأول، فأسهم في تقوية المعنى عن طريق وحداته المتفاوتة نسبياً في الطول، فأعطت النص إيقاعاً خاصاً. لقد تكوّن هذا النسق من الوحدات التالية:
أ- رأينا أن تثبت مبانيك
ب- ونؤكد أواخيك
ج- ونوجب لك ولخلفك ما أوجبه سلفنا لسلفك
د- تمييزاً لهم عن الأكفاء، ومجازاة لهم عن محض الصفاء والولاء
ولعل اللافت للنظر أن هذه الوحدات قد غلبت عليها الجمل الفعلية، والتي جاءت لتدلّ على الحدث والحركة والفاعلية، وتطالب بموقف يكون جواباً على الجملة الشرطية التي بدأ بها النسق الأول وقد اختار الكاتب الفعل "رأى" هذا الفعل المفتوح الدلالة، والذي يقبل الدخول على الأسماء وعلى الأفعال على حد سواء ليوجهها نحو دلالات جديدة ومتنوعة تفهم من سياق الكلام. لقد وفق ابن القالمي في اختيار هذه الوحدات المكوّنة لهذا النسق، كما وفقّ في تركيب هذه الوحدات داخلياً على مستوى كل واحدة، وخارجياً على مستوى كل الوحدات من حيث المعنى والمبنى، ولعل "التطابق بين جدول التوزيع الذي للرصف، وجدول الاختيار الذي للنمطية الاستبدالية يقرر الانسجام بين مفردات النص الأدبي، باعتبارها* علامات استبدالية، أي وحدات لغوية معجمية في عملية الإبلاغ."(55)
إنّ وحدات هذا النسق جاءت متعادلة من حيث دلالة التركيب على معناه، فتعادلت التراكيب مع دلالتها، وأدّت إلى نمطية لغوية ومعجمية لهذا النص، وعلى الرغم من أنّ صيغته كانت تقليدية، إلاّ أنه نص قائم بذاته، له خصوصية أسلوبية وبنوية تتجه دلالياً نحو المعنى لتكشف عن المضمون الإبلاغي للعلامات اللغوية عن طريق تشاكل ألفاظ هذا النسق وتقابلها، كاقتران تثبيت المباني وتوكيد الأواخي، حيث تطابقت هذه الألفاظ مع بعضها لتقوية المعنى وإرساليته.
لقد احتوى هذا النسق على ألفاظ متقابلة، من مثل "توجب لك ولخلفك، ما أوجبه سلفنا لسلفك" فذكره الخلف والسلف كان مكوناً مباشراً اعتمد على الجمع بين هذين المتناقضين، وبهذا أدى هذا النسق وظيفته الأسلوبية المتعددة الجوانب من حيث علاقتها، كعلاقة النص بالمتكلم، أو علاقة المتكلم بالمخاطب، أو علاقة النص بالمخاطب إلى غير ذلك من العلاقات الممكنة.
لقد حدد جاكبسون الوظيفة الأسلوبية انطلاقاً من مثل هذه العلاقات وكانت هذه الوظيفة متنوعة انطلاقاً من الرسالة والباث والمتلقي.(56)
1-الوظيفة المرجعية : وهي متمركزة حول السياق اللفظي أو القابل أن يكون لفظياً ذلك الذي تحيل إليه الإرسالية.
2-الوظيفة الإنفعالية : وهي متمركزة حول المرسل
3-الوظيفة الإفهامية : وهي متمركزة حول المرسل إليه
4-الوظيفة الانتباهية : وهي متمركزة حول الحفاظ على التواصل بين المسنن ومفكك السنن.
5-الوظيفة الميتالغوية: (المعجمية) وهي متمركزة حول السنن المشترك بين المرسل والمرسل إليه.
6-الوظيفة الشعرية : وهي متمركزة حول قصد الإرسالية باعتبارها* كذلك- وهذه الوظيفة هي التي توضح الجانب الملموس من الدلائل، وتعمّق هذه الوجهة نفسها، الثنائية الأساسية للدلائل والموضوعات.
-النسق الثالث: هذا النسق نهاية للرسالة وختاماً لها، وقد جاء في وحدة لغوية واحدة مرتكزة على اقتباس من القرآن الكريم. قال ابن القالمي: "... فاستدم هذه النعمة العظيم خطرها بالشكر فأنت به جدير، (ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكورا]، وبذلك قوّى هذا الكتاب من خطابه الإقناعي بهذا الاقتباس الذي كان بمثابة قفل الخطاب، وحسناً فعل لما استثمر الحمولة المعرفية للنص الديني في سبيل تمرير رسالته، وفي الوقت ذاته توجيه المخاطب نحو فعل إنجازي معين، ولم يكن هذا الاستثمار استثماراً مغلقاً يستعمل النص الديني استعمالاً معيارياً، بل أوجد آفاقاً مفتوحة من ربطه لما سبق من الكلام، فكان تزكية للمعنى وتفخيماً له لأهميته.
