إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

صواعق الألم

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    [align=center]الحياة كلها مآسي وآلام ، تحولت فرحة بدر بالسفر لإتمام الدراسة إلى فواجع وأحزان ، وتقرير المخابرات يشير إلى أن احتراق البيت كان نتيجة انفجار أسطوانة غاز الطبخ ، مما أدى إلى احتكاك الغاز بالكهرباء فتولدت إنفجارات مدوية في كل محولات البيت الكهربائية ، وحال بدر يجلب الشفقة والرأفة ، يفيق ساعةً ويُغمى عليه عشرا ، لقد كان قوي التعلق بأمه وأبيه ، كان يطمح في أن يمنحهم السعادة والراحة ، بذل كل قصارى جهده في الدراسة ليرفعوا رأسهم به ، اليوم هم تحت التراب مجندلين ، رحلوا عن دنيانا وتركوا بدرا وحيدا .

    لم يذهب للسفارة لاستلام المعاملة ، فقلقت عليه سمية كثيرا ، اتصلت به مرارا ولكن هاتفه مغلق ، مما زاد الشكوك والمخاوف لديها ، تارة يتبادر إلى ذهنها أنه مريض ، وتارة أخرى يوهمها الشيطان بأن بدر لا يود التواصل معها ، قلبها مضطرب ، ومشاعرها متباينة ، والشك والحيرة يقتلانها ، ولا تدري كيف تصل إليه .
    الشيخ محمود كان الأقرب لبدر ، فهو أيضا فقد صديقه المخلص أبا بدر ، حاول مواساة بدر والتخفيف عنه ، ولكن لا جدوى ، ففقد بدر أليمٌ أليم ، فهو الآن بلا أبوين ولا بيت يؤويه ، يخرج بعد صلاة الفجر يهيم في الأرض ويرجع آخر الليل ليفترش التراب بجانب الوادي الأخضر وبالقرب من الأفاعي والعقارب السامة ، والله خير حافظٍ له .
    تذهب عائشة إليه كل ليلة حاملةً له لحافا وغطاء وطعاما وماء ، تجلس معه بعض الوقت تواسيه وتخفف عنه ، فهو كمجنون ليلى استوطن الفلاة وجعل وحوشها أصدقاءه وأهله ، بدر التلميذ الذكي الخلوق ، هو اليوم الفتى المعتوه الذي يسيح في القفار والبيد .

    ،،،، يتبع ،،،،
    [/align]

    تعليق


    • #17
      [align=center]سُمية تبحث في أوراق بدر بغية أن تجد عنوان إقامته ، فوجدته بدون أدنى تعب ، وعزمت في المساء أن تذهب بنفسها للسؤال عنه ، فالشوق والوجد لا حدود له ، والنفس تموت في كل دقيقة ، لم تكن تعلم بأن الحب عذاب وأنه مُّر المذاق ، كأني بها أراها تتيه في المشاعر وتهيم بخيالها وتشطح بفكرها تماما كجارية المهدي العاشقة ، حين بلغ بها الحب مداه حتى سلب عقلها فلقبت بالجارية العاشقة المجنونة ، وربما أصدق ما قالته ، وأعقلُ ما نطقت به في جنونها :
      الحبُ أولُ ما يكونُ لجاجة ٌ *** تأتي به وتسوقهُ الأقدارُ
      حتى إذا اقتحمَ الفتى لججَ الهوى *** جاءت أمورٌ لا تطاق كبارُ
      ها هي سمية تتبع العنوان ، وتصل إليه أخيرا ، سألت عن بيت عائلة بدر فأخبروها الخبر ، لم تتمالك نفسها إلا أن صرخت وقد شعرت أن جسدها كله قد صعق بالكهرباء التي التهمت بيت بدر وأهله ، بكت ولم تتمالك نفسها ، لتنوح بأعلى صوتها ، تتوجع وكل حواسها تنشد الألم وكل جوارحها تعزف المزمار الحزين ، لم تدري ما تفعله ، سوى أن عادت حزينةً مفجوعة ، يُقرأ الحزن من عينيها ، ويكتب الألم قصائده على جبينها ووجنتيها ، الهزال والدهشة والبكاء سمة اتسمت بها سمية ، ما أن وصلت البيت حتى رأتها أختها التوأم ، وهي قد علمت بتغير حالتها من الأيام السابقة ، وكانت تدرك بأن سُمية قد اصطاد قلبها صيّاد بارع ، ولكن ما بالها هكذا ؟!!
      سألتها فأجابت : حبيبتي سامية ، أنتِ الوحيدة من يشعر بي ، قلبي يتفطر وصدري يحمل ثقلَ جبلِ أحد ورضوى ، لا أشعر بطعم الحياة ولا هناؤها ، تذرف دموعها وتسكب دمها ، فالعين أوشكت على جفاف مائها ، ولا تزال سامية في صمتها تستمع بإنصاتٍ تام لحديثها ، لعل ذلك يخفف عنها ، وتطلب منها أن لا تكف عن الحديث والبكاء ، هيا أخيتي ابكي ، هيا يا منى نفسي بوحي بكل أسرارك ، ولا تزال سمية رغم المصيبة والألم الدفين تُلمِّح ولا تصرح .
      أما بدر ، فقد بدأ يسترجع عقله ، وبدأ تأثير الكارثة يخف ، فالحبيب قال " ليس الشديد بالصرعة ، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " ، قرأ من كتاب الله آياتا هدأت من روعه ، ونشرت الطمأنينة والسكينة في قلبه ، ها هو الآن يعتكف في المسجد يدعو الله بأن يلهمه الصبر والسلوان ، ويبدأ في تنفيذ حلمه الجميل بحفظ كتاب الله كاملا ، والآن وبحمد الله حفظ أكثر من عشر صفحات خلال أربعة أيامٍ فقط ، مما يشير إلى أن بدر أصبح الآن يعي تماما جمال القرب من الله تعالى .
      الشيخ محمود يجهز مفاجأة رائعة لبدر ، فهو في عملٍ دؤوب ومتابعة مستمرة لوزارة الإسكان من أجل منح بدر بيتا جديدا يؤويه ، أو حتى تعويضه مبلغا ماديا يستطيع من خلاله بناء منزلا راقيا يقطنه هو ومن يختار من بنات جنسه لتصبح شريكة حياته ، ومن تمنحه النصيب الأوفر من المحبة والعناية ، وقد قطع الشيخ محمود شوطا كبيرا في إنهاء المعاملة ، وهو يأمل خيرا ، والله المعين والموفق .

