[align=center]نِيْقُولا .. يَتَرَجَّلُ أخِيرَا ً !
.
.
تَجَمَّدْتُ عَصْرَ الجُمُعَةِ أمَامَ شَاشَةِ الجَزِيرَةِ وَأنَا أتَلَقَّى بِصَدْمَةٍ نَعْيَ الأمَّةِ العَرَبِيَّةِ لِمُؤرّخِهَا الكَبِيرِ وَعَالِمِهَا الأرِيبِ الدُكْتُورِ نِيْقُولا زِيَادَة عَنْ عُمرٍ نَاهَزَ الـ 99 عَامَا ً ..
رَاعَنِيْ أنْ أسْمَعَ خَبَرَ وَفَاتِهِ وَأنَا أعُودُ بِذَاكِرَتِيْ إلَى عَدَدِ يُونْيَة مِنْ مَجَلَّةِ العَرَبِيّ حَيْثُ سَطّرَ مَقَالَهُ هُنَاكَ ( القُدْسُ كَمَا عَرَفْتـُهَا ! )
طَفَقْتُ أمْنَعُ نَفْسِيْ مِنْ مُرَاوَدَةِ البُكَاءِ وَأنَا فِيْ صَدْمَةٍ كَبِيرَة ..
لَمْ يَكُنْ هَذَا الرّجُلُ مُجَرَّدَ مُؤرّخٍ صَنَعَ عَشَرَاتِ الكُتُب بَلْ كَانَ ذَخِيرَةً حَيَّةً مِنَ الصّدْقِ وَالأمَانَةِ وَالنّزَاهَةِ ..
وَجَدْتُ نَفْسِيْ أعُودُ إلَى تِلْكَ الرَوِيَّةِ وَالأنَاةِ فِيْ مَمَرَّاتِ الذَاكِرَةِ إلَى "إشْرَاقَات" أبْحَرَتْ فِيهَا كَوْثَرُ البَشْرَاوِيّ مَعَهُ فِيْ سَلامٍ وَطُمَأنِينَةٍ ..
بَدَا رَغْمَ سِنِّهِ الكَبِير ِ، نَحَافَتِهِ، وَتَقَاطِيعِ وَجْهِهِ المُجَعَّدَةِ رَجُلاً بِهَالَةٍ مُخْتَلِفَةٍ
تَحَدَّثَ بِحَمَاسٍ عَنْ تَعَلّقِهِ بِالقُدْسِ وَعَنْ أحْدَاثٍ تَارِيخيَّةٍ عَاصَرَهَا وَتَحَدَّثَ بِأسَى عَنْ وَعْدِ بِلْفُور وَقِيَامِ إسْرَائِيلَ وَحَرْبِ الـ 67 وَكَأنَّهُ يَعِيشُهَا حَتَّى اليَوم
هُرِعْتُ إلَى مَكْتَبَةِ العَرَبِيّ المَوْجُودَةِ فِيْ مَنْزِلِنَا لأبْحَثَ عَنْ رَجُلٍ صَنَعَ فِيْ كُلّ مَقَالٍ لَهُ دَفْتَرَا ً سَجّلْتُ فِيهِ حَقَائِقَ لا يُمْكِنُ إلا أنْ تَكُونَ كَذَلِكَ !
كُنتُ أحْتَفِظُ بِأعْدَادِ العَرَبِيّ التِيْ كَتَبَ فِيهَا زِيَادَة ، لأنَّ مَا يَكْتُبُهُ كَانَ مُخْتَلِفَاً تَمَامَا ً ..
د/نِيكُولا الذِيْ وُلِدَ عَامَ 1907م فِيْ دَمَشْقَ عَنْ أبٍ نَاصِرِيّ مِنَ النَاصِرَةِ الفِلَسْطِينيَّةِ شَهِدَ أيَّامَ لَمْ يَكُنْ جَوَازُ السّفَرِ هُوَ جِسْرَ المُرُورِ مِنْ دَوْلَةٍ لأخْرَى.. وَلَمْ تَكُنِ التّقْسِيمَاتُ الإقْلِيميَّةُ مَوْجُودَةً .. لأجْلِ ذَلِكَ فَحِينَ يَتَحَدَّثُ لَمْ يَكُنْ يُعَبّرُ عَنْ رُوْحٍ لُبْنَانِيَّةٍ بِالقَدْرِ الذِيْ كَانَتْ لُبْنَانُ مَجَرَّدَ اخْتِزَالِ جَوَازٍ أمّا الحَقِيقَةُ فَهِيَ أنَّ لُبْنَانَ / سُورِيَّا / الأرْدُنَ / فِلَسْطِينَ كَانَتْ وَطَنَا ً لِذَلِكَ الشّابِ الصّغِيرِ..
