إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التناص بين إليوت وبدر شاكر السياب

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • التناص بين إليوت وبدر شاكر السياب

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    كل العام وانتم بخير يا أهل الحب والخير .


    جئت ناقلا لكم
    فصلا من كتاب تحت الطبع أو ( طبع ) : تاثير اليوت علي القصيدة العربية الحديثة بقلم الكاتب والناقد السودانى : عبد المنعم عبد الله عجب الفيا

    أترككم لقراءته أولا

    دراسة في تأثير اليوت على شعر السياب*

    قال الاستاذ عبد المنعم :


    أذكر أنه في بداية انفتاحي على القصيدة الحديثة ، في بواكير الشباب كنت معجبا جدا بمطلع قصيدة السياب " أنشودة المطر " حيث يقول :

    عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
    أو شرفتان راح ينأي عنهما القمر

    وكنت قد سمعت هذين الشطرين من أحد زملاء الدراسة فعلقا بذاكرتي على الفور وصرت دائم الترديد لهما . ودفعني هذا الإعجاب إلى البحث عن النص الكامل للقصيدة . وكم كانت خيبتي كبيرة عندما قرأت القصيدة كاملة . فقد كنت أظن أن القصيدة من شعر الغزل ، وأن الشاعر سوف يستمر في النسج على المنوال الغنائي الحالم الذي استهل به القصيدة . لكنه ما أن تجاوز الشطر الخامس أو السادس حتى أنتقل فجأة دونما تمهيد من تلك الغنائية الحالمة إلى تصوير مشاهد الموت والجفاف والجوع والعظام المبعثرة واستغاثات الأطفال والعصافير لنزول المطر ثم الفيضان المدمر .

    ولم أدرك سر ذلك التحول المفاجئ في نظام القصيدة إلا بعد أن اطلعت على قصيدة ( الأرض الخراب ) للشاعر الإنجليزي الأمريكي ت . اس . اليوت . عندها فقط تبين لي حجم التغيير الذي أحدثه اليوت ليس في شكل ومضمون القصيدة العربية وحسب بل في طريقة قراءتها وتذوقها أيضا .

    وتنطلق فكرة قصيدة ، اليوت الأرض الخراب ) من فرضية أن العالم قد تحول عشية الحرب العالمية الأولي إلى أرض جرداء ميتـة وأن أمـل الشاعر صار في إمكانية استعادة الخصوبة إلى هذه الأرض الميتة وبعث الحياة فيها من جديد . وقد انطلق اليوت في الترميز لهذه الرؤية الشعرية بأساطير وطقوس الخصوبة والنماء عند شعوب الشرق القديم والتي استمدها من كتاب " الغصن الذهبي " لجيمس فريزر ، وكتاب "من الطقوس لادب الرومانس " لجسي وستن .

    يقول صاحب " الغصن الذهبي " أن الأغريق أخذوا عبادة ادونيس إله الجنس والخصوبة من البابليين والسوريين في حوالي القرن السابع قبل الميلاد . وإن الاسم الحقيقي لأدونيس هو تموز وأن ادونيس مأخوذ في الأصل من اللفظ السومرى ادون أو أدوناى بمعنى الرب أو الإله ويقول أن الأغريق استعملوا لقب التعظيم خطأ وتركوا الاسم الحقيقي . لذلك فهو يعتقد أن قصة ادونيس وافردويت إلهة الحب والجنس الإغريقية هي في الأصل محاكاة لقصة تموز وعشـتار البابلية .

    و يعتقد أن الإله تموز يموت في كل سنة مرة وعند موته تختفي معشوقته الإلهة عشتار رمز الأم والخصوبة في عالم الأموات بحثا عنه وفي فترة غيابها يجف الزرع والضرع ويعم القحط . وبعد لأي تنجح في إقناع إله الموت بإطلاق سراح تموز والعودة به إلى عالم الأحياء وعند عودتهما تزدهر الحياة من جديد في الحيوان والنبات . ويمثل غياب تموز لإنسان الشرق القديم فصل الصيف بينما تمثل عودته إلى الحياة ، الربيع . وكانت المراثي والطقوس الاحتفالية تقام في شهر تموز ، الذي سمي باسمه كل عام من أجل عودته وانبعاثه مرة أخري في الربيع . (1)

    و قد استلهم اليوت أسطورة إله الخصوبة ، ادونيـس أو تموز، لتجسيد أمله في عودة الحياة والنظام والاستقرار إلى العالم الذي عمته الفوضى والإفلاس الفكري والجدب العاطفي بسبب الحرب العالمية الأولي .