111- ومن النصوص النثرية المهمة في هذا العصر، نص لأبي بكر ابن القصيرة كتبه عن أبي الحسن علي بن يوسف بن تاشفين إلى صاحب قلعة حماد إجابة له عن رسالة بعث بها إليه. يقول ابن القصيرة: "وصل كتابك الذي أنفذته من وادي منى صادراً عن الوجهة التي استظهرت عليك بأضدادك، وأجحفت بطارفك وتلادك، وأخفقت فيها من مطلبك ومرادك، فوقفنا على معانيه، وعرفنا المصرح به، والمشار إليه فيه، ووجدناك تجعل سيئك حسناً، ونكرك معروفاً، وخلافك صواباً بيّناً. وتقضي لنفسك بفلج الخصام، توليه الحجة البالغة في صحيح الأحكام، ولم تتأول أنّ وراء كل حجة أدليت بها ما يدحضها. إزاء كل دعوة أبرمتها ما ينقضها."(57).
يعدّ هذا النص من أرقى النصوص النثرية الجزائرية في العصر الحمادي لاشتماله على خصائص أسلوبية جمالية في حدود نظام لغوي خاص يكشف عن حسن تمكن الكاتب من ناصية اللغة، وتطويعها لخدمة متصوراته الذهنية، فكانت رسالته رداً منطقياً على رسالة صاحب القلعة، قرنت الحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان؛ فكانت خطاباً إقناعياً يكشف عن قوة شخصية الكاتب، ووثوقه في نفسه. حيث انطلق من موقع قوة في مخاطبة صاحب القلعة، وكانت لغته لغة داحضة لكل مزاعم الرسالة الأولى.
خصائص النص الأسلوبية:
أ- ويبدو أنّ ابن القصيرة استفاد من الخصائص الأسلوبية للغة العربية، حيث استثمر الألفاظ المتقابلة والألفاظ المتشاكلة في بناء لحمة النص وبنيته، وأوجد علاقة إسنادية بين هذه الألفاظ في سبيل تكوين الجهاز اللغوي لهذه الرسالة الذي ينهل من حقيقة هذه الألفاظ ومن مجازها في تناسب وتناسق يخدمان هذا الخطاب. "فأقسام التقابل يمكن أن تندرج تحت مفهوم التناسب، حيث تتقابل وحدات معنوية مع وحدات معنوية أخرى نحو قوله تعالى: "فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً" فالضحك يتناسب مع البكاء، والقلة تناسب الكثرة." (85)
إنّ هذا الصنيع يعمل على تحريك الدلالة وتحويلها مما يجعل للجهاز اللغوي قدرات تعبيرية، وآفاقاً واسعة للكشف عن المتصورات الذهنية عن طريق هذه الاستعمالات.
وابن القصيرة استعمل الألفاظ هذا الاستعمال، يقول، على سبيل المثال: "... فوقفنا على معانيه، وعرفنا المصرح به، والمشار إليه فيه، ووجدناك تجعل سيئك حسناً، ونكرك معروفاً، وخلافك صواباً بيّناً..." فوّفق الكاتب في إيجاد تناسب بين الألفاظ المتقابلة كالتصريح، والإشارة أو كالسيء والحسن، أو النكر والمعروف، أو الخلاف والصواب.
وعلى الرغم من تناقض هذه الألفاظ، إلاّ أنها في هذا النص قد استطاعت أن تتناسب وتتوافق في سبيل الكشف عما أراده الكاتب، وفي التأثير على المخاطب خلال تمكّنه من اللغة، فشكّلها كيف ما أراد، واستعمل الألفاظ استعمالاً متقابلاً مراعياً في ذلك قواعد اللغة التعبيرية؛ لأن المتكلم عندما يختار المادة اللغوية يقع بلا شك تحت تأثير النظام الخاص بلغته، والذي يأخذ بهذه الخاصية الأسلوبية سواء عند المتكلم أو عند السامع.
وتؤدي هذه الخاصية إلى التوازن اللفظي والتوازن المعنوي للنص من خلال فواصله المكوّنة له.