      ،،، يتبع ،،،
      [/align]

      تعليق


      • #18
        [align=center]بعد دقائق قليلة سنكون على موعد جديد إنه موعد انتهاء الساعة الثامنة ، القلوب وجلة والنفوس مضطربة ، والدعاء الهامس نبضا ودمعا إلى الله أن يلطف بلطفه وينعم بالحياة للطفل الصغير حسام ، يونس لا يزال الطفل الذي لا ينفك يدون ملاحظاته في مذكرته الصغيرة ، والجارة أمل تحتضن أم حسام وتطلب منها ذكر الله وتهليله وتسبيحه ، الطبيب سالم في الغرفة الكهربائية يعاين حالة حسام ويتأكد من دقات قلبه ، والطبيب سامر يقضي وقته مع زميله سالم حينا ومع الطابور المصطف لمعرفة الخبر حينا آخر ، الكل يؤمل نفسه بالبشارة ، وقلب الأم يخفق ويضطرب اضطراب المبعوث من القبر خجلا .
        الرقابة المشددة على والد حسام تضبطه وهو يكرر الدخول إلى ذلك البيت ويمكث فيه وقتا طويلا ، والغريب أنه لم يأتي ليطمئن على صحة حسام ، وكأنه على يقينٍ تام بأن حسام لن يعود للحياة من جديد ، والذي أثار شكوك الشرطة هو ذلك الكيس الذي يحمله باستمرار إلى ذلك البيت ، وما سر مكوثه وقتا طويلا هنالك ؟ وما علاقة أهل البيت بأبي حسام ؟ بالأمس خرج بصحبة إحدى بنات البيت إلى السيتي سنتر للتسوق ، وبعدها خرج مباشرة وقد غيّر ملابسه إلى المؤسسة الفنية للإنتاج والتصوير ، بالرغم أنه لا ناقة له ولا جمل في الفن ، والزيارة توحي بأنها رسمية من خلال طريقة لبسه وهندامه .
        نجم الدين في حديث متواصل مع المجنون وكأنه يفتعل الجنون ، فأحيانا تصرفاته توحي بالعقلانية ، فهو يعلم متى سيأتي وفي أي وقت ، ومتى يرحل ، نظراته فيها سرٌ خطير ، وابتسامته تحمل الخبث والدهاء ، ولكن يبقى وبشهادة المستشفى الطبي بأنه من أصحاب الإعاقات العقلية التامة ، والجنون مسيطر على شخصيته بنسبة 100 % ، وقبل أن يخرج حسام يظهر مبارك الجار القريب لجدة حسام حاملا الكفن الذي منحه إياه حسام ، وقد عطره حسام بدموعه ، الطبيب سالم يخرج ورجلاه يكاد لا تقلانه ، دموعه تسبق كلماته ، وقد أنهى التقرير ومعه شهادة الوفاة ، نعم لقد تأكد موت حسام وبشكل نهائي ، والذي لفت انتباه الطبيب أن حسام لم يمت خنقا ، وإنما مات بصعقهِ بتيار كهربائي في أسفل قدميه ، وربما هذا الأمر سيزيد التحقيق تعقيدا .
        أبلغ الجميع بموت حسام ، فتعال الصراخ والعويل ، أم حسام تبكي بكاءً مرا ، وأمل وصديقاتها يهدأن من روعها ، ويذكرنها بأن هذا هو من عند الله ، ولا يستطيع أي بشر أن يرد قدر الله وقضائه الغالب ، وأن موت حسام أفضل له من حياته ، وسيكون عصفورا من عصافير الجنة بإذن الله ، فهو لم يبلغ الحلم ولم يُجرّ عليه القلم ، وسيكون من الغلمان الذين سيسقون أهلهم ماءً يوم العطش الشديد في ذلك اليوم الذي يذهل كل مرضعةٍ عمّا أرضعت وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ، نعم سيسقيها ماءً عذبا رقرقا إن احتسبت موت حسام واسترجعت الله وصبرت ، ولا تزال المسكينة تبكي وتبكي ، حتى لو جمعت دموعها لصارت لجة زاخرة من سيل الدموع الجارفة ، أما يونس فهو الآخر لم يعد له أثرا ، ونجم الدين يبحث عنه بكل جنون وبصحبته مدرس المطالعة والأحداث تتوالى تترى


        ،،، يتبع ،،،
        [/align]

        تعليق


        • #19
          [align=center]رحل حسام ، ورحلت معه الابتسامة ولذة الحياة ، أقداح الموت لا ترحم صغيرا ولا كبيرا ، لبست أم حسام السواد ، والظلمة والشقاء سيلازمانها ، وعليها تَحمّل عبأ مداراة يونس وتوجيهه نحو الطريق السليم ، فقلبه الآن قاسٍ جدا ، وأضمر الحقد والكراهية لأبيه ، وبدأت بوادر الانتقام تظهر على ملامح تصرفاته ، وكان من الطبيعي أن يتقدم برسالة تأجيل الدراسة لهذا العام إلى مدير المدرسة ، فحالته الصحية صعبة ، والحزن يتغلغل في أعماقه ويسكن كل جوارحه ، عيناه تفيضان بالدمع في كل حين ، ولسانه لا ينطق إلا بذكرى حسام وسوسن وجدته رقيه ، وكل الدماء التي تجري في عروقه تهمس بلغة الثأر وإيقاف الشر .
          نجم الدين يراقب المجنون ولا يجعله يغيب عن عينه لحظة ، وهو باتصال دائم مع رجال الشرطة والمخابرات ، والمجنون يوهمهم بأنه عاقل جدا ، كيف لا وهو يؤدي الصلوات الخمس المفروضة في وقتها في المسجد ، والأكثر من ذلك أنه يرتاد حديقة الحيوان كل يوم ، ليلتقي بطفلٍ صغير يداعبه ويلاعبه طويلا ، ثم يرجع إلى بيته ، كل هذا الانتظام في السلوك والمواعيد لا يفعلها مجنون ، غير أن ثيابه رثه ورائحته كريهة ، وشعره كثيف ، ومدمن سجائر ، أراد نجم الدين الحديث مع ذلك الطفل فوجده لا ينطق أبدا ، فهو أبكم منذُ ولادته ، ولا تزال خيوط الجريمة متشابكة وحال المجنون يشعرك بالتوهان .
          في إحدى الليالي المقمرة ، وعلى تساقط زخات المطر ، قررت الشرطة اقتحام ذلك البيت الذي يقضي فيه والد حسام كل وقته ، فكانت المفاجأة ، حينما اكتشفوا بأن ذلك البيت بيت دعارة ، وتديره امرأة طاعنةٍ في السن ، كان حال والد حسام مثيرا للشفقة ، وانقلاب أمره وتغيّر شخصيته من رجلٍ محافظ إلى متحررٍ لا يبالي باقتراف أي جرم لابد أن وراءه فاعل ، فالشباب والفراغ والحضارة والمدنية لهم الأثر الأبلغ في التأثير على النفوس ، تم وضع القيود على معصميه وجره على أنفه إلى مركز الشرطة ، بانتظار حكم المحكمة عليه ، وربما ستثبت عليه قضية قتل حسام وسوسن ، إن استجدت تطورات أخرى .
          يونس أصبح حملا ثقيلا على أمه ، وبدأ جنونه يتحول إلى حقيقة ، وشقاوته المعتادة تحولت إلى تخطيط مثمر ، وصحبة موسى الشرير ستسبب له ولأمه الكثير من المتاعب ، فهو يقضي نهاره كله بصحبته ، رغم محاولات أمه المتكررة في منعه من فعل ذلك ، ولكن بدون جدوى ، فشخصية موسى تلاءم كثيرا أفكار يونس وطموحاته ، موسى لم يتجاوز عمره 17 عاما ، ولكنه مشهورٌ بمشاكله التي لا تنتهي ، لا سيما حينما يتعلق الأمر بأي اشتباكات جسدية ، فهو لا يترك السلسلة الحديدة ولا يفارقها ، وصارت يده تألفها كثيرا ، ويونس بدأ يتعلم منه طريقة الوشم على الكتف ، وبالأمس أمسك سيجارةً ولم يستطيع أن يشعلها ، فيبدو أن بقايا التربية السليمة قد منعته من فعل ذلك .


