
منذ الحرب العالمية الأولى، تطالعنا أصوات كثيرة تتحدث عن انكشاف التقدّم الإنساني، وتعتبر أنّ المكتسبات الحضارية ليست معطيات ثابتة بل يمكن التخلّي عنها في كل لحظة، ويمكن أن يعود الإنسان إلى العصور الحجرية بلمح البصر. الحرب، بما هي حالة افتراس بين القوى المتنازعة، شكل من أشكال هذه العودة. لجوء بعض الأنظمة إلى التعذيب وجه آخر من وجوه الهمجيّة. واستمرار حدوث هذا الفعل الهمجي في العالم، أينما كان، يلطّخ بسواده الإنسانية جمعاء، ويضعنا دائماً بين موقعين: البربرية في موازاة الثقافة، هتلر أو غوته. الأول يمثّل رفض الاختلاف والعنف المطلَق، أما الثاني فيمثّل الدعوة إلى التعددية والحوار بين الشرق والغرب، بل وكافة الشعوب" ويؤكد" صحيح أنّ المجتمعات الحديثة خرجت من حالة الإرهاب التي في وسع الدولة أن تمارسها ضدّ مواطنيها، ومن التعاطي معهم بصفتهم عبيداً ومن تعذيبهم أو قتلهم متى تشاء، لكن الصحيح أيضاً أنّ بعض هذه المجتمعات التي ينعم أهلها بقوانين تحمي المواطن وتقرّ بحقه في الحياة، لا تزال تتحكم بمصير مجتمعات أخرى، وتجيز الاحتلال الإسرائيلي، وتسمح لنفسها بفتح سجون من طراز سجن أبو غريب في العراق, الذي ينظر إلى الشاشة الصغيرة هذه الأيام وتطالعه الجثث المثقوبة بالرصاص والمشوّهة تحت التعذيب، ألا يفكّر لحظة واحدة في جسده؟ ألا يحاول أن يتبيّن وجهه ويديه أمام مشاهد الوجوه النازفة والأيادي المحروقة؟ ألا يتفقّد حنجرته أمام صورة الحناجر التي جزّت؟ ألا يتلمّس جلده أمام مشهد الجلود المسلوخة؟ ألا يتساءل، أخيراً، عن معنى الحياة أمام هذا الموت الكثير وهذا الرعب الأفدح من الموت؟
يحفل تاريخ البشرية بالتعذيب والإذلال منذ البداية، قبل السومريين وبعدهم، مع الفراعنة وحتى اليوم مروراً بالفرس والعرب والإغريق والرومان. ولقد شرّعت هذا العنف بأبشع صوره الأديانُ التوحيدية الذكوريّة نفسها، كما عملت على تكريس دونيّة المرأة وسيادة الرجل عليها. من الكنيسة الكاثوليكية الأوروبية في القرون الوسطى إلى النازية وصولاً إلى طغاة اليوم، لا يزال لجوء الإنسان إلى تعذيب شبيهه يشكّل ملمحاً مظلماً وغامضاً في طبيعة البشر.كان الرومان يعذّبون العبيد فقط، وهؤلاء لم يكن يُنظَر إليهم بصفتهم بشراً. الذي يقوم بفعل التعذيب، ويتلذّذ به، يتعاطى مع الآخر بوصفه حيواناً يساق إلى الذبح. طبقاً للقوانين الرومانية، تمّ صلب ألوف البشر. وإمعاناً في الإهانة والإذلال، كان المصلوب يُعرَض أمام المارة، وكانوا يبصقون عليه أو يقتربون منه ويصفعونه على وجهه. في بعض الأحيان، كان الجلاّد يلجأ إلى تكسير عظام المحكوم عليه ليزداد عذابه. وكان المسيح أشهر المصلوبين في الزمن الروماني وفي الأزمنة كلّها. حُكم عليه بالجلد ثمّ بالموت صلباً بعد أن اتُّهم بالإخلال بالنظام العام. سُمّرت يداه وقدماه، كما ربطت بالحبال حتى لا تتمزّق أنسجتها وينشقّ الجلد، وحتى تطول فترة المكوث على الصليب من أجل تمديد فترة العذاب.
