إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

سيرة الحجاج بن يوسف الثقفي في ألف ليلة وليلة د. محمد عبد الرحمن يونس

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • سيرة الحجاج بن يوسف الثقفي في ألف ليلة وليلة د. محمد عبد الرحمن يونس

    [align=justify][align=justify][align=justify]السياسة وشهادة الدكتوراه
    د. محمد عبد الرحمن يونس


    تسهم أطروحة الدكتوراه إسهاما واضحا في تحسين مستوى معديها، علميا ومعرفيا، وتوسّع من خبراتهم البحثية والمعرفية، وهي بلا شكّ تحتاج إلى صبر طويل، وجهد كبير في إعدادها و تبويبها، و هذا الجهد الكبير يسهم بدوره في أن يجعل الباحث صبورا, ومتأنيا، و أكثر قدرة على التبويب والتنظيم، وإعمال الفكر، والتحليل والنقد للنصوص والأبحاث التي بين يديه. ومن هنا تأتي أهميتها، و بالإضافة إلى ذلك تقدّم زادا معرفيا خصبا لمن يعدّها، فسنوات التحضير الطويلة التي يقضيها الباحث في إعدادها كفيلة بأن تقدّم له زادا معرفيا لا بأس به، غير أنّها تقلل من الحسّ الاجتماعي عند الباحث، و تفرض عليه نوعاً من العزلة والابتعاد عن الناس ـ نسبيا ـ لأنّ انهماكه في إعدادها يدفعه قويا لأن يعتزل الناس، ويكون مقلا من حيث واجباته الاجتماعية تجاه أقربائه وأصدقائه، وحتى أهل بيته، ومن مزاياها: أنّها تدفع معدّها إلى مزيد من التأمّل، و تمنحه لذة الاكتشاف كلّما وصل إلى رأي يراه جديدا، أو حقيقية جديدة.
    غير أن كثيرا من أفراد المجتمع أخذوا في الآونة الأخيرة ينظرون إليها نظرة شك وريبة، وبخاصة بعد أن صارت تمنح لكثير من الذين لا علاقة لهم بالبحث العلمي، و بعد أن دخلت السياسة فيها، إذ أخذ السياسيون العرب يتهالكون للحصول عليها، لا حباً في العلم والمعرفة، وتطوير البحث العلمي، و تطوير مجتمعاتهم وتحضيرها، بل تزيّنا بها، وافتخارا، وعجرفة في بعض الأحيان، و منافسة لحامليها الحقيقيين، وإبعادهم عن مراكز القوى والقرار.
    لقد أخذ بعض السياسيين، في الآونة الأخيرة، يتوجهون إلى جامعات معيّنة، ويشترون شهادات الدكتوراه منها، من دون أن يخطّوا حرفا واحدا من حروفها. وقد أتيح لي قبل ثلاث سنوات من مقابلة أحد الحاصلين عليها، بطريق الغشّ والتزوير، في مكتبه الوثير، فبدأ الرجل يتعالى، ويفتخر بشهادة الدكتوراه التي حصل عليها بدرجة امتياز من إحدى جامعات المعسكر الاشتراكي سابقا، وعندما سألته: ما هي أهم موضوعات أطروحتك؟ قال: لا أعرف ... لقد نسيت. وصرّح لي أحد معارفي الذي يعرف هذا الرجل جيدا، أنه غير حاصل على أي شهادة من شهادات الدراسات العليا، بل لقد حصل على شهادة الليسانس بالغشّ والتدليس، فعندما رأى القوم يحصلون على هذه الشهادة ثارت حميته، واستنفر قواه، و حمل معه مبلغا ماليا غير قليل، وتوجّه إلى إحدى جامعات المعسكر الاشتراكي، و اشترى منها هذه الشهادة.
    و بعد أن حصل على شهادة الدكتوراه كثير من الأميين والجهلة، والذين لا يعرفون أيّ أسس من أسس البحث العلمي و مناهجه، و بعد أن ابتذلت هذه الشهادة، قلّت مصداقيتها في كثير من الأوساط الاجتماعية. هذا و قد أسهمت الجامعات العربية ـ إلى حدّ بعيد ـ في التقليل من أهمية الباحثين الحقيقيين الحاصلين عليها، بتعبهم وكدّهم، و صبرهم، وذلك بالعمل على تهجيرهم قسريا ومحاربتهم .
    وهناك كثير ممن يحملون درجة جامعية، أقل من الدكتوراه، أكثر قدرة على العطاء المعرفي، وأكثر قدرة على الإسهام في خدمة البحث العلمي و تطويره، و لذا لا يمنع من أن يناقش حاملو هذه الدرجة ـ من الذين لا يحملون شهادة الدكتوراه ـ أصحاب أطاريح الدكتوراه المعدة للمناقشة، إذا كان لهؤلاء الأساتذة غير الدكاترة السبق المعرفي، ومشهود لهم بالخبرة والمعرفة والدراية.
    ومن هنا نجد على سبيل المثال ـ لا الحصر ـ أن هناك بعض الأساتذة الصينيين في الجامعات الصينية يشرفون على رسائل الماجستير وهم لا يحملون شهادة الدكتوراه، و يشاركون في مناقشة أطروحات الدكتوراه، و هم لا يحملون هذه الشهادة. وأعرف أستاذا صينيا مرموقا في جامعة بكين يشرف على أطروحات الكتوراه وهو لا يحملها، و علما آخر في جامعة الدراسات الأجنبية في بكين ترقّى إلى مرتبة أستاذ(( بروفيسور)) وهو لا يحمل شهادة الدكتوراه. و أعرف أستاذا آخر في جامعة اللغات والثقافة في بكين يحكّم أبحاث الدكاترة راغبي الترقية إلى ربتة أستاذ وهو لا يحمل هذه الشهادة، إذا العبرة ليست بشهادة الدكتوراه، بل بمدى عطاء الشخص و إبداعه، و نتاجه المعرفي وإسهامه في خدمة البحث العلمي، بغض النظر عن شهادته، لأن كثيرا من غير حاملي شهادة الدكتوراه هم أكثر كفؤا من الذين يحملونها، هذا إذا عرفنا أن كثيرا من الذين يحملونها، لا يحملونها عن جدارة بل حصلوا عليها بطرق ملتوية، كأن يكونوا مسؤولين كبارا في الأحزاب السياسية أو في دوائر الدولة ومرموقين في مؤسساتها، إذ يجد مثل هؤلاء ألف طريق للحصول على هذه الشهادة، حتى ولو لم يكتبوا سطرا واحدا من سطورها. ومن هنا لا يمكننا أن نعتبر ـ ولا بأي شكل من الأشكال ـ أن حملة شهادة الدكتوراه هم مرجعية علمية عليا، و لا يجوز لغيرهم أن يكونوا أكثر علما وخبرة.
    إن القضية الأساسية تتركز وبالدرجة الأولى، في ما يقدّمه الشخص للبحث العلمي والثقافة والمعرفة بغض النظر عن شهادته ومركزه الوظيفي والحكومي والسياسي. [/align][/align]
    [/align]

  • #2
    عداوة الشعر الحديث د. محمد عبد الرحمن يونس

    [align=justify]عداوة الشعر الحديث
    د. محمد عبد الرحمن يونس


    بعد أن أنهى دراسته في السوربون ودرس بنيات الشعر الفرنسي والعربي الحديثين ، وأثبت تفوقاً واضحاَ في إبداع الشعر بالفرنسية والعربية في آن ، لاح له الوطن بعيداً نائيا وجميلا، كان ياسميناً وبحرا حركا في أعماقه كوامن الشوق . كتب عن الوطن أجمل قصائده، حمله في البؤبؤ والقلب ، جمعه قطرة قطرة ، وأخبأه في حناياه .
    هذا الوطن الشفيف البعيد يلوح صفصافة ، وزورقاً يمخر عباب الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي . وكلما هبّت نسمة شعر بها تغني أرقّ أغنياتها للصيادين والبحارة والأحباب، تحمل معها رائحة وجه الأرض المجعّد بالتضاريس والرؤى المجدولة بالحنين ، وتقاطيع البحر الناعسة بين الشطوط ومنائر المرافئ، كان يشتعل شوقا وحنينا لمرابع الطفولة .
    كانت الشانزي ليزي بالنسبة له واحة للأحلام التي لا تتحقق أبداً، وللصبابات التي تخبو أمام مسرح الليدو كلما فكرت بالهبوب . وأمام المسرح لمح فتاة شابة، كانت تترنح ثملة , وابتسمت له، وسرعان ما دعاها إلى ( كافي دو فرانس) ، فلبت الدعوة ، و في المقهى قرأ لها أشعاراً لبودلير ورامبو ورينيه شار ، وقالت الحسناء :
    أنت شاعر إذاً ؟ وأخفى حياءه الرفيف تحت وطء ابتسامة شفيفة .
    وطلبت منه أن يقرأ لها أشعاراً لشعراء بلاده . وقرأ أجمل الأشعار عن وطنه وبحره ومدنه التي انحبست أنفاسها تحت وطء الممنوعات والرقابة ،والمؤسسات الثقافية التي لا علاقة لها بالمعرفة والثقافة. المدن التي ظلت تحنّ ألف عام للسفن القادمة من المرافئ والجزر الخضراء .
    كانت فرحته تعانق أبعد غيمة في السماء الشاسعة عندما أصدرت له دار غاليمار الفرنسية ديوانين شعريين من قصائده المخطوطة . ووجد الديوانان إقبالا واسعاً في الوسط الثقافي، وأثنى عليهما كثير من نقاد الشعر ومحبيه .
    أنهى دراسته .. تأبط حقيبته .. كانت ذكريات شان ميشيل والسين تخطو فوق صفحات قلبه ، وتلاحقه بنظراتها الوارفة ، لكنّه لوّح لها مودعاّ: سأعود إلى وطني أيتها الذكريات الجميلة .
    في مرفأ مرسيليا صعد الباخرة ( ليبرتي ) .. كان البحر هادئا ساحراً .. وكانت النوارس تشكّل مسارات دائرية فوق صفحة الماء .. ما أطيب رائحة البحر والمطر والوطن الأخضر النائي بعيداً ،وطن الشمس والنخيل ، وطن الآهات المكتومة والحنين الدافئ، والرمال الذهبية التي تفرش صدرها سجادة عطر للذين تعلموا فنون الرقص على أنغام الطبول والدفوف البلدية .
    وعندما استقرّ في بلده، وبدأ يقرأ واصلا ليله بنهاره ، منقّبا في كنوز الشعر والمعرفة ، محلقا في سماء شعراء بلاده ، مبدعاً أجمل القصائد وأرقّها . تقدّم إلى إحدى الصحف اليومية في مدينته الجميلة . قابله المحرر الثقافي الذي رسب ثلاث سنوات في الثانوية العامة ، وما نالها في السنة الرابعة ، ومن وراء مكتبه الوثير قال له باستعلاء وامتعاض: ما ذا يريد الأخ؟ . وقدّم نصاً شعريا وأبدى رغبته في أن ينشر في الصفحة الثقافية . قطّب المحرر حاجبيه .. رمى النص بنظرة ثاقبة جامدة ، وقال : هذا شعر حديث تافه لم ينضج بعد .
    وما يئس الشاب الذي درس عشر سنوات في السوربون وحضّر أطروحة دكتوراه في فنيات الشعر العربي المعاصر وخصائصه . وذهب وأبدع نصاً جديداً .. بذل أقصى طاقاته المعرفية لكي يكون لائقا بصحيفة مدينته . وعاد بعد شهر إلى الصحيفة، وقابله المحرر نفسه،. وعندما قُدّم النص إلى مشرحة النقد الصحافي قال له المحرر : نص سطحي يفتقر إلى الإبداع والعمق الفني .. حاول أن تكتب شعراً ذا مضمون جيد وقافية ووزناً سليمين.
    وكيف له أن يكتب نصاً غير سطحي؟ وكيف يكون مضمون النص جيدا؟ ولم يكن قادرا على تشكيل نص جديد يرضى أن يتمدد ملوي العنق حتى يدخل القالب النقدي للمحرر الثقافي اللامع .
    كوميض برق لاحت له الفكرة أخيراً ولم يكن مقتنعاً بها ، فقد علّمه البحث العلمي الأمانة والصدق ، لكن لا بدّله من نص جديد يحمل فرادته في الرؤية والإبداع حتى يكتشف به مدى قدرات الصحافي اللامع . وأخذ ديوان الشاعر الفرنسي لويس أراغون، واقتطع أجمل قصائده، وأخذ قصائد أخرى للشاعر المصري صلاح عبد الصبور وللعراقي بدر شاكر السياب ، وتوجّه إلى مكتب المحرر الثقافي ، وكالعادة قدّم النصوص وطلب نشرها . وما أن ألقى المحرر الثقافي النظرة الأولى على النصوص حتى صاح غاضبا متأففاً: قلت لك سابقاً : هذا الشعر النثري الغثّ لا مكان له في جريدتنا .. اكتب شعرا عميقا وموزونا .. اذهب واقرأ النابغة الذبياني و الفرزدق والأخطل واكتب كما يكتبون ، وعندها ستجد قصائدك طريقا إلى جريدتنا .
    أخذ الشاعر نصوص شعرائه المفضلين وخرج .. قطع أزقة المدينة .. كان المطر الغزير يتساقط شلالا.. وأشجار السرو تتمايل طرباً على أنغام أغاني مدينته المحلية : ( يا لطيف .. يا لطيف .. يا لطفطف ) و ( نجمة قطبية طلت عقب الليل عليّ ) . وكان البحر كعادته يقيم طقوس البحارة الذين أخذوا يغازلون حورياته .
    لاحت الشانزي ليزي وسان ميشيل كأشرعة سفينة أليفة تعانق منائر الميناء .. وأخذ يتأمل السفن المبحرة وينشد لها قصائده . وكان صوت المحرر الثقافي يطنّ صاخباً في أذنيه : شعر حديث تافه غث لا قيمة له .. اقرأ النابغة والفرزدق والأخطل .. اقرأ .. اقرأ .
    انتهـــــــــــــــــــــــــى
    [/align]

