[align=justify]مدن ألف ليلة وليلة المركزيّة والفرعيّة
د. محمد عبد الرحمن يونس
تشكّل حكايات ألف ليلة وليلة من المدينة محوراً أساساً لوصفها وسردها، ومن خلال هذه الحكايات يقدّم الرواة مدنهم تقديماً جمالياً ومثيراً، وبمزيد من الاحترام والإكبار لتخطيط هذه المدن، ومظاهرها الخارجية والزخرفية وبساتينها المنظّمة وأسواقها التجارية ومعاملاتها، وقصورها الشامخة ولذة العيش فيها، وما يدور فيها من علاقات وتقاليد ودسائس ومؤامرات.
وتتعدد المدن والبلدان في ألف ليلة وليلة لتشمل معظم مدن العالم التي عرفها الرواة معرفة شخصيّة، عن طريق معايشتهم لها سكناً أو سفراً إليها، أو سماعاً عنها، أو قراءةً من خلال المصادر التاريخية التي تتحدّث عن أوصافها وأعرافها وقيمها وتشكيلاتها الجغرافية، ببحارها وجزرها، وقلاعها، وأسوارها، سواء أكانت مدناً عربية إسلامية أم فارسية أم أوربية، أم شرق آسيوية. فمن المدن والبلدان العربية يذكر الرواة صنعاء واليمن، والشام (دمشق)، وحلب، والقدس وعكّا وغزّة وعسقلان، والقاهرة ودمياط والإسكندرية وبلبيس، وبغداد والبصرة والكوفة والموصل، و يذكرون من مدن المغرب الأقصى فاس ومكناس وذلك في حكاية » جودر ابن التاجر عمر وأخويه «. ويذكرون بعض البلدان الأوروبية التي يسميها الرواة » بلاد الإفرنجة « بمدنها وأقاليمها، ويذكرون منها فرنسا والنمسا. وعندما يذكر الرواة بلاد الإفرنجة، فإنّهم يعمّمونها على كثير من المدن الأوروبية، من دون أن يذكروا اسماً لهذه المدن، وذلك في حكاية » عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان «. ومن مدن تركيا يذكرون » القسطنطينية «، ويصلون إلى إيطاليا ليذكروا مدينة » جنوى « و » البندقية «، في حكاية » عمر النعمان وولديه «، ويعرّجون على بلاد السند والهند وعجائبها.
ومن البلدان الشرق آسيوية يذكرون الصين، وهناد(1)، وأحياناً تُطلق الصين على كل المدن الصينية التي يذكرها الرواة من دون تحديد اسم أية مدينة. ومن الحكايات التي تذكر الصين حكاية » الأحدب وملك الصين «، وحكاية » الملك قمر الزمان والملكة بدور «.
ومن البلدان المتاخمة للبلاد العربيّة الإسلاميّة، يذكر الرواة بلاد فارس » بلاد العجم«، ومن أهم الأقاليم الفارسية التي ترد في الحكايات إقليم » خراسان «، إذ يشير الراوي بهذا الإقليم إلى بلاد فارس كلها، وعندما يصل بقصصه إلى فضاءات فارسية بعيدة لا يعرف اسماً لها، فإنه يسمّيها بالمدينة الخضراء(2)، والأرض البيضاء(3).
ونلاحظ أنّ الرّواة عندما يذكرون المدن العربية الإسلامية، فإنهم يذكرونها مقرونة بأسماء خلفائها وحكّامها، إذ تُذكر بغداد مقرونةً باسم الخليفة هرون الرشيد: » وسافر بها إلى بغداد وكان ذلك في زمن هرون الرشيد «.(4)، وتُذكر مقرونةً أيضاً باسم ولده المأمون(5). وهناك إشاراتٌ طفيفة إلى محمد الأمين (ابن هرون الرشيد)، وذلك في » حكاية الحمال والبنات «: »ثمّ إنّ الخليفة أحضر ولده الأمين بين يديه «(6).
وتُذكر البصرة مقرونة باسم سلطانها محمد سليمان الزيني(7). ويتزامن ورود الكوفة مقروناً باسم واليها الظالم ـ كما يرى أحد الرواة ـ الحجاج بن يوسف الثقفي(8)، وذلك في حكاية » نعمة ونعم «.
وتُذكر دمشق مقرونةً باسم الخلفاء الأمويين،كالخليفة عبد الملك بن مروان(9).وفي حكاية أخرى يذكر أحد الرّواة أن ملك دمشق هو الملك عمر النعمان. يقول في حكاية » عمر النعمان وولديه «: » كان بمدينة دمشق، قبل خلافة عبد الملك بن مروان، ملك يقال له عمر النعمان، وكان من الجبابرة الكبار«(10).
