قبل أن أصلَ لندن.
.................................................. ... ذكريـــــــــات
قبل ثلاثة عشر عاما وصلت الى هذه المدينة ذات الاثـني عشر مليوناً من البشر، اذ يبلغ تعداد سكانها في النهار لينخفض في الليل مع عودة الموظفين والعاملين والمسافرين ومن كان يؤدي عملاً ما، وأول انطباع كونته عنها انها عالم مجهول لابد من اكتشافه قبل الدخول وربما أتيه في تفاصيله، فانا اخترت هذه المدينة بالذات من اجل الاقامة المؤقتة لاجل غير مسمى.. بعد ان عصفت بي الاقدار وسأمت الترحال وعبور الحدود، تارة بجواز سفر واخرى بدونه، ولولا عناية الله ولطفه لكنت من بين الذين تقطعت أشلاءهم في حقول الالغام، أو ممن كانوا فريسة لقناصي بيروت أيام الحرب الاهلية، وكثيرا جدا من القصص والمفردات كلها تدور في خلدي محاولاً إستقاء العبرة منها كذكريات حية - لاني لا اُريد أن أنساها- فهي تاريخي وتراثي وغنيمتي من مدرسة الحياة الكبيرة.
فعندما وطأت قدماي أرض المطار شعرت ببعض الارتياح المشوب بالحذر، وبعد اقامتي في المطار لعدة أيام بسبب جواز سفر كنا نمدد مانشاء من التواريخ والاختام فيه بعد أن قطعنا العلاقة بما يسمى سفارة بلادنا، التي كانت ترجع الواحد منا في صندوق أسود تحت غطاء السرية والحصانة الدبلوماسية، وإن شملتنا الرعاية الوطنية او مكرمة فاننا ننصح بالعودة للوطن مع ضمانات غير مضمونة، بل أشبه بالطعم، ليلاقي العائدون مصيراً مجهولاً، فكل واحد منا سفير للوطن ولكن بلا سفارة، وكنا تنبادل الخبرات واخر الاخبار... يالها من ايام قاسية! وما يخفف وطأتها علينا اننا كنا مجموعة منسجمة، نحتمي ببعضنا بعضاً، فيرفع القادر منا حمل الضعيف في كل شيء، وكانت جيوبنا كالاواني المستطرقة.
لم يكن الوقت يمضي حين كنا نترقب خبراً ساراً، أو بشرى في طريقها الينا، فكان يقف بكل ثـقله، يجثم على صدورنا ويطارد فراشات أحلامنا ليقتل فيها البسمة، ويمضي كالبرق في ساعات السعادة في لقاء الاحبة.
إن أشد ماكان يؤلمنا هو موت قريب أو عزيز بعيداً عنا.. ونشعر باننا نقدم قرابين غالية على مذبح الغربة وطريق ذات الشوكة، فأيامنا في الغربة في المشاعر سواء، ألا أننا يوم في الشمال أو الجنوب، وآخرنتجول بسوق الحميدية بدمشق، وآخر على الشاطيء الازرق باللاذقية، ثم نجد أنفسنا نتسلق قلعة حلب الشهباء، وآخر في بعلبك، أو بوادي البقاع فوق الثلوج وتقتفي آثارنا الذئاب الجائعة، فنجد أنفسنا بعدها بيومين أمام وجبة عشاء دسمة وفراش دافيء في فندق البريستول بمنطقة الحمراء ببيروت الغربية، عندما كان يشطرها الخط الاخضر، فيشم الواحد منا رائحة الدم والبارود، ورائحة مؤامرات تحاك لتغتال البراءة، وتفجر شظاياها رؤوس الاطفال والامهات، وما أكثر السيارات الملغومة أيامها! وكانوا ينصحوننا بالابتعاد عن حاويات القمامة والسيارات الغريبة عن المنطقة.
ولتّ أيام المعارك في بيروت، ألا اننا في حرب مستمرة من أجل البقاء على كرامتنا، وما أمرّ الحياة بلاها.