          ،،، يتبع ،،،
          [/align]

          تعليق


          • #20
            [align=center]مريم أصبحت تعشق الوحدة والانطواء ، تقطع وقتها بين بكاءٍ ونومٍ وقراءة بعض الروايات الكئيبة ، واليوم انضمت الأغاني الحزينة إلى قائمة اهتمامات مريم ، طيف أمها يعشش في أحلامها ومخيلتها ، وخناجر الخيانة تضرب أوتار قلبها وتمزق أحشائها ، والمحاولات اليائسة منها في تغيير منحنى حياتها لم يبلغ الجد والاتزان ، وجهها يزداد شحوبا كل يوم ، وشهية الأكل انعدمت ، فالماء وبعض التمرات والخس هو كل مأكلها .

            في خلال مناوبة سمير وقع شجار بين سيدة تبلغ الأربعين من عمرها ، وبين أحد الشباب المراهقين ، وكان يتعقبها ويلقي كلمات الغزل على مسامعها ، مما يثير اشمئزازها ، فصرخت في وجهه تشتمه ، وكاد المراهق أن يلطمها بيده ، لولا أن تدخل سمير وفضّ الاشتباك ، فشكرته السيدة الفاضلة ممتنةً له على صنيعه النبيل ، ولكن الأمر الذي بدأ يثير اهتمام سمير أكثر هو ذلك الصبي الصغير الذي يعشق الوحدة ويمشي بمفرده دائما ، وتظهر عليه ملامح البؤس والعناء ، وكأنه فرعٌ قد قطعت كل جذوره وأصوله .
            اليوم نطق الحكم النهائي ، وكان المحامي ذكيا جدا وفطنا ، عمل كل جهده وطاقته في تبرئة سعيد ، ولكن أدلة المحامي الآخر لوالد الطفل كانت هي الأكثر وضوحا وإقناعا ، ومع هذا كله تمكن المحامي اللبيب من تخفيض العقوبة بأقصى الدرجات الممكنة ، والقاضي يلوح بيده للجميع بالهدوء ، ومطرقته تجبر الكل على الإنصات ، ويأتي الخبر الصاعق لسعيد ، القاضي يحكم بسجنه خمس سنوات ، وتهمة الشروع في القتل تقتضي السجن من 5 إلى 15 سنة ، والفضل يرجع للمحامي الأنيق الفطن .
            وقبل أن ينقل سعيد للسجن المركزي طلب مقابلة المحامي ، وسأله على الفور عن الشخص الذي قام بتوكيل المحامي له ، فأخبره أن مريم هي من دفعت تكاليف القضية الباهظة ، حيث أنها باعت ذهبها وأرضها الصغيرة بجوار بيتهم ، استغرب سعيد من كرم تلك السيدة وتضحيتها ، والاهتمام به رغم أنه لا صلة بينهما أبدا ، هي الشخص الوحيد الذي تذكره في هذه المحنة ، والعجيب أن أهله لم يأتوا حتى لزيارته أو الاطمئنان عليه .




            ،،، يتبع ،،،
            [/align]

            تعليق


            • #21
              [align=center]تنتهي مناوبة سمير في الصباح الباكر ، ولكنه انتظر إلى أن تشرق الشمس ليتمكن من رؤية ذلك الصبي ، اشترى بعض السندوتشات ووضعها في كيس ، ثم انتظر أمام بوابة العمارة ، وكالعادة أتى الصبي يمشي ببطيء كبير ، لا يكاد يرفع رأسه من الأرض من كثرة التفكير والانزعاج ، استوقفه سمير يسأله عن صحته ، فلم يجب الصبي ، هز رأسه ومشى ، فلحق به يكلمه ، صغيري خذ هذا الكيس فهو هدية لك ، أنا عمك سمير أشتغل ناطور على هذه البناية ، نظر إليه الصبي بعيونٍ شاردة ونظراتٍ مكلومة ، ابتسم له سمير وغمزه بعينه أن يأخذ الكيس ، وهذه بداية صداقةٍ بينهما ، مع اختلاف أعمارهما وثقافتهما .


              سعيد يُنقل إلى السجن المركزي ، وهو يحمل استفسارات كثيرة بداخلة ، يتخيل وضع مريم المحرج ، وصحتها التي بدأت تتدهور رويدا رويدا ، ما سر موقفها الرائع ؟ ولماذا تفعل ذلك مع سعيد ؟ يسرح بخياله بعيدا إلى عالم النجوم ودنيا الأفلاك ، فيرتد إليه البصر ليرثى حاله المرير ، وقسوة الظلم ، يناجي نفسه ويعاتب المآل الذي صار إليه ، كلما أغمض جفنا تذكر قول الشاعر :
              أوما ترون الليل يغمر أمتي *** لا نجمهُ غنَّى ولا رقص القمر
              أوما ترون الأقربين استخدموا *** فينا سلاحا ليس يبقي أو يذر
              يسأل عن القرابة والأهل ، فيجدهم في منأى عنه ، يخاطب الخلان والأحباب ، فيجدهم قد رحلوا من دنياه ، يعتصر الألم ويبكي ندما ، إلى أن قطع حبل أفكاره ذلك الشاب الملتحي ، قائلا له ، هوّن على نفسك أخي :
              فظلم ذوي القربى أشد مضاضة *** على المرء من وقع الحسامِ المهندِ
              كن متماسكا أخي ، فالخير يبرق من عينيك ، فأنتِ رجلٌ خَيِّر ، ولا أزكي على الله أحدا ، ذلك ما أوحته لي ملامحك وما استدل به قلبي ، فقلب المؤمن دليله ، يرشده إلى الخير ، وفي الوجه ملامح الشخصية فهي انعكاس الداخل ومرآة القلب ، ألم تقرأ قول شاعر العرب :
              بعض الوجوه يسرُّ العين منظرها تقىً *** وفي بعضها قبحُ الغرابيبِ
              سعيد ينصت لكلام هذا الشاب الحكيم ، فلقد تغلغلت كلماته إلى الأعماق ولامست شغاف القلوب ، ووجدت مكانا خاليا فتمكنت فيه ، فدنا منه ، مسلما عليه ، سائلا عن حاله وصحته ، ويقول في قرارة نفسه ، هذا رجلٌ أرسله الله ليخفف آلامي ويشحذ عزيمتي .
              خلود تقترب من مريم أكثر فأكثر ، تسهر على راحتها ، وتوفر لها كل مطالبها ، أما الأخيرة فبدأت تفكر في بيع كل ورثها من أمها ، فهي تنوي فتح مدرسةٍ خيرية ، تكون مدرسةً صباحية للأطفال الصغار ، ومدرسة مسائية لتعليم محو الأمية ، وتهب كل الخير والأجر في صحائف أمها إن كان الله يتقبل منها ، فهي لا تنفك تدعو بالخير وحسن الثواب لأمها الراحلة ، بل وصل بها الأمر أنها تصلي في اليوم عشر مرات ، خمسا فرضا عليها ، والخمس الأخريات تهب أجرها وثوابها لأمها ، ولا تزال الحسرة في القلب على فقدانها ، والوجع يقتل كل ذرةٍ فرحٍ لديها .





