[align=justify][align=justify][align=justify]السياسة وشهادة الدكتوراه
د. محمد عبد الرحمن يونس
تسهم أطروحة الدكتوراه إسهاما واضحا في تحسين مستوى معديها، علميا ومعرفيا، وتوسّع من خبراتهم البحثية والمعرفية، وهي بلا شكّ تحتاج إلى صبر طويل، وجهد كبير في إعدادها و تبويبها، و هذا الجهد الكبير يسهم بدوره في أن يجعل الباحث صبورا, ومتأنيا، و أكثر قدرة على التبويب والتنظيم، وإعمال الفكر، والتحليل والنقد للنصوص والأبحاث التي بين يديه. ومن هنا تأتي أهميتها، و بالإضافة إلى ذلك تقدّم زادا معرفيا خصبا لمن يعدّها، فسنوات التحضير الطويلة التي يقضيها الباحث في إعدادها كفيلة بأن تقدّم له زادا معرفيا لا بأس به، غير أنّها تقلل من الحسّ الاجتماعي عند الباحث، و تفرض عليه نوعاً من العزلة والابتعاد عن الناس ـ نسبيا ـ لأنّ انهماكه في إعدادها يدفعه قويا لأن يعتزل الناس، ويكون مقلا من حيث واجباته الاجتماعية تجاه أقربائه وأصدقائه، وحتى أهل بيته، ومن مزاياها: أنّها تدفع معدّها إلى مزيد من التأمّل، و تمنحه لذة الاكتشاف كلّما وصل إلى رأي يراه جديدا، أو حقيقية جديدة.
غير أن كثيرا من أفراد المجتمع أخذوا في الآونة الأخيرة ينظرون إليها نظرة شك وريبة، وبخاصة بعد أن صارت تمنح لكثير من الذين لا علاقة لهم بالبحث العلمي، و بعد أن دخلت السياسة فيها، إذ أخذ السياسيون العرب يتهالكون للحصول عليها، لا حباً في العلم والمعرفة، وتطوير البحث العلمي، و تطوير مجتمعاتهم وتحضيرها، بل تزيّنا بها، وافتخارا، وعجرفة في بعض الأحيان، و منافسة لحامليها الحقيقيين، وإبعادهم عن مراكز القوى والقرار.
لقد أخذ بعض السياسيين، في الآونة الأخيرة، يتوجهون إلى جامعات معيّنة، ويشترون شهادات الدكتوراه منها، من دون أن يخطّوا حرفا واحدا من حروفها. وقد أتيح لي قبل ثلاث سنوات من مقابلة أحد الحاصلين عليها، بطريق الغشّ والتزوير، في مكتبه الوثير، فبدأ الرجل يتعالى، ويفتخر بشهادة الدكتوراه التي حصل عليها بدرجة امتياز من إحدى جامعات المعسكر الاشتراكي سابقا، وعندما سألته: ما هي أهم موضوعات أطروحتك؟ قال: لا أعرف ... لقد نسيت. وصرّح لي أحد معارفي الذي يعرف هذا الرجل جيدا، أنه غير حاصل على أي شهادة من شهادات الدراسات العليا، بل لقد حصل على شهادة الليسانس بالغشّ والتدليس، فعندما رأى القوم يحصلون على هذه الشهادة ثارت حميته، واستنفر قواه، و حمل معه مبلغا ماليا غير قليل، وتوجّه إلى إحدى جامعات المعسكر الاشتراكي، و اشترى منها هذه الشهادة.
و بعد أن حصل على شهادة الدكتوراه كثير من الأميين والجهلة، والذين لا يعرفون أيّ أسس من أسس البحث العلمي و مناهجه، و بعد أن ابتذلت هذه الشهادة، قلّت مصداقيتها في كثير من الأوساط الاجتماعية. هذا و قد أسهمت الجامعات العربية ـ إلى حدّ بعيد ـ في التقليل من أهمية الباحثين الحقيقيين الحاصلين عليها، بتعبهم وكدّهم، و صبرهم، وذلك بالعمل على تهجيرهم قسريا ومحاربتهم .
وهناك كثير ممن يحملون درجة جامعية، أقل من الدكتوراه، أكثر قدرة على العطاء المعرفي، وأكثر قدرة على الإسهام في خدمة البحث العلمي و تطويره، و لذا لا يمنع من أن يناقش حاملو هذه الدرجة ـ من الذين لا يحملون شهادة الدكتوراه ـ أصحاب أطاريح الدكتوراه المعدة للمناقشة، إذا كان لهؤلاء الأساتذة غير الدكاترة السبق المعرفي، ومشهود لهم بالخبرة والمعرفة والدراية.