وإذا كان الإمبراطور الروماني كونستانتين الأول ألغى عقوبة الصلب عام ٣١٣ بعد اعتناقه المسيحية، فلقد استمرّت وسيلة التعذيب والقتل هذه. عُذِّب الحلاّج وصُلب. وأقدمَ الحجّاج على صلب الأشخاص المعارضين له بعد قطع رؤوسهم. لجأ النازيون في الحرب العالمية الثانية إلى هذه الوسيلة أيضاً، كما أجروا اختبارات طبّية على الأجساد المصلوبة.ما نعيشه ونشاهده اليوم يمثّل خلاصة مكثّفة للتعذيب الجسدي والنفسي عبر العصور. من سلخ الجلد، الذي يعكس نزعة سادية مطلقة، إلى الجلد بالعصي والسياط وتكسير العظام واقتلاع الأظافر والحرق وقطع الأوصال. وتهدف بعض الممارسات البدائية إلى إهانة الإنسان وإذلاله والحطّ من قدره (صَفْعُ الوجه، الركل والشتم، وَضْعُ الحذاء فوق الرؤوس والرقاب...)، وهذا ما يتنافى مع جميع القوانين والتشريعات الحديثة.في كتاب بعنوان "أن تُراقِب وتُعاقِب" يؤرّخ الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو للسجون في فرنسا ولممارسات التعذيب بين القرن السادس عشر وبداية القرن التاسع عشر. يصف التعذيب وأدواته بأدقّ التفاصيل. ويلاحظ كيف تمّ الخروج من أقبية القرون الوسطى حين وُضعت مجموعة أنساق وقواعد يجري بموجبها التعامل مع جسد المتّهَم. في القرن الثامن عشر، وهو قرن الحريات في فرنسا، انتهى التعذيب وتغيّرت طبيعة التعامل مع المتهمين والمجرمين مهما كانت جريمتهم. كان فيكتور هوغو يقول: "إذا كان القرن الثامن عشر هو قرن إلغاء التعذيب، فإنّ القرن التاسع عشر سيكون قرن إلغاء حكم الإعدام". غير أنّ أمنية هوغو انتظرت زهاء قرن من الزمن لكي تتحقّق. وبعدما تحققت (مطلع الثمانينيات من القرن الماضي) بات يُنظَر إلى أدوات التعذيب والقتل على أنها انعكاس لبربرية بائدة طبعت قروناً من تاريخ البشر.كان هتلر يردد أنّ النازية ستحكم أوروبا لفترة ألف عام، لكنها لحسن الحظ لم تدم أكثر من أربعة أعوام، وكانت على أي حال كافية لكثير من الخراب. أما هتالرة (جمع هتلر) العالم العربي فتمكنوا، بمساعدة بعض الدول الغربية الكبرى، أن يستأثروا بالسلطة قرابة النصف قرن ويحكموا على شعوبهم بالبقاء خارج الزمن الحديث"وقد نالت مؤلفاته الكثير من الإهتمام والقراءة والمناقشة يقول الشاعر السوري أدونيس عن كتابه "تفاحة الفردوس "الصادر عام 2006إنه " كتاب جدير بالقراءة، المسألة التي أثرتها منذ سنوات في كتابي «الصوفية والسوريالية» (دار الساقي)، حول العلاقة بين رامبو والصوفية. وليس وحده مَن ناقش أو يناقش هذه المسألة. غير أنه الأكثر معرفة وموضوعية وترصُّناً. لذلك أجدني فرحاً بنقاشه، وبالحوار معه. ويسرّني أن أعود، لمناسبة هذا الكتاب، لكي أوضح من جديد ما كنت أوضحته أكثر من مرة. منذ البداية، شدّدت في مقدمة «الصوفية والسوريالية» على أنني أفصل كلياً بين الصوفية مُعتقداً، والصوفية منهجاً في المعرفة والكتابة، وفي العلاقة بالعالم. الإيمان شيء، والمنهج شيء آخر. فليس الذين يتخذون العقلانية منهجاً، على سبيل المثال، يؤمنون جميعاً بمعتقد واحد. وابن رشد هو أوّل من نبّه في الفكر العربي إلى ضرورة هذا الفصل. ولئن كان رامبو يشترك مع النفري، كمثل آخر، في خصائص رؤيوية وتجربيّة وكتابية كثيرة، فإن ذلك لا يعني أن رامبو أصبح صوفياً، أو أن النفري أصبح رامبوياً. مع ذلك ظل الجميع يناقشون هذه المسألة، كما لو انني أقول إن رامبو صوفي، معتقداً. وهذا ما لم أقله قطعاً، ويستحيل أن أقوله.