              ،،،، يتبع ،،،،،
              [/align]

              تعليق


              • #22
                [align=center]قررت وزارة الإسكان منحُ بدر بيتا شعبيا ، مكونا من ثلاث غرف ومجلس وصالة ، بالإضافة إلى راتب شهري من الشؤون ، يعينه على تسيير حياته، والفضل يرجع بعد الله إلى الشيخ محمود ، الذي بذل المستحيل لكي يحصل بدر على بيتٍ يؤويه ، فرح بدر بذلك ، وقرر الدراسة في أرض الوطن ، فهو الآن يقدم أوراقه في الجامعة ، ويختار كلية الهندسة ، فهو يسعى أن يكون مهندس نفط ، وترك حلمه القديم ،فهو الآن لا يعشق الطيران ، بعد أن تحطم جناحاه بوفاة أهله .

                سمية حكت قصتها لأختها سامية ، قلبها يتقطع ، ودمعها لا يرقأ ، ولسانها لا يتلفظ إلا بذكر بدر ، أما سامية ، تعيش مأساة أختها ، تحاول أن تأخذها من العبوس إلى الأمل والإشراق ، تطلب من سمية أن تكون عونا لبدر في هذه المرحلة ، فهو يحتاج لدعمها وسندها ، وهي ستقف بكل تأكيد إلى جانب سمية وتوفر لها المناخ المناسب للقيا بدر .
                عائشة تقع في يد أحد الشباب ، فلقد تبادلا النظرات طويلا في سوق الملابس ، وقد تمكن من اصطيادها عن طريق البلوتوث ، وها هي المكالمات تتكرر بينهما ، والحب والغزل سمة بارزة ، خصوصا عائشة التي تتأقلم مع كل شاب ، فقلبها يرفرف في صدرها ، لا يثبت في مكانٍ واحد ، ولا يستقر لشخص واحد ، فهي ترى نفسها ملكة الحب ، تهب حبها لكل الشباب .
                بدر أنهى صلاة العصر ، أمسك بالمصحف يقرأ ويراجع محفوظاته ، وهو الآن يحفظ سورة النور ، ويقف عند الآية الخامسة والثلاثين كثيرا ، يتأملها وقلبه يتلذذ بحلاوة الإيمان ، ما أروع هذه الآية وأعظمها، فالقرآن كله عظيما ، ولكنها تصف نور الله :
                " الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم ".
                ختم الآية وخرج من المسجد يمشي ، مستمتعا بنور الإيمان ، الطريق مزدحم بحركة الناس ، رجلاه تسوقانه نحو محل البوظة " الآيسكريم " ليسترجع أيام الصبا والطفولة ، طلب آيسكريم فراولة ، ومضى يكمل طريقه وهو يلعق الآيسكريم مثل الصبيان تماما ، تلمحه سمية من بعيد ، وتصرخ ذاك بدر ، إنه البدر يا سامية ، توقفت بجانبه ، تكاد لا تصدق عينيها ، أيعقل أن يكون هذا بدرا؟
                سلمت عليه وعرفته على أختها ، سَعُد كثيرا برؤيتها ، وشعر بالأمان والدفء والحنان ، وعدها أن يأتي قريبا لخطبتها ، فهو لا يقوَ البعد عنها ، فرحت بذلك فرحا عظيما ، يكاد يغمى عليها ، لم تستطع الكلام ، فتكلمت سامية بدلا عنها ، نحن في انتظارك ، ولن نجد أفضل منك يا بدر الدجى ، ابتسموا ، ثم انصرفوا .




                ،،، يتبع ،،،
                [/align]

                تعليق


                • #23
                  [align=center]ما أجمل البيت الجديد ، فهو قريبٌ جدا من مسجد النور ، وفي الجهة المقابلة تقع حضانة الأطفال ، وبدر يملك عشقا خاصا للأطفال فهم البراءة وزينة الحياة وبسمة الدنيا وبهجتها ، لكنه موحشٌ جدا ، فلا أنيس يشاطره الحديث والحياة ، ولا حبيب يركن إليه عند الدعة والهم ، يتأمل الغرف الثلاث ، ينتقل بينهن ولا يرى شيئا يفتح النفس ويسعد الخاطر ، فتجيش به الذكريات نحو الأحبة ، يخاطب نفسه : أواه كم اشتقت لنصائحك أبي ، وكم عيني تود رؤيتك يا أماه ، فداك نفسي يا أختي الصغيرة " ربى " ، يجفف دموعه ، وينتقل للمجلس عل تباريح الجوى يخف وطؤها ، وعلّ النفس تسجد لخفتات الأمل القادم ، فلا بد أن نقبل الواقع بكل صروفه .
                  سامية تبدو أكثر سعادةً من أختها ، تنظر بنظرات خبثٍ لسمية ، وتحدثها بجمال بدر وخفته وظرفه الشديد ، مما بدأ الأمر يتطور للغيرة ، وأصبحت سُمية تفسر كل كلمة إعجابٍ من سامية لشخص بدر على أنها بذرات حبٍ قد تتأصل في أعماقها ، فالحب لا يقيد بقيود ولا يحده رسمٌ أو حدود ، إلا أن سامية ترسم الأمل الجميل في قلب سُمية حينما تحدثها باستمرار عن يوم زفافهما ، وكيف ستحيى حياة السعداء مع بدر ، وأنها ستكون خالةً عما قريب ، فتبدأ المغرمة سُمية في الغوص في أعماق الخيال ، عيناها لا تتوقفان عن النظر لأعلى ، وأصابع اليدين في حركة استشعارية ، والابتسامة تواكب التأمل العميق .
                  عائشة تحدد موعدا لعشيقها الجديد ، فاللقيا حياة الحب وماء القلوب ، والحبيب الجديد ، يبكى الصبابة والألم ، فالشوق يضرب أوتار جسده ، وقلبه يخفق بتراتيل وجده ، فالأنفاس حرّى دفينة ، والحنين يسكره ويصرعه ، ويدّعي أيضا ، بأنه بات حاله كسيرا ، ولقيا الحبيبة يجبره ويشعبه ، وكذلك عائشة المتيمة لا يغمض لها جفن ، فهي دائمة التفكير بالحبيب المخلص ، هذا الأنيق الذي شغل كل فكرها ، واستوطن كل مشاعرها ، فصار الهوية وملح الحياة ، والموعد يوم الأحد ، يوم نصرهم برؤية بعضهم .


