بعدَ قليلْ سَيلفِظُ أنفاسِه الأخيرَة .هكذا تظن أناهُ اليائسِة , تظن أمهُ التي لا تَملُّ البكاءَ. و يظن كل مَن حَولِه.
سَيرحلْ , إلى الموتِ الذي يلوحُ في السماءِ ويقترب ْ..
جسدهُ العالقُ بين أنيابِ السريرِ ينتفضُ كدجاجةٍ تحَتَضرْ, يَشعرُ بالبردِ. شيئا ما غيرَ الدمِ يسرِي في عروقهِ. شيئا غير المرضِ , غير الحبِ , غير الذكرياتِ .. تجمعتْ في عينيِه كل الأزمانِ التي مضَت ..
كأنهِ الآنِ بينَ أحشاءِها, ينمو ليَحيَى .يخرِجُ بين يدي "الدايةِ" صامِتا . يتَلقى بعدها ضربةً حانِية تُخبِرُه أن سُـلَّمَ الحياةِ يجب أن يبدأ بالبكاءِ , لينتهِي بِما هوَ أفجعُ..
يَطرُقُهُ مسح أمه على رأسه, يَحيدُ عن الذكرى. يسْتشعرُ لمساتِها,شيئا مِنَ الحنانِ يلامسُ قلبهُ. هذهِ اليدِ سَتذْبلْ , لمْ تَكفْ عنْ مَسحِ رَأسِه منذُ الصَّباحِ . تَرجَّاها في صمتٍ أن تًريحَهَا. سبقَ و أن ضَحَّتْ بِظَهرِهَا لأجلهِ. يَتذكرُّ صَيفاً مَضَى , يومَ تَشافَى مِنَ "الحِمِّيْقَى", اشْتهَى أنْ يَأكلَ رَطَبَا. لَم يَكُنْ وَالدِهُ مَتَواجِدًا حِينَها . لكِّنهَا لمْ تَتهاوَنْ .تَسلَقت "تخرفُ" النخلَة بِنفسها... سَقَطتْ وانْكَسرْ ظَهرها. هوَنتْ عَليهِ مُصِيبَتَها إِذ قَالَتْ : ( عَادي يا وَلدِي , انتَه ظَهرِي).
ها هو يَحبُو نحوَ البابِ الخَشبِي المُطلْ على الفناءِ . حِينَ يَرى امتدادَ الفَراغِ في الخارجِ عَبرَ بُؤبُئَيهِ الصغيرَين, لا يَصغي إلا للحياةِ , مُصوِّبة ثَديهَا نحوَه كأمٍ حَنونْ .
تصرخُ أمُه في غضبٍ وهي تكمل الخياطة: ( تعال من هناك الباب بيسكرْ على يدك). يعود مطيعا: ( ني نيييه ) . تحملهُ أخْته زينبٌ. تقذفُه عالياً , ثم تتلقفُه . يَنتشِي , فَتقذْفه من جديدٍ . يَسقِط أرضاً . تتوشحُ الأرضُ الدمَ. يَمِنُّ عليهِ القدرُ بفرصَةٍ ثَانيةٍ ,و حِينَ يَتشافَى ينامُ على منزٍ معطرٍ محفوفٍ بهم . يتبادلونَ ضمِّه إلى أحضانِهم. يملئوُنَه بالقبلاتِ.
يعودُ إلى واقعِهِ , لِيدِركَ أنَّه يَعيشُ المَشهَدَ ذاتِه , لَم يَتَغيَّروا, سِوَى أنَّهمْ كَانوْا يَجتمِعونَ لِعودَته , واليومَ لرحيلهِ .. لا شيء تغيَر سوَى أنَّ ذاكَ البريقُ في أعينِهم انطفىء , أصوَاتهم الطفوليةَ أثناءَ مداعبتِه تحولتْ إلى مواساةٍ , و صار جسده أكبر مِن أَنْ ينغَمس في أحضانِهم .
لم يتغيروا .. يُصارِع أجفَانَه المتجرِّحة ليـَتثَـبَّتْ ذلك. يَتأملْ وجهَ زينبٍ الغارقةُ في دموعِها.
