[align=center]رؤيات لتفاعلنا الحضاري مع الآخر!
عندما نضع بعضًا من الملح في قاروة ماء فإن تفاعلاً كيميائياً يحدث. التفاعل يحدث نتيجة لمواد تتفاعل لتنتج مادة جديدة ذات مواصفات تختلف عن المتفاعلات. بهذه المقدمة البسيطة نلج ببساطة ملف التفاعل الحضاري الذي بدوره يحتاج لِمتفاعليْنِ على الأقلِ. الأول سيكونُ نحنُ والثاني سيكونُ الآخر.
قبل أن نتجه لتحديد طبيعة التفاعل وسيره لا بدَّ لنا أولاً من معرفةِ العناصرِ المتفاعلة. نحن هو مجموعة الشعوب التي تربط بينها وحدة قيمية ذات خصائص حضارية واضحة حالياً وثابتة على المستوى المنظور. بهذا التعريف البسيط فإننا نستثني وحدة المكان من السمات المشخِّصة لهذه المجموعة التي رمزنا لها بـ «نحن». ويرمز الكاتب بـ«نحن» أغلب ما يُسمى بالأمة الإسلامية كمجموعة حضارية واحدة. أمَّا الآخر بدوره فهو ما يُستثنى بموجب التعريف السابق. فهو ذو سمات قيمية تختلف عمَّا يميز الأمة الإسلامية.
التفاعل الحضاري قد يحدث بأشكال مختلفة وتحت ظروف مختلفة، وكل اختلاف في البيئة المحيطة بالتفاعل يقود إلى تمايز واضح في الناتج. على هذا الأساس تباينت الرؤيات في أمتنا تجاه هذه التفاعلات بين قبولٍ مطلقٍ به أو رفض مطلق له. ولعل من نافـلة القول أيضًا الإقرار بوجود رؤىً أخرى تمازجُ بينَ هاتين الرؤيتين الراديكاليتينِ.
التيار الأول ينادي بإيقاف التفاعل الحضاري مع الآخر أيًّا كان ومهما كان. يؤمن هذا التيار أنَّ التفاعل الحضاري هو البوابة الكبيرة التي تقود إلى التفسخ القيمي وذوبان الشخصية الحضارية المميزة لهذه الأمة. إضافة إلى ذلك يصف هذا التيار التفاعل الحضاري كمقدمة واستهلالا للتبعية السياسية والفكرية للأمم الأخرى. بناءً عليه، اتخذ هذا التيار وصفات دفاعية وهجومية في آنٍ واحد لإيقاف هذه المعضلة حسب تصوره. تناولت النقلة الدفاعية أبناء الأمة ليوجههم بالرفق والشدَّة لمنهجه الذي عرض كثيراً من خطوطه. أسلوب الرفق تمثل في انتشار الكتاب والمحاضرات ومواقع الإنترنت التي تعنى بغرس أفكاره في المتلقين. أمَّا اسلوب الشدة فتمثل في استخدام سلاح الفتاوى التي تكفر أبناء الأمَّـة الذين تفاعلوا فكرياً مع الآخرِ. نتج عن هذا تكفيرُ الشرائح العلمانية والليبرالية والحقوقية المتفاعلة فكرياً مع الآخر. نرى بوضوحٍ هذا المنهج في تصريح أسامه بن لادن رئيس تنظيم القاعدة حين قال: «إنَّ العالم انقسم إلى فسطاطين: فسطاط الحق، وفسطاط الباطل» وبالطبع لكل فريق أهله ومن يواليه. تأثراً بهذه النظرية سقط الكثير من المسلمين - أساساً - ضحايا بأيدٍ مسلمَــة.
مما يُأخذ على هذا التيار نقطتان رئيسيتان. النقطة الأولى هو تمجيده للتفاعل الحضاري الإسلامي الذي قاد المسلمون نواصيه في حواضر العالم الإسلامي قبل 13 قرنا، بينما يرفض بشدة مثل هذا التفاعل في هذا العصر. النقطة الأخرى التي التبستْ على هذا التيار هو تفريقه التام بين جانبيِّ الحضارة الأساسيين: الجانب الفكري، والجانب المادي. هو يقبل شيئاً محدوداً من الجانب المادي و يرفض في الوقت نفسه الجانب الفكري كخيار واردٍ للتفاعل. هذا التفريق التام أهمل أن الشق المادي للحضارة هو ناتج لشق فكري. وأهمل أيضًا أن استخدام الجانب المادي الحضاري سيقودنا لا محالة لأجواء القيم الفكرية والفلسفية التي أنتجها الآخر. فالعملية طردية من كلِّ الجهاتِ.
