إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

هذه القصة هي من تأليف الدكتورة قمرة ( تمر حنا )

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    تـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــابع
    ربما أثارت رائحة السيجارة تلك الذكريات السوداء !

    و هل يمكن أن أنساها ؟

    و هل يعقل أن تختفي و أنا لم أبتعد عنها غير أيام فقط ...؟؟

    ليتهم ...

    ليتهم قتلوني معك يا نديم ...

    ليتنا تبادلنا الأرواح ...

    فمت ُّ أنا

    و بقيت أنت ... و خرجت لتعود لأهلك و بلدك و أحبابك ...

    أنا ... لا أهل لي و لا بد ...

    و لا أحباب ...






    لمحت الإشارة تضيء اللون الأخضر و أنا أسحق سيجارتي في ( الطفاية)

    ثم انطلق وليد بالسيارة ...




    أنوار كثيرة كانت تسبح في الظلام ...

    مصابيح السيارات القادمة على الطريق المعاكس

    مصابيح المنازل

    مصابيح الشارع ...

    لافتات المحلات الضوئية

    نور على نور على نور ...

    كم هو أمر مزعج ... لم أعد أرغب في رؤية شيء ...

    أتمنى ألا تشرق الشمس يوم الغد ...

    أتمنى ألا يعود الغد ...

    أتمنى ... ألا أذكر رغد ...




    كانت المرة الثانية في حياتي ، التي تمنيت فيها لو أن رغد لم تخلق ...








    عندما دخلنا الشقة، و هي مكونة من غرفة نوم و صالة صغيرة و زاوية مطبخ و حمام واحد ... أسرعت الخطى نحو غرفة النوم و دون أن أنير المصباح دخلت و ألقيت بجسدي المخدر أثر صدمة النبأ على أحد السريرين ...




    ثوان ، و إذا بسيف يقبل و يشعل المصباح



    " كلا .. أرجو أطفئه "



    قلت ذلك و أنا ارفع يدي ثم أضعها فوق عيني المغمضتين لأحجب عنهما النور ...



    سيف بادر بإطفاء المصباح و بقي واقفا برهة ... ثم أغلق الباب و أحسست به يتقدم ... ثم يجلس فوق السرير الآخر و الموازي لسريري ...





    ساد السكون لبعض الوقت ، إلا من ضوضاء تعشش في رأسي بسبب الأفكار التي تتعارك في داخله ...



    " ماذا حدث ؟؟ "



    سألني سيف بصوت هادئ منخفض ...



    لم أجبه ... و مرت دقائق أخرى فاعتقدت أنه حسبني قد دخلت عالم النيام ... لكنه عاد يقول :


    " أخبرني ... ، إنك لست على ما يرام "



    بعد ذلك أحسست بحركته على السرير المجاور و بصوته يقترب أكثر ...


    " وليد ؟؟ "



    الآن فتحت عيني قليلا و لدهشتي رأيه يقف عند رأسي و يحدق بي ...


    الظلام كان يطلي الغرفة بسواد تام ، إلا عن إضاءة بسيطة تتسلل بعناد من تحت الباب

    و يبدو إنها كانت كافيه لتعكس بريق الدموع التي أردت مواراتها في السواد .










    ******************************








    لحظة من لحظات الضعف الشديد و الانهيار التام .. توازي لحظة تراقُص الحزام في الهواء ... ثم سكونه النهائي على الرمال ... إلى حيث لا مجال للعودة أو التراجع ... فقد قضي الأمر ...



    جلست ، ليست قوتي الجسدية هي التي ساعدتني على النهوض ، و لا رغبتي الميتة في الحراك ، بل الدموع التي تخللت تجويف أنفي و ورّمت باطنه و سدت المعبر أمام أنفاسي البليدة البطيئة ... و كان لابد من إزاحتها ...



    تناولت منديلا من العلبة الموضوعة فوق المنضدة الفاصلة بين السريرين و جعلت أعصف ما في جوفي و صدري و كياني ... خارجا



    إلى الخارج ...

    يا دموعي و آلامي

    يا أحزاني و ذكرياتي الماضي

    إلى الخارج يا حبي و مهجة قلبي

    إلى الخارج يا بقايا الأمل

    إلى الخارج يا روحي ...

    و كل ما يختزن جسمي من ذرات الحياة ....

    و إلى الخارج ...

    يا اعترافات لم أكن أتوقع أنني سأبوح بها ذات يوم ... لأي إنسان ...



    " هل واجهت مشكلة مع أهلك ؟؟ ... بالأمس كنت ... كنت َ ... "

    و صمت ...

    فتابعت أنا مباشرة :



    " كنت ُ أملك الأمل الأخير ... و قد ضاع و انتهى كل شيء ...


    إنني لم أعد أرغب في العودة إليهم ! سأرحل معك يا سيف "




    قلت ذلك و كانت فكرة وليد للحظة ، ألا أنها كبرت فجأة في رأسي و احتلت عقلي برمته ، ففتحت عيني و حملقت في الفراغ الذي خلقت منه هذه الفكرة ثم استدرت نحو سيف و قلت :



    " أنا عائد معك إلى مدينتنا ! "



    طبعا سيف تفاجأ و لم يكن الظلام ليسمح لي برؤية ظاهر ردود فعله أو سبر غورها

    سمعته يقول :


    " ماذا ؟ ! "


    قلت مؤكدا :


    " نعم ! سأذهب معك ... فلم يعد لي مكان أو داع هنا "



    سيف صمت ، و لم يعلق بادئ الأمر ، ثم قال :



    " أما حدث ... كان سيئا لهذا الحد ؟؟ "



    و كأن جملته كان شرارة فجرّت برميل الوقود ...



    ثرت بجنون ، قفزت من سريري مندفعا هائجا صارخا :


    " سيئا فقط ؟؟ بل أسوأ ما يمكن أن يحدث على الإطلاق ... إنها خيانة ! إنهما خائنان ... خائنان ... خائنان "



    مشيت بتوتر و عصبية أتخبط في طريقي ... أبحث عن أي شيء أفرغ فيه غضبي بلكمة قوية من يدي لكنني لم أجد غير الجدار ...


    و هل يشعر الجدار ؟؟


    آلام شديدة شعرت أنا بها في قبضة يدي أثر اللكمة المجنونة نحو الجدار ، و استدرت بانفعال نحو سيف الذي ظل جالسا على السرير يراقبني بصمت ...


    " لقد سرقوا رغد مني ! "




    لأن شيئا لم يتحرك في سيف استنتجت أنه لم يفهم ما عنيته ... قلت :



    " أعود بعد ثمان سنوات من العذاب و الألم ... و الذل و الهوان الذي عشته في السجن بسبب قتلي لذلك الحقير الذي أذاها ... ثمان سنوات من الجحيم ... و المرارة ... و الشوق ... فقدت فيها كل شيء سوى أملى بالعودة إليها هي ... أعود فأجدها ... "


    و سكت


    لأنني لم أقوى على النطق بالكلمة التالية ...


    و درت حول نفسي بجنون ، ثم تابعت ، و قد خرجت الكلمة من فمي ممزوجة بالآهة و الصرخة و الحسرة

    تعليق


    • #17
      الحلقة الثالثة عشر



      * * * * * * * *









      ذهبنا أنا و دانة لرفع الأطباق عن المائدة


      كان الضيف مع أبي و سامر ، و وليد في غرفة الضيوف ، فيما تعد والدتي الشاي في المطبخ .



      لأن سامر يجلس عادة إلى يسار والدي ، فلا بد أن الضيف قد جلس إلى يمنه ، و لابد أن الكرسي المجاور له كان كرسي وليد ...



      " من كان يجلس هنا ؟ "



      سألت ، بشيء من البلاهة المفتعلة ، فأجابتني دانة بسخرية و هي ترفع الأطباق :



      " ما أدراني ؟ أتصدقين ... لم أكن معهم !
      أقصد كنت أجلس على الكرسي المقابل لكنني لم أنتبه لمن كان يجلس أمامي ! "



      قلت :



      " و ما دمت قد كنت جالسة معهم ، فلماذا لا أرى أطباقا أمام مقعدك ؟؟ "




      رفعت دانة نظرها عن السكاكين و الملاعق و الأشواك التي كانت تجمعها ، و هتفت بغضب و حدة :



      " رغد ! "


      و هي تحرك يدها مهددة برميي بالسكاكين !


      قلت بسرعة :


      " حسنا حسنا لن أسأل المزيد "



      و صمتنا للحظة


      ثم عدت أقول :


      " الشخص الذي كان يجلس هنا ... لم يأكل شيئا ! ربما لم يعجب الضيف طعامنا ! "


      كنت أريد منها فقط أن تقول شيئا يرجح استنتاجي بأن وليد كان هو من يجلس على هذا المقعد ...



      جلست على ذلك المقعد ، و أخذت إحدى الفطائر من الطبق الموضوع أمامي و بدأت بقضمها



      التفتت إلى دانة ناظرة باستهجان :


      " ماذا تفعلين ؟؟ !"



      مضغت ما في فمي ببطء شديد ثم ابتلعته ، ثم قلت :



      " أرى ما إذا كانت الفطائر في هذا الطبق غير مستساغة ! لكنها لذيذة ! لم لم تعجبه ؟؟ "




      طبعا كنت أتعمد إثارة غيظها ! فأنا أريدها أن تأمرني بالمغادرة فورا لأنجو من غسل عشرات الأطباق ... فقد تعبت !




      دانة كانت على وشك الصراخ بوجهي ، ألا أن والدتنا أقبلت داخلة الغرفة لتساعدنا في رفع الأطباق و تنظيفها ، فأسرعت بالنهوض و عملت بهمة و نشاط خجلا منها !




      بعد أن انتهيت من درس الغسيل هذا ذهبت إلى غرفتي و أنا متعبة و أتذمر

      كنت قلقة بشأن بشرة يدي التي لا تتحمل الصابون و المنظفات

      أخذت أتلمسها و شعرت بجفافها ، فأسرعت إلى المرطبات و المراهم ، و دفنت جلدي تحت طبقة بعد طبقة بعد طبقة منها !



      قلت في نفسي :


      " رباه ! إنني لا أصلح لشيء كهذا ! كيف سأصبح ربة منزل ذات يوم ؟ لا أريد أن أفقد نضارتي ! "



      و تذكرت حينها موضوع زواجنا الذي كدت أنساه !


      لا أعلم ما إذا كان سامر قد تحدث مع والدي بشأن الزواج أم لا ... فقد شغلنا جميعا حضور وليد عن التفكير بأي شيء آخر ...



      اضطجعت على سريري بعد فترة ، و أنا متوقعة أن أنام بسرعة من شدة الإرهاق ...


      ألا أن أفكارا كثيرة اتخذت من رأسي ملعبا ليلتها و حرمتني من النوم ... !




      حتى هذه اللحظة لا زلت أشعر بشيء يحرق داخل عيني ...

      إنها نظرة وليد المرعبة الحادة التي أحرقتني ...

      تقلبت على سريري كما تُقلّب السمكة أثناء شويها !

      كنت أشعر بالحرارة في جسدي و فراشي ...

      فنظرت من حولي أتأكد من عدم انبعاث الدخان !




      *******************








      لماذا حدّق بي وليد بهذا الشكل ؟؟


      تحسست يدي اليمنى باليسرى ، و كأنني لا أزال أشعر بالألم فيها بل و توهمت توهجها و احمرارها ... و حرارتها ...




      إنه طويل جدا ! لا يزال علي ّ رفع رأسي كثيرا لأبلغ عينيه ...


      و رفعت رأسي نحو السقف ، أعتقد أنني رأيت عينيه هناك ! معلقتين فوق رأسي تماما ...



      بسرعة سحبت البطانية و غطيت رأسي كاملا ... و بقيت هكذا حتى نفذت آخر جزيئات الأوكسجين من تحت البطانية فأزحتها جانبا ، و انتقل الهواء البارد المنعش إلى صدري مختالا ، ألا أن حرارتي أحرقته ، فخرج حارا مخذولا !




      عدت أنظر إلى السقف ، و أتخيل عيني وليد ... و أنفه المعقوف !


      و أتخيله يضع نظارة سامر السوداء التي تلازمه كلما خرج من المنزل ، كم ستبدو مناسبة له !





      لا أعرف كم من الوقت مضى و أنا أتفرج على الأفكار السخيفة و هي تلعب بحماس داخل رأسي !




      كنت أريد أن أنام و لكن ...




      نظرت إلى ساعة الجدار و رأيت عقربيها الوامضين يشيران إلى الساعة الواحدة ليلا ...



