من الجيد إتاحة المجال للأعمال القديمة التي لم تبصر النور.. هكذا نؤدي واجب الوفاء لها ونحن نسحقها بأقدامنا ونحن نخطو الخطوة الممتدة الابعد... هي بعض الذكريات.. لا أكثر
و كأنما خلق فجأة من جوف الأرض اجتاحه شعور مرير بقسوة الحياة, و من عينيه الرماديتين انسلت دمعة غادره تكفن طمأنينته المزعومة و هو يمر أمام بيتهم, بيت أمه التي ماتت أثناء سفره, أحس أن ثقلا هائلا يجثم عليه فترك حقيبته المرتقة و تقرفص على عتبة ماضيه و كأنما الدموع قد أسرته, أجهش بالبكاء دون مقدمات.
بعد دقائق أشاح بنظره عن مرأى البيت المهجور لتهاجمه الذكريات بلا شفقة, تذكر قريته الآمنة بيتا بيتا, فردا فردا, و أحس بغربة شديدة, أشد وطأة من غربته السابقة, سبع سنين في السجن, أصابته حرقة في جوفه مذ صدر حكم الإدانة و حتى صدر حكم البراءة, سبع سنين و هو لا يعرف سوى أنه كان ضحية لمجهول, المجهول الذي قيدت ضده القضية - ربما -.
تذكر في غمرة انهياراته أمه التي ماتت بعيد سجنه, أحس بغربة تجتاحه مرة أخرى فانساب بمخيلته بعيدا مع إشاحته لبصره نحو البيت المجاور, بيت سارة.
حملق طويلا في العدم المحيط ببيتها, و مع تصاوير الظلام المنبثقة من خياله و ذاكرته ابتسم مرة أخرى, كشجرة نسيها الخريف في عباءته, كان يدعوها بذات الوجه الدائري.
عاد بذاكرته إلى ذلك الزمان الفريد, تذكر اللقاء الأخير سبق اعتقاله بيوم واحد, يوم قالت : خائفة.
فهم - ساعتها - أنها تود أن يحتضنها, و لكم ادعت الخوف ليحيطها كنسمة دفئية بعد شتاء قارس, كانت لا تجيد الحديث, طفلة تتعلم الهجاء, و لم يكن بحاجة إلى كلمة منها ليفهم،لها عين فيروزية من زرقة السماء و خضرة الأرض التي تستقبل الربيع, كل شيء كان في نظراتها حتى القبلة الوحيدة التي اختلسها ذات يوم و غضبت عليه بشدة كانت تتراقص في ألق عينيها الذي لا ينطفئ.
كانت تخاف من كل شيء, إلا عندما تكون معه, وقتها كانت تبتسم كأنها طفل يشاهد الثلج لأول مرة, أغمض عينيه برغم الظلام ليتذكر تقاطيع وجهها المدور و الغمازة الوحيدة التي تظهر في خدها الأيمن, ابتسم حين تذكر المداعبة التي اعتادها, ( لقد سرق الشيطان الغمازة الأخرى ) و كانت تعبس بوجهه و تتمتم بصوتها الهامس دائما, ( لو اقترب مني الشيطان لقتلته).
زفر بحرارة شديدة و أخرج من حقيبته صورة لها بدت ساطعة رغم سحب الظلام المحيط, ترى أين هي الآن, هكذا قال لنفسه.
تناول حقيبته الهزيلة و قام مرتجفا و هو يتفقد أزمانه و طفولته في تفاصيل قريته التي يطويها الصمت في عباءته, مع كل قرميدة كانت له ذكرى, مع كل خطوة يمشيها تقتحم الذكريات طمأنينته لتطفر عيناه بالدموع, لنصف ساعة أو أكثر استمر وقوفه أمام بيتها و هو يتمتم بهمسه المبحوح: أين أنت الآن يا سارة.