    وجريا على طريقة اليوت التقط شعراء الحداثة العرب الفكرة ووظفوها للتعبير عن واقعهم العربـي الـذي رأوا فيـه واقعـا مزريا ينطبق عليه وصف ( الأرض الخراب ) تلك الأرض الميتة التي فقدت القدرة على العطاء . ولم يروا مخرجا من الاستعانة بهذه الرموز الأسطورية التي استفاد منها اليوت والتي هي أصلا جزءا من موروثهم الحضاري القديم وذلك لتجسيد حلمهم بنهضة أمتهم العربية من سباتها الطويل .

    وكان جبرا إبراهيم جبرا قد ترجم الأجزاء الخاصة بادونيس وآتيس وأوزيرس من كتاب ( الغصن الذهبي ) لجيمس فريزر . ونشرت الترجمة بإحدى المجلات ببغداد سنة 1954م قبل أن تصدر في كتاب بيروت سنة 1957م (2) . ويبـدو أن السياب قد تعرف على هذه الأساطير من اطلاعه على ترجمة صديقه جبرا . وإذا كان جبرا إبراهيم جبرا قد أطلق صفة الشعراء التموزيين على شعراء الحداثة العرب الذين استلهموا أسطورة تموز ( ادونيس ) في إشعارهم ، فإن بدر شاكر السياب يعد أكثر هؤلاء الشعراء استخداما لرمز تموز وعشيقته ( عشتار ) .

    وفي تبريره لتوظيف الأسطورة في الشعر استخدم السياب ذات المنطق الذي سبق أن استخدمه اليوت لتبرير الشئ نفسه . يقول السيباب في ذلك :
    " .. لم تكن الحاجة إلى الرمز ، الأسطورة أمس مما هي اليوم . فنحن نعيش في عالم لا شعر فيه ، أعني أن القيم التي تسوده قيم لا شعرية والكلمة العليا فيه للمادة لا الروح . وراحت الأشياء التي كان في وسع الشاعر أن يقولها ، أن يحولها إلى جزء من نفسه تتحطم واحدا فواحدا ، أو تنسحب إلى هامش الحياة . إذن فالتعبير المباشر عن اللاشعور لن يكون شعرا فماذا يفعل الشاعر إذن ؟ عاد إلى الأساطير إلى الخرافات التي ما تزال تحتفظ بحرارتها لأنها ليست جزء من هذا العالم ، عاد إليها ليستعملها رموزا وليبني منها عوالم يتحدى بها منطق الذهب والحديد ، كما راح من جهة إلى أخرى يخلق أساطير جديدة ، وإن كانت محاولاته في خلق هذا النوع من الأساطير قليلة حتى الآن " .(3)

    إذن الغرض من استلهام الأسطورة فنيا هو محاولة لاعادة بناء عالم جديد بديلا لهذا العالم الذي يرفضه الشاعر . وفي ذلك يقول اليوت :
    " .. إنها ببساطة – أي الأسطورة – وسيلة لاعادة تشكيل العالم تشكيلا يجعله ذا معنى ومحاولة للسـيطرة علـى حركـة التاريخ المعاصر الذي تسوده الفوضـى والعبـث واللاجدوى " .(4)

    ومن خلال فكرة الانبعاث والتجدد التي استوحاها من قصيدة ( الأرض الخراب ) وظف السياب ، أساطير الخصوبة لبعث وبناء العالم الذي يحلم به فـي أشعاره . وبلغ قمة نضوجـه فـي ذلك فـي مجموعتـه التي تضم أعظم أشعاره " أنشودة المطر " التي صدرت سنة 1954م ، وأبرز قصائد هذه المجموعة التي تجسد فكرة الانبعاث هي : ( مدينة السندباد ) ، ( مدينة الآلهة ) ، ( تمـوز جيكـور ) ، ( سربروس في بابل ) ، ( رؤيـا عام 1956م ) ، ( النهـر والموت ) ، إضافة إلى ( أنشودة المطر ) التي تحمل اسم الديوان .

    فإذا كان العالم قد بدأ في نظر اليوت عشية الحرب العالمية الأولي ( أرضا خرابا ) فإن العالم العربي غدا في نظرالسياب هو الآخر أرضا خرابا أيضا ، لا بسبب الحرب وحسب بل بسبب عوامل أخرى مثل الجهل والتخلف والظلم والاستبداد .