                  ،،، يتبع ،،،
                  [/align]

                  تعليق


                  • #24
                    [align=center]يونس الولد الوديع ، يتحول إلى أسدٍ مفترس ، فلقد لطم أمه لطمةً أطارت بعقلها يوم أن منعته من الخروج مع صديقه الجديد موسى ، أصابها الذهول وبلغت بها الدهشة مبلغها ، ويحك يا يونس ، أتصفعني وأنا أمك ؟ أو نسيتَ سهر الليالي وبكاء الأسحار لأي مرضٍ يلم بك ، ألا تعلم بأن الحمى التي تؤلم جسدك هي تقتلني ، والآن وبعد كل هذه السنين تأتي لترفع يدك على من حملتك في بطنها تسعة أشهر وفطمتك في عامين ، أو يكون الشكر بالضرب ، شُلَّت يدك وقبّح الله صنيعك ، اغرب عني فأنت لستَ ابني .
                    لم تحرك تلك الكلمات والدموع شيئا من نفسية يونس ، فهو تمرد على كل شي ، ولا يعرف سوى القسوة ولغة الثأر ، إلا أنه حينما يخلو بنفسه ، يعود به الحنين إلى إخوته حسام وسوسن ، خصوصا حسام الذي كان سنده وعونه في كل شي ، فهو لا ينسى أبدا يوم أن باع كتبه التي يحتفظ بها ويغرم بقراءتها لأجل أن يشتري يونس دراجةً يلهو ويلعب بها ، قلبه لم يتعود على الصبر ، ونفسه لا تريد غير إخوته ، فقد تقطعت أوصاله ، وارتعشت أضلعه ، وبدأ يصرخ بصوت حسام ، الصريخ يرتفع ليصل إلى الأم المفجوعة والمكلومة ، فتأتي مسرعةً نحوه تحتضنه ، سقته الماء وأحضرت له عصير الليمون ، وأطعمته المعكرونة التي يحبها كثيرا ، وكأنه لم يفعل فعلته التي فعلها صباح اليوم وهو من الآثمين ، قلب الأم لا يحمل أي حقد لأبنائه ، فكأن شيئا لم يكن رغم مرارته وقسوته .
                    الرجل المجنون يظهر من جديد أمام جريمةٍ أخرى ، وكأنه لا يظهر إلا لهدفٍ وغرض ، فلقد كان شاهدا على سرقة سيدة كبيرة وهي تحمل نقودا كثيرة بمحفظتها الكبيرة ، وهو الشخص الوحيد الذي رأى يونس وموسى يضربانها ومن ثم يسحبان منها المحفظة بكل عنف ، ولا يزال لا يكشف عن شخصيته ، وأخبر الشرطة بأنه رأى عرضا مسرحيا مثيرا ، فلقد شاهد طفلين يقومان بالتمثيل وسرقة المال من هذه العجوز الشقراء ، وحينما سُئل عن الطفلين أجاب بضحكةٍ وبكاء وقال هما " توم وجيري " .
                    اتصلت الشرطة بأم حسام لتخبرها بأن زوجها معتقلٌ في الشرطة بتهم الأعمال المخلة بالآداب في بيت دعارة ، لتزداد المصائب على أم حسام ، والأمر الآن تجاوز الحزن والصدمة إلى الفضيحة والعار وسخرية الآخرين ، فالتورط في قضية آداب جَرمٌ يمقته المجتمع وتعفه العادات والتقاليد ، لم تجد من تلجأ إليه سوى نجم الدين ، فهو الرجل المخلص وقت الشدة والمحن ، حضر إلى الفور واصطحبها إلى مركز الشرطة ، ليتم استخراج أبو حسام وهو منُكس الرأس بكفالة نجم الدين ، لم يتفوه بأي كلمة ، ولم يكلمه أحد ، ويبدو أن هول المعصية أخرس لسانه ، والشعور بالذنب يقتل أحشائه.


                    ،،، يتبع ،،،
                    [/align]

                    تعليق


                    • #25
                      [align=center]الساعة تشيرُ إلى الخامسة فجرا ، والرجل المجنون يمارس رياضة الجري بكل نشاطٍ وحيوية ، والعجيب في الأمر أنه يحمل مخزونا هائلا من اللياقة فهو لا يشعر بالتعب إلا بعد طول جري ، فلقد قطع الخمسين كيلو مترا وهو لم يتوقف عن جريه أبدا ، انحرف في مساره إلى الحديقة ليلتقي بذلك الطفل الأبكم ، فيحتضنه طويلا ويبكي بكاءً مرا ، والرائد محمد يراقبه منذ فترةٍ طويلة ، حتى قبل واقعة حسام المسكين ، عقارب الساعة تتحرك والوقت الآن يدنو من الظهيرة ، والمجنون والطفل يتجولان في حديقة الحيوان بكل متعةٍ وسعادة .
                      موسى ويونس يخططان لسرقة محل الذهب ، فلقد تمكن موسى بحركةٍ خفيفة من سرقة المفتاح من البائع ، ليقوم بنسخه ، ويعيده إليه من جديد ، بدون أن يشعر البائع بشيء ، يونس يشعر بخوفٍ ورعب ، فهي المرة الأولى التي سيقوم فيها بسرقة محل تجاري ، ويبدون أنه بدأ يتضجر من الطريق المنحرف الذي يسلكه ، ولكنه محتاجٌ للمال لكي يبني بيتا مستقلا له ولأمه ، كي لا تقع عيناه على وجه أبيه ، فهو لا يود رؤيته إلا يوم دفنه بسكين الغدر التي سيغتاله بها على حين غرة .
                      أما أبوه ، فحاله لا يسر صديقا ولا عدوا ، لا يغادر غرفته أبدا ، حتى الصلاة المفروضة لا يهتم بها ، لا يحدث إلا الجدران والجمادات ، ولا يأكل إلا الدجاج المقلي ، وكأنه يود أن ينتحر بطريقةٍ بطيئة ، يتسلل اليأس إلى قلبه ، ويبرق الأمل في عيناه حيناً ، وهو بين بين ، تماما كقول الشاعر :
                      فلا أنت من أهل الحجون ولا الصفا *** ولا لك حظُّ الشربِ من ماء زمزمِ
                      أم حسام حائرة ولا تدري ما تفعله ، هل ستقف مع نفسها لتتذكر أيام الأنس بصحبة سوسن وحسام والجدة رقية ؟ أم أنها ستحاول القيام بدور الزوجة المكلومة حيال زوجها الغامض والملطخ بدم العار والفضيحة والمتهم بقتل فلذة الكبد وحشاشة الجوف ، ترددت في أمرها كثيرا ، وفي الأخير طلبت من نجم الدين أن يلتقي بها في حضانة المروج الباسمة مساء الغد ، فهي تود البوح له بكل مكنوناتها .
                      الجارة أمل أعدت العشاء لأهل بيت أم حسام ، غلفته في أكياس ألمونيوم ، خرجت في الطريق إلى بيت أم حسام ، فاستوقفها موسى صديق يونس ، يحاول العبث بكرامتها ، فنهرته ، إلا أنه لم يتوقف ، قام بلمسها من جسدها ، فألقت بالطعام واعتركت معه ، فاستمر في الاشتباك معها ، ومن سوء حظها أن يمر أصدقائه من نفس الطريق ويرون الموقف ، فيهبوا مسرعين إلى صديقهم لنجدته ، أوسعوها ضربا ، واركلوها بالأقدام ، وأردوها طريحة على الأرض لا حراك لها .