      ليس من عادتي أو عادة أفراد عائلتي السهر ... لابد أن الجميع يغط الآن في نوم عميق فيما أنا مشغولة بعيني وليد !




      لدى رؤيتي للساعة تذكرت شيئا فجأة ، فجلست بسرعة :



      " الساعة ! "



      و بسرعة خاطفة ، نهضت عن سريري و خرجت من الغرفة و ركضت نحو غرفة الضيوف ...




      لقد وجدت الباب مغلقا ، فوقفت حائرة ...


      ترى هل يوجد أحد بالداخل ؟؟


      و خصوصا من النوع الذي تتعلق عيناه في الأسقف ؟؟



      قربت رأسي و تحديدا أذني من الباب ، قاصدة الإصغاء إلى أي صوت قد يدل على وجود شخص ما ، مع أنني واثقة من أن أذني ليستا خارقتين ما يكفي لسماع صوت تنفس بشر ما يفصلني عنه باب و عدة خطوات !



      لكني على الأقل ، لم أسمع صوت المكيف !



      لمست مقبض الباب الحديدي ، و لأنه لم يكن باردا اعتمدت على هذا كدليل قاطع يثبت أن المكيف غير مشغل ، و بالتالي فإن أحدا ليس بالداخل !




      أعرف !

      أنا أكثر ذكاءا من ذلك ، لكن هذه اللحظة سأعتمد على غبائي !

      فتحت الباب ببطء و حذر ... و تأكدت حينها أنه لم يكن هناك أحد...



      أشعلت المصباح و توجهت فورا إلى المكان الذي وقعت فيه الساعة بعد ارتطامها بالحائط ... خلف المعقد الكبير ...



      كانت هناك مسافة لا تتجاوز البوصتين تفصل المقعد الكبير عن الجدار ...


      حاولت النظر من خلال هذا المجال الضيق ألا أنني لم أستطع رؤية شيء


      صحيح أن حجمي صغير ألا أن يدي أكبر من أن تنحشر في هذه المساحة الضيقة محاولة استخراج الساعة !




      " تبا ! ماذا أفعل الآن ؟؟ "




      شمّرت عن ذراعي ، و تأهبت ... ثم أمسكت بالمقعد الكبير و حاولت تحريكه للأمام محاولة مستميتة

      لكن مفاصلي كادت تنخلع دون أن يتزحزح هذا الجبل عن مكانه قدر أنملة !






      " أرجوك أيتها الساعة أخرجي من هناك ! "




      ليتها كانت تسمعني ! لماذا لم يصنع الإنسان ساعة تمشي على أرجل حتى يومنا هذا ؟؟



      شعرت بإعياء في عضلاتي فارتميت على ذلك المقعد ...





      رباه !

      ستضطر غاليتي للمبيت بعيدة عني ... مجروحة و حزينة و لا تجد من يواسيها !

      وضعت وسادة المقعد على صدري و أرخيت عضلاتي ...





      لم أشعر بنفسي ...

      و لا حتى بالحر الذي يكوي داخلي قبل خارجي

      و استسلمت للنوم !


      و لا للحظة واحدة بعد النبأ القاتل ، استطعت أن أرتاح ...


      متمدد على سريري منذ ساعات ... و أفكر في نهايتي البائسة ...



      طلع النهار منذ مدة و امتلأت الغرفة ضوءا مزعجا ، أصبحت أكرهه ... بل و أكره الشمس التي أجبرت عيني على استقبال النور ...




      نهضت عن السرير و أنا أحس بالآلام في جميع مفاصل بدني ... و ما أن جلست ، حتى وقعت أنظاري التائهة على أشلاء الصورة المبعثرة فوق أرضية الغرفة ..




      أتيتها ، و التقطتها قطعة قطعة و كومتها فوق بعضها البعض و ضممتها إلى صدري ...




      وضعتها في جيبي ، و هممت برمي أجزاء الورقة الممزقة ، لكنني لم أقوى على ذلك ...



      كيف لي أن أمحي من الوجود شيئا جاءني منك ؟؟


      آخر شيء جاءني منك ...


      و آخر شيء سأستلمه على الإطلاق ...




      كان الصباح الباكر ... حملت علبة سجائري و خرجت من الشقة و إلى الشارع ، و أخذت أتمشى ...



      لم يكن هناك سوى بعض السيارات تمر بين الفينة و الأخرى ، و بعض عمال النظافة متناثرين في المنطقة بزيهم المزعج اللون ...




      لم يكن في المنظر ما يبهج النفس أو يريح الأعصاب ...



      بدأت أدخن السيجارة تلو الأخرى ، فهذا هو الشيء الوحيد الذي يشعرني بالراحة المزيفة ...




      تفكيري لم يكن صافيا ، ألا أنني عزمت على الرحيل عائدا إلى بيتي ...





      بعد قرابة الساعتين ، عدت للشقة فوجدت سيف و قد خرج توه من دورة المياه بعد حمام منعش ، تفوح منه رائحة الصابون ...



      ألقى علي تحية الصباح بمجرد أن رآني ، فرددت و أنا أشعر بالخجل من رائحة السجائر المنبعثة مني إزاء رائحة النظافة و الصابون الصادرة منه !




      " هل نمت جديا ؟؟ لا تبدو نشيطا ! "



      قال سيف ذلك ، و هو يدقق النظر في الهالتين السوداوين التين تحيطان بعيني الكئيبتين الحمراوين ...


      لم يكن علي أن أجيب ، فقد جاءه الجواب بليغا من مظهري ...





      قال سيف :


      " أنني أفكر في الطعام ! أ لديكم في البيت ما يؤكل أم أفتش عن مطعم !؟ "

      يتبع

      تعليق


      • #18
        كان يقول ذلك بمرح و دعابة ، لكني كنت في حالة سيئة للغاية ... أسوأ من ان تسمح لي بأي تفكير لائق او ذوق سليم ، قلت :


        " دعنا ننطلق الآن "



        سيف تسمر في موضعه و حدق بي بدهشة ! لكن إشارات الإصرار الصارخة في عيني طردت من رأسه أي شكوك حول جديتي في الأمر من عدمها ...


        " الآن ؟؟ "


        " نعم ... لم علينا الانتظار للغد ؟؟ تبدو في قمة النشاط و لا ضرورة من السفر الآن "




        سيف صمت قليلا ثم قال :


        " عائلتك ... أتظن أنهم .... ... "



        رفعت زاوية فمي اليمنى باستهتار و سخرية ثم تنهدت تنهيدة قصيرة و قلت :


        " لم يعد لي مكان بينهم ... فكما نسوني طوال السنوات الثمان الماضية ، و عاشوا حياتهم دون تأثر ، عليهم اعتباري قد مت من اليوم فصاعدا ...
        بل من البارحة فصاعدا "





        لقد كنت محبطا و لا أرى إلا سوادا في سواد ...




        بقيت واقفا عند الباب أنتظر أن يجمع سيف أشياءه و لم أبادر بمساعدته ، سيف لم يحاول مناقشتي في الأمر و إن كنت أرى الاعتراض مختبئا خلف جفونه


        كان الوقت لا يزال باكرا ، ركبنا السيارة و انطلقنا ...


        " سأمر لوداعهم "



        نعم وداعهم

        بعد كل الذي تكبلت من أجل العودة إليهم

        بعد كل تلك السعادة التي عشتها يوم الأمس

        بعد كل الحرمان و الضياع ...

        أودعهم !

        كيف لي أن أقيم معهم و قد انتهى كل معنى لوجودي ؟؟





        لم يكن في الشارع غير القليل من السيارات و الناس ... و كان المشوار قصيرا




        و حين وصلنا ، أركن سيف السيارة جانبا و نزلنا سوية .



        كان والدتي هي من استقبلنا عند المدخل

        و بمجرد أن دخلت ، أقبلت نحوي تعانقني و ترحب بي بحرارة ، و كأنها لم ترني يوم الأمس ...

        قلت :


        " سيف معي ... "



        و كان سيف لا يزال واقفا خلف الباب ينتظر الإذن بالدخول




        " دعه يتفضل ، خذه إلى غرفة المعيشة حيث والدك ، فغرفة الضيوف حارة الآن "


        ثم انصرفت نحو المطبخ ، فيما فتحت الباب لسيف :




        " تفضل "




        و ذهبنا إلى غرفة المعيشة حيث كان والدي جالسا يقرأ إحدى الصحف ...




        في الماضي ، كنت كثيرا ما أقرأ أخبار الصحف له !




        " صباح الخير يا أبي "




        والدي قام إلينا مرحبا بحرارة هو الآخر ... و اتخذ كلاهما مجلسه ، فيما استأذنت أنا و خرجت من الغرفة قاصدا المطبخ ، و تاركا الباب مفتوحا ، تشيعني نظرات سيف من الداخل !




        هناك كانت والدتي واقفة عند الموقد و قد وضعت إبريقا كبيرا مليئا بالماء ليغلي فوق النار ...



        ابتسمت لدى رؤيتي و قالت :



        " لم أعلم أنك غادرت البارحة إلا بعد حين ... اذهبا أنت و سامر اليوم لشراء طقم غرفة نوم جديد ، سنعد لك غرفة الضيوف لتتخذها غرفة لك "




        طبعا لم أملك من الشجاعة لحظتها ما يكفي لقول ما أخبئه في صدري ...


        قلت ـ محاولا تغيير سير الحديث :



        " هل تناولتم فطوركم ؟ "

        " ليس بعد ، فسامر و الفتاتان لا زالوا نياما !"

        و استطردت :

        " سأعد لكم فطورا شهيا ... ، شغّل المكيف في غرفة الضيوف الآن ثم خذ الضيف إليها "


        " حسنا "


        و هممت بالانصراف ، فقالت أمي :

        " قل لي ... أي طعام تود تناوله على الفطور يا عزيزي ؟؟ "



        إنني لا أفكر بالطعام و لولا سيف لكنت اختصرت المسافة و ودعتكم و انتهينا ...

        قلت بلا مبالاة :


        " أي شيء ... "



        ثم خرجت من المطبخ متجها إلى غرفة الضيوف لتشغيل المكيف .



        كان الباب مفتوحا ، دخلت و ذهبت رأسا إلى المكيف فشغّلته و استدرت لأعود خارجا


        فاصطدمت عيناي بشيء جعل قلبي يتدحرج تحت قدمي !


        ربما كان صوت المكيّف هو الذي جعل هذا الكائن الحي يفيق فجأة ، و يفتح عينيه ، و يهب جالسا في فزع !




        *********************











        تــــــــــــــــــــــــــابع

        أخذت تنظر إلي بتوتر و اضطراب و تتلفت يمنة و يسرة ، بينما أنا متخشب في مكاني ... لا اعرف ماذا افعل !


        ببساطة لا أعرف ماذا أفعل !



        ثم ماذا ؟



        رفعت الوسادة المربعة الشكل التي كانت موضوعة فوق حضنها و غطت بها وجهها و هبّت واقفة مستترة خلف الوسادة ، و ركضت نحو الباب !




        " رغد انتظري ! "




        توقفت ، و هي لا تزال تخبئ رأسها خلف الوسادة و أنا لا أزال واقفا مكاني لا أعرف ما أفعل من المفاجأة !




        ربما أخطأت و شغلت المكيف على وضع التدفئة ! الجو حار ... حار ... حار !




        و قطرات العرق بدأت تتجمع على جبيني و شعري أيضا ... !




        اعتقد أنه موقف لا يترك للمرء فرصة للتفكير ، ألا أنني تذكرت سيف ، و هو يجلس في موقع يسمح له برؤية العابر في الممر ... و الباب مفتوح !



        " أأ ... صديقي هنا ... سأغلق الباب ... لحظة ... "






        كانت تقف قرب الباب و حين أتممت جملتي تراجعت للوراء حتى التصقت بالجدار فسرت أنا نحو الباب و خرجت و عمدت إلى باب غرفة المعيشة فأغلقته دون أن أرفع بصري نحو سيف الذي و لا شك كان يراني ...




        عدت بعدها للفتاة الملتصقة بالحائط و الوسادة ... وقلت باضطراب :



        " أنا ... آسف ... لم أعلم ... أقصد لم أنتبه ... أأ... "



        و لم أجد كلمة مناسبة !


        مسحت العرق عن وجهي و قلت أخيرا :



        " يمكنك الذهاب "



        و أوليتها ظهري ، و سمعت خطاها تبتعد مسرعة...




        تهالكت على نفس المقعد الكبير الذي كانت رغد نائمة فوقه و شعرت بالحرارة تزداد ...