    وإذا كان اليوت قد استلهم أساطير الخصوبة عند الشعوب القديمة لمعالجة فكرة استعادة الحياة والنظام إلى أرضه الخراب ، فإن بدر شاكر السياب فعل الشيء نفسه باستعادة هذه الأساطير للتعبير عن رؤاه الشعرية المتمثلة في استنهاض واقعه وتجديده . وإذا كان إله الخصوبة يموت طقوسيا في الصيف ليعود ويبعث في الربيع ليجدد دورة الحياة في الإنسان والحيوان والنبات . فإن الشاعر يرى في هذا الموات الذي يحسه يسود عالمه ، ضرورة حتمية وثمن لابد من دفعه لتأمين طريق النهضة ( الانبعاث ) العربي . بل هو يتمني هذا الموت ويحلم به لأنه السبيل الوحيد لاستعادة الحياة إليه من جديد في قوله بقصيدة ( النهر والموت ) :

    أود لو غرفت في دمى إلى القرار
    لأحمل العبء مع البشر
    وأبعث الحياة إن موتي انتصار !

    وكذلك في قصيدة ( مدينة السندباد ) حيث يقول :

    فآه يا مطر !
    نود لو ننام من جديد
    نود لو نموت من جديد
    فنومنا براعم انتباه
    نود لو أعادنا الإله

    ولعل أكثر قصائد السياب تجسيدا لفكرة بعـث ( الأرض الخـراب ) مـن
    مواتهـا ، قصـيدة ( أنشودة المطر ) وذلك بخلاف ما يوحي بـه ظاهر القصيدة لا سيما مطلعها الذي يوهم القارئ أول وهلة بأن القصيدة غزلية ذات نغمة رومانسية حالمة . ولعل هذا الاستيهام هو الذي جعل هذه القصيدة الأكثر شهرة بين سائر القراء .

    تبدأ ( أنشودة المطر ) بتأكيد خصوبة الأرض وعطاءها السخي حيث تضج كل عناصر الطبيعة بالحب وعنفوان الشباب وذلك في إشارة خفية غير مصرح بها ، إلى ذورة العلاقة وعنفوانها بين الإلهة عشـتار ( الأرض ) وعشيقـها الإله ( تموز ) . ثم ما يلبث أن يدور الزمان دورته ويستحيل كل هذا الرخاء والسخاء إلى جفاف وعقم ويعم الفقر والجوع والموت . ويظل الجميع يحلم بنزول المطر الذي يروي الأرض ويفجر بذرة الحياة فيها لتنبت من كل زوج بهيج .
    ولكن حتى عندما يستجاب الدعاء وينزل المطر ، يستحيل إلى فيضان مدمر فيتحول الماء الأمل المرتجي إلى عنصر هلاك ودمار وخراب هو الآخر . ومع ذلك يظل الشاعر يحلم بنزول المطر !

    لقد أتخذ السياب في هذه القصيدة ، من ( ثيمة ) المطر ناظما جماليا أو "معادلا موضوعيا " حسب المفهوم الاليوتى للتعبير عن الجفاف المادي والمعنوي رغبة منه في أحياء الموات الذي يسود العالم . وذلك مثلما فعل اليوت حينما وظف ( ثيمة ) الماء للتعبير عن ذات الفكرة في ( الأرض الخراب ) . لذلك نجد أن مفردة ( مطر ) تكررت في قصيدة السياب كثيرا وقد وردت أحيانا في صيغة لازمة موسيقية توالت في ايقاع منتظم : " مطر .. مطر .. مطر .. " أكثر من مرة وبذات الطريقة التي تكررت بها مفـردة ( مـاء ) فـي قصيـدة اليوت .
    فقول السياب :

    ودغدغت صمت العصافير على الشجر
    أنشودة المطر
    مطر ..
    مطر ..
    مطر ..

    هو في الواقع محاكاة لقول اليوت بالقسم الخامس والأخير من ( الأرض الخـراب ) المسـمى ( مـاذا يقـول الرعـد ) حيث يصور اليوت رحلة البحث ( الصحراوية ) عـن المـاء بمعنـاه المـادي والمعنوي تصويرا رائعا تتقطع لـه الأنفاس (5):

    Here there is on water but only rock
    …………….
    If there were the sound of water only
    Where the hermit-thrush sings in the pine trees
    Drip drop drip drop drop drop
    But there is on water

    لا ماء هنا وإنما صخر
    .........
    لو كان هنالك فقط صوت الماء
    حيث تغرد عصافير السمان على أشجار الصنوبر
    ( طق .. طق .. طق )
    قطرة ، قطرة ، قطرة
    لكن لا ماء.

    حتى الخليج الذي يتكرر ذكره في قصيدة السياب أكثر من مرة والذي صار لايهب سوى الموت وعظام الغرقى ، فيه إشارة إلى خليج الدردنيل الذي غرق فيه جان فردينال صديق اليوت في الحرب العالمية الأولي . وقد وردت إليه الاشارة في قـول اليـوت فـي الأرض الخراب :

    I think we are in the rats alley
    Where the dead men lost their bones.