بَحَثْتُ عَنْ عَدَدِ العَرَبِيّ مَايُو 2005م فَوَجَدْتُ أنَّ أخِيْ كَعَادَتِهِ أخَذَ المَجَلَّةَ إلَى حَيْثُ يَعْلَمُ اللهُ .. فَاعْتَمَدْتُ عَلَى ذَاكِرَتِيَ العَتِيقَة لأسْتَعِيدَ ذَلِكَ الحِوَارَ الثّقَافِيّ التَارِيخيّ الذِيْ كَانَ د.نِيْقُولا عَمِيدَاً فِيهِ..
تَحَدَّثَ عَنْ نَزَاهَةِ المُؤَرّخِ وَعَنْ ثَقَافَتِهِ الإسْلامِيَّةِ الوَاسِعَةِ وَنَزْعَتِهِ العَقْلانِيَّةِ..
كَانَ القَارِئُ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُفكّرَ لَحْظَةً أنَّ المُتَحَدِّثَ مَسِيحيّ .. إذْ أنَّ مُؤَرّخَا ً عُرِفَ بِالنّزَاهَةِ وَالعَدْلِ فِيْ نَقْلِ الحَقَائِقِ للدّرَجَةِ التِيْ دَفَعَتْ مُسْتَشْرِقِينَ كُثُر إلَى تَصْنِيفِهِ كَأكْثَرِ المَصَادِرِ وُثُوقَا ً .. ولأجْلِ ذَلِكَ استَحَقَ بِجَدَارَةٍ أنْ يَكُونَ ( شَيْخَ مُؤرّخِيْ العَرَبِ ) ..
لَمْ يَسْتَحْقِقْ ذَلِكَ رَجُلٌ بِمَحْسُوبِيَّةٍ أوْ رَشْوَةٍ ، بَلْ كَانَ الأجْدَرَ بَيْنَهُم
كَيْف لا؟؟ وَهُوَ يُجِيدُ 6 لُغَاتٍ مِنهَا اليُونَانِيَّة وَاللاتِينيَّة وَالفَرَنْسِيَّة وَالألْمَانِيَّة َ وَالانْجْلِيزيَّة َ وَالعَرَبِيَّة
وَلَمْ يَكْتَفِ بِبَكَالُوريُوسٍ وَاحِدٍ بَلْ نَالَ أكْثَرَ مِنْ شَهَادَةِ بَكَالُوريُوسَ وَدُكتُورَاه
صَدَرَ لِشَيْخِنَا مَا يَزِيدُ عَنِ الخَمْسِينَ كِتَابَاً مَا بَيْنَ تَأرِيخِ أحْدَاثٍ عَرَبِيَّةٍ وَأوْرُبِيَّةٍ وَعَالَمِيَّةٍ ... وَلَكُمْ أنْ تَتَخِيَّلُوا أنَّ أكْثَرَ مِنْ نِصْفِ كُتُبِهِ تُعَبّرُ عَنِ الحَضَارَةِ الإسْلامِيَّةِ بِكَافَّةِ مُعْطَيَاتِهَا..