إنّ هذه الفواصل أدّت إلى تكرار نمطي يأخذ صورة أكثر إيقاعاً، ويوّلد تناسباً صوتياً يساهم في الكشف عن الغرض من وضع الخطاب، وقد اشترط "البلاغيون أن تكون فواصل الأسجاع موضوعة على أن تكون ساكنة الإعجاز، موقوفاً عليها بالسكون في حال الوقف والدرج؛ لأن الغرض معه هو التناسب بين القرائن أو المزاوجة بين النثر وذلك لا يتم إلا بالوقف والسكون." (59) وعودة إلى ما ذكرناه من النص تؤكد هذا التكرار النمطي الذي جاء عن طريق تقابل الألفاظ ومعانيها، فالتصريح يقابل الإشارة، والإحسان يقابل الإساءة وهكذا.
ثم إنّ الفواصل المكوّنة للنص اتسمت بخاصية الوقف والسكون سواء الفواصل الأولى التي انتهت بصوت الكاف، أو الثانية التي انتهت بصوت الهاء، ثم الفواصل الأخرى التي انتهت بالتنوين إلى آخر النص وبهذا جاء فصيحاً بعيداً عن التنافر والتماثل الذين يؤديان إلى اللبس والغموض معتمداً على مبدأ التخالف الذي يحقق التناسب بين المعاني المتخالفة ويعطي الخطاب أبعاداً جمالية تحقق التواصل.
ب- لقد اختار الكاتب ألفاظه اختياراً موفقاً من حيث التقابل أو التشاكل في سبيل تزكية المعنى وتوضيحه وتوصيله إلى المخاطب، يقول ابن القصيرة، على سبيل المثال: "... ولم تتأول أنّ وراء كل حجة أدليت بها ما يدحضها. إزاء كل دعوة أبرمتها ما ينقضها." فأسهم مثل هذا التشاكل والتجاور في تقوية القدرة الإيحائية للنص؛ لأن التشاكل يقوم "على اكتساب الألفاظ من المجاورة تمازجاً في الدلالة يخرجها عن النمط المألوف، ويعدل بها عن دلالة المطابقة إلى الناحية الإبداعية، وهذا التمازج لا يتمثل في التكرار المجسم في العبارة، بل إنه يتحقق ذهنياً من خلال تقدير المجاورة في الدلالة وما يستتبع ذلك من تمازجها."(60)
لقد استعمل الكاتب ألفاظه استعمالاً إبداعياً يعتمد على مراوغة اللغة من خلال إعطاء هذه الألفاظ دلالات جديدة عن طريق تجاوزها وتوزيعها داخل النص، فأفاد في تشاكل الجمل فيما بينها لتحقق التواصل من خلال العلائق الإسنادية التي أوجدها الكاتب؛ لأنّ اللفظ قد يحمل أكثر من دلالة لعدم ارتباطه بسياق واحد، وهو ههنا مرتبط بالسياق الذي أورده فيه ابن القصيرة. ويكشف هذا العمل عن حسن تصرف في الأداء الفنيّ للغة. "فالكلام يدور بين احتمالات ثلاثة هي خلو الذهن عن الحكم، أو التردد في قبوله، وإنكاره كلية، والصياغة تأخذ خواصها التركيبية في كل حالة باستخدام الأدوات اللغوية التي تقدم الكلام خالياً من التوكيد أو المؤكد مراعاة لمقتضى الحال."(61)
ويبدو أنّ هذا النص لا يتماشى والاحتمال الأول، بينما يتردد بين الاحتمالين الثاني والثالث، فالمتخاطبان على علم بحال الخطاب، وهناك تردد في قبول الحكم أو إنكاره كلية، ولهذا عمد ابن القصيرة إلى إقناع المخاطب، ونقله من حال التردد إلى حال القبول والانصياع، نقله من اليقين فيما يزعم إلى الشك فيه والتحول عنه إلى اليقين المخاطب، فجاءت الرسالة رداً منطقياً على رسالة صاحب القلعة في أسلوب متين، وفي سجع جميل، وبألفاظ منتقاة فصيحة محققاً لشروط الصناعة اللفظية التي اشترطها ابن الأثير(1) وهي:
1- اختيار الألفاظ المفردة، وحكم ذلك اللآلي المبددة، فإنها تتخير وتنتقي قبل النظم.
2- نظم كل كلمة مع أختها المشاكلة لها، لئلا يجيء الكلام قلقاً نافراً عن مواضعه، وحكم ذلك حكم العقد المنظوم في اقتران كلؤلؤة منه بأختها المشاكلة لها.