فجأة تصاعد الحقد إلى قلبه, فأسرع من خطاه ليتجاوز بيت ( عباس ), تزعزع أمله الباقي في لقيا سارة و هو يتخيلها زوجة لعباس, ابن الشيخ, كان دائما المنافس الوحيد له, و لولا أم سارة لتزوجا قبل أن تهجر رداءها المدرسي و ضفيرتيها الطفوليتين, أسرع من خطاه و كأنما الطبيعة كانت تقف في صفه ارتفع أزيز الرياح لتتكلم النخيل حفيفا كناي حزين تعزفه و بدا كمن يصارع الرمق الأخير من الأمل و هو يتجه إلى المقبرة لزيارة قبر أمه.
تلمس خطاه بدقة شديدة و أحس أن بونا شاسعا من الزمن يفصل بينه و بين الطريق الذي طالما لعب فيه هو و أصدقائه من اليتامى ( المديسوه ) التي استعانوا بها على تزجية الوقت بعد أن سرقت الكوليرا آباءهم و بعض أمهاتهم.
مر على زاوية من المقبرة تبدو عليها الفوضى تنتثر فيها القبور لا نظام حيث لا شيء سوى ورم باهت يكشف عن وجود قبر ما, اقشعر بدنه و هو يشاهد قبورا صغيرة الحجم بدت كندبة خجلى في وجه التراب, أخبروه عندما كبر أن أباه يرقد هنا فلم يعرفه و لم يعرف على أي قبر يقرأ القرآن في رمضانات قريتهم الساذجة.
لم يطل بحثه عن قبر أمه, إذ برز قبرها أمامه على حين غرة و كأنه نبت من أضلاع العدم, أحس بنشوة تخللها حزن هامس ترجمته دمعة كابية على خده الأيمن, قرأ آيات من القرآن على قبرها الذي دثرته حشائش جبلية, من ثم أصابته طمأنينة غريبة برغم الطبيعة التي دنست بقايا أمه.
لحظات قليلة من زمنه المجهول مرت خلالها أحداث بؤسه عليه, وقف أمام القبر ساهما لا يعرف, أيبكي؟ أم يصمت؟, تقلبات نفسية هائلة خنقت البقية الباقية من تجلده و منعت جزعه من الظهور, شعر بخجل شديد و هو لا يزال يفكر بسارة رغم أنه اللقاء الأول مع قبر أمه, تأفف ساخطا من نفسه و دفعه الفضول إلى تفقد القبور الباقية, مر بهدوء محاولا سبر أغوار الظلام على القبور المجاورة.
كلما مر على قبر من القبور تعاظمت مرارته التي أعقبت فعلته أمام قبر أمه و ازداد حزنه على موت أحباب وجدهم هناك, مرر يد مترجفة على الشواهد الجرانيتية الصماء و كأنه يستدر الشجن الذي أودعته تقلبات الدهر بها, و ما أن وصل إلى القبر الأخير حتى درات به الدنيا, ( قبر العبد الفقير, عباس بن إبراهيم), هكذا كتبت العبارة مختصرة كل شيء, إذن مات عباس, ترك له الدنيا و ما فيها بعد عامين من سجنه بجوار قبره رقدت أم عباس, زوجة الشيخ السليطة اللسان, صمت لبرهة مدافعا حبورا مستترا, و أنبه ضميره بشدة فاستغفر الله و قفل راجعا للقرية لينام في المسجد.
أيقظته تسابيح مؤذن أعمى, استغرق فترة من الزمن ليعرفه, إنه الشيخ إبراهيم, غص فؤاده عندما تذكر الشيخ و بطشه السابق بأهل القرية, اجتاحته الشفقة مع تذكره لقبر عباس بالأمس لم يستطع أكثر من رد السلام على الشيخ الذي استنكر صوته, فقال إنه عابر سبيل, لم يهتم الشيخ به بل أذن ثم انتوى ركعتيه صامتا, قام من مكانه ليتوضأ في الفلج المجاور, طافت بذاكرته أيام اصطياد ( الصَّد ) و كم كان يفوق الجميع في عدد ما يصطاده, تشوق لبدء الصلاة لعل الجميع سيعرفون نبأ وصوله, توضأ بهدوء ثم عاد ليصلي ركعتيه, مرت أكثر من ربع ساعة ليقوم بعدها الشيخ لإقامة الصلاة, ألقى نظرة بائسة على المسجد الخالي من المصلين ووقف مع الإمام, حينها فقط أدرك أن قريته لم تعد كما كانت.