حِينَ قَرَأتُ مَقَالَهُ الأخِيرَ فِيْ العَرَبِيّ .. "القُدْسُ كَمَا عَرَفْتُهَا" وَجَدْتُنِيْ مُنْدَهِشَةً أمَامَ ذَاكِرَةٍ عِمْلاقَةٍ لِرَجُلٍ فِيْ نِهَايَةِ تِسْعِينَاتِهِ
عَلَّقْتُ .. ( أنَا لا أذْكُرُ مَا فَعَلْتُ البَارِحَة ! )
كَانَ يَتَحَدَّثُ عَنِ القُدْسِ أيَّامَ زِيَارَتِهِ الأوْلَى عَامَ 1921م .. أيْ قَبْلَ 75عَامَاً مِنْ كِتَابَتِهِ للمَقَالِ .. وَلَمْ يَكُنْ أمْرَاً عَادِيَّاً إطْلاقَا ً مَا كَتَبَهُ
كَانَ يَصِفُ القُدْسَ حَارَة ً حَارَة ً ، وَبَابَا ً بَاباً .. وَكَأنَّهُ أمَامَ فِيْلمٍ مُتَحَرّكٍ..
كَانَ يَحْفَظُ الأسْمَاءَ وَالشّخْصِيّاتِ وَالجَمْعِيَّات.. بَلْ كَانَ يَصِفُ لَنَا نُقُوشَا ً دَقِيقَةٍ لِسُقُفٍ وَأبْوَابٍ صَادَفَهَا..
قَالَ ... / (كُنتُ أجْتَازُ شَارِعَ الزّيْتِ، وَهَذَا يَبْدَأ بَعْدَ دُخُولِكَ بَابَ العَامُودِ بِنَحْوِ 50 مِتْرَاً.. وَهُوَ شَارِعٌ مَسْقُوفٌ بِزُجُاجِ أصْفَرَ قَلِيلاً، بِحَيْثُ يَلِجُهُ النّورُ قَليلاً، كَانَ ضَيّقَا ً وَمُبَلطَا ً وَفِيهِ مَطْعَمٌ يَلْجَأ لَهُ القَادِمُونَ مِنَ الرّيفِ يَبْتَاعُونَ فِيْ طَرِيقِ صَلاتِهِمْ بِالجُمْعَةِ فِيْ المَسْجِدِ الأقْصَى ثِيَابَا ً ، أغْذِيَةً ، الشّارِعُ بَدَا طَوِيلاً وَفِيْ نِهَايَتِهِ طَرِيقَانِ يُؤَدّي اليَمِينُ إلَى القِيَامَةِ ، وَاليَسَارُ إلَى الحَرَمِ الشّرِيفِ)
لَكُمْ أنْ تَتَخَيّلُوا رَجُلاً يَصِفُ بِكُلّ دِقَةٍ تَفَاصِيلَ مَدِينَةٍ زَارَهَا مُنذُ قَرْنٍ إلا رُبْعَاً وَهُوَ الآنَ عَلَى مَشَارِفِ المِائَةِ ..
وَكَانَ مِنْ شِدَّةِ دِقَتِهِ أنَّهُ يَذْكُرُ كُلّ مَعْلَمٍ وَأعْوَامَ بِنَائِهِ وَمَنْ مِنَ السّلاطِينِ بَنَاهُ وُمُدّةَ حُكْمِ ذَاكَ السُلطَانِ.. وَكَانَ يَصِفُ الشّخْصِيَّاتِ كَأنَّهَا أمَامَهُ ..
كُلّ هَذَا بَعْدَ مُرُورِ 75عَامَاً عَلَى أيَّامِهِ تِلْكَ..
أخْتِيْ كَانَتْ تَقُولُ دَائِمَاً .. أنَّهَا تُحِبّ هَذَا الرَجُلَ وَتَتَمَنَّى لَوْ كَانَ مُسْلِمَا ً..
وَكُنتُ أفْعَلُ الشّيْءَ ذَاتَهُ وَأتَسَاءَلُ .. أنّ رَجُلاً بِهَذِهِ الأخْلاقِ وَالدّمَاثَةِ وَالرّوْعَةِ وَهُوَ مَسِيحيّ فَكَيْفَ إنْ كَانَ مُسْلِمَا ً !
لَكِنّهُ رَغْمَ مَسِيحيَّتِهِ كَانَ أفْضَل مِنْ آلافِ المُسْلِمِينَ المُتَشَدّقِينَ بِدِينِهِمْ فَقَطْ للعُبُورِ إلَى مَآرِبَ أخْرَى
لَمْ يَكُنْ هَذَا الرّجُلُ مَدْفُوعَاً لِتَمْجِيدِ الإسْلامِ وَلا لِتَبْرِيرِ هَزَائِمِ العَرَبِ أوِ انتِصَارَاتِهِمْ لأنَّ النَزَاهَةَ وَحْدَهَا كَانَتْ سَيِّدَة َ المَوْقِفِ لَدَيْهِ..