( أنتِ لم تتغيري . لا زلتِ تشعرينَ بالذنب . لازال السوادُ تحت عينيك مرتعاً للأحزانِ . لنْ أمنعَكِ عن البكاءِ , لأنك تُدمِنينَه ؛ كُل تلكَ البِشارَات التي تسوقينَها إلينا عن حملِك , تنتهي بالفاجِعةِ , أربعةُ أطفالٍ أخذهم الموت عنك , تركك بعدها زَوجكِ مَخافَة نَحْسكِ. أصرَّت حماتَك أنَّ لعنةً قدْ حلَّت عَليكِ مذ أسْقطِتني أرضًا. مُخطئةٌ هِيَ , صَكُّ غفرَانك يا زينبَ قد منحتُكِ إياهُ غَيرَ مرةٍ : حَينَ كنتِ تَصنعِينَ ليَ الكعكَة أيامَ ميلادِي, تُزيّنيها بالشُموعِ و تغنينَ : "سنة حلوة يا جميل". وحينَ يُحاصركُ الذنبُ وأنِتِ تَتَأمليَن هذا الشقُّ الأصْلعَ في رأسِي , ثمَّ إنني قَدْ خَبأتَه في أعيادِ ميلادِيَ الأخيرةَ .. بعدَ أن أَخَذَتْ تُلاحِقكِ المَصَائبُ. لمَ أنتِ إلى جانبي الآن ؟ أخشى أن لك ثأرًا عنَد الموتِ تريدينَ قَضَاءه؟ . لنْ ترينَه . سَيأخذنِي وَ يْرحَل ).
يُقلِّـب بَصرَهُ نحوَ ذاكَ الجالسُ على حافةِ البابِ, رابضًا في عمقِ اليأسِ. يُرَدِّدُ لسَانَهُ بالدعاءِ .
(أبي , لم تتغير كذلك . المسبحةٌ الخشبيةُ المعطرةُ لا زالت في رسغك تلتصقُ, كالذكرَياتِ .سألتُكَ ذات براءةٍ عن سبب رائِحتها الزكيةِ . قلتَ لي أنها تَعطرَتْ بذكر الله . فأخذتُ أُسَبِّحْهُ في كل شيء ؛ هَكذا كنت تؤججُ الله في رُوحِي. هَيا احكي لي حِكاياتِ جدتِي . أخبرني عن جزيرةِ الواقْ واقْ , الحكايةُ التي جَعلتني في طفولتي , أتَسَللُ بعدَ صلاةِ المَغرِبِ إلى قفصِ الدَّجاجِ و وأنتفَ الريش مِنها . ظننتَ أنتَ أنَّ "الحصيني" يُهاجِمهنَّ , وحينَ أتيتَ حَامِلاً السِلاَحَ . شاهدْتَني مُمتلئا بالَّريشِ.. وَبختَني: " ويش سويت أنته؟" . فَأجبتكَ :" أريد ريش , أريد أطير عند حبوتي, أنت قلت انها طارت الى جزيرة الواق واق ".
لمَ تجلسُ هكذا أمام البابِ ؟.هلْ الحزنُ يُضعِفكَ؟ حَسنًا سَأنهضْ .. سأحاول أنْ أنهض .. إن لم أستطع , سأتكلم .. سأضحك .. سأفعل أي شيء يدل على أنني بخير , و يُطَمْئِنُ لكَ قلبكَ ).
***
يبتلعُ ريقهُ , تُناوله أمه كأس مَاءٍ ( شربْ أمي, ماي زَمزم) . يَشرَبه دونَ أن يرتوِي . يَعودُ إلى الماضِي , إلى ماء المسجدِ. يتذكر أنه كان حين يتشاجرْ مع أحدِ اولادِ الحارة ِ, يَتعمَّد الشرب من المسجدِ. ليتبارَك بِه, هكذا كانَ يغلب خًصومَه. كانتِ الحياةُ في نظرهِ حيلةٌ بلهاء. واليومْ , لا حيلةَ لهُ سِوى الإسْتِسْلامْ . مَا مِن أحدٍ تَسَلَّقَ القدَرَ .. لا أحَدْ !