    تعليق


    • #3
      العلاقة بين الكاتب العربي والناشر العربي د. محمد عبد الرحمن يونس

      [align=justify]
      العلاقة بين الكاتب العربي والناشر العربي
      د. محمد عبد الرحمن يونس

      إنّ من يتأمل طبيعة العلاقة بين الكاتب العربي والناشر العربي، سيجدها علاقة استلابية،واضطهاديّة أحيانا، حيث يستغل الطرف الثاني الطرف الأول، دون خوف أو

      حياء أو وجل. فعندما يتقدّم الكاتب العربي بمخطوطه إلى الناشر العربي،

      هذا المخطوط الذي بذل فيه جهداً كبيرا، وسهرا طويلا، وبحثاً وتنقيباً واستقصاءً، وعلى حساب وقته وماله، وظروف عائلته الاقتصادية، المتدنية في معظم الأحيان، نجد أن الناشر يتأمل المخطوط بنوع من الاستهجان، والازدراء أحياناً، والعنجهية مرة ثالثة، ويضع فيه ألف عيب. وإذا كان بعض الناشرين على قدر من التهذيب والأدب، فإنهم يفاجئون الكاتب بمجموعة من المسوّغات التي تقف سدا منيعا دون نشر الكتاب، ومنها: إن عدد القراء العرب قد تدنّى في الآونة الأخيرة بشكل ملحوظ، وأنّ الجمهور العربي على الرغم من اتساع رقعته جغرافياً ومكانيا، داخل حدود الدول العربية، وخارجها في المنفى، هو جمهور لا يقرأ، وأنّ المحطات الفضائية أسهمت في تخريب ذوق المواطن العربي، فصرفته عن القراءة، يضاف إلى ذلك شبكة الانترنت التي أسهمت في تقليل عدد القراء‘ بما تقدّمه من إمكانات معرفيّة غزيرة جدا، سواء أكانت نافعة جيدة، أم هابطة رديئة. ثمّ إنّ المواطن العربي لم تعد تستهويه الثقافة المعرفية الجادة التي تعمل على توسيع مخيلته،و حثّها على التفكير والتأمل والمحاكمة والتحليل والشكّ والاستنتاج، لأن هذه المخيلة صارت عاطلة ومتكاسلة ومتبلّدة في أحيان كثيرة، إنّها بحاجة إلى الوجبات السريعة، من ثقافة استهلاكيّة لا تمسّ إلا السطح. ويبدو لنا ـ من الوهلة الأولى ـ أن ما يقوله هذا الناشر دقيق إلى درجة كبيرة. وأمام هذه المسوّغات بعدم النشر، يضطرّ الكاتب إلى الانسحاب حاملا مخطوطه، يائسا من أن يجد طريقه إلى النشر. غير أن بعض الناشرين بعد أن يضعوا مثل هذه العيوب في الجمهور العربي المتلقي، الذي بدأ ينصرف عن تحصيل المعرفة الجادة الرصينة، والثقافة إلانسانية العميقة إلى الثقافة الاستهلاكية الرخيصة يتكرّمون على الكاتب قائلين: نعم سننشر لك مخطوطك على الرغم من خسارتنا الفادحة، لأننا نشجع الثقافة الحقيقية والأصيلة، لكننا لا ندفع عائدا ماليا ، بل سنعطيك خمسين نسخة من الكتاب، أو مائة نسخة مكافأة على جهودك. و إذا كان بعض الناشرين يتكرمون بأن يرضوا ويدفعوا لهذا الكاتب أو ذاك 10% من ثمن المبيعات، تدفع كل سنة مثلا، أو كل ستة أشهر‘ فإنّه عندما يأتي موعد دفع هذه القيمة للكاتب، نجد أن الناشر يفاجئ الكاتب بأن يقول له: و الله لقد بعت من كتابك نسختين، أو ثلاثا، أو لم أبع أي نسخة. أو ها هوا مكدس في المستودع، و تستيطع أن تراه بنفسك، أو تأخذه ـ إن شئت ـ بعد أن تدفع لي تكاليف نشره ـ وفي أغلب الأحيان تبدو مرتفعة إلى درجة كبيرة ـ عندها يضطرّ الكاتب إلى أن ينسحب خجلا مهانا، ويائسا، فهو بحاجة ماسة إلى هذه الدريهمات القليلة التي كان يتوقّع أن يدرّها عليه كتابه، حتى يدفع غول الفاقة والحرمان، عن أطفاله وأهل بيته. غير أن الناشر العربي في معظم الأحيان يكون كاذباً، يدفعه سعار جشعه لأن يستغلّ الكاتب، و يأكل حقوقه وعرق جبينه. فإذا كان كلامه صحيحا فمن أين له السيارة الفارهة، أو الفيلا الواسعة، أو دار النشر الكائنة في أجمل شوارع المدينة، والتي تبلغ قيمتها الملايين العديدة؟ ومن أين لابنه أو زوجته أو صديقته أو خليلته مثل هذه السيارة أو تلك؟ ومن أين له كل تلك الأموال التي تدفعه منتقلا حاملا كتبه من مدينة إلى مدينة، ومن معرض إلى آخر، مرتادا أرقى الفنادق وأجمل المطاعم وأغلاها؟ إذا كانت الذائقة العربية في هذه الأيام مخرّبة نافرة من الثقافة الجادة، لائذة بكل ما هو استهلاكيّ، سريع وهشّ‘ فأن كثيرا من الناشرين العرب قد أسهموا في تخريبها إلى حد بعيد، وإبعادها عن البحث عن القيم الجمالية والإنسانية المعرفيّة. وذلك بلجوئهم إلى نشر الكتب عديمة الفائدة، والتي تسهم في تخريب الذوق الجمالي والثقافي لدى جمهور القراء المتلقي، وذلك بنشرهم سلسلة واسعة من كتب الطبخ، والأزياء والأبراج، ونجوم السينما والرياضة، و جرائم الحب والجنس، و أشهر قصص الحب، و الجرائم، و القضايا البوليسية، و المخدرات، و أجمل جميلات العالم، وعلاقة المشاهير من رجال السياسة بشهيرات العالم وحسناواته، وأشهر فضائح رجال المال والاقتصاد و السياسة، و أشهر قضايا الاغتصاب والدعارة، و كثيرا من الكتب الجنسية غير المعرفيّة التي لا تقدّم معرفة علمية حقيقية بالجنس وأهميته الإنسانية و الحضارية، بل تركّز بالدرجة الأولى على الجنس باعتباره سلعة، وإثارة وشهوة مسعورة، يضاف إلى ذلك سلسلة من الكتب الكثيرة التي تقدّم المرأة سلعة، أو وعاء للذة والإنجاب، أو عاهرة متهتكة فاسدة مفسدة، لا أمّا طاهرة، أو زوجة مخلصة وفيّة، أو أختا كريمة، أو ابنة صالحة فاضلة. و قد أسهم ناشرو المجلات العربية ـ أيضا ـ إلى حد كبير في تهميش القارئ العربي، و الاستخفاف به، و الضحك عليه، و ذلك بالتركيز على الحسّ الشهواني عنده، والسلعي الاستهلاكي، و الغزيزي الدوني المنحطّ، و ذلك بالتركيز على صور الإثارة والأزياء، و أخبار فضائح النساء، و غرامهنّ و عشقهنّ وخيانتهن الزوجية، وتعدد زيجاتهن و طلاقهنّ. إنّ مثل هذه الثقافة الرائجة في أوساط المجتمع العربي المعاصر ستزيد في خلق الهوة الشاسعة بين الكاتب الجاد، و المسروق في بحثه وتطلعه، و أفقه المعرفي والحضاري، و بين الناشر، الذي لا يرى في عملية النشر إلاّ مزيدا من الثراء، و الأموال، و الإسراع في تكديسها، و ليذهب القارئ الجاد، و الباحث عن الحقيقة و المعرفة هو وكاتبه إلى الجحيم. [/align]

      تعليق


      • #4
        سيرة الحجاج بن يوسف الثقفي في ألف ليلة وليلة د. محمد عبد الرحمن يونس

        [align=justify]

        سيرة الحجاج بن يوسف الثقفي في ألف ليلة وليلة
        ملامح الاستبداد والطغيان
        د. محمد عبد الرحمن يونس
        باحث وقاص وروائي وأستاذ جامعي