كنا في جلسات السمر نلتف حول النار.. ويلفنا دخانها، نردد القصائد والاشعار مما نحفظ، أو الحكم المفيدة، أو الامثال الشعبية والقصص.. وكنت انا أشترك وسرعان ما أتحول الى مستمع جيد ومن الطراز الاول بسبب نفاذ معلوماتي، لاكتسب منهم المزيد من الخبرات، ومن أخطاءهم أيضا كنت اُحاول أخذ العبرة وألاستفادة منها، فكنت اُخرج دفتر ملاحظاتي لأكتب أهم ما يقولون من الحديث العذب والشعر، ولم أكن اُخفي عنهم ضعف مستواي التعليمي ، فالكل يعلم بحال الكل، وجميل من كان أصحابه أطباء ومهندسين ومعلمين وحاملي شهادات عليا وشعراء، الا إنني كنت بين الفرص أسرق من الزمن فاتناول ما يجود به المكان من كتاب أو قصاصة صحيفة لأسّد بها نهمي في القراءة وكنت أذهب بعيداً لاقلد أحد المذيعين، من أجل إتقان قواعد العربية في الرفع والضم والنصب والجزم وغيرها مما تعلمت من لغتنا العربية، حتى فكرت ذات مرة بتدوين جميع يومياتي وما يمر بي يوماً بيوم من أجل إرسالها للأهل ليعرفوا أين وضعوا ثـقتهم، وكيف إني صنت أمانة سمعتهم لاني سفيراً لعائلتي.
ولكن بسبب كثرة الترحال وإنعدام الاستقرار كانت فكرة تدوين اليوميات والمذكرات ليست عملية خشية وقوعها بيد غير أمينة، ولذلك إعتمدت على الذاكرة، فإن ذلك أسلم وبلا مجازفة.
وكنت أتلذذ بالغزل وأختزنه لحبيبتي إن قابلتها وأنا حي، فلم تكن لي حبيبة، غير أمي، كنت أستجمع شجاعتي كلها إن مر خيالها أمامي لكي لا أنهار باكيا فراقها، لاتذكر كل كلماتها الرقيقة وكيفية إختيارها أعذب المفردات من أجل إسعادي، فكنت إذا المت بي مصيبة تذكرت كلماتها لتخفف من مصابي والمي.
وبعد شعوري بالامان، فاني أتكاسل من تدوين تلك الذكريات وذلك التراث لانها صارت كثيرة ومتشعبة للغاية، وتراجعت عندي ملكة الكتابة بسبب المرض، وكثرة إصطدام أحلامي بجدار المستحيل.
كم كنت أتمنى لو أكمل تعليمي لاحقق رغبتي في تعلم وممارسة الطيران المدني، ولكن يبدو إن هذه الرغبة لاتعدو كونها حلماً جميلاً، ويبدو أيضاً إني لم اُحقق من حلمي هذا سوى الصعود الى الطائرات مسافراً لاقائداً، فالواقع يصفع، ويجلد بقسوة أحياناً.
مؤيد البصــري.
.................................................. ... ذكريـــــــــات
قبل ثلاثة عشر عاما وصلت الى هذه المدينة ذات الاثـني عشر مليوناً من البشر، اذ يبلغ تعداد سكانها في النهار لينخفض في الليل مع عودة الموظفين والعاملين والمسافرين ومن كان يؤدي عملاً ما، وأول انطباع كونته عنها انها عالم مجهول لابد من اكتشافه قبل الدخول وربما أتيه في تفاصيله، فانا اخترت هذه المدينة بالذات من اجل الاقامة المؤقتة لاجل غير مسمى.. بعد ان عصفت بي الاقدار وسأمت الترحال وعبور الحدود، تارة بجواز سفر واخرى بدونه، ولولا عناية الله ولطفه لكنت من بين الذين تقطعت أشلاءهم في حقول الالغام، أو ممن كانوا فريسة لقناصي بيروت أيام الحرب الاهلية، وكثيرا جدا من القصص والمفردات كلها تدور في خلدي محاولاً إستقاء العبرة منها كذكريات حية - لاني لا اُريد أن أنساها- فهي تاريخي وتراثي وغنيمتي من مدرسة الحياة الكبيرة.
فعندما وطأت قدماي أرض المطار شعرت ببعض الارتياح المشوب بالحذر، وبعد اقامتي في المطار لعدة أيام بسبب جواز سفر كنا نمدد مانشاء من التواريخ والاختام فيه بعد أن قطعنا العلاقة بما يسمى سفارة بلادنا، التي كانت ترجع الواحد منا في صندوق أسود تحت غطاء السرية والحصانة الدبلوماسية، وإن شملتنا الرعاية الوطنية او مكرمة فاننا ننصح بالعودة للوطن مع ضمانات غير مضمونة، بل أشبه بالطعم، ليلاقي العائدون مصيراً مجهولاً، فكل واحد منا سفير للوطن ولكن بلا سفارة، وكنا تنبادل الخبرات واخر الاخبار... يالها من ايام قاسية! وما يخفف وطأتها علينا اننا كنا مجموعة منسجمة، نحتمي ببعضنا بعضاً، فيرفع القادر منا حمل الضعيف في كل شيء، وكانت جيوبنا كالاواني المستطرقة.