ومن هنا نجد على سبيل المثال ـ لا الحصر ـ أن هناك بعض الأساتذة الصينيين في الجامعات الصينية يشرفون على رسائل الماجستير وهم لا يحملون شهادة الدكتوراه، و يشاركون في مناقشة أطروحات الدكتوراه، و هم لا يحملون هذه الشهادة. وأعرف أستاذا صينيا مرموقا في جامعة بكين يشرف على أطروحات الكتوراه وهو لا يحملها، و علما آخر في جامعة الدراسات الأجنبية في بكين ترقّى إلى مرتبة أستاذ(( بروفيسور)) وهو لا يحمل شهادة الدكتوراه. و أعرف أستاذا آخر في جامعة اللغات والثقافة في بكين يحكّم أبحاث الدكاترة راغبي الترقية إلى ربتة أستاذ وهو لا يحمل هذه الشهادة، إذا العبرة ليست بشهادة الدكتوراه، بل بمدى عطاء الشخص و إبداعه، و نتاجه المعرفي وإسهامه في خدمة البحث العلمي، بغض النظر عن شهادته، لأن كثيرا من غير حاملي شهادة الدكتوراه هم أكثر كفؤا من الذين يحملونها، هذا إذا عرفنا أن كثيرا من الذين يحملونها، لا يحملونها عن جدارة بل حصلوا عليها بطرق ملتوية، كأن يكونوا مسؤولين كبارا في الأحزاب السياسية أو في دوائر الدولة ومرموقين في مؤسساتها، إذ يجد مثل هؤلاء ألف طريق للحصول على هذه الشهادة، حتى ولو لم يكتبوا سطرا واحدا من سطورها. ومن هنا لا يمكننا أن نعتبر ـ ولا بأي شكل من الأشكال ـ أن حملة شهادة الدكتوراه هم مرجعية علمية عليا، و لا يجوز لغيرهم أن يكونوا أكثر علما وخبرة.
إن القضية الأساسية تتركز وبالدرجة الأولى، في ما يقدّمه الشخص للبحث العلمي والثقافة والمعرفة بغض النظر عن شهادته ومركزه الوظيفي والحكومي والسياسي. [/align][/align][/align]
د. محمد عبد الرحمن يونس
تسهم أطروحة الدكتوراه إسهاما واضحا في تحسين مستوى معديها، علميا ومعرفيا، وتوسّع من خبراتهم البحثية والمعرفية، وهي بلا شكّ تحتاج إلى صبر طويل، وجهد كبير في إعدادها و تبويبها، و هذا الجهد الكبير يسهم بدوره في أن يجعل الباحث صبورا, ومتأنيا، و أكثر قدرة على التبويب والتنظيم، وإعمال الفكر، والتحليل والنقد للنصوص والأبحاث التي بين يديه. ومن هنا تأتي أهميتها، و بالإضافة إلى ذلك تقدّم زادا معرفيا خصبا لمن يعدّها، فسنوات التحضير الطويلة التي يقضيها الباحث في إعدادها كفيلة بأن تقدّم له زادا معرفيا لا بأس به، غير أنّها تقلل من الحسّ الاجتماعي عند الباحث، و تفرض عليه نوعاً من العزلة والابتعاد عن الناس ـ نسبيا ـ لأنّ انهماكه في إعدادها يدفعه قويا لأن يعتزل الناس، ويكون مقلا من حيث واجباته الاجتماعية تجاه أقربائه وأصدقائه، وحتى أهل بيته، ومن مزاياها: أنّها تدفع معدّها إلى مزيد من التأمّل، و تمنحه لذة الاكتشاف كلّما وصل إلى رأي يراه جديدا، أو حقيقية جديدة.
غير أن كثيرا من أفراد المجتمع أخذوا في الآونة الأخيرة ينظرون إليها نظرة شك وريبة، وبخاصة بعد أن صارت تمنح لكثير من الذين لا علاقة لهم بالبحث العلمي، و بعد أن دخلت السياسة فيها، إذ أخذ السياسيون العرب يتهالكون للحصول عليها، لا حباً في العلم والمعرفة، وتطوير البحث العلمي، و تطوير مجتمعاتهم وتحضيرها، بل تزيّنا بها، وافتخارا، وعجرفة في بعض الأحيان، و منافسة لحامليها الحقيقيين، وإبعادهم عن مراكز القوى والقرار.