رَحَلَ نِيْقُولا .. المُؤرّخُ / الانْسَانُ / الرّائِدُ / البَطَلُ فِيْ وَقْتٍ شَهِدَ فِيهِ هَزِيمَةً عَرَبِيَّةٍ أخْرَى .. شَهِدَ لُبْنَان تَحْتَ الحِصَارِ وَالقَصْفِ وَالحَرْبِ... فَقَرّرَ المَوْتُ أنْ يَخْطِفَهُ كَيْ لا يَشْهَدَ تَارِيخَاً دَمَوِيَّا ً جَدِيدَاً يُضَافُ إلَى رَجُلٍ عَاصَرَ كُلّ الحُرُوبِ العَرَبِيَّةِ
تَرَجَّلَ الفَارِسُ مِنْ حِصَانِهِ أخِيرَا ً .. مُهْدِيَا ً الأرْضَ تَحِيَّتَهُ الأخِيرَة دُوْنَ أنْ يَخْتَارَ تَوْقِيتَ رَحِيلِهِ حَتَّى يُؤَرخَ أيَّامَاً عَاصِفَة ً كَهَذِهِ
وَكُنّا نَعْلَمُ أنّهُ سَيَرْوِيهَا بِكُلّ شَفَافِيّةٍ وَأرِيحيَّةٍ أكْثَرَ مِنَّا جَمِيعَا ً ..
قَالَ .. ( أوَدّ أنْ أعِيشَ للمَائَةِ لأتَوّجَ مِئَوِيّتِيْ بِسِيرَةٍ ذَاتِيَّةٍ تَارِيخيَّةٍ جُغْرَافِيَّةٍ عَنْ حَيَاتِيْ.. تَختَلِفُ عَنْ أيّ سِيْرَةٍ كَتَبْتُهَا أوْ كُتِبَتْ مِنْ قَبْلُ )
فَتَسَاءَلْنَا جَمِيعَا ً كَيْفَ يَغْفَلُ مُؤرّخٌ كَهَذا عَنْ أنْ يُؤَرّخَ حَيَاتَهُ بِمَوْسُوعِيَّةٍ تَارِيخيَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ عَنِ السِيْرَةِ التِيْ كَتَبَهَا وَهُوَ سَيّدُ التّأرِيخِ فَجَاءَتْنَا الإجَابَة ُ عَاجِلَة ً .. ( لأنَّ نِيقُولا يَا سَادَة .. تَارِيخٌ لِوَحْدِهِ.. إنَّهُ حِقْبَة ٌ فَرِيدَة ٌ وَمَوْسُوعَة ٌ تَمْشِيْ عَلَى الأرْضِ )
المَوْتُ يُعِيدُ مَعَارِكَهُ هُنَا وَيُقَرّرُ أنّ نِيقُولا لَنْ يُمْضِيْ مِئَوِيَّتَهُ مَعَنـَا ..
سَيَكُونُ حِينَهَا فِيْ القَبْرِ يُشَاهِدُ أمّتَهُ وَيُؤرّخُهَا تَحْتَ التّرَابِ ..
وَأعْلَمُ أنَّهُ سَيُعَنْوِنُ تَارِيخَ ذَاكِرَتِهِ دَائِمَاً بِاقْتِبَاسِهِ القُرْآنيّ الذِيْ كَانَ يُحِبّ دَائِمَا ً أنْ يُعَطّرَ بِهِ مُؤلّفَاتِهِ التِيْ ضَجَّتْ بِالنَزْعَةِ القُرْآنِيَّةِ الوَاضِحَةِ..
كَانَ سَيَقُولُ ... ( وَمَا تَوْفِيقِيْ إلا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ أنِيبُ ! )
.
.
نِيْقُولا .. السَّلامُ عَلَيْكَ يَوْمَ وُلِدْتَ .. وَيَوْمَ تَمُوتُ .. وَيَوْمَ تُحَرّرُ فِلَسْطِين ![/align]
.