        من الولاة الّذين قدّمتهم حكايات ألف ليلة وليلة تقديماً ساخراً الحجّاج بن يوسف الثّقفي (40-95هـ/660-714م)، فهو ظالم غشوم، يختطف زوجات المسلمين ويقدّمهنّ هدايا لسيّده الخليفة عبد الملك بن مروان، كما تصوّره حكاية » نعم ونعمة «، إذ تكشف الحكاية عن امرأة جميلة اسمها » نعم «، وقد كانت زوجة لـ » نعمة بن الرّبيع «، و » لم يكن بالكوفة جارية أحسن ولا أحلى ولا أظرف منها، وقد كبرت وقرأت القرآن والعلوم، وعرفت أنواع اللّعب والآلات، وبرعت في المغنى و آلات الملاهي، حتى أنّها فاقت جميع أهل عصرها «(1) وكما يشيع خبر جميع النّساء الجميلات في مدن ألف ليلة وليلة فقد شاع خبر جمال هذه المرأة في مدينة الكوفة، فيسمع بها الحجّاج، ويقرّر أن يحتال عليها ويخطفها، ويقدّمها هديّة للخليفة الأمويّ عبد الملك بن مروان. و لأنّ لعجائز ألف ليلة و ليلة قدرات متميّزة على النصب و الاحتيال، فإنّ الحجّاج يلجأ إلى إحداهنّ لمساعدته في حبك الحيلة، واختطاف » نعم «. يقول الرّاوي(2) » ثمّ استدعى بعجوز قهرمانة وقال لها: امضي إلى دار الرّبيع واجتمعي بالجارية نعم، و تسبّبي في أخذها، لأنّه لا يوجد على وجه الأرض مثلها، فقبلت العجوز من الحجّاج ما قاله «.
        وبطبيعة الحال، فإنّ عمليّة اختطاف الجارية سيكون لها مكافأة ماليّة كبيرة يقدّمها الحجّاج إلى القهرمانة ، وهو مستعدّ لتقديم هذه المكافأة، طالما أنّ خطف هذه الجارية سيحقّق له مكافأة أهمّ، وهي زيادة حظوته عند عبد الملك بن مروان، وبالتالي تغاضي هذا الأخير عن عبث الحجّاج بالمجتمع الإسلاميّ، وتنكيله بشرفاء هذا المجتمع، كما هو معروف تاريخيّاً، إذ أسرف الحجّاج في قتل الناس، ولم يرحم شيوخهم وهم على حافّة الموت، بل أمر بضرب أعناقهم كمال فعل مع الشّيخ عمير بن صابئ(3).. وقد أُحصِي من قتله الحجّاج بن يوسف »فوُجِد مائةً و عشرين ألفاً، ومات و في حبسه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة، (…) و كان يحبس النّساء و الرّجال في موضع واحد، ولم يكن للحبس ستر يستر النّاس من الشّمس في الصّيف ولا من المطر والبرد في الشّتاء «(4)، مع العلم أنّ جميع هؤلاء القتلى والمساجين » لم يَجِب على أحد منهم قطع ولا قتل «(5). ويقول راوي(6) الحكاية: » ثمّ إنّ العجوز توجّهت إلى الحجّاج. فقال لها: ما وراءك؟ فقالت له: إنّي نظرت إلى الجّارية فرأيتها لم تلد النّساء أحسن منها في زمانها. فقال لها الحجّاج: إن فعلت ما أمرتك به يصل إليك منّي خير جزيل. فقالت له: أريد منك المهلة شهراً كاملاً. فقال لها: أمهلك شهراً «.
        وتستطيع القهرمانة خلال هذا الشّهر أن تقدّم نفسها لـ » نعمة بن الربيع « وزوجته » نعم « وأسرته، على أنّها مثال للزّاهدة المتعبّدة، الفانية عمرها في الرّكوع والسّجود والدّعاء والصّوم. وعندما يتأكّد كل من في الدّار أنّهم أمام سيّدة زاهدة، تختلي العجوز بالجارية » نعم « وتقول لها(7): » يا سيّدتي والله إنّي حضرت الأماكن الطّاهرة ودعوت لك، وأتمنّى أن تكوني معي حتى تري المشايخ الواصلين ويدعون لك بما تختارين « . وتنطلي الحيلة عليها، وعلى أمّ زوجها، عندما كان زوجها خارج منزله، إذ تقول » نعم «(8) لأمّ زوجها: »سألتكِ بالله أن تأذني لي في الخروج مع هذه المرأة الصّالحة لأتفرّج على أولياء الله في الأماكن الشّريفة، وأعود بسرعة وقبل مجيء سيّدي «. وأمام دهاء العجوز القهرمانة وورعها الزّائف، وتوق الجارية لزيارة الأماكن الشّريفة، اضطرّت الأم لأن تسمح لزوج ابنها بالخروج، وما إن تخرج الزّوجة » نعم « من دارها حتى تسارع القهرمانة بالاحتيال عليها، وأخذها إلى قصر الحجّاج بن يوسف بالكوفة، القصر الذي تظنّه » نعم «، للوهلة الأولى، مكاناً طاهراً يجتمع فيه أهل الذّكر من أولياء الله الصّالحين: » ثمّ أخذت الجارية بالحيلة وتوجّهت بها إلى قصر الحجّاج، وعرّفته بمجيئها بعد أن أدخلتها في مقصورة، فأتى الحجّاج ونظر إليها، فرآها أجمل أهل زمانها ولم ير مثلها، فلمّا رأته نعم سترت وجهها، فلم يفارقها حتى استدعى حاجبه وأركب معها خمسين فارساً ، وأمره أن يأخذ الجارية على نجيب سابق، ويتوجّه بها إلى دمشق، ويسلّمها إلى أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، وكتب له كتاباً«(9).
        إنّ للعجائز في ألف ليلة وليلة قدرة عجيبة على المكر والإحتيال، إذ تشير حكايات اللّيالي إلى أنّ هذه العجائز اكتسبن في حياتهنّ، و من خلال تعاملهنّ مع رجال عصرهنّ ونسائهنّ، خبرة كبيرة في اصطياد الجواري الجميلات، وتقديمهنّ للرّجال العشّاق، مقابل مكافأة مالية. وكان الرّواة جريئين عليهنّ، فعلى سبيل المثال نجد أنّ أحد الرّواة يصف العجوز شواهي ذات الدّواهي في حكاية » عمر النعمان وولديه شركان وضوء المكان « بالعاهرة(10)، و بـ » سيّدة العجائز الماكرة و مرجع الكهّان في الفتن الثّائرة «(11). وفي حكاية » علي الزيبق المصري ودليلة المحتالة ابنتها زينت النّصّابة «، يصف الرّاوي العجوز دليلة المحتالة بأنّها أخبث من إبليس الذّي كان قد تعلّم المكر منها، فقد كانت » صاحبة حيل وخداع ومناصف وكانت تتحيّل على الثّعبان حتى تطلعه من وكره! و كان إبليس يتعلّم منها المكر ! «(12). والعجوز في حكاية » نعم و نعمة « متقنّعة بثياب الزّهاد، و » في تسبيح وابتهال وقلبها ملآن بالمكر و الاحتيال «(13).
        ولا تخلو مدينة من مدن ألف ليلة وليلة من العجائز الماكرات والمحتالات، إلاّ أنّه من الملاحظ أنّ أهمّ المدن الإسلاميّة في ألف ليلة وليلة، والتي تجد فيها هذه العجائز مرتعاً خصباً لممارسة عمليّات النّصب والاحتيال، هي بالترتيب: بغداد والقاهرة و دمشق، وبخاصّة في عهدي الدّولتين الأمويّة والعبّاسيّة. ويمكن تفسير ظاهرة النّصب والاحتيال في هذه المدن،بأنّها كانت نتيجة لتفشّي ظاهرة الطّغيان والتسلّط ـ في هاتين الدّولتين اللّتين حكمتا هاته المدن ـ من جهة، وما رافق هذه الظاهرة من ظلم الحكّام وفجورهم وابتعادهم عن هموم شعوبهم ومصائبها من جهة أخرى. ومن هنا كانت الحيلة، في بنيتها العميقة، حيلة ضدّ المظالم، وضدّ المجتمع نفسه، بجميع تشكيلاته الطّبقيّة سياسيّاً واجتماعيّاً. وتورّط في هذه الحيلة الفقراء والأغنياء، النّساء و الرّجال، رجال السلطة و عامّة الشعب. فالشخصيّة المستلبة المحرومة من لقمة عيشها تحتال لأجل هذه اللقمة، و الأغنياء يحتالون لزيادة ثرواتهم، و الملوك و السلاطين و الخلفاء يحتالون لزيادة جواريهم و أملاكهم، و الوزراء يحتالون على ملوكهم و بناتهم الأميرات الجميلات، و نساء السلطة المتخمات ثراءً و بطراً يحتلن لإشباع متطلباتهنّ الجنسيّة و المحرّمة، و نساء التجار تحتال على أزواجهن للخروج من المنازل و الوصول إلى عشّاقهنّ من الغلمان الظرفاء، و القهرمانة العجوز في حكاية » نعم و نعمة « تجد نفسها مندفعة للتورّط في الحيلة، لأنّها تحقّق من خلالها امتلاك الثروة من جهة، و تأمن شرّ السلطة السياسيّة و بطشها من جهة أخرى، فهي لا تستطيع أن ترفض طلب والٍ ظالم كالحجّاج بن يوسف الثقفي.
        و قد أدّى سعار التجديد الجنسيّ عند شخوص ألف ليلة و ليلة في المدن الإسلاميّة، في أحيان كثيرة، إلى ظهور نوع من العجائز المحتالات، و العارفات بفنون الصبوة و العشق و سعار الجسد، و المتخصّصات في خطف النساء، إلاّ أنّ حيل العجائز في الليالي ليست قصديّة، أو ليست موجودة عند هذه العجائز لأنّ لهنّ طاقة عجيبة على الشرّ و المكر، وعلى تعليم إبليس فنون الحيلة كما يرى أحد الرّواة، و كما أشير إلى ذلك سابقاً، بل لأنّ المجتمع الذي عايشته هاته العجائز هو مجتمع التّباين الطّبقي، ومجتمع الذّكور الذي تُحرم فيه النّساء من كثير من امتيازات الرّجال، المجتمع الذّي يلد الرّجال، » أي ما يمكن أن نقول عنه، بأنّ الرّجل يلد الرّجل، والذّكر داخل ابنه الذّكر، واسم الدّم والمنيّ داخل الابن، وحسب هذا النّظام كانت المرأة (…) الجهيض المنحرف و الثّانوي«(14) و من هنا فإنّ حيلة النساء بشكل عام في اللّيالي كانت نتيجة للبنى الاقتصاديّة و الاجتماعيّة والسّياسيّة الفاسدة، التي يشكّلها الحكّام الذّكور، ورجال السّلطة الأقوياء، والتي يُؤذى منها، بالإضافة إلى النّساء، الرّجال الفقراء الفاقدون لجميع وسائل القوّة والملكيّة. ويرى أحد الباحثين أنّ » ظاهرة العجوز [المحتالة] في اللّيالي تجسيد لمعاناة الجواري و الحرائر على حدّ سواء بكل جوانبها المضطربة مما جعل سلوكها في اللّيالي امتداداً للذّات المحرومة فراحت تخطّط لتحقيق آمال تعينها على سحق الحرمان بسلوك كان يعتبره المجتمع السّائد مقبولاً بالإضافة إلى خضوعه للوقائع اليوميّة في ممارسات الحياة «(15).
        وبالعودة إلى حكاية » نعم ونعمة « يُلاحظ أنّ الحجّاج لا يعمل على العبث بأمن مواطنيه في الكوفة، وتفريقهم عن أزواجهم، وتهجيرهم قسريّاً عن أوطانهم، ونشر بذور الفساد، وذلك بتشجيع مفاهيم الاحتيال و الاختطاف فحسب، بل هو يكذب على الخليفة عبد الملك بن مروان، ويدّعي أنّه اشترى له الجارية الجميلة » نعم « بعشرة آلاف دينار.
        يقول الرّاوي(16): » فتوجّه الحاجب و أخذ الجارية على هجين، وسافر بها وهي باكية العين من أجل فراق سيّدها، حتى وصلوا إلى دمشق، و استأذن على أمير المؤمنين فأذن له، فدخل الحاجب عليه وأخبره بخبر الجارية، فأخلى لها مقصورة. ثم دخل الخليفة حريمه فرأى زوجته، فقال لها: إنّ الحجّاج قد اشترى لي جارية من بنات ملوك الكوفة بعشرة آلاف دينار، وأرسل إليّ هذا الكتاب وهي صحبة الكتاب «.
        إنّ سلوك الحجّاج في الحكاية، و هو يخطف النّساء، ويؤسّس لما يهدم القيم الإنسانيّة في المدينة الإسلاميّة، من كذب واحتيال،و تفريق بين المحبّين، وتهجير قسري لهم، ليس غريباً أو بعيداً عن مجمل مواقفه وتصرّفاته التّاريخيّة التي كانت معادية لجميع مفاهيم الحقّ والعدل، والرّحمة بالرّعيّة. وهاهو يعترف بنفسه أنّ فيه كثيراً من العيوب التي تؤكّد معاداتها للمفاهيم الإنسانيّة التي يجب أن يتحلّى بها من يصبح والياً على المسلمين، من خلال حواره الآتي مع الخليفة عبد الملك بن مروان: » وقال عبد الملك بن مروان للحجّاج: إنّه ليس من أحد إلاّ و هو يعرف عيب نفسه، فصِف لي عيوبك.
        قال: أعْفِني يا أمير المؤمنين.
        قال: لست أفعل.
        قال: أنا لجوج لدود حقود حسود.
        قال: ما في إبليس شرٌّ من هذا))(17).