        لقد كان دافئا بل و حارا أيضا !


        ما الذي يدفعك للنوم في هذا المكان و بدون تكييف !؟


        و تتدثرين بالوسادة أيضا !


        يا لك من فتاة !


        لا أعرف كيف تسللت ابتسامة إلى قلبي ...


        لا ! ليست ابتسامة بل شيء أكبر من ذلك


        إنها ضحكة !


        لم يكن ظرفا مناسبا للضحك و حالتي كما تعرفون هي أبعد ما تكون عن السعادة ، لكنه موقف أجبر ضحكتي على الانطلاق ...




        لم يظل الأمر ... وقفت ، و أخذت أحدق بالمقعد الذي كانت رغد تنام عليه ... ثم أتحسسه بيدي



        عندما كانت رغد صغيرة ، كنت أجعلها تنام فوق سريري و أظل أراقبها بعطف ...


        و أداعب شعرها الأملس ...


        كانت تحب أن تحتضن شيئا ما عند النوم ... كدمية قماشية أو بالونة أو حتى وسادة !



        و كم كانت تبدو بريئة و ملائكية !





        لم يكن لضحكتي تلك أي داع لأن تولد وسط مجتمع الدموع الحزينة ، سرعان ما لقت حتفها بغزو دمعة واحدة تسللت من بين حدقتي قهرا ... و حسرة ... على ما قد فقدت ...




        لم أدرك أنني نمت حيث كنت ، على ذلك المقعد الكبير الثقيل ، ( الكنبة ) إلا بعد أن استفقت فجأة فرأيت عيني وليد تحدقان بي !





        فزعت ، و نظرت من حولي و اكتشفت أنني كنت هنا !



        كان جسمي حارا و العرق يتصبب منه ، و جلست مذعورة أتلفت باحثة عن شيء أختفي خلفه ... و لم أجد غير وسادة المقعد التي كنت ألتحفها




        غطيت بها وجهي و قمت مسرعة أريد الهروب !





        لا أصدق أنني وصلت غرفتي أخيرا بسلام ! يا إلهي ما الذي يحدث معي !؟

        كيف نمت بهذا الشكل ؟؟ و كيف لم يوقظني الحر ؟؟

        و ما الذي كان يفعله وليد هناك ؟؟؟





        كنت لا أزال أحتضن الوسادة و أسند ظهري إلى الباب الموصد ، و ألتقط أنفاسي بقوة !




        كانت غرفتي باردة و لكن ليس هذا هو سبب ارتعاش أطرافي !

        كم أنا محرجة من وليد !

        أمس يراني بقطعة عجين تغطي أنفي و اليوم بهذا الشكل !

        ماذا سيظنني ؟؟


        كما تقول دانة .. علي ّ ألا أغادر غرفتي بعد الآن !



        كنت أشعر بعينيه تراقباني ! أحس بهما معي في غرفتي الآن !



        ببلاهة نظرت إلى السقف ، في الموضع الذي توهمت رؤيتهما فيه البارحة و تورد خداي خجلا !




        لماذا أشعر بالحرارة كلما عبر وليد على مخيلتي ؟؟؟


        و لماذا تتسارع دقات قلبي بهذا الشكل ؟؟










        بعد أن تجمعت الأشياء التي تبعثرت من ذاتي أثر الفزع نعمت بحمام منعش و بارد و ارتديت ملابسي و حجابي و ذهبت بحذر إلى المطبخ ...



        كانت أمي تنظف السمك عند المغسل ، قلت باستياء :


        " صباح الخير أمي ! لا تقولي أن غذاءنا اليوم هو السمك ! "


        ابتسمت والدتي و قالت :


        " صباح الخير ! إنه السمك ! "




        أطلقت تنهيدة اعتراض ، فأنا لست من عشّاق السمك كما و أنني لا أريد حصة طبخ جديدة هذا اليوم !




        " ألم تنهض دانة بعد ؟؟ "


        سألتني ، قلت :


        " ليس بعد ... "


        ثم غيرت نبرة صوتي و قلت :


        " أ لدينا ضيوف اليوم ؟؟ "



        " إنه صديق وليد ... سيف ... ، لسوف نستضيفه و نكرمه حتى يسافر غدا ، فهو الذي ساعد ابني على ... "



        و توقفت أمي عن الكلام ...


        " على ماذا ؟ "


        قالت بشيء من الاضطراب :



        " على ... على الحضور إلى هنا ... فلم يكن يعرف أين نحن ! "





        أنا تركت رسالة أخبر فيها وليد بأننا رحلنا على هذه المدينة ! لا أدري إن كان قد وجدها ! بالطبع لا ... كيف كان سيدخل إلى منزل موصد الأبواب !؟




        كم أنا متلهفة لمعرفة تفاصيل غيابه ... دراسته ... عمله ... كل شيء !






        سكبت لي بعض الشاي ، و توجهت نحو الطاولة الصغيرة الموجودة على أحد جوانب المطبخ قاصدة الجلوس و احتسائه على مهل




        فيما أنا في طريقي نحو الطاولة ، و إذا بوليد و سامر مقبلين ... يدخلان المطبخ !



        ما أن وقع بصري على وليد حتى اضطربت خطاي و اهتزت يدي ، و اندلق بعض الشاي الحار على أصابعي فانتفضت أصابعي فجأة تاركة قدح الشاي ينزلق من بينها و يهوي ... و يرتطم بالأرضية الملساء ساكبا محتواه على قدمي و ما حولها !




        " آي "



        شعرت بلسعة الشاي الحار و ابتعدت للوراء و أنا أهف على يدي لتبريدها ...


        سامر أقبل مسرعا يقول :



        " أوه عزيزتي ... هل تأذيت ؟ ! "



        قلت :



        " أنا بخير "


        و أنا أتألم ...



        سامر أسرع نحو الثلاجة و أخرج قطعة جليد ، و أتى بها إلي ، أمسك بيدي و أخذ يمررها على أصابعي ...


        لملامسة الجليد لأصابعي شعرت بالراحة ...


        قلت :


        " شكرا "


        و ابتسم سامر برضا .



        تركته مشغولا بتبريد أصابعي و سمحت لأنظاري بالتسلل من فوق كتفه ، إلى ما ورائه ...



        كان يقف عند الباب ، سادا بطوله و عرضه معظم الفتحة ، يحدق بنا أنا و سامر بنظرات مخيفة !




        لا أعرف لماذا دائما تشعرني نظراته بالخوف ... و الحرارة !



        الجليد أخذ ينصهر بسرعة ....



        رفعت أنظاري عنه و بعثرتها على أشياء أخرى ، اقل إشعاعا و حرارة ... كالثلاجة كإبريق الشاي ، أو حتى ... لهيب نار الموقد !



        لكني كنت أشعر بها تحرقني عن بعد !



        أ أنتم واثقون من أنكم لا تشمون شيئا ؟؟






        وليد الآن تحرك ، متقدما للداخل ... و مبتعدا عنا ، و متوجها نحو أمي ...



        قال :


        " ماذا تصنعين أماه ؟ "


        " سأحضر لكم السمك المشوي هذا اليوم ... ألم يكن صديقك يحبه في الماضي حسب ما أذكر ؟؟ "


        سكت وليد برهة ثم قال :


        " لا داعي ... يا أمي .. "


        و سكت برهة أخرى ثم واصل :


        " سوف يسافر سيف الآن ... "





        جميعنا ، أنا و سامر و أمي ، نظرنا إلى وليد باهتمام ...


        قالت أمي :


        " يسافر ؟ ألم تقل أنه سيبقى حتى الغد ؟ "

        " بلى ... لكن خطته تغيرت و سيخرج ... فورا "



        قال ( فورا ) هذه بحدة و هو ينظر باتجاهنا أنا و سامر


        أمي قالت :


        " اقنعه يا وليد بالبقاء حتى وقت الغذاء على الأقل ... اقنعه بني ! "





        وليد كان لا يزال ينظر باتجاهنا ، و رأيت يده تنقبض بشدة و وجهه يتوهج احمرارا و على جبينه العريض تتلألأ قطيرات العرق ...



        لم يكن الجو حارا و لكن ...



        هذا الرجل ... ناري ... ملتهب ... حار ... يقدح شررا !




        نظر إلى أمي نطرة مطولة ثم قال :


        " أنا ... ذاهب معه "




        سامر ، ترك قطعة الجليد فوق أصابعي و استدار بكامل جسده نحو وليد ، كما فعلت أمي ...




        قال سامر :


        " عفوا ؟؟ ماذا ؟؟ "



        وليد لم ينظر إلى سامر بل ظل يراقب تعابير وجه أمي ، المندهشة الواجمة ، و قال :


        " نعم أمي ... سأسافر معه ... حالا "


        لم تجد الدموع و النداءات و التوسلات التي أطلقها أفراد عائلتي في صرف نظري عن السفر ...


        بل إنني و في هذه اللحظة بالذات ، أريد أن أختفي ليس فقط من البيت ، بل من الدنيا بأسرها



        لقد كانت حالة أمي سيئة جدا ... و لكن صورة الخائنين و أيديهما المتلامسة ... و قطعة الجليد المنزلقة بدلال بين أصابعهما أعمت عيني عن رؤية أي شيء آخر ...




        و أقيم مهرجان مناحة كبير ساعة وداعي ...



        كان يجب أن أذهب ، و لم يكن لدي أية نوايا بالعودة ... فقد انتهى كل شيء ...


        تحججت بكل شيء ...


        أوراقي ... شهادتي ... أشيائي ... و كل ما خطر لي على بال ، من أجل إقناعهم بتسليمي مفاتيح المنزل ...






        سيف ينتظرني في السيارة ، و هم متشبثون بي يعيقون خروجي ، محيطون بي من الجهات الأربع ... أمي و أبي ، و أختي و آخي الخائن ...




        أما الخائنة رغد ... فكانت تراقب عن بعد ... إذ أنني لم أعد شيئا يجوز لها الاقتراب منه ...




        للحظة اختفت رغد ، و صارت عيناي تدوران و تجولان فيما حولي ...


        أين أنت ...؟؟


        أين ذهبت ؟؟






        أعليها أن تحرمني حتى من آخر لحظة لي معها ؟؟



        آخر لحظة ؟؟






        كنت ممسكا بالباب في وضع الخروج ... أردت أن أسير خطوة نحو الخارج ألا أن قبضة موجعة في صدري منعتني من الخروج قبل أن ... أراها للمرة الأخيرة ...



        فقط ... للمرة الأخيرة ...



        " أين رغد ؟؟ "



        قلت ذلك ، و عدت نحو الداخل أفتش عنها




        وجدتها في غرفة الضيوف و كانت للعجب ... تحاول تحريك المقعد الكبير عن مكانه !



        " رغد ... ! "



        التفتت إلي ، فرأيت الدموع تغرق عينيها فيما هي تحاول جاهدة زحزحة المقعد


        دموع رغد تقطع شرايين قلبي ...


        أشعر بالدماء تغرق صدري و رئتي ... و تسد مجرى هوائي ....


        إنني أختنق يا رغد !

        تعليق


        • #19
          سيف بدأ يتحدّث بانفعال قائلا :


          " تعرف أن فرص العمل في البلد ضئيلة بسبب الحرب ، لكنني سأتدبر الأمر بحيث أتيح الفرصة أمامك للعمل معي ... "


          قلت بسرعة :


          " معك ؟ أم عندك ؟؟ "



          استاء سيف من كلمتي هذه و همّ بالانصراف .


          استوقفته و قدمت إليه اعتذاري ...

          لقد كان اليأس يقتلني ... و لا شيء يثير اهتمامي في هذه الدنيا ...

          قال سيف :


          " المزيد من الصبر ... و سترى الخير إن شاء الله "



          ثم تقدّم نحوي و قال :


          " و الآن ... تعال معي ... فالأشخاص الذين سيتناولون العشاء معنا سيهمك التعرف إليهم "



          لكنني رفضت ، لم أشأ أن أظهر أمام رجال الأعمال و أحرج صديقي ، لكوني شخص تافه خرج من السجن قبل أسابيع ...




          " كما تشاء ... لكنك ستحضر غدا ! عشاء خاص بنا نحن فقط ! "


          أومأت إيجابا ، إكراما لهذا الصديق الوفي ...

