تعجز عقولنا القاصرة عن تصور حجم الكون، وذلك مع العلم بالأرقام الكبيرة بفواصلها والقياسات الدالّة على المسافات بين النجوم والمجرات، إننا نكتفي فقط بالإندهاش لعجزنا عن التصور وحده!
ليست هذه مقدمة للقصة بالمعنى الصحيح، فاعذروني..
------------------------------------------------
من نافــــذتي
(قصة قصيرة)
"سأجلس أبداً قرب هذه النافذة، أراقب الرائح والغادي و تدفئني انعكاسات شمس الظهيرة عن المباني الأسمنتية المقابلة". ارتعشت للفكرة الحتمية في زوال المكان والزمان. ومن على الكرسي المعدني المدولب الذي ألفته وألفها، كانت عيناها النفاذتين تساعدناها في مشاهدة الكثير من الأحداث و وتفاصيلها في الحي، وأحياناً كانت تسمح لنفسها باختلاس النظر عبر النوافذ الزجاجية والستائر المشرَّعة لما يحدث بداخل تلك الغرف، فتراقب تحركات البشر في مساكنهم وتتخيل الحوارات التي تدور بينهم وتنسج منها قصصا وأحداثاً تتابعها بشوق واهتمام حقيقي.
ربما يكون العالم واسعاً، بل هائلاً في الإتساع بحيث لا يعدو عالمها الصغير المشتمل على جميع أحداث حياتها وذكرياتها المحفوظة بعناية شيئاً يذكر... بل لا شيء بالمرة في الحقيقة!
هكذا كانت تفكر كثيراً في الصباحات الباكرة بينما تراقب بزوغ الأطفال من بيوتهم بحقائبهم المدرسية، وتجمّعهم في مجموعات صغيرة تطلق كل منها أناشيد حيّة من الضحك البريء والأصوات الطفولية، يتجهون جميعاً إلى المدرسة. المكان الذي ظلت تعتقد إنه بوابة دخول الزمن والسفر إلى الحلم والحقيقة معاً وهناك فقط ربما تستطيع أن تتذوق سعة العالم ورحابته الحقيقية.
في ظهيرة ذلك اليوم، حضرت (ميّ) الصديقة من مدرستها مباشرة وقد أندى جبينها المسمّر العرق، لاهثةً من الضحك والركض والصخب مع زميلاتها في الطريق، وكما كانت تفعل كثيراً، جاءت اليوم لزيارة صديقتها المقعدة لتحكي لها عن ذلك العالم الخلاب (المدرسة).
-هل تعرفين مالذي حدث اليوم في المدرسة؟ ...
-ماذا؟ ماذا حدث؟ هيا أخبريني..
لم تكن مي تنتظر الإذن من صديقتها لتحكي ولكنها كانت في حاجة إلى بعض الوقت لإستعادة أنفاسها المتعبة فحسب، فراحت تحكي بانفعال شديد وعينين مفتوحتين على أشد اتساعهما: ( لقد كنا نقطف ثمار التوت من أشجار الفناء الخلفي، وكانت الثمار الأكثر نضوجاً وحلاوة في أعلى الشجرة.... فقررنا أن نحمل أقلنا وزناً ونرفعها لتجلب إلينا الثمار. تطوعت زميلتنا (علياء) للمهمة و حملناها على أكتافنا، وبينما هي منهمكة في قطف التوت، شاهدتنا المديرة من نافذة مكتبها، وصرخت علينا... ).
اتسعت عينا شذى إنفعالاً هي الأخرى: -(و ما ...وماذا حدث؟...)
-(أجفلنا نحن من كانت علياء تقف على أكتافهن، وارتبكنا فوقعت علياء في حين كنا منشغلات بالهرب،فلم ننتبه لعلياء!..)