لقد أخذ بعض السياسيين، في الآونة الأخيرة، يتوجهون إلى جامعات معيّنة، ويشترون شهادات الدكتوراه منها، من دون أن يخطّوا حرفا واحدا من حروفها. وقد أتيح لي قبل ثلاث سنوات من مقابلة أحد الحاصلين عليها، بطريق الغشّ والتزوير، في مكتبه الوثير، فبدأ الرجل يتعالى، ويفتخر بشهادة الدكتوراه التي حصل عليها بدرجة امتياز من إحدى جامعات المعسكر الاشتراكي سابقا، وعندما سألته: ما هي أهم موضوعات أطروحتك؟ قال: لا أعرف ... لقد نسيت. وصرّح لي أحد معارفي الذي يعرف هذا الرجل جيدا، أنه غير حاصل على أي شهادة من شهادات الدراسات العليا، بل لقد حصل على شهادة الليسانس بالغشّ والتدليس، فعندما رأى القوم يحصلون على هذه الشهادة ثارت حميته، واستنفر قواه، و حمل معه مبلغا ماليا غير قليل، وتوجّه إلى إحدى جامعات المعسكر الاشتراكي، و اشترى منها هذه الشهادة.
و بعد أن حصل على شهادة الدكتوراه كثير من الأميين والجهلة، والذين لا يعرفون أيّ أسس من أسس البحث العلمي و مناهجه، و بعد أن ابتذلت هذه الشهادة، قلّت مصداقيتها في كثير من الأوساط الاجتماعية. هذا و قد أسهمت الجامعات العربية ـ إلى حدّ بعيد ـ في التقليل من أهمية الباحثين الحقيقيين الحاصلين عليها، بتعبهم وكدّهم، و صبرهم، وذلك بالعمل على تهجيرهم قسريا ومحاربتهم .
وهناك كثير ممن يحملون درجة جامعية، أقل من الدكتوراه، أكثر قدرة على العطاء المعرفي، وأكثر قدرة على الإسهام في خدمة البحث العلمي و تطويره، و لذا لا يمنع من أن يناقش حاملو هذه الدرجة ـ من الذين لا يحملون شهادة الدكتوراه ـ أصحاب أطاريح الدكتوراه المعدة للمناقشة، إذا كان لهؤلاء الأساتذة غير الدكاترة السبق المعرفي، ومشهود لهم بالخبرة والمعرفة والدراية.
ومن هنا نجد على سبيل المثال ـ لا الحصر ـ أن هناك بعض الأساتذة الصينيين في الجامعات الصينية يشرفون على رسائل الماجستير وهم لا يحملون شهادة الدكتوراه، و يشاركون في مناقشة أطروحات الدكتوراه، و هم لا يحملون هذه الشهادة. وأعرف أستاذا صينيا مرموقا في جامعة بكين يشرف على أطروحات الكتوراه وهو لا يحملها، و علما آخر في جامعة الدراسات الأجنبية في بكين ترقّى إلى مرتبة أستاذ(( بروفيسور)) وهو لا يحمل شهادة الدكتوراه. و أعرف أستاذا آخر في جامعة اللغات والثقافة في بكين يحكّم أبحاث الدكاترة راغبي الترقية إلى ربتة أستاذ وهو لا يحمل هذه الشهادة، إذا العبرة ليست بشهادة الدكتوراه، بل بمدى عطاء الشخص و إبداعه، و نتاجه المعرفي وإسهامه في خدمة البحث العلمي، بغض النظر عن شهادته، لأن كثيرا من غير حاملي شهادة الدكتوراه هم أكثر كفؤا من الذين يحملونها، هذا إذا عرفنا أن كثيرا من الذين يحملونها، لا يحملونها عن جدارة بل حصلوا عليها بطرق ملتوية، كأن يكونوا مسؤولين كبارا في الأحزاب السياسية أو في دوائر الدولة ومرموقين في مؤسساتها، إذ يجد مثل هؤلاء ألف طريق للحصول على هذه الشهادة، حتى ولو لم يكتبوا سطرا واحدا من سطورها. ومن هنا لا يمكننا أن نعتبر ـ ولا بأي شكل من الأشكال ـ أن حملة شهادة الدكتوراه هم مرجعية علمية عليا، و لا يجوز لغيرهم أن يكونوا أكثر علما وخبرة.
إن القضية الأساسية تتركز وبالدرجة الأولى، في ما يقدّمه الشخص للبحث العلمي والثقافة والمعرفة بغض النظر عن شهادته ومركزه الوظيفي والحكومي والسياسي. [/align][/align][/align]
تعليق