                      ،،، يتبع ،،،
                      [/align]

                      تعليق


                      • #26
                        [align=center]حياة السجن لم تكن مريرة مثلما تخيلها سعيد ، فصحبة الشيخ أنور تزيح الكدر وتمحو كل أدران الضيق والضياع ، هو رجلٌ فاضل ، محافظٌ على أداء الصلوات والسنن ، لا يترك الفضائل والمحاسن ، ويسمو بالنفس لتصل لدرجة النزاهة والطهر ، يصلي بهم إماما ، وهو محدثهم وفقيههم داخل السجن ، فبعد صلاة الفجر يحضهم على قراءة القرآن ، وبعد صلاة العصر يقرأ لهم في كتب التفسير وقد بدأ بتفسير المنار ، وبعد صلاة العشاء يتدارس معهم الفقه والأحكام الشرعية ، لا يترك فرصة إلا واستغلها في نشر الخير والصلاح ، ولله الحمد فسعيد الآن يجيد ترتيل القرآن وتجويده ، ويعلم الكثير من أمور الدين ، بل أنه بدأ يرتقي بفكره وطموحه ، إلا أن مريم بدأت تشعل الحنين في جوفه من الرغم أنه كان ولا يزال عاشقا لخلود .



                        اليوم يقوم سمير بدورٍ عظيم ، فلقد رافق الصبي البائس إلى مدرسته الابتدائية ، وأصرَّ على مقابلة الأخصائية الاجتماعية ، فأتته ترفلُ في ثوب الغنج والدلال ، قوامٌ فتّان وعودٌ نحيلٌ قصير ، خدودٌ مُكتَنِزة ، شفاهٌ ناعمةٌ رقيقة ، لا تبدو عليها الحشمة والحياء ، ملابسها مخلة بالأخلاق ، وجهها قد صرخ من كثرة الأصباغ والألوان ، العطر الفرنسي يضج من مسيرة يومين ، وسمير لا يقوَ على رفع رأسه من على الأرض ، بادرته بالتحية والسلام ، وقد أحضرت له كوبا من الشاي ، سألته عن سبب مجيئه وإلحاحه على مقابلتها ، فأخبرها أنه لم يأتِ إلا ليطمئن على حال ذلك الصبي المطرق في جلباب الشرود والهم ، البائع للبسمة بكل نزف مشاعره وحنين وجده ، فأخبرته بأنه طفلٌ يتيم الأم ، ماتت يوم ولادته مباشرةً ، ولم يكن له أخٌ من أمه ، وقد تزوج أبوه بفتاةٍ صبية ورحل لبلدٍ بعيد ، وترك طفله هنا يعيش مع جدته المقعدة .



                        بدأت علاقة الصفاء تعود من جديد بين خلود ومريم ، فلقد أحست مريم بصدق مشاعر خلود وأنها حقا نادمه على فعلتها ، وبدأت تكشف لها الكثير من خبايا الزواج الأخير بينها وبين خلود ، وكيف أن المصلحة اقتضت أن يقترنا ببعض ، وكيف يبيع الإنسان ضميره من أجل مادةٍ رخيصة لا تسمن ولا تغني من جوع ، هنا بدأ طيف الخيال يراود مريم ، وأخذت تسترجع ذكريات سمير وهو يحمل الزهور كل صباحٍ في يديه ، وهي تحمل الورود له ، وكيف كان يسهر الليالي في صنع هديةٍ فريدة ، فهو لا يجيد الخياطة ، إلا أنه صنع قماشا صغيرا ، وزخرفه بخيوط صفراء كلون الأصيل ، وكأنه يقول لها أنتِ شمسي التي لا تغيب ، زفرت زفرات الوله والشوق ، ونادت بخلود أن تصاحبها إلى بيت المعلمة سلمى من أجل متابعة موضوع المدرسة الخيرية ومعرفة أبعادها وتفاصيلها .



                        ،،، يتبع ،،،
                        [/align]

                        تعليق


                        • #27
                          [align=center]تأسف سمير كثيرا لحال ذلك الصبي المسكين ، ومضى وقته كله يفكر فيه ، ويستغرب من شدة اهتمامه به ، ولماذا يشعر بعاطفة كبيرة نحوه ، إلا أنه يمني النفس بالوقوف معه والحنو عليه بيد الحنان والعطف ، لا بد من نشر البسمة والأمل في طيات قلب الصبي ، أطرق ببصره وجال بخياله ، وفي الأخير قرر أن يقتطع ثلث راتبه ويصرفه على احتياجات الصبي الصغير من مأكلٍ ومشربٍ ومستلزمات شخصية ومدرسية .
                          في الصباح الباكر ذهب للسوق ، واشترى معطفا جميلا ، وأهداه للطفل بعد عودته من المدرسة ، فرح الصبي محمود بتلك الهدية فرحا عظيما ، وذهب يجري ويرقص طربا ، يصرخ بصوته الطفولي البريء شكرا عمو سمير ، أنا أحبك ، سَعُد سمير بهذه النتيجة واطمئن قلبه وسكنت جوارحه وطابت نفسه ، فالشعور بفرحة طفلٍ بائس شيءٌ لا يوصف ، وها هي العلاقة تنمو بينهما بشكلٍ كبير ، وقد تعرف على جدة الطفل زكية ، وصار كل يومٍ يأتي للسلام عليها والاهتمام بها وإطعامها .
                          تمضي أيام سعيد وهو رهين الحبس لا يزوره أحد ، ولا يسأله عنه حتى أهله ، لكنه تعلم الكثير من السجن ، واكتسب مهنةً جديدة وهي الحلاقة ، ففي السجن أُجبِرَ على امتهان الحلاقة وتعلمها ، وهو الآن بارعٌ فيها ، ويفكر بإيجابية في أن يفتح محلا للحلاقة في بلدته ريث خروجه من السجن ، إلا أن أحد حراس السجن دائما ما يثير غضب سعيد ، فهو يتنبز عليه بكلماتٍ بذيئة ويرمقهُ بنظراتٍ حقيرة ، فلولا أن تداركه الشيخ أنور ليوشكنَّ سعيد على الاعتداء على ذلك الحارس الخبيث ، وعند ضحى اليوم أخبره ضابط المركز بأن أحدا جاء لزيارته ، تحيّر سعيد في أمر الزائر ومن يكون ؟ ومن الذي تذكَّره بعد طول غياب ؟ خرج لصالة الزيارات فوجد مريم تقف في ذبولٍ واصفرار تحمل بيدها مصحفا ، ابتسمت في وجهه وقالت : أعلمُ بأنك مظلوم ، ولكن ثق بأن تلك هي الأقدار تجري بما قدره لها خالقها ، وكن صبورا جلدا ، فقلبي نبأني بأنك طاهرٌ عفيف ، دمعت عينا سعيد ، توقف برهةً مدهوشا ، ولكنه تجمع قواه ، وشكر مريم على كل ما فعلته وتفعله معه ، أعطته المصحف وأخبرته أن ذلك المصحف هو مصحف والدتها وهو أغلى وأثمن ما تملكه ، وأمرته أن يحافظ على الهدية جيدا .
                          خلود والمعلمة سلمى ترسمان مخططا للمدرسة الخيرية المنتظرة ، وقد تكفلت سلمى باختيار مقاولٍ شريف ليمسك مشروع البناء ، وتم تحديد المبلغ وكان باهظا جدا ، فهو يتجاوز المائة ألف دولار ، ومريم لا تملك هذا المبلغ كاملا ، بل لا تملك نصفه ، تم عرض المشروع على أكثر من مقاول ، وللأسف كان المقاول السابق هو الأوحد في السعر المنخفض ، ولا بديل غيره لأمانته وصدقه ، والمفاجأة أن المقاول ذاته سيتبرع بعشرة آلاف دولار ، ومريم تملك أربعين ألفا ، ولكن من أين ستأتي بالنصف الآخر ؟