ومن هنا يمكن القول إنّ راوي هذه الحكاية لا يعرف تماماً وبدّقة تاريخ الخلافة الأمويّة، وأسماء الخلفاء الذين تعاقبوا على الدولة الأمويّة، فلا يوجد بين الخلفاء الأمويين خليفة يُدعى »عمر النعمان«. وتذكر المصادر التاريخية أن الخليفة السابق لعبد الملك بن مروان هو والده مروان بن الحكم (ت 65 هـ/685 م)(11). ويبدو أن الرّاوي شكّل هذه الشخصية من تخيّلاته ليتخلّص من الحرج الذي يصيبه، وهو يتحدّث عن مفاسد هذا الملك وجبروته، وانهماكه في نكاح النساء(12)، هو وولده شركان، وبالتالي عن المفاسد والملاهي التي رافقت حياة بعض خلفاء الدولة الحقيقين.
والغريب أنّ رواة ألف ليلة وليلة لا يحتفون بالجزيرة العربية، ولا بمدنها، على الرغم من مركزيتها الإسلامية، إلاّ أنّ أحد الرّواة يذكر الحجاز(13)، ومكّة وجدّة(14). وتبقى فضاءات الجزيرة العربية فضاءات غير مركزيّة وغير مهمّة في ليالي ألف ليلة وليلة، إذ لا يتوقّف السرد عندها طويلا، ولا يسجّل ملامح حياة شعوبها، وإن ذُكِرت فإنها تُذكر لمجرد كونها طريقاً يمرّ فيه الأبطال من دون توقّف. لكنّ أحد الرّواة يذكر فضاءً مهماً من فضاءات الجزيرة العربية، وهو فضاء الكعبة، باعتباره فضاءً مركزياً دينياً مقدّساً يؤمّه الزوّار من الدول الإسلامية كافة، وذلك في حكاية » الحشاش مع حريم أحد الأكابر«(16).
إنّ هذه المدن الآنف ذكرها، هي من أهم المدن المتشكّلة جغرافيّاً على خارطة العالم المعروفة قديماً وحديثاً، والتي عايشها رواة ألف ليلة وليلة، أو سمعوا عنها، أو قرأوا عنها في المصادر التاريخية.
انتهى المقال [/align]
د. محمد عبد الرحمن يونس
تشكّل حكايات ألف ليلة وليلة من المدينة محوراً أساساً لوصفها وسردها، ومن خلال هذه الحكايات يقدّم الرواة مدنهم تقديماً جمالياً ومثيراً، وبمزيد من الاحترام والإكبار لتخطيط هذه المدن، ومظاهرها الخارجية والزخرفية وبساتينها المنظّمة وأسواقها التجارية ومعاملاتها، وقصورها الشامخة ولذة العيش فيها، وما يدور فيها من علاقات وتقاليد ودسائس ومؤامرات.
وتتعدد المدن والبلدان في ألف ليلة وليلة لتشمل معظم مدن العالم التي عرفها الرواة معرفة شخصيّة، عن طريق معايشتهم لها سكناً أو سفراً إليها، أو سماعاً عنها، أو قراءةً من خلال المصادر التاريخية التي تتحدّث عن أوصافها وأعرافها وقيمها وتشكيلاتها الجغرافية، ببحارها وجزرها، وقلاعها، وأسوارها، سواء أكانت مدناً عربية إسلامية أم فارسية أم أوربية، أم شرق آسيوية. فمن المدن والبلدان العربية يذكر الرواة صنعاء واليمن، والشام (دمشق)، وحلب، والقدس وعكّا وغزّة وعسقلان، والقاهرة ودمياط والإسكندرية وبلبيس، وبغداد والبصرة والكوفة والموصل، و يذكرون من مدن المغرب الأقصى فاس ومكناس وذلك في حكاية » جودر ابن التاجر عمر وأخويه «. ويذكرون بعض البلدان الأوروبية التي يسميها الرواة » بلاد الإفرنجة « بمدنها وأقاليمها، ويذكرون منها فرنسا والنمسا. وعندما يذكر الرواة بلاد الإفرنجة، فإنّهم يعمّمونها على كثير من المدن الأوروبية، من دون أن يذكروا اسماً لهذه المدن، وذلك في حكاية » عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان «. ومن مدن تركيا يذكرون » القسطنطينية «، ويصلون إلى إيطاليا ليذكروا مدينة » جنوى « و » البندقية «، في حكاية » عمر النعمان وولديه «، ويعرّجون على بلاد السند والهند وعجائبها.