.
تَجَمَّدْتُ عَصْرَ الجُمُعَةِ أمَامَ شَاشَةِ الجَزِيرَةِ وَأنَا أتَلَقَّى بِصَدْمَةٍ نَعْيَ الأمَّةِ العَرَبِيَّةِ لِمُؤرّخِهَا الكَبِيرِ وَعَالِمِهَا الأرِيبِ الدُكْتُورِ نِيْقُولا زِيَادَة عَنْ عُمرٍ نَاهَزَ الـ 99 عَامَا ً ..
رَاعَنِيْ أنْ أسْمَعَ خَبَرَ وَفَاتِهِ وَأنَا أعُودُ بِذَاكِرَتِيْ إلَى عَدَدِ يُونْيَة مِنْ مَجَلَّةِ العَرَبِيّ حَيْثُ سَطّرَ مَقَالَهُ هُنَاكَ ( القُدْسُ كَمَا عَرَفْتـُهَا ! )
طَفَقْتُ أمْنَعُ نَفْسِيْ مِنْ مُرَاوَدَةِ البُكَاءِ وَأنَا فِيْ صَدْمَةٍ كَبِيرَة ..
لَمْ يَكُنْ هَذَا الرّجُلُ مُجَرَّدَ مُؤرّخٍ صَنَعَ عَشَرَاتِ الكُتُب بَلْ كَانَ ذَخِيرَةً حَيَّةً مِنَ الصّدْقِ وَالأمَانَةِ وَالنّزَاهَةِ ..
وَجَدْتُ نَفْسِيْ أعُودُ إلَى تِلْكَ الرَوِيَّةِ وَالأنَاةِ فِيْ مَمَرَّاتِ الذَاكِرَةِ إلَى "إشْرَاقَات" أبْحَرَتْ فِيهَا كَوْثَرُ البَشْرَاوِيّ مَعَهُ فِيْ سَلامٍ وَطُمَأنِينَةٍ ..
بَدَا رَغْمَ سِنِّهِ الكَبِير ِ، نَحَافَتِهِ، وَتَقَاطِيعِ وَجْهِهِ المُجَعَّدَةِ رَجُلاً بِهَالَةٍ مُخْتَلِفَةٍ
تَحَدَّثَ بِحَمَاسٍ عَنْ تَعَلّقِهِ بِالقُدْسِ وَعَنْ أحْدَاثٍ تَارِيخيَّةٍ عَاصَرَهَا وَتَحَدَّثَ بِأسَى عَنْ وَعْدِ بِلْفُور وَقِيَامِ إسْرَائِيلَ وَحَرْبِ الـ 67 وَكَأنَّهُ يَعِيشُهَا حَتَّى اليَوم
هُرِعْتُ إلَى مَكْتَبَةِ العَرَبِيّ المَوْجُودَةِ فِيْ مَنْزِلِنَا لأبْحَثَ عَنْ رَجُلٍ صَنَعَ فِيْ كُلّ مَقَالٍ لَهُ دَفْتَرَا ً سَجّلْتُ فِيهِ حَقَائِقَ لا يُمْكِنُ إلا أنْ تَكُونَ كَذَلِكَ !
كُنتُ أحْتَفِظُ بِأعْدَادِ العَرَبِيّ التِيْ كَتَبَ فِيهَا زِيَادَة ، لأنَّ مَا يَكْتُبُهُ كَانَ مُخْتَلِفَاً تَمَامَا ً ..
د/نِيكُولا الذِيْ وُلِدَ عَامَ 1907م فِيْ دَمَشْقَ عَنْ أبٍ نَاصِرِيّ مِنَ النَاصِرَةِ الفِلَسْطِينيَّةِ شَهِدَ أيَّامَ لَمْ يَكُنْ جَوَازُ السّفَرِ هُوَ جِسْرَ المُرُورِ مِنْ دَوْلَةٍ لأخْرَى.. وَلَمْ تَكُنِ التّقْسِيمَاتُ الإقْلِيميَّةُ مَوْجُودَةً .. لأجْلِ ذَلِكَ فَحِينَ يَتَحَدَّثُ لَمْ يَكُنْ يُعَبّرُ عَنْ رُوْحٍ لُبْنَانِيَّةٍ بِالقَدْرِ الذِيْ كَانَتْ لُبْنَانُ مَجَرَّدَ اخْتِزَالِ جَوَازٍ أمّا الحَقِيقَةُ فَهِيَ أنَّ لُبْنَانَ / سُورِيَّا / الأرْدُنَ / فِلَسْطِينَ كَانَتْ وَطَنَا ً لِذَلِكَ الشّابِ الصّغِيرِ..