                          ،،، يتبع ،،،
                          [/align]

                          تعليق


                          • #28
                            [align=center]نسمات الفجر تنعش المزاج ، والشرفات مُشرَعة لطيف النور ، وبدأ الفجر بالانبلاج ، والشمس المشرقة ترسل أشعتها بدفء إلى غرفة عائشة ، فتدغدغ خديها ، وتقوم عائشة على الفور نشيطة على غير العادة ، فاليوم هو الأحد ، واللقاء المرتقب بعشيق القلب مازن ، قامت لتستعد وتجهز نفسها ، تأخرت كثيرا في الاستحمام ، وبكل تأكيد ستتأخر أكثر وهي تقف أمام المرآة تعدل من شعرها ، وترتب مكياجها ، وتصبغ جفنها وتلون شفايفها ، وترتدي أجمل حللها ، ها هي الآن تمشي الهوينا كعروسٍ تزف في يوم زواجها ، وفي المقابل فإن العاشق الولهان قام بتجهيز مكان اللقاء وتهيئته ، فالكاميرا الخفية مجهزة في شقته القريبة من الشاطئ ، والويسكي تم إعداده وتحضيره على طاولة الصالون ، وجهاز الموسيقى الصاخب في حالة استنفارٍ قصوى ، وكل شيء يسير قدما مثلما خطط له مازن "حبيب عائشة " .
                            بدر قام بتأثيث منزله كاملا ، ولا ينقصه الآن شي ، إلا أنه لا يجيد طهي الطعام ، والمضحك أنه أعد شربة الدجاج ، وقد بذل كل مهارته فيها ، فلو ترى سعادته الباهرة بهذا الإنجاز ، لشعرت بأن أهله عادوا للحياة من جديد ، انتظرَ موعد البرنامج الحواري في قناة الجزيرة " الاتجاه المعاكس " ، لم يتناول الشربة بعد ، فهو يفضلها حينما يكون مندمجا في المشاهدة ، وقبل أن يبدأ البرنامج سمع صوت قط بجوار المنزل ، فطلَّ عليه مبتسما ، ليجده يبحث عن غذاء ، وأن الجوع يقتلع أحشائه ، أشفق عليه كثيرا ، وقرر أن يتبرع له بجزءٍ من شربته العظيمة ، فرح القط بكرم بدر وإحسانه ، تناول منه قليلا ، وإذا بالقط المسكين يخور مثلما يخور الثور ، ويترنح في الأرض يمنةً ويسرة وكأنه سكران ، ابتسم بدر ظناً منه أن القط يترنح مسرورا بالشبع والتخمة ، وما هي سوى دقائق معدودة حتى خرَّ صريعا على الأرض ميتاً ، فلقد قتلته شربة بدر العجيبة ، حزن بدر حزنا عميقا ، وقرر أن لا يقوم بالطبخ مرةً أخرى ، رحم الله القط ، فلقد كان الضحية الأولى لتجارب طبخ بدر وهو بكل تأكيد " كبش الفداء " .
                            سميّة تتصل ببدر لتطمئن على حاله ، فأخبرها بالخبر المؤسف ، فلم تتمالك نفسها من الضحك قائلةً ، دع الطبخ لأهله ، فأنت لا تجيد سوى مسك الورقة والقلم ، وأعطي الخبز لخبازه ، غضب منها بدر ، ووعدها بأن يصنع لها فطائر بالدجاج المحشي ، فترجته أن لا يفعل ، فهي لا تريد أن تودع الحياة سريعا ، وتحتاج لحياة بدر ، فهما ينتظرهما مستقبل يجمعهما ، لكن هذا الأمر بدأ يقلقها ، وأصبحت تخشى على بدر من نفسه ، ولا تأمن عليه من طريقته في إعداد الأكل ، أحضرت له كتاب ماما أنيسة ، وطلبت منه أن لا يقوم بطبخ أي شيء إلا بعد مشورتها ، سامية تستمع لسمية وهي تخبرها عن جنون بدر وكيف قتلَّ القط ، وأنها تخشى عليه من تجاربه المخيفة ، وهي لا تقو على إخفاء ضحكاتها ، بينما سمية في غضبٍ شديد وقد طغت عليها العصبية والخوف .
                            بدر متشوق لزيارة الحضانة ، فهو يقف طويلا في شرفته ينظر للأطفال وهم يمرحون في ساحة الحضانة ، تذكر أخته " ربى " ، يوم كانت تحتضن كراسة المدرسة قبل أن تنام ، وهي تحلم بدخول المدرسة ، وقد وعدها بدر بأن يقوم بتسجيلها في أقرب حضانة حينما ينتهي من دراسته الثانوية ، لكنه لم يفِ بوعده ، ليس إخلافا منه ، بل لرحيل غاليته عن عالمنا ، آهٍ يا ربى ، كم يقتلني الحنين نحوك ، وكيف تعبث بي الدنيا بعد رحيلك ، ليتكِ الآن معي فأعتني بكِ ، وأصطحبك للحضانة ، وأقضي وقتي كله معك ، لمن أشتري الألعاب الآن ؟ ومن سيرافقني إلى حديقة الأطفال ؟ كنتِ مصدر فرحي وسروري ، والآن ذكراكِ تطيح بي إلى جحيم الأحزان والشقاء .