          قال سيف :


          " يا لك من رجل ! لقد أنسيتني ما جئت لأجله ! "

          " ما هو ؟؟ "

          " تلقيت اتصالا من والدك اليوم ، يريد منك أن تهاتفه للضرورة "




          شعرت بقلق ، فلأجل ماذا يريدني والدي ؟؟



          " أتعرف ما الأمر ؟؟ "

          " لا فكرة لدي ، لكن عليك الاتصال بهم فورا "



          و أشار إلى الهاتف المعلق على الجدار ...

          قلت :



          " الخط مقطوع ! "

          " حقا ؟؟ "

          " كما كانت الكهرباء و المياه أيضا ! تصور أنني عشت الأيام الأولى بلا نور و لا ماء ! "


          ضحك سيف ثم قال :


          " معك أنت يمكنني تصور كل شيء ! هل تريد هاتفي المحمول ؟ "

          " لا لا ، سأتصل بهم من هاتف عام "



          سار سيف نحو الباب مغادرا ، التفت قبل الانصراف و قال :


          " موعدنا غدا مساءا ! "

          " كما تريد "





          و عدت إلى طبقي الفاصوليا التي بردت نوعا ما ، و أفرغتهما في معدتي ...


          لم يكن في المنزل أي طعام ، و كنت اشتري المعلبات و التهم منها القدر الذي يبقيني حيا ...






          تعمدت عدم الاتصال بأهلي طوال الأسابيع الماضية ، و عشت مع أطيافهم داخل المنزل

          حاولت البحث عن عمل و لكن الأمر كان أصعب من أن يتم في غضون بضع أسابيع أو أشهر ...





          في ذلك المساء ذهبت إلى أحد المحلات التجارية لشراء بعض الحاجيات ، قبل أن أجري المكالمة الهاتفية .



          حين حان دوري للمحاسبة ، أخذ المحاسب يدقق النظر إلي بشكل غريب !

          نظرت إليه باستغراب ، فقال :



          " ألست وليد شاكر ؟؟ "


          فوجئت ، فلم يبد لي وجه المحاسب مألوفا ... قلت :


          " بلى ... هل تعرفني ؟؟ "


          قال :


          " و هل أنساك ! متى خرجت من السجن ؟؟ "



          عندما نطق بهذه الجملة أثار اهتمام مجموعة من الزبائن فأخذوا ينظرون باتجاهي ...


          شعرت بالحرج ، و تجاهلت السؤال ... فعاد المحاسب يقول :


          " ألم تعرفني ؟ لقد كنت ُ زميلا للفتى الذي قتلته ! عمّار "



          أخذ الجميع ينظر باتجاهي ، و شعرت بالعرق يسيل على صدري ...


          جاء صوت من مكان ما يقول :


          " أ تقول أن المجرم قد خرج من السجن ؟؟ "



          تلفت من حولي فرأيت الناس جميعا ينظرون إلي بعيون حمراء ، يقدح الشرر من بعضها ، و ينطلق الازدراء من بعضها الآخر ...


          شعرت بجسمي يصغر ... يصغر ... يصغر ... ثم يختفي ...



          خرجت من المكان بسرعة ... دون أن آخذ حاجياتي ، و ركبت سيارتي و انطلقت مسرعا تشيعني أنظار الجميع ...



          لقد أصبحت ذا سمعة سيئة تشير إلي أصابع الناس بلقب مجرم ...



          توقفت عند أحد الهواتف العامة ، و اتصلت بمنزل عائلتي في المدينة الأخرى ...




          كانت الساعة حينئذ الحادية عشر ... و رن الهاتف عدة مرات و لم يجب أحد ...



          و أنا واقف في مكاني أراقب بعض المارة ، تخيلتهم ينظرون إلي و يتحدثون سرا ...


          ربما كانوا يقولون : إنه وليد المجرم !


          و مرت مني سيارة شرطة تسير ببطء ...


          شعرت برعشة شديدة تسري في جسدي لدى رؤيتها ، كانت النافذة مفتوحة و أطل منها الشرطي و أخذ ينظر باتجاهي


          كدت أموت فزعا ... و تخيلته مقبلا نحوي ليقبض علي و يزج بي في السجن من جديد ...


          شعور مرعب مفزع ...


          ظلت يدي تضغط على أزرار عشوائية ، تتصل ربما بالمريخ أو المشتري ، دون أن أملك القدرة على التحكم بها ... حتى ابتعدت السيارة شيئا فشيئا و استعدت بعض الأمان ...


          أعدت الاتصال بمنزل عائلتي و بعد ثلاث رنات أو أربع ، أجاب الطرف الآخر ...


          " نعم ؟ "



          لم أميز الصوت في البداية ، لكنه عندما كرر الكلمة أدركت أنها كانت رغد ...


          " نعم ؟ من المتحدث ؟؟ "



          كان فكي الأسفل لا يزال يرتجف أثر رؤية سيارة الشرطة ... و ربما سمعت رغد صوت اصطكاك أسناني بعضها ببعض ...


          قربت السماعة من فمي أكثر ، و بيدي الأخرى أمسكت بفكي و طرف السماعة كمن يخشى تسرب صوته للخارج ...

          ربما سمع رجال الشرطة صوتي و عادوا إلي !


          قلت :


          " أنا وليد "


          لم أسمع أي صوت فظننت أن الطرف الآخر قد أقفل السماعة ، قلت :



          " رغد ألا زلت معي ؟؟ "

          " نعم "


          ارتحت كثيرا لسماع صوتها


          أو ربما ... تعذبت كثيرا ...



          *************************************

















          " وليد كيف حالك ؟ "

          " أنا بخير ، ماذا عنكم ؟ "

          " بخير . كنت أنتظرك ، أقصد كنا ننتظر اتصالك "


          قلت بقلق :



          " ما الأمر ؟؟ "


          رغد قالت :


          " لقد نام الجميع ، والدي يريد التحدث معك ، يجب أن تحضر "


          أقلقني حديثها أكثر ، سألت :


          " ما الخطب ؟؟ "

          " إنه موضوع زواج دانه ! لن أخبرك بالتفاصيل و إلا وبختني ! يجب أن تحضر قبل مساء الأربعاء المقبل "





          كان أمرا فاجأني ، و هو أكبر من أن أناقشه مع رغد و رغد بالذات على الهاتف في مثل هذا الوقت ... و المكان ...



          لذا اختصرت المكالمة بنية الاتصال نهار اليوم التالي لمعرفة التفاصيل ...





          " حسنا ، سأتصل غدا ... إلى اللقاء "

          " وليد ... "





          حينما سمعت اسمي على لسانها ارتجف فكي أكثر مما كان عند رؤية سيارة الشرطة ....


          خرجت الكلمة التالية مبعثرة الحروف ...


          " نـ ... ـعم ... صـ ... ـغيـ ... ـرتي ؟؟ "

          " عد بسرعة ! "




          و التي عادت بسرعة هي ذكريات الماضي ...

          و الذي طردها بسرعة هو أنا

          لم أكن أريد لشيء قد مات أن يعود للحياة ...


          قلت :


          " سأرى ، وداعا "



          و بسرعة أيضا أغلقت السماعة ...


          كم شعرت بقربها ... و بعدها ...






          حينما عدت إلى المنزل ، وقفت مطولا أمام غرفة رغد أحدق ببابها ... حتى هذه اللحظة لم أجرؤ على فتحها هي بالذات من بين جميع غرف المنزل الموحش ...





          دخلت إلى غرفتي الغارقة في الظلام ، و تمددت على سريري بهدوء ...


          ( عد بسرعة ... عد بسرعة ... عد بسرعة ... )



          ظلت تدور برأسي حتى حفرت فيه خندقا عميقا !







          سمعت طرقا على الباب ... طرقا خفيفا ... جلست بسرعة و ركزت نظري ناحية الباب ... كان الظلام شديدا ...


          شيئا فشيئا بدأ الباب ينفتح ... و تتسلل خيوط الضوء للداخل

          و عند الفتحة المتزايدة الحجم ، ظهرت رغد !

          رغد وقفت تنظر إلي و وجهها عابس ... و الدموع منحدرة على خديها الناعمين ...


          هتفت ...


          " رغد ! "


          بدأت تسير نحوي بخطى صغيرة حزينة ... مددت ذراعي و ناديتها :


          " رغد تعالي ... "

          لكنها توقفت ... و قالت :

          " وليد ... عد بسرعة "



          ثم استدارت عائدة من حيث أتت


          جن جنوني و أنا أراها تغادر


          قفزت عن سريري و ركضت باتجاهها و أنا أهتف :


          " رغد انتظري ...

          رغد لقد عدت ...

          رغد لا تذهبي "




          لكنني عندما وصلت إلى الباب كانت قد اختفت ...

          أسرعت إلى غرفتها أطرق بابها بعنف ...

          كدت أكسره ، أو أكسر عظامي ... لكنه ظل موصدا ...

          كما هي أبواب الدنيا كلها أمام وجهي ...





          أفقت من النوم مذعورا ، فوجدت الغرفة تسبح في الظلام و الباب مغلق ...

          لم يكن غير كابوس من الكوابيس التي تطاردني منذ سنين ...



          و رغم انها تعذبني ، ألا أنها تمنحني الفرصة لرؤية صغيرتي التي حرمت منها منذ سنين ... و لم يعد لها وجود...





          في اليوم التالي ، اتصلت بوالدي و عرفت منه تفاصيل الموضوع ... و لكم أن تتصوروا اللهفة التي كان هو و أمي و دانة أيضا ... يخاطبوني بها




          أختي الصغيرة ... التي كبرت بعيدا عن أنظاري و رعايتي و اهتمامي ، أصبحت عروسا



          " وليد يجب أن تحضر و تجلب لي هدية أيضا ! "




          و الآن ... و بعد مرور شهر واحد من هروبي منهم ، و عزلتي في المنزل، صار علي أن أعود إليهم من جديد ... أجر أذيال الخيبة و الفشل ...







          في المساء ، ذهبت لسيف و أخبرته بما جد من أمري ، و أخبرني بأنه استطاع تدبير وظيفة لي في الشركة التي يعمل فيها و يملك جزءا منها



          و بدأ أول أبواب الدنيا ينفتح أمامي أخيرا ...




          " يجب أن تعود بأسرع ما يمكن لتباشر العمل "

          تعليق


          • #20
            الحلقة الخامسة عشره



            أكاد أطير من الفرح ... لأن وليد سيأتي اليوم ...


            إنني منذ وقعت عيناي عليه يوم حضوره قبل شهر ، و أنا أحس بشيء غريب يتحرك بداخلي !


            أهي كريات الدم في عروقي ؟؟

            أم شحنات الكهرباء في أعصابي ؟؟

            أم تيارات الهواء في صدري ؟؟



            بين الفينة و الأخرى ، أخرج إلى فناء المنزل ... و أترقب حضوره

            متى سيصل ؟؟


            سامر أيضا سيعود هذه الليلة ، فمنذ سافر للمدينة الأخرى قبل أسابيع من أجل العمل لم نره ...



            استدرت للخلف ، فإذا بأمي واقفة عند المدخل الرئيسي ، تنظر إلي !


            " رغد ... ما ذا تفعلين ؟؟ "


            اضطربت قليلا ، ثم قلت :


            لا شيء ...



            والدتي ابتسمت ، و قالت :


            " لقد قال سامر إنه سيصل ليلا ! لا تُقلقي أعصابك ! "


            شعرت بغصة في حلقي و كدت أختنق !


            إنني لم أرى سامر منذ أسابيع ... و أعلم أنه سيعود ليلا ... لكنني ... لكنني كنت أرتقب وليد !




            كان هذا يوم الأربعاء ... ، و في هذا المساء سيتم عقد قران دانة ...

            إنها مشغولة جدا هذا اليوم ، و كذلك هي أمي ... و الاضطراب يسود الأجواء ...


            " تعالي و ساعدينا ! "



            ألقيت نظرة على الباب الخارجي للمنزل ، و مضيت مذعنة لطلب أمي !



            كانت دانة تجفف شعرها بمجفف الشعر الكهربائي المزعج ، قلت :

            " فيما أساعدك ؟؟ "

            و يبدو أن صوته الطاغي منعها من سماعي ، فكررت بصوت عال :

            " دانة فيما أساعدك ؟؟ "



            انتبهت لي أخيرا ، و قالت :


            " تعالي رغد و جففي هذا المتعب ! "



            دانة كان لها شعر طويل و كثيف مع بعض التموج ، على العكس من شعري القصير الأملس الناعم !



            تناولت المجفف الساخن من يدها و بدأت العمل !



            صوت هذا الجهاز قوي و أخشى أن يعيق أذني عن سماع صوت جرس الباب !



            مرت الدقائق و أنا أحاول الإسراع من أجل العودة للفناء !