ها هو يتسلقُ الجِدار. يبتعد عنه بِضعَة أمَتارٍ ثم يَركِضُ بجسدِه الصغيرِ ناحيتُه , ويقفزُ في خفة. يَقطِفُ " اللمبا الغِض" من شجرةِ الجِيرانْ . يَتلذذ بحموضَتِها . يَعُودُ قَبل أَذانِ المَغْربَ , يلتَحفْهُ الغُبارُ , يَعرِجُ في مشيتِه , قَذفهُ ابن الجيرانِ بحصاةٍ بَينما كان يقَطفُ من شجرتهم .. اعتادَ على ذلك , ستوبخُهً أمَّه , و سَتًسخَن مَسحوقَ الكركم والملح المعد مسبقا. ستضعهُ على قدمهِ. سيصرخُ من شدةِ الألِم . يصرخُ, وزينبُ و امه تضحكانِ . حتى وإن بَرُدَ المسحُوقِ , يَصْرُخْ ؛ قَاصدًا اضحاكَهن . اليومَ ,رغم الألِم الذي يَستوطِن جسَده , لا يجرؤُ حتى على السعالِ , يهلعُ الجميعَ .. وكأنهُ النَّحِيب.
يبحثُ عنها بين أرجاء الغرفةِ ولا يَجدْها . لم تعاوده منذ ان حاصره المرض. تَهْوي دمعةً لمْ تَجِدْ خَدًا تَتَمرَّغُ فيِه. يَعودُ إلى حيثُ بَكتِ السَّماءُ و أمطرَت , إلى يومِ خَرَجَ إلى الفناءِ , وتبعتْه ابنةَ عمِّه . يَومَها , انشدوا في شقاوةٍ : مَطرْ مَطرْ مَطرْ . يا رَب زيدْ , نحنُ عِبادَكْ.
دُموعٌ تهوي كالمطرْ . ماذَا لَـوْ نَهَضَ الآنْ ليُراقِصَ ابنةَ عمهِ تحتَ المطر. هل كانَ ليسمحَ لها زوجها؟َ؟ .
شَربوا من ماءِ المطَر معا, أخبرَتْه أن من يفعلْ ذلك هو وحبيبتهُ , يَتَزَوَّجْها , بَيدَ أنه حِين تأملَ القمرَ ذات ليلة , تراءت له صورةً مشوشةً. أشاحَ بِوجهِهِ , رآها تَبتَسِم. قالتْ أنَها تَرى صورةَ من سَيَتزَوجْها. أعادَ النظرَ إلى القمرِ, لم يجدْ ما يُشبِهُ مَلاَمِحَهُ.
يئِن في سريرهِ . ذَاكِرَتَه تَتَشوَّش . تُعِيدُ سِنينَ المرضِ , أولَ عودِ سيجارةٍ , قُبلةُ منْ شِفاه سلمَى , شهادةِ تخرجِه , حُزنْ , سَيارةٍ جديدةٍ , عبثٌ , مَاتت عصَافيرُه المغردّة يومٍ ما , تَمرَّد عَلى بَيتِه , يَبكي أَمام مُسلسلٍ تُركي , يَتفوقْ علَى زُملاءه في المدرسةِ .
شهقَ الموتَ كالشهوةِ , اتسعَت عيناهُ كحبتَيْ خُوخٍ , طلبَ منهم بصوتِه المتحشرجِ أن يقتربوا مِنه. أرادَ أن يَحتضِرَ بيَنهم . وضَعوا رؤوسَهم حولَ وِسادَته الرَّطبَة في صمتٍ.أحسَّ بدفيءٍ عارمٍ . ابتسمَ مطلقًا بَصرُه نحوَ السماءِ...
للموتُ قَتامةٍ تَغشَى عَينيِه , وتَملؤ رِئتيهِ سَوادًا . لَمْ يَكنْ يُدرِكُ شَيئاً لَحظَتَهاَ. سِوى أنَّهُ سَيفْتَقِدُ لَهُمْ .سيفتقدُ لكلِ شيء حَتى الجدرانَ الأربعةِ التي صُبِغَتْ توًا بالسوادِ, حتى البَبغاءِ الأسودِ على زاويةِ غرفتِه الذي يُلقِي وداعَهُ الأخيرِ. حتى الوردَ الاسودَ الذي ذَبلَ توًا عَلى الطَّاوِلةِ, وحَتى السَّمَكَةِ السوداءِ التي طَفتْ على السطحِ مَيتة .
سيفتقدُ لكلِ ما صارَ أسودًا في هذهِ اللحظةِ , وهوَ يُغادِرُ هَذا الِفراش إلى الموتِ الذي يَلوحُ في السماءِ وَيقتَرِبْ.
تمت
تعليق