    " أفكر، أنا في ممر الجذران ، حيث فقد الموتى عظامهم " .
    ويأتـي ذكـر الخليج في ( أنشودة المطر ) في مقطع شعري يتكرر نحو ثلاث مرات في صورة لازمة موسيقية حيث ينادي الشاعر الخليج بقوله :
    " يا خليج يا واهب اللؤلؤ والمحار"
    فيرتد إليه صدى النداء خاسئا حسيرا :
    " يا خليج يا واهب المحار والردى "
    مستبدلا كلمة اللؤلؤ بالردى .

    إن ( الموت بالماء ) أو الموت غرقا هو عنوان الجزء الرابع من ( الأرض الخراب ) ويمثل هذا العنوان خاصية من خصائص اليوت الأسلوبية الساخرة وهي توظيف المفارقة كقيمة جمالية للتعبير عن رؤاه الشعرية . فالماء العنصر الأساسي والوحيد في انبعاث الموات واعادة الحياة إلى ( الأرض الخراب ) يتحول إلى عامل من عوامل هذا الموات نفسه . ويعتبر الجزء الرابع ( الموت بالماء ) أقصر أجزاء قصيدة اليوت وقد خصصه اليوت للحديث رمزا عن صديقه جان فردينال الذي مات غرقا في خليج الدردنيل وذلك من خلال توظيف أسطورة الإله الفينيقي فليباس حيث يقول :

    Phlelbas the Phoenician, a fortnight dead,
    Forget the cry of gulls, and the deep sea swell
    And the profit and loss.
    A current under sea
    Picked his bones in whispers.As he rose and fell
    He passed the stages oh his age and youth
    Entering the Whirlpool.


    فيلباس الفينيقي ميت منذ أسبوعين
    نسى صوت النوارس ولجة البحر العميق
    والربح والخسارة
    تيار بعمق البحر فت عظامه في رفق
    وإذ صار يعلو ويهبط
    وهو يلج الدوامة
    مر بمراحل طفولته والشباب

    استلهم السياب في ( أنشودة المطر ) صورة هذا الملاح الغريق الذي تناثرت عظامه في قاع البحر بعد أن ظل طافيا بفعل الموج لبعض الوقت ، ليعيد صياغتها لوصف الخليج ( العربي ) الذي صار لا يلقي باللؤلؤ كما كان يفعل من قبل وإنما يلقي بالزبد وجثث الغرقى من البحارة والمهاجرين البائسين الفقراء ، حيث يقول :

    وينشر الخليج من هباته الكثار
    على الرمال ، رغوة الأجاج والمحار
    وما تبقي من عظام بائس غريق
    من المهاجرين ظل يشرب الردى
    من لجة الخليج والقرار

    لاحظ التناص بين قوله : " وما تبقي من عظام بائس غريق ظل يشرب الردى من لجة الخليج والقرار " . وقول اليوت : " تيار بعمق البحر فت عظامه في رفق – وإذ راح يعلو ويهبط وهو يلج الدوامة " .

    كذلك استعار السياب في ( أنشودة المطر ) صور شعرية أخري لاليوت من غير ( الأرض الخراب ) . ومن ذلك تشبيه المساء بإنسان وهي من التشبيهات المستحدثة التي أدخلها اليوت ووقف عندها النقاد وقلده فيها الشعراء . وقد ورد هذا التشبيه في أول قصيدة ( أغنية حب الفريد ج . بروفروك ) .
    ومن ذلك أيضا تشبيه اليوت الشهير للمساء المتمدد على الكون كتمدد مريض مخدر على منصة طبيب جراح والوارد في مطلع القصيدة المذكورة . وقد استعار السياب هذا التشبيهات في ( أنشودة المطر ) في قوله :
    " كالبحر سرح اليدين فوقـه المساء " . وقولـه : " تثـاءب المساء " .