            " رغد ! جففي بأمانة ! "


            قالت ذلك دانة و هي تنظر إلي عبر المرآة ... فابتسمت !



            فستان دانة كان جميلا و أنيقا جدا ، و موضوعا على سريرها بعناية

            لدانة ذوق رائع جدا في اختيار الملابس و الحلي و أدوات التجميل !




            لدى عبور هذه الفكرة برأسي تذكرت طقم الحلي الذي رأيته ليلة الأمس و أثار إعجابي الشديد و أردت اقتنائه ، غير أن نقودي لم تكن كافية فأجلت الأمر لهذا اليوم



            " يجب أن أذهب مع آبى لشراء ذلك الطقم قبل أن يحل الظلام ! "

            " حقا ستشترينه ؟ إنه باهظ الثمن ! "

            " طبعا سأشتريه ! ماذا سأضع هذه الليلة إذن ؟؟ "

            " لم لا تضعين العقد الذي أهدتك إياه والدتي قبل أسابيع ؟؟ "



            لم تعجبني الفكرة ، فلقد رأته لمياء ـ شقيقة نوّار ، خطيب دانة ـ يوم حفلتي !


            إنها أمور نكترث لها نحن الفتيات !

            تعليق


            • #21
              أو على الأقل ، معظمنا !


              قلت :


              " بل سأشتري شيئا جديدا ! يليق بقرانك ! "


              و ضحكنا !



              لمحت والدتي مقبلة من ناحية الباب فأوقفت تشغيل الجهاز و قلت بسرعة :


              " هل حضر ؟ "


              ثم أضفت بسرعة ، تغطية على الحقيقة :


              " أقصد والدي ؟ أريد أن يصحبني لسوق المجوهرات ! "



              قالت والدتي :


              " ماذا تودين من سوق المجوهرات ؟؟ "

              " سأشتري عقدا جديدا أرتديه الليلة ! "




              بدا على والدتي بعض الاستياء ... ثم قالت :


              " أليس لديك ما يناسب ؟ سأعيرك مما عندي إن شئت "



              عرفت من طريقة كلامها أنها لا تريد مني شراء المزيد .



              أعدت تشغيل الجهاز و واصلت تجفيف شعر دانة الطويل حتى انتهيت ... بصمت ...



              بعدها خرجت من الغرفة قاصدة الذهاب إلى غرفتي ، إذ أن بي شحنة استياء أريد إفراغها ...


              و أنا أمر من والدتي قالت :


              " رغد اذهبي للمطبخ و أتمي تحضير الكعك ، سأوافيك بعد قليل "


              أذعنت للأمر ... و قضيت قرابة الساعة في عمل المطبخ الممل ، حتى أتت والدتي وتقاسمنا العمل ...

              بعد فترة همت بالانصراف ، فبالي مشغول بانتظار وليد ، و حين رأتني أمي سائرة نحو الباب :


              " إلى أين رغد ؟؟ "

              " سأذهب للاستحمام ! "

              " انتظري ! تعرفين ما من مساعد لي غيرك اليوم ... ! اغسلي الأطباق و الصواني و رتبي الأواني في أماكنها ، ثم تولي كي و طي الملابس ! العمل كثير هذا اليوم ! "



              شعرت بالضيق ! لم أكن أحب العمل في المطبخ و كنت أتولى أقل من ثلث العمل المقسم بيننا نحن الثلاث ، أمي و دانة و أنا ، لكنني اليوم مضطرة للتضحية بنعومة يدي !


              أثناء ترتيبي للأواني سمعت صوتا مقبلا من جهة مدخل المنزل الرئيسي



              ربما يكون وليد !



              أسرعت بوضع الأواني على عجل فانزلق من يدي بعضها و تحطم على الأرضية الملساء الصلبة !


              " أوه رغد ! ماذا فعلت ! "

              والدتي نظرت إلي بانزعاج ، فزاد ضيقي ..


              " انزلقت من يدي ! "


              و تركت كل شيء و هممت بالانصراف


              " إلى أين ؟؟ "


              " سأرى من عند الباب أمي ! "


              و لم أكد أغادر ، إذ أن والدي قد وصل ، و دخل المطبخ يحمل الكثير من الأغراض


              عدت إلى الأواني المحطمة أرفعها عن الأرض و أنظف الأرضية من شظايا الزجاج


              ثم كان علي ترتيب الأغراض التي جلبها أبي في أماكنها المخصصة ... و الكثير الكثير قمت به فيما دانة في غرفتها ، تسرح شعرها و تتزين !


              حالما انتهيت من جزء من عمل المطبخ ، قلت لوالدي و الذي كان يجلس على المقعد عند الطاولة يكتب بعض الملاحظات على ورقة صغيرة :


              " أبي ... هل لا اصطحبتني إلى أحد محلات الحلي ؟ لي حاجة سأشتريها و أعود "



              أمي نظرت إلي و قالت مباشرة :

              تعليق


              • #22
                عدنا لذلك ؟ خذي ما تشائين من حليي و لا داعي لإضاعة المال و الوقت ! لدينا الكثير لنفعله الآن ! "



                قلت :


                " و لكن ... إنه جميل جدا و أريد أن أرتديه الليلة ! "


                قالت :


                " هيا يا رغد ! عوضا عن ذلك رتبي الملابس أو غرفة الضيوف و الصالة ... النهار يودعنا "


                لم أناقش أمي ، بل نظرت إلى أبي و هو منهمك في تدوين كلمات على الورقة و قلت :


                " أبي ... لن أتأخر ! سأشتريه و نعود فورا ! "


                والدي قال دون أن يرفع عينيه عن الورقة :


                " فيما بعد رغد ، لدي مهام أخرى أقوم بها الآن "



                خرجت من المطبخ و أنا أشعر بالخيبة و الخذلان ... و ذهبت إلى الغرفة الخاصة بالملابس ، أكويها و أطويها و أرتبها ، و دمعة تتسلل من بين حدقتي من حين لآخر ...

                كنت أكوي فستاني الجديد الذي سأرتديه الليلة بشرود و أسى ...


                لماذا علي أن أعمل بهذا الشكل !؟

                لماذا لا يجلب والدي خادمة للمنزل ؟؟


                هنا سمعت صوت جرس الباب يقرع ...


                لابد أنه وليد !


                تركت كل شيء بإهمال و طرت نحو باب المخرج ، في نفس اللحظة التي أقبل فيها والدي نحو الباب ...


                قال :


                " اذهبي و ارتدي الحجاب ، قد يكون وليد ! "



                رجعت فورا إلى غرفة الملابس و سحبت حجابا لي من كومة الملابس
                ( المجعدة ) و لبسته كيفما اتفق ، و هرعت نحو المدخل ...


                فتحت باب المدخل لأطل على الفناء الخارجي ، و أرى أبي و وليد متعانقين عند البوابة الخارجية ...


                أقبلت أمي مسرعة و فتحت الباب و خرجت مهرولة إلى وليد ...


                وقفت أنا عند الباب الداخلي أنظر و دموعي تفيض من عيني رغما عنها ...


                لقد كان وليد واقفا بطوله و عرضه و جسده العظيم ، يحجب أشعة الغروب عن وداع ما غطاه ظله الكبير ، يضم والديه إلى صدره و ينهال برأسه البارز على رأسيهما بالقبل ...


                وقفت أراقب ... و أنتظر ...

                لقد طال العناق و الترحيب ... و لم يلتفت أو لم ينتبه إلي !
                و فيما أنا كذلك ، و إذا بالباب يفتح ، و تنطلق منه دانة مسرعة كالقذيفة الموجهة نحو وليد !



                تعانقا عناقا حميما جدا ، و دانة تقول بفرح :

                " كنت واثقة من أنك ستحضر ! كنت واثقة من ذلك "


                و وليد يضمها إلى صدره ثم يقبل جبينها و يقول :

                " طبعا سآتي ! كم شقيقة لدي ؟؟ ... ألف مبروك عزيزتي "


                كل هذه الحرارة المنبعثة من اللقاء الحميم أمام عيني جعلتني أنصهر !

                و بدا أن دموعي على وشك التبخر من فرط حرارة خدي ّ

                وليد !

                من أي طينة خلقت أنت ؟؟ و لماذا تنبعث منك حرارة حارقة بهذا الشكل !

                ألا تحس الأشجار أن الشمس قد ارتفعت بعد الغروب !؟


                و أخيرا ، تحرك الثلاثة مقبلين نحوي ... نحو المدخل ...


                أخيرا لامست نظراتي الجمرتين المتقدتين ، المتمركزتين أعلى ذلك الرأس ... مفصولتين بمعقوف حاد ، يزيدهما شرارا ... و حدة ... و اشتعالا !


                توهج وجهي احمرارا و تلعثم قلبي في نطق دقاته المتراكضة ... و شعرت بجريان الأشياء الغريبة في داخلي ...

                الدماء

                سيالات الأعصاب

                و الأنفاس !


                و هو يخطو مقتربا ، و حجمه يزداد ... و رأسه يعلو ... و عنقي يرتفع !


                سقطت أنظاري فجأة أرضا و كأن عضلات عيني قد شلت ! لم أستطع رفعهما للأعلى لحظتها ...


                و جاء صوته أخيرا يدق طبلتي أذني ...

                بل يكاد يمزقهما !


                " كيف حالك صغيرتي ؟؟ "


                و كلمة صغيرتي هذه تجعلني أحس أكثر و أكثر بصغر حجمي و ضآلتي أمام هذا العملاق الحارق !

                رفعت عيني أخيرا ببعض الجهد و أنا أضم شفتي مع بعضهما البعض استعدادا للنطق !



                " بخير ... "



                و لكن ... حين وصلت عيناي إلى جمرتيه ، كانتا قد ابتعدتا ...

                لم يكن وليد ينظر إلي ، و لا حتى ينتظر جوابي !

                لقد ألقى سؤاله بشكل عابر و أشاح بوجهه عني قبل أن يسمع حتى الإجابة ... و هاهي دانة تفتح الباب ... و هاهو يدخل من بعدها ... و يدخل والداي من بعده ... و ينغلق الباب من بعدهم !



                وقفت متحجرة في مكاني لا شيء بي يتحرك ... حتى عيناي بقيتا معلقتين في النقطة التي ظنتا أنهما ستقابلان عيني وليد عندها ...


                مرت برهة ... و أنا أحدق في الفراغ !

                هل كان وليد هنا ؟؟

                هل مر وليد من هنا ؟؟

                هل رأته عيناي حقا ؟؟؟

                لم أجد جوابا حقيقيا ...

                بدا كل شيء كالوهم و الخيال !



                أفقت من شرودي و استدرت ، و فتحت الباب فدخلت ... و وصلتني أصوات أفراد أسرتي من غرفة المعيشة ...


                حركت قدمي بإعياء شديد متجهة إلى حيث هم يجلسون ...

                كان وليد يجلس على مقعد كبير ، و هم إلى جانبيه ... لا أظن أن أحدا انتبه لوجودي ! وقفت عند مدخل الغرفة أراقبهم و جميعهم مسرورون و أنا تعيسة !



                بعد قليل ، أمي قالت فجأة :


                " أتشمون رائحة شيء يحترق ؟؟ "


                الشيء الذي قفز إلى رأسي هو المقعد الذي يجلسون عليه ! ربما احترق من حرارة وليد !


                يتبع

                تعليق


                • #23
                  نتابع


                  و بالفعل شممت الرائحة !


                  " إنها قادمة من هناك ! "


                  و أشارت والدتي نحوي ... طبعا كانت تقصد من خارج الغرفة ألا أنني ألقيت نظرة سريعة على ملابسي لأتأكد من أنها لا تقصدني !


                  و قفت أمي و كذلك وقف الجميع ، و أقبلت هي مسرعة قاصدة التوجه نحو المطبخ ...


                  لم تجد ما يحترق هناك ... ثم سمعت صوتها تنادي بقوة:


                  " رغد تعالي إلى هنا "


                  ذهبت إليها ، كانت في غرفة الملابس ... تفصل سلك المكواة عن مقبس الكهرباء !


                  صحت :

                  " أوه ! يا إلهي ! "


                  و أسرعت إلى الفستان الذي نسيت المكواة فوقه و خرجت مسرعة لاستقبال وليد !


                  " انظري ما فعلت ! سترتدينه الليلة محروقا بهذا الشكل ! "


                  أخذت الفستان و جعلت أدقق النظر في البقعة المحروقة ، و أعض شفتي أسفا و حسرة ...