        ويدين الرّاوي في حكاية » نعم ونعمة « جلاوزة الحجّاج، وصاحب شرطته، إذ يصوّره متقاعساً عن كشف جرائم الاختطاف التي تحدث في الكوفة، ومتواطئاً مع سيّده الحجّاج في التّغطية على خطف » نعم « جارية » نعمة «، إذ بعد أن تُخطف الجارية يشكّ » نعمة « بأنّ الذي خطف جاريته هو صاحب الشّرطة، فيتوجّه إلى داره، ويتوعّده بأنّه سيشكوه إلى الحجّاج إن لم يرجع الجارية له. يقول الرّاوي(18): » ثمّ توجّه إلى صاحب الشّرطة فقال له: أتحتال عليّ وتأخذ جاريتي من داري فلا بدّ لي أن أسافر وأشتكيك إلى أمير المؤمنين. فقال صاحب الشّرطة: ومن أخذها؟ فقال: عجوز صفتها كذا وكذا، وعليها ملبوس من الصّوف وبيدها سُبْحة عدد حبّاتها ألوف. فقال له صاحب الشّرطة: أوقفني على العجوز وأنا أخلّص لك جاريتك. فقال: و من يعرف العجوز؟ فقال له صاحب الشّرطة: ما يعلم الغيب إلاّ الله سبحانه وتعالى. وقد علم صاحب الشّرطة أنّها محتالة الحجّاج، فقال له نعمة: ما أعرف حاجتي إلاّ منك وبيني وبينك الحجّاج. فقال له: امضِ إلى من شئت. «. إلاّ أنّ خيبة » نعمة بن الرّبيع « كانت شديدة عندما استمع إلى المسرحيّة الهزليّة التي افتعلها الحجّاج مع صاحب شرطته، طالباً منه أن يبحث عن العجوز المحتالة، وعن الجارية » نعم «، ويعيدها إلى صاحبها: » فقال [الحجّاج]: هاتوا صاحب الشّرطة فنأمره أن يفتّش على العجوز. فلمّا حضر صاحب الشّرطة قال له: أريد منك أن تفتّش على جارية نعمة بن الرّبيع. فقال له صاحب الشّرطة: لا يعلم الغيب إلاّ الله تعالى. فقال له الحجّاج: لا بدّ أن تركب الخيل وتبصر الجارية في الطّرقات وتنظر في البلدان (…) والطّرقات وتفتّش على الجارية. ثمّ التفت إلى نعمة وقال له: إن لم ترجع جاريتك دفعت لك عشر جوارٍ من دار صاحب الشّرطة «(19).
        و عندما سمع » نعمة « ما قاله الحجّاج، خرج يائساً وذهب إلى داره، فشاهده والده الرّبيع بن حاتم الذي كان من أكابر أهل الكوفة ووجهائها(20)، وخبيراً عارفاً بأخلاق الحجّاج وتجاوزاته، وتواطؤ صاحب شرطته، وتغطيته لهذه التّجاوزات، وتأكّد أنّ الذي خطف زوج ابنه هو الحجّاج بن يوسف الثّقفي. يقول الرّاوي(21): » وخرج نعمة مغموماً وقد يئس من الحياة، وكان قد بلغ من العمر أربع عشرة سنة، ولا نبات بعارضيه، فجعل يبكي وينتحب، وانعزل في داره. ولم يزل يبكي إلى الصّباح، فأقبل والده عليه وقال: يا ولدي إنّ الحجّاج قد احتال على الجّارية وأخذها، و من ساعة إلى ساعة يأتي الله بالفرج من عنده، فتزايدت الهموم على نعمة وصار لا يعلم ما يقول ولا يعرف من يدخل عليه. وأقام ضعيفاً ثلاثة أشهر حتّى تغيّرت أحواله ويئس منه أبواه، ودخلت عليه الأطباء فقالوا: ما له دواء إلاّ الجارية «.
        وما إن يصل » نعمة بن الرّبيع « إلى دمشق، لأجل البحث عن جاريته، حتى يكشف السّرد الحكائي عن وجود جاريته » نعم « في قصر عبد الملك بن مروان. وهنالك في قصر الخليفة تنكشف الحقيقة، وتؤكّد أخت الخليفة أنّ الحجّاج كان كاذباً في ما ادّعاه: » فقالت أخت الخليفة: يا أمير المؤمنين إنّ هذه الواقفة هي نعم المسروقة. سرقها الحجّاج بن يوسف الثّقفي وأوصلها لك، وكذب فيما ادّعاه في كتابه من أنّه اشتراها بعشرة آلاف دينار، وهذا الواقف هو نعمة بن الرّبيع سيّدها، وأنا أسألك بحرمة آبائك الطّاهرين أن تعفو عنهما وتهبهما لبعضهما، لتغنم أجرهما، فإنّهما في قبضتك وقد أكلا من طعامك وشربا من شرابك، وأنا الشّافعة فيهما المستوهبة دمهما «(22).
        و تؤكّد الحكاية أنّ الخليفة عبد الملك بن مروان عفا عنهما، ووهبها لبعضهما. وقد يتساءل متلقّي الحكاية: لِمَ تستحلف أخت الخليفة ـ التي لا يذكر الرّاوي اسماً لها ـ أخاها أن يعفو عنهما؟ وما هي الجريمة التي ارتكباها حتى يعفو عنهما؟ و ما جدوى هذا العفو مادام لا يوجد هناك أية جريمة؟. فبحث » نعمة « عن زوجته هو بحث مشروع، ولم يكن متجاوزاً لهيبة الخليفة وسلطاته، مادامت الجارية الأسيرة في قصره هي زوجة رجل من رعاياه كان قد ظلمه الحجّاج والي هذا الخليفة. ولأنّ الرّاوي في هذه الحكاية مؤدلج ضدّ الوالي الظّالم الحجّاج، و متعاطف مع سيّده عبد الملك بن مروان في آن، فقد رأى ضرورة أن يتحلّى أمير المؤمنين بدمشق، بالحكمة والعدل، اللّذين يدفعانه للعفو عن » نعمة « و زوجته » نعم «. وقد اضطّر أن يقول على لسان الخليفة: » لا بأس عليكما فقد وهبتكما لبعضكما«(23). وقد غاب عن إيديولوجية هذا الرّاوي أنّ » نعمة « و » نعم « ليسا مجرمين بحق سلطة عبد الملك بن مروان وسياسته، وأنّ هذا العفو في المحصّلة الأخيرة ليس كرماً من الخليفة، ولا مأثرة من المآثر الّتي يجب أن تُذكَر له، مادام المعفو عنهما مظلومين و مهجّرين من قبل واليه المحتال الحجّاج. ويمكن القول: إنّ أي رجل عادي سويّ جنسيّاً، ومستقيم أخلاقيّاً، لو وُضَع موضع الخليفة عبد الملك بن مروان لكان قد تصرّف مثله، وأرجع » نعم « لسيّدها » نعمة «.
        و من الملاحظ، أنّه على الرّغم من أنّ عبد الملك بن مروان تأكّد أنّ واليه الحجّاج قد اعتدى على حرمة المرأة » نعم « وكرامتها، وسلبها حرّيتها بالخطف، وحوّلها إلى جارية مستلبة، وهجّرها قسريّاً من مدينتها الكوفة، وحرمها من زوجها » نعمة «. وسبب تعاسة لهذا الزّوج كادت تفتك به، واجترأ وكذب على الخليفة ـ على الرّغم من أنّه يمثّل أعلى رمز سياسيّ سلطويّ، ودينيّ في الدّولة الإسلاميّة قاطبة، في عهد بني أميّة ـ وعلى الرّغم من كل ذلك ، فإنّ الحكاية تنتهي من دون أن تشير أية إشارة إلى أنّ الخليفة عاقب واليه الحجّاج على جريمته أو أدانه، أو حتّى استدعاه، وسأله: لماذا ينتهك حرمات منازل المسلمين، ويعتدي على حرّيات المواطنين في الكوفة؟. ولقد غاب عن الرّاوي المتعاطف مع نظام السّلطة الإسلاميّة المركزيّة بدمشق، والّتي يمثّلها عبد الملك بن مروان، أنّ انفراج الحكاية على نهاية سعيدة، ينعم بها أبطال الحكاية: عبد الملك بن مروان، و » نعمة « و » نعم «، والطبيب العجمي الذي سافر مع » نعمة « من الكوفة إلى دمشق، حيث » أقاموا في أطيب عيش إلى أن أتاهم هادم اللّذات و مفرّق الجماعات (24)«، ليس شرطاً أن يشكّل حالة سعيدة، أو أدنى مستوى من مستويات العيش الطّيب عند مواطني الكوفة الّذين يتعرّضون لمزيد من ظلم الحجّاج و انتهاكاته لحرمات منازلهم، طالما أنّ الخليفة تجاوز عن جريمة الحجّاج ولم يعاقبه عليها، وطالما أنّه ما دام قائماً على رأس السّلطة السّياسيّة والدّينيّة في الكوفة.
        ويشير المؤرّخون، إلى أنّ الحجّاج بقي والياً للخليفة عبد الملك بن مروان، طوال استلام هذا الأخير لمنصب خلافة المسلمين في دمشق الأمويّة، ولم يعزله عن العراق أو يسجنه أو يعاقبه العقاب الرّادع الّذي يجعله يكفّ عن أذى المسلمين و سجنهم وسفك دمائهم، على الرّغم من معرفته الأكيدة بما سبّبه واليه الحجّاج للمسلمين من أذى و مصائب، وتقتيل وتنكيل، لأنّه هو الّذي سلّطه على النّاس(25)، وأطلق يده فيهم، وسمح له برمي الكعبة بالمنجنيق(26). وربّما كان قد آلمه أسلوب القتل والتّنكيل الّذي انتهجه الحجّاج، لأنّه عندما بلغه أنّ الحجّاج قتل الشّاعر عمران بن عصام العنزي(27) وابن الأشعث(28)، استنكر قائلاً: » قطع الله يد الحجّاج«(29). ومات عبد الملك بن مروان سنة 86هـ/705م، واستلم ابنه الوليد بن عبد الملك مقاليد الحكم، وظلّ الحجّاج والياً في عهده، منتهجاً السّياسة التي انتهجها في عهد أبيه عبد الملك، من سجن وترهيب وقتل، إلى أن مات سنة خمس وتسعين هجرية، في مدينة واسط العراقيّة(30). وبعد موته، يتأمّل الخليفة الأمويّ سليمان بن عبد الملك (96 ـ 99هـ/715 ـ717م)، ما جرى للّذين ظلمهم الحجّاج، ويسأل كاتبه يزيد بن أبي مسلم بعد أن » ازدراه ونبت عينه عنه «(31)،عن مصيره قائلاً: » أتظنّ الحجّاج استقرّ في قعر جهنّم أم هو يهوي فيها «(32)، ويجيبه الكاتب قائلاً: » يا أمير المؤمنين، إنّ الحجّاج يأتي يوم القيامة بين أخيك وأبيك، فضعه من النّار حيث شئت «(33) .
        إنّ الحجّاج بن يوسف الثّقفي في حكاية » نعم ونعمة « يظلم » نعمة « ويخطف جاريته، وصاحب شرطته يتغاضى عن هذا الظّلم، والخليفة عبد الملك بن مروان يتغاضى عن ظلمهما معاً. وهكذا تتسلسل حلقات المظالم، لتتشابك فيما بينها، وتشكّل حلقة واحدة متماسكة، يستحيل على الأفراد البسطاء في مدن ألف ليلة وليلة الأمويّة أو العبّاسيّة، أو الأسطوريّة، أن يخترقوها، أو يهربوا من قبضتها . وتذكّرنا هذه الحلقة من المظالم بهذه السّلسلة من الخيانات التي تتحكّم في بنية النّظام الأمويّ، من قاعدته حتى رأسه ، وتنخره وتملؤه شرّاً وفساداً، والتي يذكرها ابن عبد ربّه الأندلسيّ(34) قائلاً: » اطّلع مروان بن الحكم(35) على ضيعة له بالغوطة فأنكر منها شيئاً، فقال لوكيله: ويحك! إنّي لأظنّك تخونني.
        قال: أفتظنّ ذلك ولا تسْتَيقِنُه؟.
        قال: و تفعله؟.
        قال: نعم، والله إنّي لأخونك، و إنّك لتخون أمير المؤمنين، و إنّ أمير المؤمنين ليخون الله، فلعن الله شرّ الثلاثة «.
        و يتفق رواة ألف ليلة و ليلة، في الحكايات التي ذكرت الحجّاج بن يوسف الثقفي، على أنّه أهمّ ممثلي الولاة الظلمة و الاستبداديين الذين ذكرتهم الليالي، و رسمت ملامحهم، تأسيساً على الأدبيّات التاريخيّة التي ساعدت رواة الليالي على تشكيل حكاياتهم، أو نقلها بتحويرات طفيفة جدّاً. ففي حكاية » رجل من الحجيج مع المرأة العجوز « ينقل الراوي بعض ما قرأه من آراء الفقهاء في ضرورة وجود السلطان في الأمّة، حتّى و لو كان هذا السلطان جائراً، و يقول(36): » و في الأمثال: جور السلطان مائة سنة و لا جور الرعيّة بعضهم على بعض سنة واحدة، و إذا جارت الرعيّة، سلّط الله عليهم سلطاناً جائراً، و ملكاً قاهراً «.
        و لكي يؤكّد الراوي أنّ الحجّاج بن يوسف الثقفي كان جائراً في سياسته على مواطنيه في العراق، فإنّه يُثبّت الرأي الفقهي السابق بوصفه مدخلاً، يستطيع من خلاله أن يُثبّت إيديولوجيته المعادية للحجاج، هذه الإيديولوجيّة التي تتبنّى في آن النظرية الفقهيّة السابقة التي دعا إليها بعض الفقهاء(37). و من خلال المدخل الفقهيّ السابق يثبت راوي الحكاية آراء الحجّاج بن يوسف التي يعتمدها منهجاً له في رسم سياسته الجائرة، و من ثمّ ليشير إلى استنكار الناس لهذه السياسة البعيدة عن تقوى الله و مرضاته: » ورد في الأخبار أنّ الحجّاج بن يوسف رُفِعت إليه في بعض الأيام قصّة مكتوب فيها: اتقّ الله و لا تجر على عباد الله كلّ الجور. فلمّا قرأ القصّة رقي المنبر و كان فصيحاً فقال: أيّها الناس إنّ الله تعالى سلّطني عليكم بأعمالكم فإن أنا متّ فأنتم لا تخلصون من الجور مع هذه الأعمال السيّئة لأنّ الله تعالى خلق أمثالي خلقاً كثيراً و إذا لم أكن أنا كان من هو أكثر منّي شرّاً و أعظم جوراً و أشدّ سطوةً كما قال الشاعر في معنى ذلك:
        و لا ظالـــم إلاّ ســــيبـلى بأظلـــــم «(38). و ما من يد إلاّ يد الله فوقها