لم يكن هو, بل كانت عينه الذاهلة, و لم تكن قريته تلك, كانت مستودعا استعمرته مجموعة من الهنود, النخل ذابل و أشجار ( اللمبا ) مصفرة, لا سارة , حتى ( المجازة ) التي بناها هو و أصدقائه اليتامى قد تحول إليها الهنود, أربع ساعات اقتنصها الذهول من عمره, لم يكد يصدق أنه في قريته, و ها هو في مكان لا يعرفه, يجهله المكان و يتبرأ منه كأنه لم يكن منه, ركض هائما على وجهه تحدق فيه نظرات الهنود الساخرة, وصل إلى ( لمباة ) قديمة كانت لعبة الجميع ذات يوم ,جلس تحتها و قد أصبحت لعنته الوحيدة و بكى كأنه لم يبك قبلا.
كل شيء أصفر اللون يابس القوام, القرية خاوية, تذكر سارة, بكى و لم تعد سارة كما لم تعد قريته, (أين الجميع؟ ), هكذا كان ينتحب, كل شيء يجري بسرعة, الشمس تحرق وجهه و لا يزال النهار يكويه ليصبح عدما, بلا قرية و لا حبيبة.
تذكر شيخ المسجد و قام راكضا إليه, تجاوز القرية بخطواته الراكضة و لكنه لم يتجاوز الزمان, تجاوز المنازل القديمة و لكنه لم يطرد الهنود, ركض كأنه شهاب شارد أو قطرة مطر ينزفها الغمام.
كان الشيخ يتوضأ, صرخ به: شيخ... أين الجميع يا شيخ.
تجاهله و أكمل وضوءه, فأمسكه من كتفيه بعنف : أين الجميع يا شيخ
أزاحه الشيخ بهدوء و قال بلهجة تختصر أزمانه الضائعة: لقد غادروا يا ولدي, لقد هاجروا إلى مسكد.
خنقته الحقيقة, و لكنه عاود إمساكه مرة أخرى: و سارة .. أين هي.
تجاهله الشيخ ورفع صوته بالآذان للمرة الأخيرة.
راسكولينكوف
19/5/2003
( العائد )
في الهزيع الأخير من الليل, بينما تغني الهوام أسطورة الفقد الأبدية, وفي درب مظلم بين البيوت النائمة, فغر الظلام فاه عنه, مطرقا وعقله مليء بأطياف و ذكريات لعمر أفناه في طرقات القرية الساكنة, مر بالقرب من بيت مهدم أخفى الظلام معالمه ليحوله إلى لوحة سريالية تتناثر فيها الذكريات, رفع عينه الرمادية التي أكسبها الظلام شيئا من الحزن و الخوف إلى مئذنة المسجد و فترت شفته الكابية عن ابتسامة تجسدت على قسمات وجهه الجاف الذي أشقته السنون, سبع سنوات مذ غادر قريته, ليعود مرة أخرى خالي الوفاض. و كأنما خلق فجأة من جوف الأرض اجتاحه شعور مرير بقسوة الحياة, و من عينيه الرماديتين انسلت دمعة غادره تكفن طمأنينته المزعومة و هو يمر أمام بيتهم, بيت أمه التي ماتت أثناء سفره, أحس أن ثقلا هائلا يجثم عليه فترك حقيبته المرتقة و تقرفص على عتبة ماضيه و كأنما الدموع قد أسرته, أجهش بالبكاء دون مقدمات.