                            ،،، يتبع ،،،
                            [/align]

                            تعليق


                            • #29
                              [align=center]لا مجال للصمت أكثر ، وليكن للجرأة توقيتٌ جيد ، والنظر من بعيد لا يأتي بفائدة ، وكان القرار بأن يسابق بدر الزمن ، ويطرق باب الحضانة زائرا ، ولمعالمها الداخلية متعرفا ، الأطفال في كل أرجائها ، والأنس والبهجة على وجوه ساكنيها ، والترتيب والجمال في كل نواحيها ، عالمٌ طفوليٌ جميل ، يرى أخته لبنى في كل وجوه الأطفال وخصوصا البنات ، سأله مدير الحضانة إن كان قد قدم لتسجيل أحد من أقاربه ، فارتبك بدر وارتسمت الحيرة والذهول على تقاسيم وجه ، ولكنه تخلص سريعا بقوله أنه أتى باحثا عن عملٍ مسائي بالحضانة ، وكان الجواب على الفور ، أن العمل هنا تطوعي وبدون أجر ، فرحب بدر بالفكرة وأعلن استعداده الكامل للعمل بالحضانة .
                              مازن يتصل بعائشة ، يعلمها بأنه سيمر عليها بسيارته بعد قليل ، ووعدته بتأخير الوقت قليلا ريثما يذهب والدها للمسجد لأداء صلاة الجماعة ، لتتمكن من الاطمئنان بأن أحدا من أهلها لن يراها وهي تركب سيارة حبيبها ، وتم لها ما أرادت ، والطريق مزدحمٌ بالمارة ، مما جعل مازن يقود بسرعة فائقة لكي لا يتمكن أحد من معرفته ، وصوت مسجل السيارة يبث موسيقى الحب والعاطفة ، عائشة لم تنطق بكلمة واحدة ، فالحياء يلجمها ، ولم تتعود على مازن بعد .
                              تفاجأت عائشة من ترتيب شقة مازن ، وروعة الأضواء الخافتة ، ورائحة العطر الفرنسي " انترنتي " تفوح في كل أركان الشقة ، أخذت جولة تفقديه سريعة لغرف الشقة الصغيرة ، فرحت كثيرا حينما رأت كعكة كبيرة على طاولة المطبخ ، وكانت الشموع الحمراء مزروعة في كل جوانبها ، أصر مازن على عائشة إصرارا قويا بأن تقوم هي بنفسها بتقطيعها وأن تأكل من يده ، فهو خادمها المطيع ، ومن سيهب نفسه لخدمتها طول الحياة .
                              في هذه الأثناء يقوم والد عائشة بزيارة بدر في بيته الجديد ، ويتذاكر الاثنان حياة والد بدر وعلمه الغزير وتواضعه الجم ، فتسيل الدموع من العيون ، وتكثر الدعوات من بدر لوالده الراحل ، إلا أن أم بدر كان لها نصيب الأسد من الشوق والحنان لها ، فهي لا تغيب أبدا من مخيلة بدر ، كانت معبد الحب لكل من يعيش بقربها ، ورغم صلابة بدر وقوة شخصيته ، فلا يزال غير قادر على تحمل مرارة الموقف ومضاضة الرحيل المفاجئ المميت ، قاطع شروده اتصالٌ من سمية تطمئن على صحته وحاله ، وقد لاحظت حزنه من نبرة صوته ، فأتت كلماتها في همسٍ رقيق ، تجلد يا حبيبي ، وكن قويا في عيني ، فأنت أملي وقدوتي ، أم أن وجودي بقربك لا يمنحك الأمان والرضا أبدا ؟؟
                              أنهى بدر المكالمة ، ليتلقى سيلا من الاستفسارات من والد عائشة عن صاحبة الرقم ، فأجاب بدر بكل هدوء ، هذه من اخترتها شريكةً لي في حياتي ، وهي من ستشاطرني ما تبقى من عمري ، فأجاب الشيخ ، ولكني كنتُ أريد لك عائشة ، تنهد بدر وقال : ولكني منحتُ عهدا لهذه الفتاة ولن أخلفه ، تبسم الشيخ ودعا لهما بالبركة ، مشترطا أن يكون هو من يخطبها له ويعقد قرانهما ، فرح بدر فرحا شديدا ، وأصبح زواجه حديث الساعة كلما التقى بوالد عائشة ، ويبدو أن العرس سيكون قريبا .
                              ،،، يتبع ،،،
                              [/align]

                              تعليق


                              • #30
                                [align=center]أمل بين الحياة والموت ، والشرطة تحقق في الحادثة ، ذهب يونس وأمه إلى المستشفى للاطمئنان عليها ، فوجدوها في حالةٍ حرجة ، والدكتور يطلب من الحاضرين التبرع بالدم ، وللأسف الشديد جميع فصائل دم الموجودين لا تتوافق مع فصيلة دم أمل ، ولشدة تعلق أم حسام وحبها لجارتها أمل فقد اتصلت بوالد حسام تطلب منه الحضور والتبرع ، لم يتردد في ذلك فأتى مسرعا ، وفي طريقه للمستشفى وجد الرجل المجنون وأحضره معه لعل يكون منه نفعا ، وصل أبو حسام بنشوة الفرح والسعادة ، فهو يشعر بأن ثقة زوجته بدأ تعود مثلما كانت .

                                تم أخذ عينات من دمه ، وظهرت ملامح الدهشة على وجه الطبيب ، قام بتحليل دمه مرارا وتكرارا إلا أن النتيجة واحدة ، فالإيدز قد تحكم بالجسم ، وأبو حسام أسير الموت لا محالة ، طلب منه المكوث معه في المستشفى ، ولم يطلعه على النتيجة فهو ينتظر الفحص الأخير ، فالتعجل في هذا الأمر له عواقب وخيمة ، وأخبر الطبيب الحاضرين بأن دم والد حسام لا يتوافق البتة مع دم أمل ، فتقدم المجنون بابتسامة إلى الطبيب وهو يمد يده قائلا : " هاك دمي فانفثه في جسم أمل ، ففصيلتنا واحدة " ، يا للهول لقد صمت الكل مبهورين ، وحقا كان كلام المجنون في محله ، وتم نقل الدم منه إلى أمل ، ليتم إسعافها من وضعها الصحي الحرج .
                                لا زالت الشرطة تنتظر تحسن صحة أمل ليتم التحقيق معها ومعرفة تفاصيل الجريمة بكل حيثياتها ، الطبيب يشير إلى الشرطة بالانتظار أكثر ، ريثما تفيق أمل من غيبوبتها ويسري الدم إلى كامل أجزائها ، والد حسام يتقرب إلى زوجته بنظرات مودة وابتسامات رضى ، والزوجة تسند رأسها على كتف زوجها ، وهي سارحة تستعيد ذكريات سوسن وولدها الغالي حسام ، الحنين أخذ بها إلى متاهات بعيدة من التخيل والذكرى الحزينة ومحاولة فك خيوط العنكبوت المتشابكة في قتل حسام وسوسن وقضية بيت الدعارة ، أما يونس فهو يرمق أباه بنظرات الكره والحقد ، يخاطب أباه في ضميره ، ابتعد عن أمي أيها القاتل الجبان ، فقريبا ستلقى مصيرا أسودا ، وستموت على يدي ، سأتلذذ بقتلك ، مثلما تلذذت أنت بحرماننا من سوسن وحسام ، سأقتص لهما منك ، يا لك من وغدٍ حقير .
                                ،،، يتبع ،،،
                                [/align]

                                تعليق

                                يعمل...
                                X