        و إذا كان الحجّاج يُسوّغ لنفسه جوره وساديته، و تنكيله بعباد الله في المدن الإسلاميّة التي يحكم أمرها، لأنّ لهؤلاء العباد مواقف رافضة و معادية لسياسته الدمويّة، فإنّه في نهاية المطاف لا يمثّل إلاّ وجه المستبدّ الظالم، الذي يقف وراءه نظام سياسيّ اكثر استبداداً و ظلماً منه، ليعزّز بطشه، و يُسوّغ له سياسته الساديّة المعادية لأفراد شعبه، فـ » الحكومة المستبدّة تكون طبعاً مستبدّة في كلّ فروعها من المستبدّ الأعظم إلى الشرطيّ إلى الفرّاش، إلى كنّاس الشوارع؛ و لا يكون كلّ صنفٍ إلاّ من أسفل أهل طبقته أخلاقاً، لأنّ الأسافل لا يهمّهم طبعاً الكرامة و حسن السمعة، إنّما غاية مسعاهم ان يبرهنوا لمخدومهم بأنّهم على شاكلته (…) و لهذا لا بدّ أن يكون الوزير الأعظم للمستبدّ هو اللئيم الأعظم في الأمّة، ثمّ من دونه دونه لؤماً وهكذا تكون مراتب الوزراء والأعوان حسب مراتبهم في التشريفات والقربى منه «(39).
        وتاريخيّاً تشير المصادر إلى أنّ السياسة التي كان ينتهجها الحجّاج كانت تتأسّس على خطاب استبدادي قامع، يرتكز في بنيته الأساسيّة على تهديد أهل العراق والتنكيل بهم، والسخرية منهم، حتى يستطيع إذلالهم وتسخيرهم، وليّ هاماتهم أمام سطوة النظام السيّاسيّ الذي يمثّله، فمنذ أن وصل الكوفة دخل المسجد الجامع فيها، واعتلى المنبر وخطب:
        » والله إنّي لأرى رؤوساً أينعت وقد حان قطافها وإنّي لصاحبها، وإنّي لأرى الدماء ترقرق بين العمائم واللّحى، والله يا أهل العراق إنّ أمير المؤمنين نثر كنانته بين يديه، فعجم عيدانها، فوجدني أمرّها عوداً وأصلبها مكسراً فرماكم بي، لأنّكم طالما أثرتم الفتنة، واضطجعتم في مراقد الضّلال، والله لأنكّلنّ بكم في البلاد ولأجعلنّكم مثلاً في كل واد، ولأضربنّكم ضرب غرائب الإبل، وإنّي يا أهل العراق لا أعد إلا وفيت، ولا أعزم إلاّ أمضيت (…) فاستوثقوا واستقيموا واعملوا ولا تميلوا وتابعوا وبايعوا، واجتمعوا، واستمعوا، فليس منّي الإهدار و الإكثار وإنمّا هو هذا الِسّيف«(40) .
        ولقد كان الحجّاج، في ما بعد، وفيّاً بوعده، إذ أعمل السّيف في أهل العراق وذبح رجالهم وشيوخهم، وسجن نساءهم واستأصل أموالهم(41) . وهاهو يعترف أمام خالد بن يزيد بن معاوية(42) ذاكراً عدد الذين قتلهم كما يروي أبو الفرج الأصفهاني(43): » قدم الحجّاج على عبد الملك [بن مروان] فمرّ بخالد بن يزيد بن معاوية ومعه بعض أهل الشّام، فقال الشّامي لخالد: من هذا؟ فقال خالد كالمستهزئ: هذا عمرو بن العاص، فعدل إليه الحجّاج فقال: إنّي والله ما أنا بعمرو بن العاص، ولا ولدت عمرواً ولا ولدني ولكنّي ابن الغطاريف(44) و العقائل(45)، من قريش، ولقد ضربت بسيفي أكثر من مائة ألف كلّهم يشهد أنّك و أباك من أهل النّار، ثمّ لم أجد لذلك عندك أجراً ولا شكراً «.
        ويقدّم أحد الرّواة الحجّاج في حكاية » الحجّاج بن يوسف الثّقفي مع هند بنت النّعمان « تقديماً ساخراً. إذ يجعل زوجته هند بنت النعمان تجترئ عليه وتصفه بالكلب وتبدي فرحها الشّديد بتطليقه لها، فعندما أراد الحجّاج طلاقها: » بعث إليها عبد الله بن طاهر يطلّقها، فدخل عبد الله بن طاهر عليها، وقال لها: يقول لك الحجّاج أبو محمّد إنّ لك عليه من باقي الصَّدَاق مائتي ألف درهم، وهي هذه حضرت معي وقد وكّلني في الطّلاق فقالت: اعلم يا ابن طاهر أنّنا كنّا معه والله ما فرحت به يوماً قط، وإن تفرّقنا والله لا أندم عليه أبداً، وهذه المائتا ألف درهم لك بشارة خلاصي من كلب بني ثقيف «(46). ومن شدّة احتقارها له فإنّها عندما تتأمّل نفسها في المرآة ترى أنّها مهرة عربيّة وأنّ زوجها الحجّاج بغل لا يستحقّها، وتعتقد أنّ سلالتها الصافية النقيّة هي القادرة على إنجاب الأولاد المتميّزين عرقاً وأصالة، وفي حال أنّ هذه السّلالة عجزت عن إنجاب هؤلاء الأولاد فإنّ السّبب الرئيس في ذلك يعود إلى خسّة الحجّاج، ودونيّة منزلته، وسلالته غير القادرة على إنجاب المتفوّقين بيولوجيّاً وعرقيّاً، تقول(47):
        سلالة أفراس تخلّلها بغل
        وإن ولـــــــدت بغــــلاً فجـــاء به البغـــل « » و ما هند إلاّ مهرة عربية
        فـــــــإن ولــــــدت فحـــلاً فللّـه درّهــــــــــا
        وعندما يسمع الخليفة الأمويّ عبد الملك بن مروان بحسنها وجمالها، يرسل إليها راغباً الزّواج بها، فتكتب إليه محتقرةً زوجها السّابق ـ الحجّاج ـ: » الثّناء على الله والصّلاة على نبيّه محمّد صلّى الله عليه و سلّم، أمّا بعد، فاعلم يا أمير المؤمنين أنّ الكلب ولغ في الإناء«(48). و يرسل إليها مؤكّداً رأيها في الحجّاج و محتقراً له، من خلال استناده إلى حديث من أحاديث رسول الله (ص). يقول الرّاوي(49): » فلمّا قرأ كتابها أمير المؤمنين ضحك من قولها، وكتب لها: قوله صلّى الله عليه و سلّم » إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهنّ بالتراب « وقال اغسلي القذى عن محلّ الاستعمال «.
        و من ملامح احتقار الخليفة عبد الملك بن مروان لعامله الحجّاج أنّه يرضى بالشرط الذّي اشترطته هند على الخليفة حتّى تقبله زوجاً، فقد اشترطت عليه ما يلي: » بعد الثّناء على الله تعالى يا أمير المؤمنين إنّي لا أجري العقد إلاّ بشرط فإن قلت ما الشّرط، أقول: أن يقود الحجّاج محملي إلى بلدك التي أنت فيها، ويكون حافياً بملبوسه الّذي هو لابسه «(50). ويوعز لللحجّاج أن يقود محملها من بلدها معرّة النعمان إلى مدينة دمشق مقرّ الخلافة، فيمتثل الحجّاج للأمر(51)، و يسافر من العراق إلى بلدها معرّة النعمان(52) ليقود محملها إلى دمشق حافياً ذليلاً. وبقدر ما يبدو شرط هذه المرأة سخيفاً و متسلّطاً وفاقداً لأبسط مفاهيم القيم الإنسانيّة والجماليّة، في علاقات الزّواج في المدينة الإسلاميّة، يبدو قبول الخليفة عبد الملك بن مروان بهذا الشّرط احتقاراً ومهانة لعامله الحجّاج، وبخاصة عندما يمشي حافياً أمام محمل زوجته السّابقة، وهي تتشفّى منه محتقرةً. يقول الرّاوي(53): » فلمّا ركبت المحمل وركب حولها جواريها وخدمها ترجّل الحجّاج و هو حافٍ وأخذ بزمام البعير يقوده وسار بها! فصارت تسخر منه وتهزأ به وتضحك عليه مع بلاّنتها و جواريها «. هذا إذا عرفنا أنّ المسافة التي يجب على الحجّاج أن يقطعها حافياً، و هي ما بين معرّة النعمان ودمشق، تقدّر بحوالي أربعمائة كيلومتر.
        وليس غريباً أن يقبل عبد الملك بن مروان بشرط هذه المرأة حتّى ترضى به زوجاً بعد أن سلب منه كرسيّ السّلطة حبّه للعلم والمعرفة، والقيم الأخلاقيّة الإنسانيّة التي دعا إليها النّص القرآني، إذ يُروى عن هذا الخليفة أنّه كان » قبل الخلافة أحد فقهاء المدينة، وكان يُسمّى حمامة المسجد، لمداومته على قراءة القرآن. فلمّا مات أبوه وبُشّر بالخلافة أطبق المصحف وقال: هذا فراق بيني وبينك. وتصدّى لأمور الدّنيا. وقيل إنّه قال يوماً لسعيد بن المسيّب: يا سعيد قد صرت أفعل الخير، فلا أُسرّ به وأصنع الشّر فلا أُساء به. فقال له سعيد ابن المسيّب: الآن تكامل فيك موت القلب «(54).