3- الغرض المقصود من ذلك الكلام على اختلاف أنواعه، وحكم ذلك حكم الموضع الذي يوضع فيه العقد المنظوم، فتارة يجعل إكليلاً على الرأس، وتارة يجعل قلادة في العنق، وتارة يجعل شنقاً في الأذن، ولكل موضع من هذه المواضع هيئة من الحسن تخصه.
جـ- جماليات هذا النص، حسن استعماله الضمائر، والتحول من ضمير المخاطب إلى ضمير الغيبة ثم العودة إلى ضمير المخاطب ثانية، وهكذا دواليك. فقد انتهت الفواصل الأولى من هذه الرسالة بضمير الكاف الذي يستعمل للدلالة على المخاطب. يقول ابن القصيرة "وصل كتابك الذي أنفذته من وادي منى صادراً عن الوجهة التي استظهرت عليك بأضدادك، وأجحفت بطارفك وتلادك، وأخفقت فيها من مطلبك ومرادك." وهذا لأنّ الكاتب أراد أن يستحضر المخاطب ويواجهه مباشرة لشدّ انتباهه وتشويقه ليكون أكثر جدية في استقبال الرسالة وتتبع مضمونها، وإعطائها القيمة والاهتمام اللذين تحتاجهما.
ثم انتقل إلى الضمير الغائب في الفواصل التالية"... فوقفنا على معانيه، وعرفنا المصرح به، والمشار إليه فيه." ليوّجه الحديث عن الرسالة الأولى، وهذا نوع من الالتفات.
"والالتفات نقل الكلام من حالة المتكلم أو الخطاب أو الغيبة إلى حالة أخرى."(62) وقد أراد الكاتب أن يلفت النظر إلى الرسالة، موضوع الحديث، التي أراد الردّ عليها.
وليكشف عن أن استقبالها تم بطريقة جيّدة وحسنة، فقد فهمت كل معانيها الظاهرة والخفية، الحقيقية والمجازية، وبعد هذا عاد الكاتب إلى كاف المخاطب حيث يقول: "ووجدناك تجعل سيئك حسناً، ونكرك معروفاً، وخلافك صواباً بيّناً. وتقضي لنفسك بفلج الخصام، توليه الحجة البالغة في صحيح الأحكام" وتحمل هذه النقلة خصوصية أسلوبية؛ ذلك أنه أراد أن يخص المخاطب ثانية بالحديث ويوجه الكلام إليه ليكون ذلك أكثر إقناعاً وتوجيه لهذا المخاطب، وليضعف عنده قوة الحجة والبرهان، ليسفه من أمره وشأنه وشأن رسالته. وجمع في الفواصل التالية بين الضميرين، يقول "ولم تتأول أنّ وراء كل حجة أدليت بها ما يدحضها. إزاء كل دعوة أبرمتها ما ينقضها." لينقل الحديث إلى مستوى آخر لتقوية الخطاب ليكون إقناع وبذلك يؤدي وظيفته.
[grade="0000FF FF6347 008000 4B0082"]الإحالات
1- Bourdicu. P cc que parler vcut dire ED Fayard 1982. P. 27
2- عبد الحليم عويس 1980 دولة بني حماد 28 ط1 دار الشروق. وينظر أحمد شلبي 1972 التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية 6: 168 ط1 مكتبة النهضة المصرية.
3- دولة بني حماد 268.
4- ينظر عبد العزيز بن عبد الله 1962 تاريخ الحضارة المغربية 2: 22 دار السلمى- دار البيضاء.
5- دولة بني حماد 247.
6- الكعاك عثمان بلاغة العرب في الجزائر 29 مكتبة العرب تونس.
7- رلبح بونار 1968 المغرب العربي تاريخه وحضارته 283 الشركة الوطنية للنشر والتوزيع.
8- ينظر الكعاك عثمان 1925 موجز التاريخ العام للجزائر 280 نشر مكتبة العرب بتونس.
9- دولة بني حماد 249.
10- المغرب العربي 282.
11- ابن الأثير الكامل في التاريخ 8: 91 ط:6 دار الكتاب العربي بيروت.
12- ينظر ابن بسام القسم الرابع من المجلد الأول من الذخيرة- كما ترجم المقري في نفح الطيب لمائتين وخمسين ممن رحلوا من الأندلس إلى المشرق من العلماء والأدباء والفقهاء، وترجم لمن رحلوا من المشرق إلى الأندلس.
13- أبو العباس الغبريني 1328هـ عنوان الدراية من عرف من العلماء في المائة السابعة ببجاية 32 المطبعة الثعالبية الجزائر.
14- عبد القادر جغلول 1982 مقدمات في تاريخ المغرب العربي القديم والوسيط 40.