    وإذا جاوزنا قصيدة ( أنشودة المطر ) نجد أن السياب وظف فكرة الدفن الواردة في عنوان الجزء الأول ( دفن الموتى ) من قصيدة اليوت في قصائد مثل ( سربروس في بابل ) ، و ( من رؤيا فوكاى ) ، و ( عودة جيكور ) وغيرها ، وذلك في ترسيخ فكرة الانبعاث والانبـات من جديـد . وقـد كانـت جثة إله الخصوبة ادونيس ، تموز ، آتيس ، أوزيريس عند الشعوب القديمة ، تدفن في المزارع كسبر لاستمرار اخضرار الأرض من جديد . ولما كان السياب يتخذ من موت إله الخصوبة كغيره من شعراء الحداثة الذين عرفوا بالتموزيين ، رمزا لموات الواقع العربي ، فإن النهضة التي ينشدها لا تتحقق إلا بدفن هذا الواقع الميت . يقول في قصيدة ( سربروس في بابل ) :

    ليعو سربروس في الدروب
    وينبش التراب عن إلهنا الدفين
    تموزنا الطعين
    يأكل ، يمص عينيه إلى القرار
    يقصم صلبه ، ينثر الورود والشفيق
    آواه لو يفيق
    إلهنا الفتى لو يبرعم الحقول
    لو ينثر البيادر النضار في السهول
    لو ينتض الحسام لو يفجر الرعود والبروق والمطر
    ويطلق السيول من يديه . آه لو يؤوب !

    وجريا على طريقة اليوت يشـرح الشـاعر فـي هوامش القصيـدة معنى ( سربروس ) ويقول : " سربروس هو الكلب الذي يحرس مملكة الموت في الأساطير اليونانية حيث يقوم عرش برسفون إلهة الربيع بعـد أن أختطفها إله الموت ، وقد صوره دانتى في الكوميديا الإلهيـة حارسـا ومعذبا للأرواح الخاطئة " . (6)

    إذن فالكلب الذي أشار اليوت بطرده في المقطع الأخير من الجزء الأول من الأرض الخراب ، حتى لا ينبش الجثة التي زرعها الشخص الذي يخاطبه ويمنعها من الاخضرار والأنبات – هو ذاته الكلب الإله حارس الموتى في الأسطورة اليونانية الذي حبس إلهة الربيع مثلما حبس الإله تموز ومنعه من العودة إلى عالم الأحياء ليعيد الخصوبة إلى الأرض التي ضربهـا الجفاف والعقم فـي غيابه . يقول اليوت :

    That corpse you planted last year in your garden,
    Has it begun to sprout? Will it bloom this year?
    Or has the sudden frost disturbed its bed?
    Oh keep the Dog far hence ,that’s friend to men,
    Or with his nail he will dig it up again!


    هل أنبتت الجثة التي زرعتها في حديقتك ؟
    العام الماضي ؟ أتراها تزهر هذا العام ؟
    أم ترى أن الصقيع المفاجئ اقضي مضجعها ؟
    ألا فتطرد الكلب ، صديق البشر بعيدا عنها
    وإلا نبش بأظافره وأخرج الجثة من جديد !!

    فالسياب آخذ هذه الصورة الشعرية من اليوت وأعاد توظيفها في قصائده وبالإضافة إلى الحمولات الأسطورية لهذه الصورة التي أشرنا إليها ، فإن اليوت يسخر هنا من جدوى الحرب التي زرعت جثث الموتى في كل مكان ويتساءل لو كان في الإمكان أن تبعث هذه الجثث إلى الحياة من جديد كما كان يبعث إله الخصوبة بعد موته كل عام . ولا شك أن اليوت مهموم بصفة خاصة بالطبع بصديقه جان فردينال الذي مات في الحرب .

    ولما كان الموت معبر حتمي إلى الحياة الأبدية الخالدة فهو في حد ذاته شكل من أشكال الحياة وإن أختلف عن الحياة التي نعرفها . فـي الجـزء الأول من ( الأرض الخراب ) يذهب الشاعر إلى العرافة الشهيرة فتجد أن في حياته هذا ( الملاح الفينيقي الغريق ) في إشارة إلى جان فردينال :

    Here, said she,
    Is your card, the drowned Phoenician Sailor,
    (Those are pearls that were his eyes. Look ! )

    قالت : هنا !
    ها هو كارتك ،
    الملاح الفينيقي الغريق
    أنظر ! هاتان اللؤلؤتان كانتا عينيه .

    ويستعير السياب صورة العينين اللتين تستحيلان إلى لؤلؤلتين من اليوت في قصيدة ( من رؤيا فوكاي ) حيث يقول :

    أبوك رائد البحار نام في القرار
    من مقلتيه لؤلؤ يبيعه التجار
    وحظك الدموع والمحار

    وكان اليوت قد ذكر فـي هوامـش ( الأرض الخـراب ) أنه أخذ عبارة ( لؤلؤتان كانتا عينيه ) من قول شكسبير في مسرحية ( العاصفة ) حيث كان الخادم الجني يغني سلوانا لفردناند الذي ظن أن أباه مات غرقا في العاصفة ويخبره أن أباه لم يمت وإنما مر بتحول بحري نفيس ونادر (7):