        إنّ هذا الشّرط الغرائبيّ الذي اشترطته هند على الخليفة، وقبوله به لا يعني إلاّ شذوذاً وانحرافاً في التفكير والسّلوك، يسعى صاحبه إلى تحقيق رغبة استبداديّة ساديّة من رغبات الخلفاء و نساء السّلطة في مدن ألف ليلة وليلة، إذ تغيب ظاهرة الحلم والعفو عند هؤلاء ليحلّ محلّها سلوك مستبّد يُرضي طموح ذات سلطويّة مريضة، لا ترى في شعبها إلاّ قطيعاً مهمّته أن يظلّ منقاداً لها، و » كما تقضي الطّبيعة بأن يقود الرّاعي قطيعه، و يتصرّف به، وبأن يستجيب القطيع لراعيه ويتبعه، تقضي بأن يقود الحاكم شعبه، أي رعيّته، ويتصرّف به، وبأن يطيع الشّعب حاكمه، أي راعيه، ويتبعه (…) ففي النهاية لا يبحث الرّاعي إلاّ عن مصلحته ولذّته، ومصير القطيع لا يتعدّى تغذية صاحبه «(55).
        إنّ الحجّاج في نهاية المطاف مجبرٌ على أن يلبّي مطالب الخليفة عبد الملك بن مروان، مهما كانت قاسية عليه، و مهينة له، لأنّ تلبيته لهذه الأوامر هي الكفيلة ببقائه في منصبه السّلطويّ المتميّز. و إذا كانت سيرة الحجّاج التاريخيةّ وصمة في جبين الخلافة الأمويّة، وصفحات هذه السّيرة في ليالي ألف ليلة وليلة سوداء ملطّخة بسرقة نساء المسلمين، والتّحايل عليهنّ، والاعتداء على حرّياتهنّ الشّخصيّة، كما أشير إلى ذلك(56). فإنّ هذه السيرة ـ ووفق المنطق الإنساني و العقلاني ـ لا تُسوّغ للخليفة عبد الملك بن مروان إذلاله واحتقاره لواليه الحجّاج، وإجباره على أن يمشي حافياً من معرّة النعمان إلى دمشق، إرضاءً لرغبة امرأة جميلة، يشتهيها، لمجرّد أنّه سمع بجمالها الأخّاذ . فالحجّاج طلّق هند بنت النّعمان، مثلما يطلّق أيّ رجل امرأته و أعطاها مهرها، استناداً إلى نصوص تجيز له ذلك، مستمدّة من تشريعات النّكاح الإسلامي ـ بناؤه وهدمه ـ و لا تشير الحكاية بأيّة إشارة إلى أنّ الحجّاج عندما طلّق زوجته أهانها أو احتقرها، ومع ذلك أهانه سيّده عبد الملك بن مروان شرّ إهانة، إرضاءً لرغبة هذه المرأة المستبدّة.
        و من مظاهر احتقار هذه المرأة لزوجها الحجّاج، كما يقول الرّاوي(57): إنّها » لم تزل تضحك وتلعب إلى أن قربت من بلد الخليفة فلمّا وصلت إلى البلد، رمت من يدها ديناراً على الأرض وقالت له: يا جمّال إنّه سقط منّا درهم! فنظر الحجّاج إلى الأرض فلم ير إلاّ ديناراً، فقال لها: هذا دينار، فقالت له: بل هو درهم، فقال لها: بل هو دينار، فقالت: الحمد لله الّذي عوّضنا بالدّرهم ديناراً، فناولني إيّاه فخجل الحجّاج من ذلك «. ويمكن القول، تأسيساً على سلوك عبد الملك بن مروان مع واليه الحجّاج: إنّه لا أمان لأيّ رجل في مدن ألف ليلة وليلة، مهما كان عالي القدر، في ما إذا كان متزوّجاً من امرأة جميلة، سمع بها الخليفة واشتهاها، على الرّغم من طلاق هذا الرجل لهذه المرأة في ما بعد. وعلى سبيل المثال: لقد عبّرت إحدى جواري ألف ليلة وليلة في بغداد عن خوفها على حياة حسن البصريّ، في ما إذا سمع الخليفة هرون الرشيد بجمال زوجته منار السنا وسحرها. و حذّرت سيّدتها زبيدة من أن يسمع الخليفة بجمال هذه الزوجة، قائلةً(58): » و حقّ نعمتك يا سيّدي إن عرف بها أمير المؤمنين قتل زوجها و أخذها منه، لأنّه لا يوجد مثلها واحدة من النساء و قد سألت عن زوجها، فقالوا إنّ زوجها رجل تاجر اسمه حسن البصري (…) و أنا أخاف يا سيّدي أن يسمع بها أمير المؤمنين فيخالف الشرع و يقتل زوجها و يتزوّج بها! «.
        و إذا كان الخليفة عبد الملك بن مروان في حكاية » الحجّاج بن يوسف الثقفي مع هند بنت النعمان « قد أهان أهمّ رموز سلطته – واليه الحجاج ـ إرضاءً لرغبة طليقته، فكيف تكون حال الرجل العادي في دولة الخلفاء، فيما إذا رغبت طليقته الجميلة في إذلاله، و بخاصّه إذا كانت هذه الطليقة الجميلة عشيقة لأحد الخلفاء أو الأمراء؟. بلا شكّ يمكن أن يُغتال، أو يُسجن أو يُنفى، فيما إذا رغبت هذه الطليقة الانتقام منه، لأنّ الرعيّة في دول خلفاء و ملوك ألف ليلة و ليلة مجبرة على أن تكون مملوكة لهؤلاء الخلفاء و الملوك، و عاجزة عن أن تقول لهم: لا، فيما إذا اعتدوا عليها و على أملاكها، فـ » العلاقة بين الحاكم و المحكوم (…) ليست أكثر من علاقة بين مالك و مملوك، فالحاكم يملك رعيّته و الرعيّة ملك لحاكمها، و الحكم مُلك، أو نوع من أنواع الملك «(59).
        و إذا كان الخليفة عبد الملك بن مروان قد عاقب واليه الحجّاج هذه العقوبة المهينة والمشينة، في الحكاية السابقة، على الرغم من عدم خطئه، فإنّه في حكاية » نعم و نعمة « لم يعاقبه على الرغم من خطئه الفادح باحتياله على » نعم « و سرقتها، و السفر بها إلى دمشق، و تقديمها له هدية، وكذبه عليه. و هنا يبدو موقف الخليفة طبيعيّاً، لأنّ الحجّاج وظّف انتهاكاته للحرمات في حكاية » نعم و نعمة « من أجل إرضاء الخليفة عبد الملك بن مروان، فالخليفة مسرور منه لأنّه أرسل إليه تلك المرأة الحسناء » نعم «. أمّا في
        حكاية » الحجّاج مع هند بنت النعمان « فإن مصلحة الخليفة تقتضي أن يذلّ واليه الحجاج لكي ترضى به الحسناء الأخرى ـ هند بنت النعمان ـ زوجاً لها. إنّ الآليّة الذهنيّة و السلوكيّة التي ينطلق منها الخلفاء ـ في ألف ليلة و ليلة ـ في قراراتهم و طبيعة أحكامهم تهدف ـ بالدرجة الأولى ـ إلى تحقيق مصالحهم، و طموحاتهم، و غاياتهم، و ملذّاتهم(60).
        و يبدو أنّ الخليفة عبد الملك بن مروان في النصوص التاريخيّة، كان يعرف أنّ واليه الحجّاج ظالم و سفّاك، و كان يحتقره على الرغم من أنّه يده الطولى التي كانت تفتك بجميع معارضي نظام حكمه، و توجّهاته السياسيّة. و لأنّه كان اليد الفاتكة بخصومه، فقد أبقاه والياً على العراق إلى حين وفاته ـ وفاة عبد الملك بن مروان ـ. و ها هو يكتب إليه محذّراً من استفحال ظلمه و تجاوزاته، و استيلائه على أموال الناس، و إسرافه في عقوبتهم، و سفكه لدمائهم: » أمّا بعد، فقد بلغ أمير المؤمنين سَرَفُك في الدماء، و تبذيرك في الأموال، و لا يحتمل أمير المؤمنين هاتين الخصلتين لأحد من الناس، و قد حكم عليك أمير المؤمنين في الدماء: في الخطأ الديّة، و في العَمْد القوَدُ(61)، و في الأموال ردّها إلى مواضعها، (…) و سيأتيك من أمير المؤمنين أمران: لينٌ و شدّة فلا يؤنسنّك إلاّ الطاعة، و لا يوحشنّك إلاّ المعصية، و ظُنّ بأمير المؤمنين كلّ شيء إلاّ احتمالك على الخطأ، و إذا أعطاك الظفر على قوم فلا تقتلنّ جانحاً و لا أسيراً، و كتب في أسفل كتابه:
        و تطلب رضائي بالذي أنا طالبه