بَحَثْتُ عَنْ عَدَدِ العَرَبِيّ مَايُو 2005م فَوَجَدْتُ أنَّ أخِيْ كَعَادَتِهِ أخَذَ المَجَلَّةَ إلَى حَيْثُ يَعْلَمُ اللهُ .. فَاعْتَمَدْتُ عَلَى ذَاكِرَتِيَ العَتِيقَة لأسْتَعِيدَ ذَلِكَ الحِوَارَ الثّقَافِيّ التَارِيخيّ الذِيْ كَانَ د.نِيْقُولا عَمِيدَاً فِيهِ..
تَحَدَّثَ عَنْ نَزَاهَةِ المُؤَرّخِ وَعَنْ ثَقَافَتِهِ الإسْلامِيَّةِ الوَاسِعَةِ وَنَزْعَتِهِ العَقْلانِيَّةِ..
كَانَ القَارِئُ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُفكّرَ لَحْظَةً أنَّ المُتَحَدِّثَ مَسِيحيّ .. إذْ أنَّ مُؤَرّخَا ً عُرِفَ بِالنّزَاهَةِ وَالعَدْلِ فِيْ نَقْلِ الحَقَائِقِ للدّرَجَةِ التِيْ دَفَعَتْ مُسْتَشْرِقِينَ كُثُر إلَى تَصْنِيفِهِ كَأكْثَرِ المَصَادِرِ وُثُوقَا ً .. ولأجْلِ ذَلِكَ استَحَقَ بِجَدَارَةٍ أنْ يَكُونَ ( شَيْخَ مُؤرّخِيْ العَرَبِ ) ..
لَمْ يَسْتَحْقِقْ ذَلِكَ رَجُلٌ بِمَحْسُوبِيَّةٍ أوْ رَشْوَةٍ ، بَلْ كَانَ الأجْدَرَ بَيْنَهُم
كَيْف لا؟؟ وَهُوَ يُجِيدُ 6 لُغَاتٍ مِنهَا اليُونَانِيَّة وَاللاتِينيَّة وَالفَرَنْسِيَّة وَالألْمَانِيَّة َ وَالانْجْلِيزيَّة َ وَالعَرَبِيَّة
وَلَمْ يَكْتَفِ بِبَكَالُوريُوسٍ وَاحِدٍ بَلْ نَالَ أكْثَرَ مِنْ شَهَادَةِ بَكَالُوريُوسَ وَدُكتُورَاه
صَدَرَ لِشَيْخِنَا مَا يَزِيدُ عَنِ الخَمْسِينَ كِتَابَاً مَا بَيْنَ تَأرِيخِ أحْدَاثٍ عَرَبِيَّةٍ وَأوْرُبِيَّةٍ وَعَالَمِيَّةٍ ... وَلَكُمْ أنْ تَتَخِيَّلُوا أنَّ أكْثَرَ مِنْ نِصْفِ كُتُبِهِ تُعَبّرُ عَنِ الحَضَارَةِ الإسْلامِيَّةِ بِكَافَّةِ مُعْطَيَاتِهَا..
حِينَ قَرَأتُ مَقَالَهُ الأخِيرَ فِيْ العَرَبِيّ .. "القُدْسُ كَمَا عَرَفْتُهَا" وَجَدْتُنِيْ مُنْدَهِشَةً أمَامَ ذَاكِرَةٍ عِمْلاقَةٍ لِرَجُلٍ فِيْ نِهَايَةِ تِسْعِينَاتِهِ
عَلَّقْتُ .. ( أنَا لا أذْكُرُ مَا فَعَلْتُ البَارِحَة ! )
كَانَ يَتَحَدَّثُ عَنِ القُدْسِ أيَّامَ زِيَارَتِهِ الأوْلَى عَامَ 1921م .. أيْ قَبْلَ 75عَامَاً مِنْ كِتَابَتِهِ للمَقَالِ .. وَلَمْ يَكُنْ أمْرَاً عَادِيَّاً إطْلاقَا ً مَا كَتَبَهُ
كَانَ يَصِفُ القُدْسَ حَارَة ً حَارَة ً ، وَبَابَا ً بَاباً .. وَكَأنَّهُ أمَامَ فِيْلمٍ مُتَحَرّكٍ..