ومن البلدان الشرق آسيوية يذكرون الصين، وهناد(1)، وأحياناً تُطلق الصين على كل المدن الصينية التي يذكرها الرواة من دون تحديد اسم أية مدينة. ومن الحكايات التي تذكر الصين حكاية » الأحدب وملك الصين «، وحكاية » الملك قمر الزمان والملكة بدور «.
ومن البلدان المتاخمة للبلاد العربيّة الإسلاميّة، يذكر الرواة بلاد فارس » بلاد العجم«، ومن أهم الأقاليم الفارسية التي ترد في الحكايات إقليم » خراسان «، إذ يشير الراوي بهذا الإقليم إلى بلاد فارس كلها، وعندما يصل بقصصه إلى فضاءات فارسية بعيدة لا يعرف اسماً لها، فإنه يسمّيها بالمدينة الخضراء(2)، والأرض البيضاء(3).
ونلاحظ أنّ الرّواة عندما يذكرون المدن العربية الإسلامية، فإنهم يذكرونها مقرونة بأسماء خلفائها وحكّامها، إذ تُذكر بغداد مقرونةً باسم الخليفة هرون الرشيد: » وسافر بها إلى بغداد وكان ذلك في زمن هرون الرشيد «.(4)، وتُذكر مقرونةً أيضاً باسم ولده المأمون(5). وهناك إشاراتٌ طفيفة إلى محمد الأمين (ابن هرون الرشيد)، وذلك في » حكاية الحمال والبنات «: »ثمّ إنّ الخليفة أحضر ولده الأمين بين يديه «(6).
وتُذكر البصرة مقرونة باسم سلطانها محمد سليمان الزيني(7). ويتزامن ورود الكوفة مقروناً باسم واليها الظالم ـ كما يرى أحد الرواة ـ الحجاج بن يوسف الثقفي(8)، وذلك في حكاية » نعمة ونعم «.
وتُذكر دمشق مقرونةً باسم الخلفاء الأمويين،كالخليفة عبد الملك بن مروان(9).وفي حكاية أخرى يذكر أحد الرّواة أن ملك دمشق هو الملك عمر النعمان. يقول في حكاية » عمر النعمان وولديه «: » كان بمدينة دمشق، قبل خلافة عبد الملك بن مروان، ملك يقال له عمر النعمان، وكان من الجبابرة الكبار«(10).
ومن هنا يمكن القول إنّ راوي هذه الحكاية لا يعرف تماماً وبدّقة تاريخ الخلافة الأمويّة، وأسماء الخلفاء الذين تعاقبوا على الدولة الأمويّة، فلا يوجد بين الخلفاء الأمويين خليفة يُدعى »عمر النعمان«. وتذكر المصادر التاريخية أن الخليفة السابق لعبد الملك بن مروان هو والده مروان بن الحكم (ت 65 هـ/685 م)(11). ويبدو أن الرّاوي شكّل هذه الشخصية من تخيّلاته ليتخلّص من الحرج الذي يصيبه، وهو يتحدّث عن مفاسد هذا الملك وجبروته، وانهماكه في نكاح النساء(12)، هو وولده شركان، وبالتالي عن المفاسد والملاهي التي رافقت حياة بعض خلفاء الدولة الحقيقين.
والغريب أنّ رواة ألف ليلة وليلة لا يحتفون بالجزيرة العربية، ولا بمدنها، على الرغم من مركزيتها الإسلامية، إلاّ أنّ أحد الرّواة يذكر الحجاز(13)، ومكّة وجدّة(14). وتبقى فضاءات الجزيرة العربية فضاءات غير مركزيّة وغير مهمّة في ليالي ألف ليلة وليلة، إذ لا يتوقّف السرد عندها طويلا، ولا يسجّل ملامح حياة شعوبها، وإن ذُكِرت فإنها تُذكر لمجرد كونها طريقاً يمرّ فيه الأبطال من دون توقّف. لكنّ أحد الرّواة يذكر فضاءً مهماً من فضاءات الجزيرة العربية، وهو فضاء الكعبة، باعتباره فضاءً مركزياً دينياً مقدّساً يؤمّه الزوّار من الدول الإسلامية كافة، وذلك في حكاية » الحشاش مع حريم أحد الأكابر«(16).
إنّ هذه المدن الآنف ذكرها، هي من أهم المدن المتشكّلة جغرافيّاً على خارطة العالم المعروفة قديماً وحديثاً، والتي عايشها رواة ألف ليلة وليلة، أو سمعوا عنها، أو قرأوا عنها في المصادر التاريخية.
انتهى المقال [/align]
تعليق