15- المرجع نفسه 41.
16- نفسه 43.42.
17- ينظر دولة بني حماد 283.
18- مقدمات في تاريخ المغرب العربي 59.
19- المرجع نفسه 72.71.
20- دولة بني حماد 285.
21- مقدمات في تاريخ المغرب العربي 72. 73. 74.
22- المرجع نفسه 78.
23- المرجع نفسه 78
24- أحمد محمد أبو زراق 1979 الأدب في عصر بني حماد 173 الشركة الوطنية للنشر والتوزيع.
25- ينظر لسان الدين بن الخطيب 1964 أعمال الأعمال فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام 71- 85 القسم الثالث، تح أحمد مختار العبادي، محمد إبراهيم الكتاني- الدار البيضاء.
26- موجز التاريخ العام للجزائر 267.
27- الأدب في عصر دولة بني حماد 174.
28- ابن الأثير الكامل في التاريخ 8: 102.
29- العماد الأصفهاني 1973 خريدة القصر وجريدة العصر قسم شعراء المغرب 1: 179 تح محمد المرزوقي. محمد العروسي المطوي، الجيلاني بن الحاج يحيى، النشرة الثانية. الدار التونسية للنشر.
30- عبد السلام المسدي 1983 النقد والحداثة 59 ط1 دار الطليعة بيروت.
31- محمد العيد 1989 النقد والإبداع الأدبي 61 ط1 دار الفكر للدراسات القاهرة.
32- فندريس. ج. اللغة 36 تر: عبد الحميد الدواخلي، محمد القصاص. مكتبة الأنجلو مصرية.
33- فائز الداية 1985 علم الدلالة العربي 77 ط1 دار الفكر دمشق
34- ابن الأنباري الأضداد.
35- ميكائيل ريفاتير 1993 معايير تحليل الأسلوب 56 ط1 تر: حميد لحمداني منشورات دار سال، الدار البيضاء.
36- اللغة والإبداع الأدبي 207.
37- النقد والحداثة 58.
38- عبد الملك مرتاض 1992 أ. ي. 70 ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر.
39- اللغة والإبداع الأدبي 35.
40- عز الدين مناصرة وآخرون- ندوة العلوم الإنسانية والقراءات 11 مجلة كتابات معاصرة- المجلد الرابع العدد 15 أيلول 1992 بيروت.
41- أحمد مختار عمر 1988 علم الدلالة 80 ط1 عالم الكتب القاهرة عن Theory og mcaning. 14.
42- ينظر. Gcorgc Mounin clcfs pour la linguistiquc P. 160 Paris Scghcr 1971
43- أحمد حساني 1994 مباحث في اللسانيات 164 ديوان المطبوعات الجامعية- الجزائر.
44- المرجع نفسه 164 وما بعدها.
45- الشورى: 28.
46- الخريدة: 180- 181
47- عدنان بن ذريل 1981 اللغة والدلالة 111 منشورات اتحاد الكتاب العرب- دمشق.
48- الجاحظ، أبو بحر عثمان 1969 البيان والتبيين 1: 206 تح عبد السلام هارون مطبعة الخانجي مصر.
49- تمام حسان اللغة العربية معناها ومبناها 265 دار الثقافة الدار البيضاء المغرب.
50- رينيه ويليك 1985 نظرية الأدب 159 ط 111 تر: محيي الدين صبحي المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
51- كريم زكي حسام الدين 1992 الدلالة الصوتية 148 ط1 مكتبة الأنجلو مصرية.
52- زكرياء ميشال 1980 الألسنية (علم اللغة والحديث) مبادئها وأعلامها 254 ط1 المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر بيروت.
53- المرجع نفسه 246.
54- عدنان بن ذريل الأسلوبية 256 مجلة الفكر العربي العدد 25 عدد خاص بنظرية الأدب والنقد الأدبي.
55- ينظر معايير تحليل الأسلوب 68.
56- أبو نصر الفتح بن خاقان 1320 هـ قلائد العيان في محاسن الأعيان 49 مطبعة التقدم العلمية، القاهرة.
57- محمد عبد المطلب 1984 البلاغة والأسلوبية 217 الهيئة المصرية للكاتب.
58- المرجع نفسه 218.
59- المرجع نفسه 225.
60- المرجع نفسه 192.
61- ابن الأثير المثل السائر 1: 210 ط1 تح: أحمد الحوفي، بدوي طبانة نهضة مصر
اللغة والإبداع الأدبي 15.[/grade]
نكمل إن شاء الله
عبدالله عمر
تعليق