                  " ماذا سأفعل الآن ؟؟ "

                  قلت بيأس ... فأجابت أمي بغضب :

                  " ترتدينه محروقا ! فنحن لم نشتره لنرميه "


                  عند هذا الحد ... و لم أتمالك نفسي ...

                  و انخرطت في بكاء شديد رغما عني ...

                  في نفس اللحظة التي كانت أمي تغادر فيها الغرفة كان البقية مقبلين يتساءلون عما حدث و ما احترق ...


                  والدي قال :

                  " ماذا حصل ؟؟ "

                  أمي أجابت باستياء :

                  " تركت فستانها يحترق ! و قبل قليل كسرت الأطباق ! لا أعرف متى ستكبر هذه الفتاة "


                  كان الأمر سيغدو مختلفا لو أن وليد لم يكن موجودا يرى و يسمع ...

                  كم شعرت بالحرج و الخجل ...


                  إنني لست طفلة و مثل هذه الأمور لم تكن لتحدث لو أنني لم أكن مضطربة و مشتتة هذا اليوم ... كما و أن أمي لم تكن لتصرخ بوجهي هكذا لو لم تكن هي الأخرى مضطربة و قلقة ، بسبب الليلة ...


                  رميت بالفستان جانبا و أسرعت الخطى قاصدة الهروب و الاختفاء عن الأنظار ...



                  كان وليد يقف عند الباب و يسد معظمه ، و حين وصلت عنده لم يتحرك ...


                  كنت أنظر إلى الأرض لا أجرؤ على رفع نظري إلى أي منهم ، ألا أن بقاء وليد واقفا مكانه دون أن يتزحزح جعلني أرفع بصري إليه ....


                  الدموع كانت تغشي عيني عن الرؤية الواضحة ...

                  وليد نظر إلي نظرة عميقة دون أن يتحرك ...

                  " إذا سمحت ... "


                  قلت ذلك ، فتنحى هو جانبا ، و انطلقت أسير بسرعة نحو غرفتي ...


                  في غرفتي ، أطلقت العنان لدموعي لتفيض بالقدر الذي تريد

                  كان يومي سيئا ! كم كنت سعيدة في البداية !

                  و الآن ...

                  حزينة ... محرجة ... مجروحة الخاطر ... مخذولة ...

                  بدموع جارية ... و قلب معصور ... و فستان محروق ! و بلا حلي !


                  أكثر ما أثر بي ... هو الاستقبال البليد الذي استقبلني به وليد ...
                  و أنا من كنت أحترق شوقا لرؤيته !


                  غمرت وسادتي البريئة من أي ذنب بالدموع الحارة المالحة ... و بقيت حبيسة الألم في الغرفة لفترة طويلة ....


                  بعد مدة سمعت طرق الباب ... قمت بتململ و فتحته ، فرأيت أمي ...


                  تحاشيت النظر إليها ، فأنا خجلة منها و لست مستعدة لتلقي أي توبيخ هذه الساعة ...


                  أمي قالت :


                  " رغد ! على الأقل ابدئي الاستعداد ! ألم تستحمي بعد ؟؟ "

                  وجدت نفسي أقول بغضب و انفعال :

                  " لن استحم ، و لن أحضر معكم و سأنام حتى الغد "


                  أمي صمتت قليلا ثم قالت بنبرة عطوفة :

                  " يا عزيزتي لم أقصد توبيخك ، لكنك تتصرفين بشكل غريب اليوم ! هيا ابدئي الاستعداد ... "


                  رفعت رأسي إليها و قلت :

                  " بم ؟ لا فستان و لا حلي ! "


                  تنهدت أمي و قالت :

                  " ارتدي أي شيء ! ما أكثر ما لديك "


                  لم اقتنع ، فأنا أريد أن أظهر جديدة في كل شيء الليلة ! أليست ليلة مميزة؟ إنه عقد قران أختي دانه !


                  قلت :

                  " لن أحضر دون فستان جديد و مجوهرات ! دعوني أبقى في غرفتي فهذا أفضل و متى ما انتهيتم سأساعدكم في تنظيف المنزل "


                  و بكيت

                  بكيت بشدة ، و ليس سبب بكائي هو الفستان أو الأواني المكسورة ! إنه قلبي الذي يعتصر ألما من تجاهل وليد لي بهذه الطريقة !


                  لماذا فعل ذلك ؟؟

                  ألم أعد مهمة لديه ؟؟

                  ألم يعد بألا يسمح لدموعي بالانهمار ؟؟

                  إنه الذي يفجرها من عيني بغزارة هذه اللحظة ...


                  أعرف أن أمي تحبني و تدللني ، مثل أبي ... و هذا ما اعتدته منهما ... لذلك حين قالت :


                  " حسنا ... اذهبي بسرعة مع أبيك لشراء شيء مناسب على عجل "


                  لم أفاجأ ، بل مسحت دموعي مباشرة خصوصا و هي تنظر إلى الساعة بقلق ...


                  أخرجت حقيبتي من أحد الأدراج ... و قلت :


                  " لا أملك مبلغا كافيا "


                  ذهبت أمي و عادت بعد قليل تحمل بعض الأوراق المالية ، و قالت :


                  " سأخبر أبيك كي يشغل السيارة ، أسرعي رغد "


                  و ذهبت ، و ارتديت عباءتي و خرجت بعدها ...


                  و فيما أنا أجتاز الردهة ، إذا بها مقبلة نحوي تقول :

                  " لا فائدة يا رغد لقد خرج والدك !

                  تعليق


                  • #24
                    " لا فائدة يا رغد لقد خرج والدك ! "


                    كان والدي مشغولا طوال اليوم ، و ها قد غادر من جديد ...

                    أطلقت تنهيدة يأس مريرة و رميت بالحقيبة جانبا و قلت :


                    " قلت لك أنني لن احضر ... دعوني و شأني "

                    و أوشكت على البكاء


                    أمي قالت :


                    " قد يعود بعد قليل ... "


                    لكنني كنت قد فقدت الأمل !


                    جلست على المقعد و أسندت خدي إلى يدي في أسى ...



                    " أيمكنني فعل شيء ؟؟ "


                    كان هذا صوتا رجاليا جعلني أسحب يدي فجأة من تحت خذي فينحني رأسي للأسفل ثم يرتفع للأعلى ...

                    للأعلى ...

                    للأعلى !


                    العملاق وليد !


                    أمي و وليد تبادلا النظرات ، ثم قالت أمي :


                    " ننتظر أن يعود والدك ليصحبها إلى السوق ! "


                    قال :


                    " لدي سيارة ... إذا كان الأمر طارئا ... "



                    الأشياء الغريبة الثلاثة بدأت تجري في داخلي و تتسابق !


                    أمي قالت :


                    " أنت ... قدمت لتوك ! اذهب و نم قليلا في غرفة سامر ... "

                    " لست متعبا جدا "

                    " ... ثم أنك لا تعرف المنطقة ! "

                    قال و هو ينقل بصره بيني و بين أمي :

                    " لكنكما تعرفان ! "




                    أي نوع من الأفكار تعتقدون أنني رأيتها ؟؟

                    مجنونة !


                    قالت أمي بتردد :

                    " إنني مشغولة في المطبخ "


                    فاستدار وليد إلي و قال :


                    " و أنت ؟ تحفظين الطريق ؟؟ "


                    ربما كان سؤاله عاديا

                    أو ربما استهانة بي ! فهل أنا طفلة صغيرة لا أعر ف الطرق ؟؟


                    قلت :

                    " نعم ! طبعا "

                    ثم نظرت إلى أمي أحاول قراءة رأيها من عينيها ...


                    أمي بدت مترددة ... لكنها قالت بعد ذلك موجهة كلامها لي أنا:


                    " ما رأيك رغد ؟؟ "


                    أنا أقرر قبل أن أفكر في أحيان ليست بالقليلة ! قلت :


                    " حسنا "


                    و وقفت و سحبت حقيبتي ...

                    التفتت أمي نحو وليد و قالت :


                    " اوليد دخل على غرفة المعيشة و أحضر مفتاح سيارته ، و الذي كان قد تركه على المنضدة ...


                    تقدمت نحو باب المنزل و وقفت في انتظاره ، حتى إذا ما أقبل فتحت الباب و خرجت قبله !


                    خطواتي أنا قصيرة و بسيطة ، كيف لها أن تضاهي خطواته الواسعة الشاسعة !؟

                    سبقني و خرج من البوابة الخارجية لفناء المنزل ... و سمعت صوت باب سيارة ينفتح ...

                    تعليق


                    • #25
                      ما أن خرجت من البوابة ، حتى وقعت عيناي على سيارة وليد ... نفس السيارة التي كان يقودها منذ سنين ...


                      المرة الأخيرة التي ركبت فيها هذه السيارة كانت في أسوأ أيام حياتي ...


                      شعرت بقشعريرة شديدة تجتاحني و ثبت في مكاني و لم أجرؤ على المضي خطوة للأمام ...


                      وليد شغل السيارة و انتظرني ... و طال انتظاره !


                      التفت نحو الباب فوجدني واقفة هناك بلا حراك


                      ضغط على جرس السيارة لاستدعائي لكنني لم أتحرك


                      الشيء الذي تحرك هو شريط الذكريات القديمة البالية ... الموحشة البائسة ... التي طردتها من خيالي عنوة ...


                      وليد فتح الباب و خرج من السيارة و نظر باتجاهي و قال :

                      " ألن تذهبي ؟؟ "


                      تحركت قدماي دون إدراك مني و اقتربت من السيارة


                      مددت يدي فإذا بها تلقائيا تتوجه إلى الباب الأمامي ، فأجبرتها على الانحراف نحو الباب الخلفي ، فتحته و جلست على المقعد الخلفي
                      فيما وليد يجلس في المقدمة و إلى اليسار مني ... يكاد شعره الكثيف يلامس سقف السيارة !


                      عندما كنا صغارا ، أنا و دانة ... كنا نتشاجر من أجل الجلوس على المقعد الذي أجلس خلفه مباشرة الآن !


                      وليد انطلق بالسيارة نحو الشارع الرئيسي ثم سألني و هو يراقب الطريق :

                      " أين نتجه ؟ "


                      سار وليد ببطء نسبيا يسألني عن الطرق و المنعطفات ، و أرشده إليها حتى بلغنا المكان المطلوب .


                      كان سوقا صغيرا مليئا بالناس ...


                      أوقف وليد السيارة ، ففتحت الباب و خرجت و تقدمت للأمام


                      وليد لم يخرج ، و سمعت صوته عبر نافذة الباب الأمامي المفتوحة يقول :


                      " كم ستبقين ؟؟ "


                      تعجبت ، فقلت و أنا أقرب وجهي من النافذة بعض الشيء :

                      " ألن تأتي معي ؟؟ "



                      وليد صمت قليلا ، و ربما ارتبك ، ثم قال :

                      " و هل يجب أن آتي معك ؟؟ "

                      قلت :

                      " نعم ! "

                      قال :

                      " سأنتظرك هنا ... هذا أفضل "


                      بقيت واقفة في مكاني لحظة ، فعاد يقول :


                      " هل يجب أن أرافقك ؟؟ "

                      قلت :

                      " أو تعيدني للبيت "

                      و تراجعت للوراء و مددت يدي قاصدة فتح الباب الخلفي ...


                      وليد فتح بابه و نزل و دار حول السيارة نصف دورة حتى صار إلى جانبي


                      قلت :


                      " من هنا "


                      و سرنا نحو بوابة المجمع الصغير ، هو مجمع اعتدنا أنا و دانة و أمي شراء حاجياتنا منه

                      حينما بلغنا المتجر المقصود ، و هو متجر للملابس ، و كان يعج بالكثيرين، دخلته و توجهت نحو زاوية معينة ...


                      التفت إلى الخلف فوجدت وليد واقفا في الخارج ينظر من خلال زجاج المتجر ...


                      عدت أدراجي إليه بسرعة ... ثم قلت :

                      " ألن تدخل معي ؟؟ "

                      وليد بدا مترددا حائرا ... ربما هو غير معتاد على ارتياد الأسواق !

                      لذا تحرك ببطء ...


                      لأنني قمت بزيارة المتجر يوم أمس فأنا أعرف ما يوجد و ما يناسب ، لذا لم استغرق سوى دقائق حتى اشتريت فستانا مختلفا عن فستاني المحروق !


                      إنه أجمل و أغلى !


                      حينما هممت بالمحاسبة أخرج وليد محفظته ، و دفع الثمن !


                      كم أنا خجلة منه ! آمل ألا يفعل ذلك في متجر المجوهرات

                      تعليق


                      • #26
                        لم يكن وليد يتحدث ، بل كان يسر على مقربة مني بصمت و اضطراب ...