        فإنّك مَجزِيّ بما أنت كاسبه «(62).

        (…)
        إذا أنت لم تترك أموراً كرهتها

        فلا لا تلمني و الحوادث جَمّة

        و على الرغم من معرفة عبد الملك بن مروان بسلوك واليه الحجّاج الدمويّ، فإنّه كان يرفض أن يُذَمّ أمامه، بل كان يدافع عنه و يوبّخ من يذكره بسوء. و يُروى أنّ إبراهيم بن محمد بن طلحة الذي كان من خاصّة الحجّاج، و ذا منزلة عظيمة عنده، قدم إلى عبد الملك بن مروان، و طلب منه أن يستمع إلى نصيحته التي لا يجد بُدّاً من ذكرها، فسمح له عبد الملك ابن مروان قائلاً: » يا بن طلحة، قل نصيحتك. فقال: تالله يا أمير المؤمنين، لقد عَمَدت إلى الحجّاج في تغطرسه و تَعجْرُفه و بعده من الحقّ و قربه من الباطل، فوليّته الحرمين(63)، و هما ما هما و بهما ما بهما من المهاجرين و الأنصار و الموالي الأخيار يَطؤهم بطَغام(64) أهل الشام، و رَعَاع لا رويّة لهم(65) في إقامة حقّ و لا في إزاحة باطل، و يسومهم الخَسْف(66) و يحكم فيهم بغير السنّة، بعد الذي كان من سَفْك دمائهم، وما انتُهك من
        حُرَمِهم (…)، فقال له عبد الملك كذبْتَ (…) و ظنّ بك الحجّاج ما لم يجده فيك، و قد يُظنّ الخير بغير أهله، قمْ فأنت الكاذب… «(67).
        و يبدو أنّ سيرة الحجّاج الدمويّة كانت محلّ استهجان و ذمّ عند معظم الفقهاء و المؤرخين الإسلاميّين. و يُروى أنّه » قيل للشعبيّ(68): أكان الحجّاج مؤمناً؟ قال: نعم بالطاغوت. و قال: لو جاءت كلّ أمّة بخبيثها، و فاسقها، و جئنا بالحجّاج وحده لزدناه عليهم و الله أعلم «(69). وها هو الدمّيريّ يذمّ الحجّاج قائلاً(70): » اللعين الحجّاج أخزاه الله و قبّحه«.
        و ليست ملامح الحجّاج في ألف ليلة و ليلة بعيدة في الغرابة و التخيّل، بل يُمكن القول: إنّها قريبة إلى حدّ ما من ملامحه التاريخيّة، كما أرّخت لها المصادر الكثيرة، و هي في هذا لا تختلف عن ملامح الخلفاء الأمويّين و العبّاسيّين من حيث نقاط الالتقاء الكثيرة بين ملامحهم التاريخيّة، و ملامحهم في نصوص ألف ليلة و ليلة الحكائيّة.
        انتهى المقال
        ويليه الهوامش والمراجع [/align]

        تعليق


        • #5
          بكين .. العلم والشعوذة في مكان واحد. د. محمد عبد الرحمن يونس

          [align=justify]بكين.. العلم والشعوذة في مكان واحد

          مقال نشرته جريدة الخليج عن كتاب (رحلة إلى الصين المعاصرة)
          الصادر عن دار السويدي للنشر ، أبو ظبي، وعن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،
          للدكتور محمد عبد الرحمن يونس
          سافر الدكتور محمد عبد الرحمن يونس من سوريا إلى الصين ليعمل محاضراً في قسم اللغة العربية بجامعة الدراسات الأجنبية في بكين، وهي أكبر الجامعات الصينية التي تدرس اللغات الأجنبية الكثيرة للطلاب الصينيين. وكان له دور أكاديمي وثقافي فاعل ومؤثر بين زملائه وطلابه، كما كان له نشاطه الاجتماعي والعلمي في تأمل الحياة الصينية ومحاولة فهمها، فضلا عن رصد الواقع الصيني وتحولاته الجديدة. وهذه الرحلة صدرت في سلسلة “سندباد الجديد” وفيها يقول يونس:

          لم تكن الحياة في بكين سهلة، فهي مدينة شاسعة جداً، والجامعة التي أعمل بها خالية تماماً من العرب، سواء أكانوا أساتذة أم طلاباً، فجميع الطلاب العرب موجودون في جامعة اللغات والثقافة، وجامعة العلوم الخاصة بالطيران، وجامعة بكين. والطعام الصيني مختلف تماماً عن الطعام العربي والأوروبي، وجميع مطاعم الصين لا تقدّم لروادها شوكة ولا سكيناً، وكان عليّ في البداية أن أحمل معي شوكة وسكيناً، وبقيت أحملهما كلما دخلت مطعماً، إلى أن تعلمت استخدام العصوين اللذين يبدو استخدامهما صعباً بالنسبة للأجنبي، يضاف إلى ذلك، أن مطاعم الصين تقدّم لحم الخنازير والكلاب والحمير والقطط والضفادع والثعابين والعقارب وغيرها في جميع وجباتها، وأنواع اللحوم هذه هي التي يفضّلها الصيني على بقية الأنواع الأخرى. وكان عليّ عندما أدخل أي مطعم -في البداية- أن أبرز لعاملة المطعم ورقة مدوّنا عليها باللغة الصينية المعقدة جداً ماكان قد كتبه لي أحد طلابي في الجامعة: “أرجوكِ، أريد وجبة خالية تماماً من لحم الخنازير والقطط والحمير، أريد لحم دجاج أوسمك فقط”.

          وعلى الرغم من الصعوبات التي يجدها الأجانب في الصين، يبقى الرحيل إلى الصين مثيراً وممتعاً، فالصين عالم غريب وأسطوري، ومغاير لمعظم بلدان العالم وعواصمها وعاداتها وتقاليدها؛ عالم مثير، مليء بالغرابة والتناقض والسحر والدهشة والجمال. فبكين المدينة الثريّة، البطرة العملاقة التي يقول الناس عنها إنها ثالث مدينة في العالم من حيث الزحام والحركة وعدد السكان والكبر (بعد نيويورك وطوكيو) غاصّة بالمشاكل. فإلى جانب التقدم التقني والحضاري والعمراني الذي وصلت إليه، يوجد الفقراء والشحاذون الذين يملؤون أرصفة الشوارع الراقية فيها، وتوجد البيوت القصديرية الضيقة التي تفتقر إلى أبسط شروط العيش الكريم. وإلى جانب متاجر الألبسة الفخمة الفارهة التي تضاهي أكبر متاجر العالم، توجد دكاكين الأسواق الشعبيّة (البالة) الغاصّة بالفقراء وذوي الدخل المحدود، وإلى جانب المعاقل والمعالم العلميّة الكبرى التي تعلّم العلوم والمعارف الحديثة، كجامعة الدراسات الأجنبية في بكين وجامعة بكين وجامعة رين مين داشي: (الشعب) وغيرها من الجامعات، يوجد المشعوذون الذين يقفون أمام أبواب هذه الجامعات ليقرأوا ما تخفيه الأقدار والحظوظ، من خلال قراءة أكفّ الأيدي وتقاطيعها وبصماتها، والغريب في الأمر أن الطلاب الصينيين الذين تربّوا تربية ماركسية يتوجهون إلى هؤلاء المشعوذين ليكشفوا لهم حظوظهم ومصائرهم.

          وأمام معابد المعلم بوذا (حكيم الصين)، تنحني نساء بكين، طالبات منه أن يرزقهن غلاماً، ويتقدّم إليه طلاب الثانوية العامة بالنذور علّه يمنحهم بركته، وينجحون في الامتحانات النهائية. أمّا الرجال المهووسون بالسفر والترحال إلى أمريكا وأوربا، فإنّهم أيضاً يذهبون إلى المعبد ويتضرّعون إلى بوذا علّه يمنحهم تأشيرة خروج من الصين. وفي الأحياء الأرستقراطية الثريّة في بكين حيث ينتشر التجار الأجانب ورجال الأعمال الأثرياء، تجد النساء ملاذاً لأحلامهنّ في الثراء واكتناز المال، فينذرن أنفسهنّ خليلات ومرفهات ومدلكات لأجساد هؤلاء الرجال. وكلّ ذلك أمام مرأى رجال البوليس.

          إنّ الصين المعاصرة التي انتهجت سياسة الإصلاح والانفتاح نحو أمريكا والغرب الأوروبي بعد وفاة الزعيم ماوتسي تونج (1976)، بدأت في عهد خلفه (دنج شياو بينج) بالتخلي عن معظم مبادئ النظام الاشتراكي، فباعت الشركات والمصانع الحكومية إلى القطاع الخاص، وباعت منازل الدولة إلى الملاك الجدد، وودّعت الاقتصاد الاشتراكي منتهجة اقتصاد السوق وسياساته، وهي الآن في عهد الرئيس الحالي تزداد قرباً من أمريكا، وتقيم معها أوثق العلاقات والروابط السياسية والتجارية.

          تحول القيم: وفي ظل سياسة الإصلاح والانفتاح، شهد المجتمع الصيني تحولا كبيرا في المفاهيم والقيم والأخلاق. ففي الصين، ومع هذه السياسة، “صار كل شيء موجودا؛ أمّا في هونج كونج فصار كل شيء مباحا”، على حدّ تعبير الصينيين المعاصرين. وإذا كان كلّ شيء موجوداً في الصين، فإن كلّ شيء مسموح به، ما عدا انتقاد الحكومة الصينية والتظاهر ضدّها. وفي بكين التقيت بمجموعة من نخبة المثقفين والمستعربين الصينيين، أساتذة الجامعات الصينية، الذين يتقنون اللغة العربية إتقاناً جيداً يعادل إتقان العرب لها، بل ربما يتفوّقون على الكثير منهم، وتحدثنا في السياسة والثقافة والفكر وأوضاع الصين الداخلية والخارجيّة، وأجريت معهم عدة حوارات شفاهية ومكتوبة. ولم أنس التجوّل الطويل في الشوارع والمتاجر والأحياء الشعبية الفقيرة، والأرستقراطية في آن، وأن أتحدّث مع الناس والبائعين بصحبة بعض طلابي وأصدقائي الصينيين الذين كانوا يترجمون لي، على الرغم من أن الصينيين يتصفون بالحذر الشديد من الأجنبي. وقد ساعدني على فهم ما يدور في الصين المعاصرة كثير من المراجع والمقالات المكتوبة عن الصين والمتوافرة في مكتبة كلية اللغة العربية بجامعة الدراسات الأجنبية التي كنت أقضي فيها وقتاً طويلاً، وبدا ضروريا أن أدوّن في كتابي هذه الحوارات، لأنها تحاول أن ترصد أهمّ مظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية. وقد قصدت من إعدادها إعطاء القارئ العربي لمحة موضوعية عن الصين المعاصرة في ظلّ سياسة الإصلاح والانفتاح التي قادها زعيم الحزب الشيوعي السابق دنج شياو بينج، والتي أطاحت بأنصار الزعيم ماو تسي تونج وبالمقربين منه، من زعماء السلطة السياسية، وسياسة الانفتاح هذه أسست لمفاهيم وقيم رأسمالية جديدة لم تكن سائدة في مجتمع الصين وعلاقاته في حقبة الزعيم ماو تسي تونج.