النظرة الأخرى التي توجد في مجتمعنا تؤمن أنَّ التفاعل الحضاري هو ضرورة في هذا الزمن. هذا التفاعل يتم في الأفكار والأدوات ووسائل الإنتاج. ولأنَّ أمتنا توقفت تقريباً منذ قرونٍ عديدةٍ عن الإنتاج المادي والفكري، فلا يرى هذا التيار بأساً في استيراد الأدوات المعرفية والمعرفة، واستيراد المنتج والأدوات الإنتاجية أيضًا. هذا الاستيراد ضرورة لإعطاء جرعة حضارية تقوم برفع مستوانا الحضاري الذي ليس في أحسن حالاته حالياً. يستخدم هذا المستورد أيضًا لخلق صدمةٍ قويةٍ للتراثِ بغرض تحديثه وإنعاشه وجعله واقعاً معاشاً أكثر منه تاريخاً مقروءا. الذي يسند هذا التيار طبيعياً هو الاختفاء التدريجيُ للقيود المفروضة على انتقال القيم والأفكار والعقائد والمنتجات تحت مسمى «العولمة». هذا الوضع جعل التيار الحداثي يرى أن مبادئه تتحقق أرضياً في عمليةٍ تزداد تلقائية باختفاء الموانع والحواجز.
باستساغة الأمة للجوانب المادية التي أتت إليها نتيجة للتفاعل الحضاري يقطع هذا التيار نصف مشواره في سبيل تحقيق رؤيته.رغم هذا، يظل النصف الآخر من هذا المشوار الذي يتمثل في تواجد الجانب الفكري للآخر ضمن خيارات الأمة الفكرية يبدو ليس قريباً كقرب الجانب الآخر. يرجع السبب في هذا إلى أنَّ الإنسان لا يميل إلى التجديد في قناعاته الفكرية بل يميل إلى التقليد والركود في أغلب الأحيان.
يُأخذ على هذا التيار محاولة استنساخه التجارب الحضارية الأخرى لتثبيتها على الأمة الإسلامية. وهذا بدورهِ لا يدعو إلى الإنتاج الفكري بل هو طريق مؤكد للجمود الفكري بعنوان ومفتاح آخر. ويدفع الحداثيون هذا عنهم باستدراكهم أن الروح الحضارية للأمة لا تغيب، وأمَّا الأشياء الأخرى فهي انعكاس للتطور الطبيعي في الفكر البشري.
برأيي المشكلة بين التيارين هي مشكلة ثقة ومصطلحات في المقام الأول. التيارُ التقليدي لا يرفضُ الآخرَ رفضًـا قاطعًـا بلْ يُنادي بانتقائيةِ التأثُـر، واختياريـةِ الخيارِ الثقافي. وهذا يدلنا على وجود نسبة معينة للاستيعاب من الآخر يستطيعُ التيارُ التقليدِي قبولها في أدبياته وعملياته. نعم، هُنَـاكَ تيارٌ يُنادي بالتجديدِ أو بالتلاحُم معَ الأممِ الأخرى في الثقافةِ الإنسانيةِ والعمليةِ تأثيراً و تأثراً. هذا لا يُغيبُ الهويةَ الإسلامية لأنَّ الهويةَ الإسلامية أصـلاً بصورتهَـا النقيةِ لا وُجودَ لهَـا على أرضِ الواقع. هويتنـا الحاليةُ هي نتاجُ تلاحمٍ حضاريٍّ فيمَـا مضى ، تركَ أثراً فيمَـا بقى. بهذا نستطيعُ الآنَ القولَ بأنَّـهُ لا يوجدُ الطرفُ الرافضُ للآخرِ رفضًـا قاطعًـا في أمتنَـا. هناكَ اختلافٌ في حجم الجُرعَـةِ التِي يجبُ تلقيهَـا من الآخر.