كَانَ يَحْفَظُ الأسْمَاءَ وَالشّخْصِيّاتِ وَالجَمْعِيَّات.. بَلْ كَانَ يَصِفُ لَنَا نُقُوشَا ً دَقِيقَةٍ لِسُقُفٍ وَأبْوَابٍ صَادَفَهَا..
قَالَ ... / (كُنتُ أجْتَازُ شَارِعَ الزّيْتِ، وَهَذَا يَبْدَأ بَعْدَ دُخُولِكَ بَابَ العَامُودِ بِنَحْوِ 50 مِتْرَاً.. وَهُوَ شَارِعٌ مَسْقُوفٌ بِزُجُاجِ أصْفَرَ قَلِيلاً، بِحَيْثُ يَلِجُهُ النّورُ قَليلاً، كَانَ ضَيّقَا ً وَمُبَلطَا ً وَفِيهِ مَطْعَمٌ يَلْجَأ لَهُ القَادِمُونَ مِنَ الرّيفِ يَبْتَاعُونَ فِيْ طَرِيقِ صَلاتِهِمْ بِالجُمْعَةِ فِيْ المَسْجِدِ الأقْصَى ثِيَابَا ً ، أغْذِيَةً ، الشّارِعُ بَدَا طَوِيلاً وَفِيْ نِهَايَتِهِ طَرِيقَانِ يُؤَدّي اليَمِينُ إلَى القِيَامَةِ ، وَاليَسَارُ إلَى الحَرَمِ الشّرِيفِ)
لَكُمْ أنْ تَتَخَيّلُوا رَجُلاً يَصِفُ بِكُلّ دِقَةٍ تَفَاصِيلَ مَدِينَةٍ زَارَهَا مُنذُ قَرْنٍ إلا رُبْعَاً وَهُوَ الآنَ عَلَى مَشَارِفِ المِائَةِ ..
وَكَانَ مِنْ شِدَّةِ دِقَتِهِ أنَّهُ يَذْكُرُ كُلّ مَعْلَمٍ وَأعْوَامَ بِنَائِهِ وَمَنْ مِنَ السّلاطِينِ بَنَاهُ وُمُدّةَ حُكْمِ ذَاكَ السُلطَانِ.. وَكَانَ يَصِفُ الشّخْصِيَّاتِ كَأنَّهَا أمَامَهُ ..
كُلّ هَذَا بَعْدَ مُرُورِ 75عَامَاً عَلَى أيَّامِهِ تِلْكَ..
أخْتِيْ كَانَتْ تَقُولُ دَائِمَاً .. أنَّهَا تُحِبّ هَذَا الرَجُلَ وَتَتَمَنَّى لَوْ كَانَ مُسْلِمَا ً..
وَكُنتُ أفْعَلُ الشّيْءَ ذَاتَهُ وَأتَسَاءَلُ .. أنّ رَجُلاً بِهَذِهِ الأخْلاقِ وَالدّمَاثَةِ وَالرّوْعَةِ وَهُوَ مَسِيحيّ فَكَيْفَ إنْ كَانَ مُسْلِمَا ً !
لَكِنّهُ رَغْمَ مَسِيحيَّتِهِ كَانَ أفْضَل مِنْ آلافِ المُسْلِمِينَ المُتَشَدّقِينَ بِدِينِهِمْ فَقَطْ للعُبُورِ إلَى مَآرِبَ أخْرَى
لَمْ يَكُنْ هَذَا الرّجُلُ مَدْفُوعَاً لِتَمْجِيدِ الإسْلامِ وَلا لِتَبْرِيرِ هَزَائِمِ العَرَبِ أوِ انتِصَارَاتِهِمْ لأنَّ النَزَاهَةَ وَحْدَهَا كَانَتْ سَيِّدَة َ المَوْقِفِ لَدَيْهِ..