    ها على بعد خمسة أميال
    يرقد أبوك ..
    من عظامه صنع المرجان
    عيناه صارت لؤلؤلتان
    لا يتحلل منه شىء
    بل يتحول إلى شئ غال ونفيس
    عرائس البحر يقرعن ناقوس نعيه كل ساعة
    دنغ ، دنغ

    ويثبت ذلك السياب في هوامش قصيدته ويقول : " العاصفة ، شكسبير أغنية آريل لفردناند وقد اتخذه ت . س . اليوت في قصيدة الأرض الخراب رمزا عن الحياة من خلال الموت . ولكن لاحظ كيف حولت يبيعه التجار المعنى ! " .(

    و" فوكاى " كما يقول السياب في مقدمة كتبت اعلي القصيدة: " كاتب في البعثة اليسوعية في هيروشيما جن من هول ما شاهده عندما ضربت بالقنبلة الذرية " .
    اذن إذا كانت قصيدة ( الأرض الخراب ) قد كتبت لنعى الحضارة الغربية عشية الحرب العالمية الأولى ، فإن قصيدة السياب من ( رؤيا فوكاى ) قد كتبت للاحتجاج على أهوال الحرب العالمية الثانية التي وصلت قمة مأساتها بأول تفجير للقنبلة الذرية . لذلك تعد قصيدة ( من رؤيا فوكاى ) أكثر القصائد التي حذا فيها السياب حذر اليوت في ( الأرض الخراب ) من حيث تقسيم القصيدة إلى أجزاء كل جزء يحمل اسما خاص به . ومن حيث توظيف ظاهرة التناص أو التضمين والاستعانة بالهوامش لتوضيح المصادر التي اقتبس منها . إلى جانب تقليد اليوت في استخدام شخصية أسطورية تلتقي عندها جميع شخصيات القصيدة الأخرى .

    في أحد هوامش القصيدة يقول السياب : " وليلاحظ قراء قصيدتي هذه أن هنالك شخوصا ثلاثة تترابط في ذهني : الصياد الياباني أو الصيني الغريق الذي أخاطب ابنته ، وابو فرديناند الذي زعم آريل أنه غرق – والقردة ( البابيون ) التي أتخذت مكان أم الطفل في قرارة المحيط كما جاء في قصيدة ايديث ستويل ترنيمة السرير .. " . (9)

    وهذه محاكاة صريحة لاليوت عندمـا حـاول أن يجعـل جميع شخصيات ( الأرض الخراب ) تلتقي عند شخصية تيرزياس الأسطورية حيث يقول في هوامشه :
    " بالرغم من أن تيرزياس مجرد شاهد في القصيدة إلا أنه يعتبر أهم شخصية في القصيدة كلها ، إذ أنه يوحد بين الجميع . وتلتقي عنده كل الشخصيات الأخري . فالتاجر الأعور وبائع الزبيب يذوبان في الملاح الفينيقي . والملاح الفينيقي لا يختلف هو الآخر كثيرا عـن فردينانـد أميـر نابولـي فـي مسرحية ( العاصفة ) . وكذلك فإن جميع النساء في القصيدة امرأة واحدة ، ويلتقي الجميع رجال ونساء في شخصية تيرزياس . فالذي يراه تيرزياس في الواقع هو جوهر القصيدة .. " . (10)

    ولما كانت قصيدة ( من رؤيا فوكاى ) بمثابة مرثية لضحايا القنبلة الذرية في اليابان فقد عمد السياب إلى إيجاد أسطورة يابانية أو صينية ليتخذها معادلا موضوعيا للتعبير عن تعاطفه مع الضحايا والاحتجاج على النهاية المأساوية البشعة التي انتهت إليها الحضارة الغربية . وعن هذه الأسطورة يقول السياب في هامش القصيدة :
    " تحدثنا إحدى الأساطير الصينية عن ملك أراد ناقوسا ضخما يصنع من الذهب ، والحديد والفضة والنحاس . وكلف أحد الحكام بصنعه . ولكن المعادن المختلفة أبت أن تتحد . واستشارت كونغاى – وهي ابنة ذلك الحاكم – العرافين بالأمر فأنباؤها بأن المعادن لم تتحد ما لم تمتزج بدماء فتاة عذراء .. وهكذا ألقت كونغاى بنفسها في القدر الضخمة التي تصهر فيها المعادن .. فكان الناقوس .. وظل صدى كونغاى يتردد منـه كلمـا دق : هياى .. كونغاى ، كونغاى " . (11)

    وقد جعل السياب من صوت الناقوس في رثاء كونغاى عنوانا للجزء الأول من قصيدة ( من رؤيا فوكاى ) والتي يقول مطلعها :

    ما زال ناقوس أبيك يقلق المساء
    بأفجع الرثاء :
    " هياى .. كونغاى ، كونغاى "

    ولا يخفى الشبه بين قول السياب هذا وأغنية ( آريل ) في مسرحية (العاصفة) لشكسبير في رثاء أمير نابولي والتي استوحاها السياب من تناصص اليوت معها في ( الأرض الخراب ) لا سيما في استخدم الناقوس كوسيلة لاعلان الموت والحداد .