وسيطر القلق والشعور بالذنب على تعابير وجه مي فجأة فتلعثمت وهي تعلم كم إن الجزء الأخير من الحكاية مربكاً، ولكنها شعرت إنها إنما جاءت لتروي هذا الجزء بالتحديد لصديقتها المقعدة، فأكملت تقول وقد خف إنفاعلها بعض الشيء: (علمنا فيما بعد أن ساق علياء كُسِرَت، وأنها ستبقى في جبيرةٍ... ربما، لعدة أسابيع!) وراحت تتفرس في ملامح الطفلة المقعدة، تحاول أن تستشف شعورها إزاء الخبر.
انتاب قلب شذى المرهف شيء من السرور الغامض وهي تتخيل علياء راقدة في المستشفى عاجزة عن الحركة أو المشي عبر الغرفة حتى لقضاء حاجة بسيطة! لم تعتد الطفلة الوحيدة أن تؤنب نفسها على مثل هذه المشاعر، فلم تمر من قبل بكثير من المواقف التي تحثها على مقاومة ما تشعر به، ولكنها وجدت نفسها تتنهد تلقائياً و تقول بأسف فعليّ: (أوه!... إذن، إن علياء ستتغيب عن المدرسة لفترة..)
وأجابت مي مكمّلةً بأسف واضح: ( وسيكون لديها عذر جيد لكيلا تؤدي الإمتحان الشفهي للرياضيات غداً!)
-وتساءلت شذى بطريقتها المباشرة المعتادة: -(مي، هل تظنين أنه كان من الأفضل لو أنكِ كنتِ المصابة بدلاً من علياء؟)
- و نمّ وجه ميّ عن تكشيرة متقززة: -(كلا بكل تأكيد! ... فكم أكره تدليل الممرضات في قسم الأطفال!)
فابتسمت شذى للتعليق، وعقب ذلك مباشرة تضاحك الطفلتين بمرح ...
وبعد ذلك بساعتين، كانت شذى تجلس بكرسيها المدولب قرب النافذة، تراقب الطريق وبيوت الحي الساطعة و هدوء مابعد الظهيرة، وبدت جِدّ مندهشة ومسرورة بحجم عالمها.
ليست هذه مقدمة للقصة بالمعنى الصحيح، فاعذروني..
------------------------------------------------
من نافــــذتي
(قصة قصيرة)
"سأجلس أبداً قرب هذه النافذة، أراقب الرائح والغادي و تدفئني انعكاسات شمس الظهيرة عن المباني الأسمنتية المقابلة". ارتعشت للفكرة الحتمية في زوال المكان والزمان. ومن على الكرسي المعدني المدولب الذي ألفته وألفها، كانت عيناها النفاذتين تساعدناها في مشاهدة الكثير من الأحداث و وتفاصيلها في الحي، وأحياناً كانت تسمح لنفسها باختلاس النظر عبر النوافذ الزجاجية والستائر المشرَّعة لما يحدث بداخل تلك الغرف، فتراقب تحركات البشر في مساكنهم وتتخيل الحوارات التي تدور بينهم وتنسج منها قصصا وأحداثاً تتابعها بشوق واهتمام حقيقي.
ربما يكون العالم واسعاً، بل هائلاً في الإتساع بحيث لا يعدو عالمها الصغير المشتمل على جميع أحداث حياتها وذكرياتها المحفوظة بعناية شيئاً يذكر... بل لا شيء بالمرة في الحقيقة!
هكذا كانت تفكر كثيراً في الصباحات الباكرة بينما تراقب بزوغ الأطفال من بيوتهم بحقائبهم المدرسية، وتجمّعهم في مجموعات صغيرة تطلق كل منها أناشيد حيّة من الضحك البريء والأصوات الطفولية، يتجهون جميعاً إلى المدرسة. المكان الذي ظلت تعتقد إنه بوابة دخول الزمن والسفر إلى الحلم والحقيقة معاً وهناك فقط ربما تستطيع أن تتذوق سعة العالم ورحابته الحقيقية.