                        أنا أيضا كنت خرساء جدا !


                        أقبلنا نحو متجر المجوهرات ، و كان الآخر مزدحما بالناس ، و معظمهم سيدات


                        دخلناه و أخذت عيناي تفتشان عن الطقم الجميل الذي أغرمت به يوم أمس ... لم يكن موجودا في مكانه فخشيت أن تكون سيدة ما قد سبقتني بشرائه !


                        جلت ببصري في المتجر حتى وجدت ضالتي ، التفت للوراء فلم أجد وليد ...


                        تلفت يمنة و يسرة و لم أجده ...


                        أقبل صاحب المتجر يسألني :


                        " ماذا أعجبك سيدتي ؟ "


                        أسرعت مهرولة نحو الباب و نظرت من حولي فوجدت وليد واقفا يتأمل بعض التحف المعروضة في متجر مجاور ...


                        " وليد "


                        نادينه و أنا مقبلة إليه أحث الخطى ...


                        التفت إلي :


                        " هل انتهيت ؟ "

                        " لا "

                        تعجب ! و قال :

                        " إذن ؟؟ "

                        قلت :

                        " لا تبتعد عني "


                        بقى متعجبا برهة ثم أقبل معي و عدنا لذلك المتجر ...


                        اشتريت الطقم الباهظ الثمن و حين سمع وليد بالسعر اضطرب قليلا

                        فتح محفظته ليلقي بنظرة على ما بداخلها ألا أنني أسرعت بإخراج النقود من حقيبتي و دفعتها إليه


                        قبل أن نغادر المتجر قال وليد :


                        " أي شيء يصلح هدية صغيرة لدانة ؟ فأنا لا أعرف ماذا تحب ! "


                        أما أنا فاعرف ماذا تحب !

                        اعتقد أن الرجال لا يحتارون كثيرا في اختيار هدية لامرأة ! لأن المجوهرات موجودة دائما ... و تتجدد دائما ... و غالية دائمة ... و نعشقها دائما !


                        اخترت شيئا جميلا و بسيطا ، و معتدل السعر ، فاشتراه وليد دون تردد


                        خرجنا بعد ذلك من المتجر متجهين نحو البوابة ، و أثناء ذلك عبرنا على أحد محلات الأحذية الرجالية فقال وليد :


                        " سألقي نظرة "


                        و سار خطى سريعة نحو المدخل ...

                        كان في المتجر عدد من الرجال و الأطفال ...

                        و أنا أرى وليد يبتعد ... و يهم بدخول المتجر ... و المسافة بيننا تزداد خطوة بعد خطوة ... و الناس يتحركون من حولي ... ذهابا و إيابا ...
                        و رجال يدخلون ... و رجال يخرجون ... و وليد يكاد يختفي بينهم ، ناديت بصوت عال :

                        " وليد "

                        و رغم الازدحام و الضوضاء الصادرة من حركة الناس و كلامهم ، سمعني وليد فالتفت إلي ...


                        أنا أسرعت الخطى المضطربة باتجاهه ... و هو اقترب خطوتين ... و حين أصبحت أمامه قلت :


                        " لا تتركني وحدي "


                        وليد يعلوه الاستغراب ، قال مبررا :

                        " سألقي نظرة سريعة فحسب ... لدقيقة لا أكثر "

                        عدت أقول :

                        " لا تتركني وحدي "


                        عدل وليد عن فكرة إلقاء تلك النظرة ، و قال :

                        " هل تريدين شيئا آخر ؟؟ "

                        قلت :

                        " كلا "

                        قال :

                        " إذن ... هيا بنا "


                        عندما عدنا إلى المنزل ، و قبل أن يفتح لنا الباب بعد قرع الجرس ، التفت إليه و قلت :

                        " شكرا ... وليد "



                        لكن أذهلني الوجوم المرسوم على وجهه !

                        كأنه مستاء أو أن مرافقتي قد أزعجته

                        إنني لم أطلب منه ذلك بل هو من عرض المساعدة !


                        دخلنا إلى الداخل ، فتوجه هو تلقائيا نحو المطبخ ، فسرت خلفه ...

                        والدتنا كانت لا تزال منهمكة في العمل ، حين رأتنا بادرت بسؤالي :

                        " هل وجدت ما أردت ؟؟ "

                        و أخذت تنظر إلى الكيس الذي أحمله ...


                        " نعم "


                        و فتحت الكيس ، و أخرجت منه كيسا آخر صغير يحتوي على علبة المجوهرات ...

                        ما أن رأتها أمي حتى هزت رأسها اعتراضا و استنكارا ... فهي لم تكن تشجعني على شراء المزيد ، فقلت بسرعة مبررة :


                        " إنه طقم رائع جدا ! انظري ... "


                        و قربته منها فتأملته و قالت :

                        " نعم رائع و لكن ... "


                        لم تتم الجملة ، بل قالت :


                        " و لكنك اشتريته على أية حال ! "


                        ابتسمت ابتسامة النصر !

                        و التفت نحو وليد الذي كان يتابع حديثنا و قلت :

                        " أليس رائعا ؟ ما رأيك ؟؟ "


                        وليد بدا مضطربا بعض الشيء ، ثم قال :

                        " لا أفهم في هذه الأمور ، لكن ... نعم رائع "


                        و توجه نحو أحد المقاعد و جلس باسترخاء ...


                        أمي قالت :


                        " بني ... اذهب و استرخ في غرفة سامر لبعض الوقت ! إنك مجهد "


                        الآن وليد ينظر باتجاه والدتي ، و لا أقع أنا في مجال الرؤية لديه ... باستطاعتي أن ادقق النظر في أنفه المعقوف دون أن يلاحظ !


                        ما حكاية هذا الأنف يا ترى !؟


                        أخذت أتخيل شكل وليد قبل أن يسافر ... كم يبدو مختلفا الآن !


                        " رغد ألن تستعدي ؟؟ "


                        انتبهت على صوت والدتي تكلمني ، أجبت باضطراب و كلي خشية من أن تكون شاهدتني و أنا أتأمل ذلك الأنف !


                        " حاضر ، نعم سأذهب "

                        و انطلقت نحو غرفتي ...
                        انتبه لها "
                        بعد أن غادرت رغد ، هممت بالذهاب إلى غرفة أخي سامر و تأدية الصلاة ثم الاسترخاء لبعض الوقت ...

                        إنني متعب بعد مشوار الحضور الطويل



                        نظرت إلى فتحة الباب لأتأكد من أن رغد قد ابتعدت ، ثم قلت :


                        " أمي ... لم كانت رغد تبكي ؟؟ "


                        أمي كانت تزين قالب الكعك بطبقة من الشيكولا ، و كانت الكعكة شهية المنظر !


                        قالت أمي :


                        " لأنها حرقت فستانها كما رأيت ! تصور ! لقد اشترته يوم الأمس بمبلغ محترم ... ! "



                        صمت برهة ثم قلت :

                        " و الآخر أيضا غال الثمن ، و حتى هذا الطقم "


                        ابتسمت والدتي و قالت :

                        " إنها تبذر النقود ، هذا أحد عيوبها ! "

                        أوه هكذا ؟ جيد ... !
                        لقد عرفت شيئا جديدا عن طفلتي ... أصبحت مبذرة للمال أيضا ؟؟ و ماذا بعد ...؟؟



                        قلت بتردد :

                        " هل ... هل ... تحسنون معاملتها ؟؟ "


                        رفعت أمي بصرها عن الكعكة و نظرت نحوي باستغراب ... ثم قالت

                        تعليق


                        • #27
                          طبعا ! بالتأكيد ! بل إننا ... ندللها كثيرا ! "


                          تنهدت بارتياح نسبي ، و عدت أقول :


                          " إذن ... لماذا كانت تبكي ؟؟ "



                          أمي تعجبت أكثر ، و قالت :

                          " قلت لك ... بسبب الفستان ! "


                          قلت :

                          " لا أمي ... أعني قبل ذلك "

                          " قبل ذلك ؟؟ "

                          " عندما خرجت لاستقبالي فور وصولي ... "


                          في غرفة أخي سامر ، و الذي سيصل بعد قليل قادما من المدينة الأخرى حيث يعمل ، اضطجعت على السرير و سبحت في محيط لا نهائي من الأفكار ...



                          الشيء الذي أثار قلقي هو الطريقة التي وبخت فيها والدتي رغد بعد وصولي بقليل ...

                          فهل حقا يحسن الجميع معاملتها و يدللها ؟؟


                          لم أتحمل رؤيتها تبكي ...


                          عندما كنا في منزلنا القديم ، لم أكن لأسمح لأحد بأن يحزنها بأي شكل من الأشكال ، مهما فعلت

                          كانت دانه دائما تتشاجر معها أو تضربها ، و كنت دائما أقف في صف صغيرتي ضد أي كان ...
                          ترى ... هل تذكر هي ذلك ؟؟ أم أنني أصبحت من الماضي المنسي ... و الأحلام الوهمية ... و الذكريات المهجورة ؟؟


                          حاولت النوم و لم استطع ، لذا عدت إلى غرفة المعيشة فوجدت والديّ و رغد هناك ...


                          تبادلنا بعض الأحاديث عن عريس دانة ، و هو لاعب كرة ذاع صيته و اشتهر في الآونة الأخيرة ...


                          قلت :


                          " و لكن ألا تفكر في متابعة دراستها ؟ إنها لا تزال صغيرة على الزواج ! "


                          قال أبي :

                          " لا تريد الدراسة ، و هو عريس جيد ! كما و أنها في سن مناسب ! فليوفقهما الله ! "


                          لحظات و إذا بسامر يحضر ، و يحظى بترحيب لا يقل حرارة عن ترحيبهم بي ...


                          بدأ سامر بأكبرنا ، ثم حين جاء دوري ، صافحني بحرارة و شوق كبيرين جدا ... و أطال عناقي الأخوي ...


                          أشعرني هذا بقربه مني ، بعدما فرقت السنين بيننا ... و بأنني لازلت أملك عائلة تحبني و ترغب في وجودي في أحضانها ...


                          شيء رفع من معنوياتي المتدهورة


                          لكن ...


                          سرعان ما انحطت هذه المعنويات و اندفنت في لب الأرض تحت آلاف الطبقات من الحجر و الحديد و الفولاذ ، حين أقبل إلى رغد يصافحها و يضمها إلى صدره و يقبل جبينها بكل بساطة ...



                          لو كنت بركانا ... أو قنبلة ... أو قذيفة نارية ، لكنت انفجرت لحظتها و دمرت كوكب الأرض بأسره و نسفته نسفا و حولته إلى مسحوق غبار


                          لكنني كنت وليد

                          أو بالأصح ...

                          شبح وليد ...


                          ما الذي دعاني لتمالك نفسي ؟؟ لا أعرف ...

                          لقد كان باستطاعتي أن أحطم رأس أي مخلوق يقف أمامي شر تحطيم

                          و لو ضربت الجدار بقبضتي هذه لسببت زلزالا مدمرا و لهوى السقف و قضى علينا جميعا ...

                          لكنني اكتفيت بان أحفر أسناني من شدة الضغط ، و أمزق أوتار يدي من قوة القبض ...



                          ليت أمي لم تلدك يا سامر

                          ليتك تتحول إلى أي رجل آخر في العالم ، لكنت استأصلت روحك من جسدك و مزقتك خلية خلية ...



                          " أين العروس ؟؟ "


                          سأل أخى و هو لا يزال ممسكا بيد رغد ...


                          " في غرفتها ! تتزين ! "


                          قالت رغد ، فقال :

                          " سأذهب لرؤيتها "

                          و شد رغد يحثها على السير معه ... و ذهب الاثنان و غابا عن ناظري ...



                          ليتني لم أعد

                          أي جنون هذا الذي جعلني أعود فاحترق ؟؟ إنني أكاد انفجر

                          هل يحس أحد بي ؟؟


                          سمعت أمي تقول :


                          " ما بك وليد ؟ أ أنت متعب بني ؟؟ "


                          متعب ؟؟

                          فقط متعب ؟؟

                          ابتعدوا عني و إلا فأنني سأحرقكم جميعا !


                          رميت بجسدي المشتعل على المقعد و أخذت أتنفس بعمق أنفاس متلاحقة عل الهواء يبرد شيئا مما في داخلي


                          مرت لحظة صامته إلا عن تيار الهواء المتلاعب في صدري


                          أمي و أبي لا يزالان واقفين كما هما ... و أنا أشعر بحر شديد و أكاد أختنق ....