    وكان قد تعرف السياب قد تعرف اول مرة على شعر اليوت ، أثناء دراسته بكلية المعلمين العالية ببغداد حيث يقول : " وفي سنتي الأخيرتين في دار المعلمين العالية ، تعرفت لأول مرة بالشاعر الإنجليزي تي . اس . اليوت " (12)
    وكانت أول إشارة إلى اليوت في شعر السياب ، وردت في ديوان ( أساطير ) الذي صدر سنة 1950م وضم قصائده التي كتبها في سـنتيه الأخيرتيـن بـدار المعلميـن وهما سنتي 47 – 1948م . ووردت الإشارة إلى اليوت في هذا الديوان في موضعين ، الأولى في قصيدة ( ملال ) في قوله :

    وتجول عيني في الطريق وتستقر على كتابي
    وأكيل بالأقداح ساعاتي وأسخر باكتئابي


    فقد أقتبس قوله : " أكيل بالأقداح ساعاتي " من تشبيه مشهور لأليوت ورد بقصيدة " أغنية حب الفريد ج بروفروك " حيث يقول :
    " أقيس حياتي بملاعق القهوة " . والإشارة الثانية جاءت في قوله :-

    فلتنبت الأرض الخراب
    على سنا النجم الحزين
    صبارها . (13)

    ويعلق السياب على هامش القصيدة على عبارة " الأرض الخراب " قائلا : " عنوان قصيدة للشاعر الإنجليزي الرجعى ت . اس . اليوت " . ووصفه لأليوت هنا بالرجعى ربما يعود إلى انتمائه إلى الحزب الشيوعي آنذاك . حيث كان اليوت في ذلك الوقت يصنف من قبل الشيوعيين باعتباره رمزا من رموز الرجعية الرأسمالية في الأدب . ويبدو أن السياب لا يعبر هنا عن رأيه الشخصي فـي اليوت ، بقدر ما كان يعبر عن ممالاة التزامه الحزبي . فبعد سنوات من ذلك يعود ويصف اليوت بأنه أعظم شاعر حديث في اللغة الإنجليزية . (14)

    وبعد انسلاخه عن الحزب الشيوعي في حوالي عام 1953 صار أكثر حرية في التعاطي مع تيارات الشعر العالمي بمختلف اتجاهاته . وبتأثير من الشاعر الإنجليزي اليساري استيفن سبندر تبنى له اتجاها شعريا جديدا سماه " الواقعية الحديثة " حيث يقول : " .. الواقعية التي أدعو إليها هي الواقعية الحديثة التي تحدث عنها الناقد والشاعر الإنجليزي ستيفن سبندر في محاضرته القيمة عن الواقعية الجديدة والفن والتي جاء فيها أن الفنان الحديث أصبح انطباعيا وسرياليا وتكعيبيا ورمزيا في محاولة منه للانسجام بين ذاته والمجتمع " .(15)

    هذا المفهوم الشمولي للفن دفعه إلى الإقبال على شعر اليوت والتأثر به أكثر فأكثر . وتجلى ذلك أول الأمر في استلافه لأساطير الخصوبة والبعث التي استلهمها اليوت في قصيدة ( الأرض الخراب ) . فبعد أن كان استعماله الأسطورة لا يتجاوز الزج بأسماء الأساطير اليونانية القديمة في ثنايا قصائده كما كان يفعل شعراء الغرب الرومانسيين مثل كيتس وشيلى اللذين تأثر بهما في بواكير شبابه ، صار يستدعى الأساطير الشرقية مثل عشتار وتموز وادونيس ويحولها إلى مطلق أو معادل موضوعي يجسد أحلامه وأشواقه الخاصة والعامة .

    وهكذا يتضح مدي عمق تأثر السياب - أهم رواد قصيدة الحداثة العربية- باليوت وأسلوبه الشعري . إلا أنه يمكن القول إجمالا أن هذا التأثر يكاد ينحصر في الاقتباس والتضمين ( التناص ) وفي استخدام الأسطورة ولا يتعدى ذلك إلى البنية الموسيقية والدرامية للقصيدة والتعبير بالصورة الشعرية ، بديلا عن التقرير المباشر الذي يميز طريقة السياب في الكتابة الشعرية .