في ظهيرة ذلك اليوم، حضرت (ميّ) الصديقة من مدرستها مباشرة وقد أندى جبينها المسمّر العرق، لاهثةً من الضحك والركض والصخب مع زميلاتها في الطريق، وكما كانت تفعل كثيراً، جاءت اليوم لزيارة صديقتها المقعدة لتحكي لها عن ذلك العالم الخلاب (المدرسة).
-هل تعرفين مالذي حدث اليوم في المدرسة؟ ...
-ماذا؟ ماذا حدث؟ هيا أخبريني..
لم تكن مي تنتظر الإذن من صديقتها لتحكي ولكنها كانت في حاجة إلى بعض الوقت لإستعادة أنفاسها المتعبة فحسب، فراحت تحكي بانفعال شديد وعينين مفتوحتين على أشد اتساعهما: ( لقد كنا نقطف ثمار التوت من أشجار الفناء الخلفي، وكانت الثمار الأكثر نضوجاً وحلاوة في أعلى الشجرة.... فقررنا أن نحمل أقلنا وزناً ونرفعها لتجلب إلينا الثمار. تطوعت زميلتنا (علياء) للمهمة و حملناها على أكتافنا، وبينما هي منهمكة في قطف التوت، شاهدتنا المديرة من نافذة مكتبها، وصرخت علينا... ).
اتسعت عينا شذى إنفعالاً هي الأخرى: -(و ما ...وماذا حدث؟...)
-(أجفلنا نحن من كانت علياء تقف على أكتافهن، وارتبكنا فوقعت علياء في حين كنا منشغلات بالهرب،فلم ننتبه لعلياء!..)
وسيطر القلق والشعور بالذنب على تعابير وجه مي فجأة فتلعثمت وهي تعلم كم إن الجزء الأخير من الحكاية مربكاً، ولكنها شعرت إنها إنما جاءت لتروي هذا الجزء بالتحديد لصديقتها المقعدة، فأكملت تقول وقد خف إنفاعلها بعض الشيء: (علمنا فيما بعد أن ساق علياء كُسِرَت، وأنها ستبقى في جبيرةٍ... ربما، لعدة أسابيع!) وراحت تتفرس في ملامح الطفلة المقعدة، تحاول أن تستشف شعورها إزاء الخبر.
انتاب قلب شذى المرهف شيء من السرور الغامض وهي تتخيل علياء راقدة في المستشفى عاجزة عن الحركة أو المشي عبر الغرفة حتى لقضاء حاجة بسيطة! لم تعتد الطفلة الوحيدة أن تؤنب نفسها على مثل هذه المشاعر، فلم تمر من قبل بكثير من المواقف التي تحثها على مقاومة ما تشعر به، ولكنها وجدت نفسها تتنهد تلقائياً و تقول بأسف فعليّ: (أوه!... إذن، إن علياء ستتغيب عن المدرسة لفترة..)
وأجابت مي مكمّلةً بأسف واضح: ( وسيكون لديها عذر جيد لكيلا تؤدي الإمتحان الشفهي للرياضيات غداً!)
-وتساءلت شذى بطريقتها المباشرة المعتادة: -(مي، هل تظنين أنه كان من الأفضل لو أنكِ كنتِ المصابة بدلاً من علياء؟)
- و نمّ وجه ميّ عن تكشيرة متقززة: -(كلا بكل تأكيد! ... فكم أكره تدليل الممرضات في قسم الأطفال!)
فابتسمت شذى للتعليق، وعقب ذلك مباشرة تضاحك الطفلتين بمرح ...
وبعد ذلك بساعتين، كانت شذى تجلس بكرسيها المدولب قرب النافذة، تراقب الطريق وبيوت الحي الساطعة و هدوء مابعد الظهيرة، وبدت جِدّ مندهشة ومسرورة بحجم عالمها.
فتاة الموسيقا
11 فبراير 2006م
11 فبراير 2006م
تعليق