حمد سنان الغيثي
شرفات
30\05\07[/align]
عندما نضع بعضًا من الملح في قاروة ماء فإن تفاعلاً كيميائياً يحدث. التفاعل يحدث نتيجة لمواد تتفاعل لتنتج مادة جديدة ذات مواصفات تختلف عن المتفاعلات. بهذه المقدمة البسيطة نلج ببساطة ملف التفاعل الحضاري الذي بدوره يحتاج لِمتفاعليْنِ على الأقلِ. الأول سيكونُ نحنُ والثاني سيكونُ الآخر.
قبل أن نتجه لتحديد طبيعة التفاعل وسيره لا بدَّ لنا أولاً من معرفةِ العناصرِ المتفاعلة. نحن هو مجموعة الشعوب التي تربط بينها وحدة قيمية ذات خصائص حضارية واضحة حالياً وثابتة على المستوى المنظور. بهذا التعريف البسيط فإننا نستثني وحدة المكان من السمات المشخِّصة لهذه المجموعة التي رمزنا لها بـ «نحن». ويرمز الكاتب بـ«نحن» أغلب ما يُسمى بالأمة الإسلامية كمجموعة حضارية واحدة. أمَّا الآخر بدوره فهو ما يُستثنى بموجب التعريف السابق. فهو ذو سمات قيمية تختلف عمَّا يميز الأمة الإسلامية.
التفاعل الحضاري قد يحدث بأشكال مختلفة وتحت ظروف مختلفة، وكل اختلاف في البيئة المحيطة بالتفاعل يقود إلى تمايز واضح في الناتج. على هذا الأساس تباينت الرؤيات في أمتنا تجاه هذه التفاعلات بين قبولٍ مطلقٍ به أو رفض مطلق له. ولعل من نافـلة القول أيضًا الإقرار بوجود رؤىً أخرى تمازجُ بينَ هاتين الرؤيتين الراديكاليتينِ.
التيار الأول ينادي بإيقاف التفاعل الحضاري مع الآخر أيًّا كان ومهما كان. يؤمن هذا التيار أنَّ التفاعل الحضاري هو البوابة الكبيرة التي تقود إلى التفسخ القيمي وذوبان الشخصية الحضارية المميزة لهذه الأمة. إضافة إلى ذلك يصف هذا التيار التفاعل الحضاري كمقدمة واستهلالا للتبعية السياسية والفكرية للأمم الأخرى. بناءً عليه، اتخذ هذا التيار وصفات دفاعية وهجومية في آنٍ واحد لإيقاف هذه المعضلة حسب تصوره. تناولت النقلة الدفاعية أبناء الأمة ليوجههم بالرفق والشدَّة لمنهجه الذي عرض كثيراً من خطوطه. أسلوب الرفق تمثل في انتشار الكتاب والمحاضرات ومواقع الإنترنت التي تعنى بغرس أفكاره في المتلقين. أمَّا اسلوب الشدة فتمثل في استخدام سلاح الفتاوى التي تكفر أبناء الأمَّـة الذين تفاعلوا فكرياً مع الآخرِ. نتج عن هذا تكفيرُ الشرائح العلمانية والليبرالية والحقوقية المتفاعلة فكرياً مع الآخر. نرى بوضوحٍ هذا المنهج في تصريح أسامه بن لادن رئيس تنظيم القاعدة حين قال: «إنَّ العالم انقسم إلى فسطاطين: فسطاط الحق، وفسطاط الباطل» وبالطبع لكل فريق أهله ومن يواليه. تأثراً بهذه النظرية سقط الكثير من المسلمين - أساساً - ضحايا بأيدٍ مسلمَــة.
مما يُأخذ على هذا التيار نقطتان رئيسيتان. النقطة الأولى هو تمجيده للتفاعل الحضاري الإسلامي الذي قاد المسلمون نواصيه في حواضر العالم الإسلامي قبل 13 قرنا، بينما يرفض بشدة مثل هذا التفاعل في هذا العصر. النقطة الأخرى التي التبستْ على هذا التيار هو تفريقه التام بين جانبيِّ الحضارة الأساسيين: الجانب الفكري، والجانب المادي. هو يقبل شيئاً محدوداً من الجانب المادي و يرفض في الوقت نفسه الجانب الفكري كخيار واردٍ للتفاعل. هذا التفريق التام أهمل أن الشق المادي للحضارة هو ناتج لشق فكري. وأهمل أيضًا أن استخدام الجانب المادي الحضاري سيقودنا لا محالة لأجواء القيم الفكرية والفلسفية التي أنتجها الآخر. فالعملية طردية من كلِّ الجهاتِ.