    ________

    * نشرت بمجلة الرافد - دائرة الثقافة والاعلام بالشارقة - عدد 69 - مايو 2003
    ** فصل من كتاب تحت الطبع : تاثير اليوت علي القصيدة العربية الحديثة

    الهوامش :

    1- James Frazer,The Golden Bough,Oxford Press,1994,p300-3004
    2- د. احسان عباس - بدر شكر السياب - حياته وشعره - دار الثقافة - بيروت - الطبعة الخامسة ص
    3- ناجي علوش - مقدمة ديوان بدر ساكر السياب - المجلد الاول - دار العودة بيروت - طبعة 1995 ص
    4- Students Guide to the selected poems of T.s.Eliot, B.c.Southam,Faber & Faber,Six Edition,p.131
    5- ديوان بدر ساكر السياب - المجلد الاول - دار العودة بيروت - طبعة 1995 ص 482
    6- ديوان بدر ساكر السياب - المجلد الاول - دار العودة بيروت - طبعة 1995 ص 356
    7- د. عبد الواحد لؤلؤة - الارض اليباب - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - الطبعة الاولي 1980 - بيروت
    8- ديوان بدر ساكر السياب - المجلد الاول - دار العودة بيروت - طبعة 1995
    9- المصدر السابق ص 357
    10- T.S.Eliot,The Waste land and other Poems,Faber & Faber,1990,p 44
    11- ديوان بدر ساكر السياب - المجلد الاول - دار العودة بيروت - طبعة 1995 ص 355
    12- د. احسان عباس - بدر شكر السياب - حياته وشعره - دار الثقافة - بيروت - الطبعة الخامسة ص 89
    13- المصدر السابق ص 145 .
    14- المصدر السابق ص 145 .
    15- ديوان بدر ساكر السياب - مقدمة ناجي علوش - المجلد الاول - دار العودة بيروت - طبعة 1995


    والان بعد إن إستدرجت المنقول إلى هنا علىَ توضيح الاسباب التى دفعت بى وحفزتني لهذا النقل المفيد .


    التناص حق مشروع لكل شاعر أو أديب ولا يعد سرقة ولا نصب وإحتيال .

    تبادل الحرفة والخبرة بين الشعراء واصحاب الابداع

    متى يتم توظيف الاساطير أو إستحضار الوقائع التاريخية والتزود بالحكايا التراثية . وكيفية الاستفاده منها فى تعميق المضمون بالمنتج الابداعى وإسقاطه على نوايا المبدع . دون الخلط بين المعتقد واللعبة الشعرية اللهوية لانها قد تتحول إلى أفة ضارة تهلك الشعائر وتفسد الضمائر ويصبح شاعرها ومعجبيها كمثل فرعون الذى أورد قومه النار .

    وأقول الاساطير والحكايا ( لانها أشكال وضعية وضعت من قبل البشر ولعب الخيال والشطح به حتى إرهق ) وقابلة للكذب والزيف والخداع بنسب عالية وذلك نتاج تنقلها وترحالها عبر السنين والمزاج الشخصى للراوى والمتحدث عنها .

    والسبب الاخير الذى حثنى على النقل هو إننى أمهد لتناول ( عجنة أخرى ) من رفس العنابرة ..

    الذى من خلال عجائنهم أوافق لويس عوض على إن الشعر إنتهاء بإنتهاء أمير الشعراء أحمد شوقى .

    اريد تفويت فرصة المماطلة وثرثرة الحوار المتمتم وغمغمة الاصوات المخدوعة كى لا تجد سعة فى بقائها تتململ ذات اليمين وذات الشمال وهى تحت شمس الحق ونور الحقيقة بهذا النقل للناقد عبدالمنعم .. وأنا أعول كثيرا على النقاد السودانين فى خدمة الشعر وتوسيع الذائقة الجمالية عند المتلقى والقارىء مرمى الهذف .

    لنا موعد مع العجنة العنبرية القادمة إن شاء الله .. لان بمثل هذا التناول سوف نطهر الذائقة ونحمى القارىء البرىء من خلطهم وتعجينهم ورفسهم وأثقال كذبهم .

    دورا أراه يستحق العمل به .

    وعمل مريح أمارس به أمانتى ولا أضر أحدا هنا .

    أخوكم عبدالله عمر
    التعديل الأخير تم بواسطة عبدالله عمر; الساعة 02-01-2008, 11:37 AM.
    قس مسافة الصبح والليل

    أيهما بإتجاهك أطول
يعمل...
X