                          رفعت رأسي فإذا بهما يراقبانني ... أظن أن وجهي كان شديد الاحمرار و يتصبب عرقا ...


                          القلق كان باد على وجهيهما


                          قلت :


                          " الجو حار ... "


                          أمي سارت نحو المكيف و زادت من قوة دفعه للهواء ...


                          التفت إلى أبي و قلت :


                          " و هذان ؟؟ متى ارتبطا ؟؟ "


                          لم يجب أبي مباشرة ، ثم قال :


                          " عقدنا قرانهما قبل ما يزيد عن السنوات الثلاث "


                          مزيد من الاختناق و الضيق ... كأن الهواء قد سحب من الغرفة تماما ...


                          قلت :


                          " ألا ترى يا والدي أنهما لا يزالان صغيرين ؟ على الأقل رغد ... صغيرة جدا "



                          أبي قال :


                          " إننا لن نزوجهما قريبا على أية حال ، فرغد تود الالتحاق بالجامعة أولا و لا أدري إن كان سامر سيفلح في إقناعها بغير ذلك "



                          أثارت الجملة اهتمامي ، قلت :


                          " غير ذلك ؟؟ "


                          قالت أمي :


                          " قد نزوج الثلاثة في ليلة واحدة قريبا ! "


                          و ابتسمت ، ثم قالت :


                          " و يأتي دورك ! "




                          وقفت مستاء ، و يممت وجهي شطر المطبخ فأنا أحس بعطش شديد و بحاجة لنهر كامل ليرويني و يخمد نيراني ... و تركت والدي ّ في حيرة من أمرهما ...
                          تم عقد القران و انتهت الليلة بسلام أخيرا !


                          لقد بذلت جهودا مضاعفة في تنظيف المنزل بعد مغادرة الضيوف !

                          أما دانه فكان القلم مرفوعا عنها هذا اليوم !


                          طلبت من أمي أن تذهب للراحة و توليت أنا ، مع سامر تنظيف الأطباق ...


                          أما الرجل الناري فلا علم لي بأي أرض يحرق هذه الساعة !


                          كنت واقفة أمام صنبور الماء البارد أغسل الأطباق ، و سامر إلى جانبي ...

                          سألته :


                          " كيف بدا العريس ؟؟ "


                          أجاب :

                          " مهذبا و خلوقا و بشوشا ! "

                          قلت :

                          " لا يعجبني ! "

                          ابتسم سامر و قال :

                          " و لكن لم ؟؟ "

                          أجبت :

                          " لا أعرف ! لكنني أجده ثقيل الظل ! إنه مغرور و يتحدث عن نفسه بزهو و خيلاء أمام الكاميرات ! كيف تتحمل دانه زوجا كهذا ؟؟ "



                          سامر ضحك ، فضحكت معه ...

                          قال :

                          " ليس المهم رأيك أنت به ! المهم رأي العروس به ! "


                          ثم غير نبرة صوته حتى غدت أكثر لطفا و رقة ، و قال :


                          " و رأيك بي أنا ... "



                          ارتبكت .. و اضطربت تعبيرات وجهي ، و أخفيت نظراتي في حوض الغسيل !



                          وصلنا هذه اللحظة صوت حركة عند الباب ، فالتفتنا للخلف فإذا به وليد ...


                          و صدقوني ، شعرت بماء الصنبور يحرقني !


                          تبادلنا النظرات ...


                          قال وليد :


                          " هل لي بلحاف ؟ سأنام في غرفة الضيوف "


                          نظف سامر يده و استدار نحو وليد قائلا :


                          " أوه كلا يا أخي ، بل ستنام في غرفتي و على سريري ، سأنام أنا على الأرض أو في غرفة الضيوف أو أي مكان ! "



                          لم يظهر على وليد أنه يرحب بالفكرة أو حتى سمعها !

                          قال :

                          " أريد لحافا لو سمحت "


                          كان وجهه جامدا صارما ، و رغم أن سامر كان يبتسم ، ألا أن وليد كان عابسا ...


                          قال سامر :

                          " أرجوك استخدم غرفتي ! أنا سأسافر بعد الغد على أية حال "


                          دموع الألم
                          عرض الملف الشخصي العام
                          إرسال رسالة خاصة إلى دموع الألم
                          إيجاد جميع المشاركات للعضو دموع الألم
                          إضافة دموع الألم إلى قائمة الأصدقاء لديك

                          #50 23-07-2004, 02:12 PM


                          دموع الألم
                          رائد فضاء
                          تاريخ التّسجيل: Jun 2004
                          المكان: دار المحبة والفرح دار بو خليفة الله يرحمه
                          المشاركات: 865
                          قال وليد :

                          " و أنا كذلك . هل لا أحضرت لحافا الآن ؟؟ "


                          وليد شخص غريب ... نعم غريب !

                          نحن لا نعرفه ! و لا نعرف كيف هي طباعه و لا كيف كانت حياته في الخارج ... ربما كان صارما جدا ... قلما رأيته يبتسم منذو عودته !


                          انتهى الأمر بأن نام وليد في غرفة الضيوف ، على المقعد الكبير ، الذي نمت عليه ذلك اليوم ! أتذكرون ؟؟


                          توقعت أن أجد صعوبة في النوم ... طالما تفكيري مستعمر من قبل وليد ... ألا أنني نمت بسرعة مدهشة !


                          في اليوم التالي ، اجتمعت العائلة في غرفة الطعام لتناول الفطور الصباحي ، في ساعة متأخرة من الصباح !


                          أعددنا الأطباق في غرفة المائدة ، و جاء الجميع ليتخذوا مقاعدهم ...


                          كالعادة جلس والداي على طرفي المائدة ، و دانة إلى يمين أبي ، و سامر إلى يساره ، و هممت بالجلوس على مقعدي المعتاد يمين أمي ، لكنني انتظرت وليد ...


                          وليد حرك ذات المقعد و قال :


                          " مقعدك ... "


                          و تركه و ذهب للجهة المقابلة و جلس إلى يسار أمي ...


                          جلست أنا على مقعدي المعتاد ، و صار وليد مواجها لي ... وضع يسمح للأشعة المنبعثة من ناحيتة لاختراقي مباشرة !


                          فجأة ، وقف وليد ... و خاطب دانة قائلا :


                          " هل لا تبادلنا ؟؟ "


                          و تبادلا المعقدين ...



                          ربما رأى الجميع هذا التصرف عاديا ... و فسروه بأن وليد يرغب بالجلوس قرب والده .... أو أي تفسير آخر ... ألا أنني فسرته بأن وليد لا يرغب في الجلوس مقابلا لي ...



                          صار هذا الوضع هو الوضع الذي نجلس عليه خلال الأيام التي قضاها وليد معنا ...



                          وليد كان يلتزم الصمت ، و أنا أريد أن أسمع منه أخباره ، و لا أجرؤ على طرح الأسئلة عليه ...



                          بين لحظة و أخرى ، ألقي نظره باتجاهه ، لكن أعيننا لم تلتق مطلقا ...



                          بعد الفطور ، ذهب الجميع إلى غرفة المعيشة ، والدي يطالع الصحف و سامر يقلب قنوات التلفاز ، و دانه شاردة الذهن ... فيما وليد و أمي يتبادلان الحديث ، يشاركهما البقية بتعليق أو آخر من حين لآخر


                          تركت الجميع كما هم ، و ذهبت إلى غرفة الضيوف لرفع اللحاف و ترتيب ما قد يكون مضطربا ...


                          دخلت الغرفة ، فوجدت اللحاف مطويا و موضوعا على المقعد الكبير ، و على المنضدة المجاورة وجدت سلسة مفاتيح وليد ، و محفظته ...

                          مشيت بخفة حتى صرت أمام المنضدة و جعلت أحدق في المحفظة بفضول !


                          و انتقل فضولي من عيني إلى يدي ، فمددتها و نظرت من حولي لأتأكد من أن أحدا لا يراقبني !


                          انفتحت المحفظة المثنية ، فظهرت بطاقة وليد الشخصية و فيها صورة حديثة له !
                          بأنفه المعقوف !


                          و الآن ... ما هي الفكرة المجنونة التي قفزت إلى رأسي ؟

                          سأرسمه !


                          لم أدع أي فرصة لعقلي ليفكر ، و أخذت المحفظة و طرت مسرعة إلى غرفتي


                          و بدأت أرسم رسمة سريعة خفيفة لمعالم وجهه و أنظر للساعة في وجس و خوف ...


                          ما أن انتهيت ، حتى أسرعت الخطى عائدة بالمحفظة إلى غرفة الضيوف ... و توقفت فجأة و اصفر وجهي و ارتجفت أطرافي ... حين رأيت وليد في الغرفة مقبلا نحو الباب ، يحمل في يده سلسلة المفاتيح ...


                          أول شيء وقعت عينا وليد عليه هو محفظته التي تتربع بين أصابع يدي !


                          رفع وليد بصره عن المحفظة و نظر إلي ، فأسرعت بدفن أنظاري تحت قدمي قال باستنكار :


                          " أظن أنها ... تشبه محفظتي المفقودة تماما ! "


                          ازدردت ريقي و تلعثمت الكلمات على لساني من شدة الحرج و الخجل ...


                          قال وليد :

                          " خائنة ... مبذرة ... و ماذا بعد ؟ هل تسرقين أيضا ؟؟ "


                          رفعت نظري إليه و فغرت فاهي بذهول ... من هول ما سمعت !

                          لقد قضيت خمسة أيام في بيت عائلتي ، كان يمكن أن تكون من أجمل أيام حياتي ... لكنها كانت من أسوأها


                          كنت أود الرحيل عنهم في أقرب فرصة ، لكنني اضطررت كارها للبقاء بإلحاح من أبي و أمي


                          سامر غادر يوم الجمعة ، و قد ودعته وداعا باردا ... و غادرت أنا صباح الثلاثاء التالي باكرا .


                          خلال تلك الأيام الخمسة ...

                          كنت أتحاشى الالتقاء برغد قدر الإمكان و لا أنظر أو أتحدث إليها إلا للضرورة

                          و هي الأخرى ، كانت تلازم غرفتها معظم الوقت و تتحاشى الحديث معي ، خصوصا بعد أن قلت لها :


                          " هل تسرقين ؟ "


                          اعترف بأنني كنت فظا جدا ألا أنني لم أجد طريقة أفضل لأعبر بها عن غضبي الشديد و مرارتي لفقدها



                          في آخر الأيام ، طلبت مني والدتي اصطحاب رغد إلى المكتبة لتشتري بعض حاجياتها .


                          لم أكن لأفعل ذلك ، غير أنني شعرت بالحرج ... إذ أن والدي كان قد عاد قبل قليل من العمل و يسترخي ... فيما أنا أنعم بالراحة و الكسل ، دون مقابل ...
                          و ربما كان ذلك ، نوعا من الإعتذار ...

                          في ذلك اليوم كان نوار في زيارة مطولة لشقيقتي ، و مدعو للعشاء معها !


                          ذهبنا انا و رغد إلى تلك المكتبة العظمى المترامية الأطراف ...


                          رغد توجهت إلى الزاوية الخاصة ببيع أدوات الرسم و التلوين و خلافها ... و بدأت تتفرج و تختار ما تريد ...


                          و على فكرة ، علمت أنها رسامة ماهرة ...


                          لكم كانت تعشق التلوين منذ الصغر !


                          أخذت أتفرج معها على حاجيات الرسم و التلوين ... ثم انعطفت في طريقي ، مواصلا التفرج ... و لم يعد باستطاعتي رؤية رغد أو باستطاعتها رؤيتي


                          شغلت بمشاهدة بعض الرسوم المعلقة أعلى الحائط و ما هي إلا ثوان حتى رأيت رغت تقف بجواري !

                          قلت :

                          " رسوم جميلة ! "

                          " نعم . سأشتري الألوان من هناك "

                          و أشارت إلى الناحية الأخرى التي قدمنا منها ... فعدت معها ...


                          انهمكت هي باختيار الألوان و غيرها ، فسرت أتجول و أتفرج على ما حولي حتى بلغت زاوية أخرى فانعطفت ...


                          مضت ثوان معدودة ، و إذا بي أسمع صوت رغد يناديني مجددا ...

                          استدرت للخلف فرأيتها تقف قربي !

                          تعليق


                          • #28
                            شكرا



                            يسلمو
                            أبســـــــأل

                            من هو الــــــوافي؟؟

                            إذا الوافي طلع غـــــــــــدار

                            تعليق

                            يعمل...
                            X