          أمراض الانفتاح: في البداية أحبّ أن أشير إلى أنّه إذا كان من المعروف أنّ ثمة أمراضا مزمنة تتحكم في علاقات مجتمعات بلدان العالم الثالث كالرشاوى والفساد والسرقات والمحسوبيات والعلاقات الشخصيّة والبيروقراطيّة الإدارية والعمولات، فإنّ الصين المعاصرة بدأت تغصّ بهذه الأمراض التي أخذت تنخر جسد المجتمع الصيني وروحه، وتفتته وتقسمه طبقياً، بحيث يزداد الفقراء فيه فقرا والأثرياء ثراء، وذلك في ظلّ سياسة الإصلاح والانفتاح، إذ يعتقد كثير من الصينيين المعاصرين أنّ في هذه السياسة خلاصاً اقتصادياً واجتماعياً وإنسانياً من مشاكلهم وأمراضهم السياسية والاجتماعية، وأنّها ستحقق لهم أحلامهم في الثراء والرفاهية، التي لم تتحقق في حقبة الرئيس ماو تسي تونج.. ونظراً لما عانته الصين من الاستعمار الأجنبي الطويل، وما رافق هذا الاستعمار من ظلم للشعب الصيني، وقهره، واستغلال خيراته، فقد تشبّعت نفوس الصينيين بحساسية شديدة ضدّ أي أجنبي يقيم على الأراضي الصينية، ويعمل في مؤسسات الصين. فبعد أن استولى ماو تسي تونج على مقاليد السلطة، قامت السلطات الصينية بمصادرة أملاك الإقطاعيين وتوزيعها على أفراد الشعب، وأمّمت المصانع العائدة لطبقة الرأسماليين، وطردت جميع الأجانب المقيمين على الأراضي الصينية، باستثناءات جدّ محدودة، تشمل مجموعة من الأشخاص المساندين للثورة الصينية والفاعلين فيها.

          إنّ الصيني، على الرغم من اتساع الصين، ورحابة أراضيها (6.9 مليون كيلو متر مربع) وعدد سكانها المذهل (بلغ عدد سكان الصين حتى نهاية عام 1998) 1284،1 مليون نسمة، عدا سكان هونج كونج وتايوان، وماكاو)، على الرغم من هذه المساحة الواسعة، وهذا العدد الضخم، فإنّ الصيني يحذر الأجنبي، ويضعه دائماً في دائرة الشكّ والحذر وعدم الثقة بنواياه الخبيثة أو الطيبة، ويحاول دائماً أن يخفي عنه ما جرى ويجري في بلاده، وينبّه الآخرين من الصينيين حتى يحذروا منه، ويعاملوه بريبة -هو في أغلب الأحيان بريء منها- ويرى أنّ حريته يجب أن تكون محدودة وناقصة مقارنة بالصيني لأنّه أجنبي، فبينما كنت أناقش أحد طلابي حول مسائل الحقوق والحريات وقيادة السيارات، قال لي: أنت لا يسمح لك أن تفعل كذا وكذا، وربّما لا يسمح لك أن تقود سيارة في الصين. فقلت له: لماذا؟ قال: لأنك أجنبي. قلت: هل يوجد عنصرية ضدّ الأجنبي في الصين إلى هذا الحدّ؟ قال لي وبكلّ وضوح وبدون خجل: نعم، وأكثر من ذلك. إنّ تتالي الحملات الاستعمارية على الصين جعلنا عنصريين ضدّ الأجانب. إننا في الصين لا نسمح للأجنبي أن يتصرّف كما يتصرف الصيني. فقلت له: إنّ بلدي لم يستعمركم أبداً. فقال: أنت أجنبي، على كلّ حال.

          طبقة العمال: أسهم المثقفون الصينيون وأساتذة الجامعات وطلابها، وقيادات الحزب الشيوعي الصيني وكوادر الدولة في العمل اليدوي مع الفلاحين والعمال في مواقع عملهم، وكانوا فاعلين حقيقيين في ثورة ماو تسي تونج. ويرى بعض الصينيين المعاصرين المناوئين له أنّ وضع المثقفين وأساتذة الجامعات جنباً إلى جنب مع العمال والفلاحين إساءة حقيقية لهم، فهؤلاء يجب أن يكونوا في مواقع الثقافة الحقيقية، وعلى منابر الجامعات، حيث يجب أن يقدّموا جهودهم العقلية، بدلاً من أن ينهمكوا في أعمال يدوية مجهدة تستهلك ثلث وقتهم، وتشغلهم عن قضايا أساسية ومهمة، وهي قضايا المعرفة والبحث العلمي، وفي حقيقة الأمر لم يكن ماو تسي تونج يولي كبير الاهتمام بقضايا البحث العلمي، فقد كادت الجامعات الصينية في عهده تخلو من فروع الدراسات العليا واختصاصاتها، وكان على الصيني الراغب في إكمال دراساته العليا أن يسافر إلى خارج الصين لإكمالها.
          وقد حدّثني صديق صيني مفكّر معروف في الوسط العلمي الصيني، وبينما كنا نتجاذب أطراف الحديث حول الحبّ والزواج والسياسة في عهد ماو، وعندما سألته: هل سبق لك أن أحببت امرأة غير زوجتك الحاليّة حبّاً رومانسياً شفيفاً وعميقاً ملأ ذاكرتك ووجدانك؟ فقال: نعم، وكان أكبر مما تتصور وأول حب في حياتي، ولكني لم أوفّق إلى الزواج بها، لأنّ طبقتها الاجتماعية كانت أعلى منزلة من طبقتي، فقد رفضني والدها، لأنه كان من طبقة العمال، أمّا أنا فكنت محسوباً على طبقة المثقفين التي لا ترقى منزلة إلى طبقة العمال وفق رؤية نظام ماو تسي تونج السياسي والاجتماعي.

          وإذا ما قارنا هذه الحادثة بما يجري اليوم في الصين المعاصرة، وفي ظلّ سياسة الإصلاح والانفتاح، فإنّ الرجل الصيني المعاصر يطمح في أن يتزّوج من طبقة الأثرياء والملاك الجدد وأصحاب الشركات التجاريّة والمقاولين ورجال الأعمال، لا من طبقة العمال والفلاحين، لأنّ كثيراً من الأثرياء الجدد يتأففون من منظر الفلاحين القادمين إلى بكين. وقد قال لي أحد الطلاب، وهو ينتمي إلى أسرة ثريّة، بكثير من الاستعلاء والطبقية، وبينما كنّا نتجوّل في منطقة (كون جوفن): “إنّ الفلاحين الكثر القادمين من الأرياف إلى بكين يخلقون مشاكل كثيرة، ويسهمون في تشكيل الفوضى والزحام والتلوّث، بالإضافة إلى أنّ مناظرهم الريفية تسيء إلى الوجه الجمالي والسياحي لمدينة بكين. وقال لي صديق صيني آخر، وبينما كنّا نتجوّل، عندما شاهدنا بائع أوراق اليانصيب: “إنّ الحياة حظوظ، وهنيئا لمن يحالفه الحظّ ويربح جائزة اليانصيب”. وذكر أنّ عاملاً صينياً ربح قبل عامين ثلاثين مليون يواناً صينياً، وصار الآن رجلاً مهماً ومرموقاً ومن كبار رجال الأعمال. وقال بالحرف الواحد: “ولم يكن يساوي حتى بصلة عندما كان عاملاً”. فالعامل، الذي قامت على كتفه ثورة ماو تسي تونج، انتهى إلى هذه الحال.

          وفي عهد ماو “كان الرجل الصيني التقليدي يخجل من أن يذكر المال في حديثه، أو يبدي اهتماماً به في ظلّ المفاهيم التقليدية. ومن يبدي اهتماماً بالمال يستخفّ الناس به ويحتقرونه، أمّا الآن فقد ظهر اهتمام قوي بالكسب السريع، والتفنن في الملذّات الشخصيّة من شراب ورقص وخمور وطعام وجنس”، كما يقول الأستاذ الدكتور شريف شي سي تونج في الحوار الذي أجريته معه. وأصبح المال في المجتمع الصيني المعاصر غاية الغايات، وسيداً مطاعاً، وأخذ كثير من أبناء الجيل الجديد يدخلون الجامعات لا رغبة في المعرفة والتحصيل العلمي، بل أملاً في الحصول على الوظيفة في الشركات الخاصة التي تدرّ الأموال الكثيرة.

          الطفرة الرأسمالية: بدأت بوادر الطفرة الرأسمالية تتجذّر واضحة في الصين ابتداء من عام ،1993 ودخلت في أهم معاقل الشيوعية الصينية في بكين، وهو ميدان (تيان آن مين)، وقاعة الشعب الكبرى الموجودة في هذا الميدان، فقد افتتح بار (كاراوكي) الضخم بجوار بوابة مدينة الصين القديمة، وكان يُقدم في هذا البار أغاني (البوب) متزامنة مع صور الفيديو. وكانت تعقد في هذا البار العلاقات الغرامية المحرمة، وقد حظيت هذه البوابة التي يرجع تاريخ تشييدها إلى عهد الإمبراطور الصيني (يونج) في القرن الخامس عشر -الذي ينتمي إلى أسرة “مينج” الإمبراطورية التي حكمت الصين من عام 1368 حتى عام 1644- برعاية كبيرة من الحكومة الصينية لأنها من أهم المعالم الأثريّة القومية في الصين. وقد علل مدير البوابة( هو بي يون) -في ذلك الوقت- سبب افتتاح هذا البار قائلا: “لا نستطيع التفكير في حماية آثار الصين من دون الأموال الكثيرة”.

          وجرياً وراء سياسة الكسب السريع وجمع المال من أيّ مصدر كان، شرعت الحكومة الصينية في فتح الأماكن المحرّمة للسياح الأجانب، كما حدث في ميدان (تيان آن مين) في عام ،1988 وأقامت فيها مقاهي وحوانيت مليئة بالهدايا. أمّا قاعة الشعب الكبرى الموجودة في هذا الميدان، والتي تعد مقرّ الحكومة الصينية الرئيسي، والتي كانت قلعة محرّمة أيام ماو تسي تونج، فقد افتتحت أمام عامة الناس في عام ،1979 وقد زارها حسب الإحصائيات الصينية ما بين عام 1979 وعام 1992 حوالي 41 مليون شخص، وقد دفعوا رسوما مالية للحكومة على هذه الزيارة.
          [/align]

          تعليق

          يعمل...
          X