النظرة الأخرى التي توجد في مجتمعنا تؤمن أنَّ التفاعل الحضاري هو ضرورة في هذا الزمن. هذا التفاعل يتم في الأفكار والأدوات ووسائل الإنتاج. ولأنَّ أمتنا توقفت تقريباً منذ قرونٍ عديدةٍ عن الإنتاج المادي والفكري، فلا يرى هذا التيار بأساً في استيراد الأدوات المعرفية والمعرفة، واستيراد المنتج والأدوات الإنتاجية أيضًا. هذا الاستيراد ضرورة لإعطاء جرعة حضارية تقوم برفع مستوانا الحضاري الذي ليس في أحسن حالاته حالياً. يستخدم هذا المستورد أيضًا لخلق صدمةٍ قويةٍ للتراثِ بغرض تحديثه وإنعاشه وجعله واقعاً معاشاً أكثر منه تاريخاً مقروءا. الذي يسند هذا التيار طبيعياً هو الاختفاء التدريجيُ للقيود المفروضة على انتقال القيم والأفكار والعقائد والمنتجات تحت مسمى «العولمة». هذا الوضع جعل التيار الحداثي يرى أن مبادئه تتحقق أرضياً في عمليةٍ تزداد تلقائية باختفاء الموانع والحواجز.
باستساغة الأمة للجوانب المادية التي أتت إليها نتيجة للتفاعل الحضاري يقطع هذا التيار نصف مشواره في سبيل تحقيق رؤيته.رغم هذا، يظل النصف الآخر من هذا المشوار الذي يتمثل في تواجد الجانب الفكري للآخر ضمن خيارات الأمة الفكرية يبدو ليس قريباً كقرب الجانب الآخر. يرجع السبب في هذا إلى أنَّ الإنسان لا يميل إلى التجديد في قناعاته الفكرية بل يميل إلى التقليد والركود في أغلب الأحيان.
يُأخذ على هذا التيار محاولة استنساخه التجارب الحضارية الأخرى لتثبيتها على الأمة الإسلامية. وهذا بدورهِ لا يدعو إلى الإنتاج الفكري بل هو طريق مؤكد للجمود الفكري بعنوان ومفتاح آخر. ويدفع الحداثيون هذا عنهم باستدراكهم أن الروح الحضارية للأمة لا تغيب، وأمَّا الأشياء الأخرى فهي انعكاس للتطور الطبيعي في الفكر البشري.
برأيي المشكلة بين التيارين هي مشكلة ثقة ومصطلحات في المقام الأول. التيارُ التقليدي لا يرفضُ الآخرَ رفضًـا قاطعًـا بلْ يُنادي بانتقائيةِ التأثُـر، واختياريـةِ الخيارِ الثقافي. وهذا يدلنا على وجود نسبة معينة للاستيعاب من الآخر يستطيعُ التيارُ التقليدِي قبولها في أدبياته وعملياته. نعم، هُنَـاكَ تيارٌ يُنادي بالتجديدِ أو بالتلاحُم معَ الأممِ الأخرى في الثقافةِ الإنسانيةِ والعمليةِ تأثيراً و تأثراً. هذا لا يُغيبُ الهويةَ الإسلامية لأنَّ الهويةَ الإسلامية أصـلاً بصورتهَـا النقيةِ لا وُجودَ لهَـا على أرضِ الواقع. هويتنـا الحاليةُ هي نتاجُ تلاحمٍ حضاريٍّ فيمَـا مضى ، تركَ أثراً فيمَـا بقى. بهذا نستطيعُ الآنَ القولَ بأنَّـهُ لا يوجدُ الطرفُ الرافضُ للآخرِ رفضًـا قاطعًـا في أمتنَـا. هناكَ اختلافٌ في حجم الجُرعَـةِ التِي يجبُ تلقيهَـا من الآخر.
حمد سنان الغيثي
شرفات
30\05\07[/align]