وقال عبده وازن عن كتابه "رسالة إلى الأختين" الصادر عن دار "النهار" (بيروت)، ليس هو بالرواية التي تتوسّل فن المراسلة على عادة روايات كثيرة، وليس هو أيضاً ديواناً شعرياً يعتمد تقنية الرسالة على غرار ما فعل بعض الشعراء قديماً وحديثاً. قد يكون هذا الكتاب بحسب ما يوحي عنوانه مجموعة نصوص اتخذت ظاهراً طابع الرسالة كي تتمكن من الجمع بين تلقائية الكتابة الحرّة و"موضوعية" الرسالة بصفتها نصّاً موجّهاً من كاتب (مرسل) إلى قارئ (مرسل إليه)، على أنّ القارئ هنا قد يكون قارئ الرسالة تحديداً (امرأة بلا اسم) والقارئ في المعنى الشائع وهو قارئ الكتاب أياً كان. إنّها إذاً لعبة مرايا خصوصاً عندما يبدو الكاتب - المرسل أشبه بالراوي الذي يستعيد أجزاء من ماضٍ غراميّ سارداً إياها للعشيقة التي من المفترض أن تمثل "المرسل اليـ(هـ)ا". لا يفتأ الراوي يذكّر العشيقة (التي كانت) بما جمع بينهما طوال علاقتهما وكأنه لا يكتب الرسائل إلا ليكتب ذاته معيداً اكتشافها على ضوء العلاقة تلك. لكنّ اللافت أن الرسالة التي يكتبها لا تلتزم مبدأ "الموضوعية" الذي تفترضه كتابة الرسائل عادة، بل هو يكسر هذا المبدأ جاعلاً مادة الرسالة ذاتية بامتياز. إنها رسالة ونصّ في آن واحد، رسالة في معنى مخاطبتها الآخر (الذي هو العشيقة) ونصّ في كونه كتابة تجمع بين التداعي والتذكّر والتعبير الحر والتأمل والتوهّم والتوجّه الشعري.كما كتب أحمد أبو دهمان " في عين السراب أو "سرابات" تقرأ في عيسى مخلوف لبنان الإنسان، لبنان المسافر في اللغات، في الشعر، في الموسيقى، في مجمل الفنون وفي تعددية الكون والتاريخ تقرأ كل الديانات السماوية وما قبلها وما بعدها، تقرأ جلجامش وألف ليلة وليلة، تبتدئ بصاحبه ودليله الأرجنتيني الأعمى بورخس وتنتهي بأم عيسى، وفي صحبة هؤلاء الثلاثة ترى ما لا يرى وتسمع ما لم تسمع من قبل. تقرأ شعراء تعرفهم ولا تعرفهم، تسمع الموسيقى التي سمعتها سلفاً وكأنك لم تسمعها من قبل، لأنها هذه المرة مليئة بألوان لبنان وجباله التي لم يرها أحد قبل هذا النص.بينما كتب صلاح ستيتيه عن " عين السراب " "هل للسراب عين؟ للسراب مركز، بالتأكيد. وفي كل مركز، ثمة عين فعلاً. عين تنفتح في اندهاش على أشياء هذا العالم وعلى حدس النفس. تراقب وترى، ولو من طريق الحلم، ما يجري وما لا يجري. عين تنغلق على نورها الداخلي. عين على شفير أن تتكوّن فيها، أحياناً، دمعة: دمعة الانفعال المفتون. دمعة الألم المتمالك والمكتوم. الألم على ما كان، أو ما ضاع في صورة نهائية.كل ذلك يطالعنا في كتاب عيسى مخلوف، هذا الكتاب الصافي والذي يثير الرعشة في النفس. إنه كتاب الساعات على غرار كتب الصلوات القديمة. كتاب اللحظات الضائعة لكن المضمومة والمستعادة، برهة قبل غيابها، من خلال الكتابة - هذه الكتابة العذبة والنضرة كماء نبع تظلّله، هنا وهناك، خضرة تتمايل فوقه.يوميات سَفَر، وهو سَفَر سري كأنه معاينة دقيقة للوضع الذهني والنفسي لرجل، لكاتب يتساءل بعدما وصل إلى منتصف العمر: مَن أنا؟ ما العالم؟ ما الحياة والموت؟ ما الارض؟ ما هذا الحب المبلل بمطرحنون؟ وما هذه الألوهة الحاضرة في أعماق النفس، تضيء قليلاً هذه الخسارة الخطرة والمكتسية طابعاً كونياً؟ وهي تأخذنا في سباقها الغريب نحو العدم، نحو ما قد لا يكون عدماً. كتاب عيسى مخلوف هو كل ذلك في آن واحد. جبران خليل جبران كان وقع في عشق هذا الكتاب، وكذلك خورخي لويس بورخس. كاتبان يعرفهما كاتبنا تمام المعرفة إن الآداب العربية المعاصرة التي هي في الغالب نتيجة تصعيد ثقافي أو عاطفي، تفتقد هذا النوع من الكتابة الداخلية الحميمة، المؤلفة من ضوء وظل متداخلين، حيث الشغف يقال في صوت خفيض، وحيث نتقدم مع من نبوح له وهو القارئ ذاته يكتب عيسى مخلوف ليقرّ لنا بأن سر العالم، في ما وراء الاندهاش والفتنة، قد لا يكون إلاّ صورة للكآبة. يكتب ليجعل كل قارئ من قرّائه قريباً له وصديقاً.