لم يكن الوقت يمضي حين كنا نترقب خبراً ساراً، أو بشرى في طريقها الينا، فكان يقف بكل ثـقله، يجثم على صدورنا ويطارد فراشات أحلامنا ليقتل فيها البسمة، ويمضي كالبرق في ساعات السعادة في لقاء الاحبة.
إن أشد ماكان يؤلمنا هو موت قريب أو عزيز بعيداً عنا.. ونشعر باننا نقدم قرابين غالية على مذبح الغربة وطريق ذات الشوكة، فأيامنا في الغربة في المشاعر سواء، ألا أننا يوم في الشمال أو الجنوب، وآخرنتجول بسوق الحميدية بدمشق، وآخر على الشاطيء الازرق باللاذقية، ثم نجد أنفسنا نتسلق قلعة حلب الشهباء، وآخر في بعلبك، أو بوادي البقاع فوق الثلوج وتقتفي آثارنا الذئاب الجائعة، فنجد أنفسنا بعدها بيومين أمام وجبة عشاء دسمة وفراش دافيء في فندق البريستول بمنطقة الحمراء ببيروت الغربية، عندما كان يشطرها الخط الاخضر، فيشم الواحد منا رائحة الدم والبارود، ورائحة مؤامرات تحاك لتغتال البراءة، وتفجر شظاياها رؤوس الاطفال والامهات، وما أكثر السيارات الملغومة أيامها! وكانوا ينصحوننا بالابتعاد عن حاويات القمامة والسيارات الغريبة عن المنطقة.
ولتّ أيام المعارك في بيروت، ألا اننا في حرب مستمرة من أجل البقاء على كرامتنا، وما أمرّ الحياة بلاها.
كنا في جلسات السمر نلتف حول النار.. ويلفنا دخانها، نردد القصائد والاشعار مما نحفظ، أو الحكم المفيدة، أو الامثال الشعبية والقصص.. وكنت انا أشترك وسرعان ما أتحول الى مستمع جيد ومن الطراز الاول بسبب نفاذ معلوماتي، لاكتسب منهم المزيد من الخبرات، ومن أخطاءهم أيضا كنت اُحاول أخذ العبرة وألاستفادة منها، فكنت اُخرج دفتر ملاحظاتي لأكتب أهم ما يقولون من الحديث العذب والشعر، ولم أكن اُخفي عنهم ضعف مستواي التعليمي ، فالكل يعلم بحال الكل، وجميل من كان أصحابه أطباء ومهندسين ومعلمين وحاملي شهادات عليا وشعراء، الا إنني كنت بين الفرص أسرق من الزمن فاتناول ما يجود به المكان من كتاب أو قصاصة صحيفة لأسّد بها نهمي في القراءة وكنت أذهب بعيداً لاقلد أحد المذيعين، من أجل إتقان قواعد العربية في الرفع والضم والنصب والجزم وغيرها مما تعلمت من لغتنا العربية، حتى فكرت ذات مرة بتدوين جميع يومياتي وما يمر بي يوماً بيوم من أجل إرسالها للأهل ليعرفوا أين وضعوا ثـقتهم، وكيف إني صنت أمانة سمعتهم لاني سفيراً لعائلتي.
ولكن بسبب كثرة الترحال وإنعدام الاستقرار كانت فكرة تدوين اليوميات والمذكرات ليست عملية خشية وقوعها بيد غير أمينة، ولذلك إعتمدت على الذاكرة، فإن ذلك أسلم وبلا مجازفة.
وكنت أتلذذ بالغزل وأختزنه لحبيبتي إن قابلتها وأنا حي، فلم تكن لي حبيبة، غير أمي، كنت أستجمع شجاعتي كلها إن مر خيالها أمامي لكي لا أنهار باكيا فراقها، لاتذكر كل كلماتها الرقيقة وكيفية إختيارها أعذب المفردات من أجل إسعادي، فكنت إذا المت بي مصيبة تذكرت كلماتها لتخفف من مصابي والمي.
وبعد شعوري بالامان، فاني أتكاسل من تدوين تلك الذكريات وذلك التراث لانها صارت كثيرة ومتشعبة للغاية، وتراجعت عندي ملكة الكتابة بسبب المرض، وكثرة إصطدام أحلامي بجدار المستحيل.
كم كنت أتمنى لو أكمل تعليمي لاحقق رغبتي في تعلم وممارسة الطيران المدني، ولكن يبدو إن هذه الرغبة لاتعدو كونها حلماً جميلاً، ويبدو أيضاً إني لم اُحقق من حلمي هذا سوى الصعود الى الطائرات مسافراً لاقائداً، فالواقع يصفع، ويجلد بقسوة أحياناً.
مؤيد البصــري.
تعليق