رَحَلَ نِيْقُولا .. المُؤرّخُ / الانْسَانُ / الرّائِدُ / البَطَلُ فِيْ وَقْتٍ شَهِدَ فِيهِ هَزِيمَةً عَرَبِيَّةٍ أخْرَى .. شَهِدَ لُبْنَان تَحْتَ الحِصَارِ وَالقَصْفِ وَالحَرْبِ... فَقَرّرَ المَوْتُ أنْ يَخْطِفَهُ كَيْ لا يَشْهَدَ تَارِيخَاً دَمَوِيَّا ً جَدِيدَاً يُضَافُ إلَى رَجُلٍ عَاصَرَ كُلّ الحُرُوبِ العَرَبِيَّةِ
تَرَجَّلَ الفَارِسُ مِنْ حِصَانِهِ أخِيرَا ً .. مُهْدِيَا ً الأرْضَ تَحِيَّتَهُ الأخِيرَة دُوْنَ أنْ يَخْتَارَ تَوْقِيتَ رَحِيلِهِ حَتَّى يُؤَرخَ أيَّامَاً عَاصِفَة ً كَهَذِهِ
وَكُنّا نَعْلَمُ أنّهُ سَيَرْوِيهَا بِكُلّ شَفَافِيّةٍ وَأرِيحيَّةٍ أكْثَرَ مِنَّا جَمِيعَا ً ..
قَالَ .. ( أوَدّ أنْ أعِيشَ للمَائَةِ لأتَوّجَ مِئَوِيّتِيْ بِسِيرَةٍ ذَاتِيَّةٍ تَارِيخيَّةٍ جُغْرَافِيَّةٍ عَنْ حَيَاتِيْ.. تَختَلِفُ عَنْ أيّ سِيْرَةٍ كَتَبْتُهَا أوْ كُتِبَتْ مِنْ قَبْلُ )
فَتَسَاءَلْنَا جَمِيعَا ً كَيْفَ يَغْفَلُ مُؤرّخٌ كَهَذا عَنْ أنْ يُؤَرّخَ حَيَاتَهُ بِمَوْسُوعِيَّةٍ تَارِيخيَّةٍ مُخْتَلِفَةٍ عَنِ السِيْرَةِ التِيْ كَتَبَهَا وَهُوَ سَيّدُ التّأرِيخِ فَجَاءَتْنَا الإجَابَة ُ عَاجِلَة ً .. ( لأنَّ نِيقُولا يَا سَادَة .. تَارِيخٌ لِوَحْدِهِ.. إنَّهُ حِقْبَة ٌ فَرِيدَة ٌ وَمَوْسُوعَة ٌ تَمْشِيْ عَلَى الأرْضِ )
المَوْتُ يُعِيدُ مَعَارِكَهُ هُنَا وَيُقَرّرُ أنّ نِيقُولا لَنْ يُمْضِيْ مِئَوِيَّتَهُ مَعَنـَا ..
سَيَكُونُ حِينَهَا فِيْ القَبْرِ يُشَاهِدُ أمّتَهُ وَيُؤرّخُهَا تَحْتَ التّرَابِ ..
وَأعْلَمُ أنَّهُ سَيُعَنْوِنُ تَارِيخَ ذَاكِرَتِهِ دَائِمَاً بِاقْتِبَاسِهِ القُرْآنيّ الذِيْ كَانَ يُحِبّ دَائِمَا ً أنْ يُعَطّرَ بِهِ مُؤلّفَاتِهِ التِيْ ضَجَّتْ بِالنَزْعَةِ القُرْآنِيَّةِ الوَاضِحَةِ..
كَانَ سَيَقُولُ ... ( وَمَا تَوْفِيقِيْ إلا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ أنِيبُ ! )
.
.
نِيْقُولا .. السَّلامُ عَلَيْكَ يَوْمَ وُلِدْتَ .. وَيَوْمَ تَمُوتُ .. وَيَوْمَ تُحَرّرُ فِلَسْطِين ![/align]
تعليق