بعد دقائق أشاح بنظره عن مرأى البيت المهجور لتهاجمه الذكريات بلا شفقة, تذكر قريته الآمنة بيتا بيتا, فردا فردا, و أحس بغربة شديدة, أشد وطأة من غربته السابقة, سبع سنين في السجن, أصابته حرقة في جوفه مذ صدر حكم الإدانة و حتى صدر حكم البراءة, سبع سنين و هو لا يعرف سوى أنه كان ضحية لمجهول, المجهول الذي قيدت ضده القضية - ربما -.
تذكر في غمرة انهياراته أمه التي ماتت بعيد سجنه, أحس بغربة تجتاحه مرة أخرى فانساب بمخيلته بعيدا مع إشاحته لبصره نحو البيت المجاور, بيت سارة.
حملق طويلا في العدم المحيط ببيتها, و مع تصاوير الظلام المنبثقة من خياله و ذاكرته ابتسم مرة أخرى, كشجرة نسيها الخريف في عباءته, كان يدعوها بذات الوجه الدائري.
عاد بذاكرته إلى ذلك الزمان الفريد, تذكر اللقاء الأخير سبق اعتقاله بيوم واحد, يوم قالت : خائفة.
فهم - ساعتها - أنها تود أن يحتضنها, و لكم ادعت الخوف ليحيطها كنسمة دفئية بعد شتاء قارس, كانت لا تجيد الحديث, طفلة تتعلم الهجاء, و لم يكن بحاجة إلى كلمة منها ليفهم،لها عين فيروزية من زرقة السماء و خضرة الأرض التي تستقبل الربيع, كل شيء كان في نظراتها حتى القبلة الوحيدة التي اختلسها ذات يوم و غضبت عليه بشدة كانت تتراقص في ألق عينيها الذي لا ينطفئ.
كانت تخاف من كل شيء, إلا عندما تكون معه, وقتها كانت تبتسم كأنها طفل يشاهد الثلج لأول مرة, أغمض عينيه برغم الظلام ليتذكر تقاطيع وجهها المدور و الغمازة الوحيدة التي تظهر في خدها الأيمن, ابتسم حين تذكر المداعبة التي اعتادها, ( لقد سرق الشيطان الغمازة الأخرى ) و كانت تعبس بوجهه و تتمتم بصوتها الهامس دائما, ( لو اقترب مني الشيطان لقتلته).
زفر بحرارة شديدة و أخرج من حقيبته صورة لها بدت ساطعة رغم سحب الظلام المحيط, ترى أين هي الآن, هكذا قال لنفسه.
تناول حقيبته الهزيلة و قام مرتجفا و هو يتفقد أزمانه و طفولته في تفاصيل قريته التي يطويها الصمت في عباءته, مع كل قرميدة كانت له ذكرى, مع كل خطوة يمشيها تقتحم الذكريات طمأنينته لتطفر عيناه بالدموع, لنصف ساعة أو أكثر استمر وقوفه أمام بيتها و هو يتمتم بهمسه المبحوح: أين أنت الآن يا سارة.
فجأة تصاعد الحقد إلى قلبه, فأسرع من خطاه ليتجاوز بيت ( عباس ), تزعزع أمله الباقي في لقيا سارة و هو يتخيلها زوجة لعباس, ابن الشيخ, كان دائما المنافس الوحيد له, و لولا أم سارة لتزوجا قبل أن تهجر رداءها المدرسي و ضفيرتيها الطفوليتين, أسرع من خطاه و كأنما الطبيعة كانت تقف في صفه ارتفع أزيز الرياح لتتكلم النخيل حفيفا كناي حزين تعزفه و بدا كمن يصارع الرمق الأخير من الأمل و هو يتجه إلى المقبرة لزيارة قبر أمه.
تلمس خطاه بدقة شديدة و أحس أن بونا شاسعا من الزمن يفصل بينه و بين الطريق الذي طالما لعب فيه هو و أصدقائه من اليتامى ( المديسوه ) التي استعانوا بها على تزجية الوقت بعد أن سرقت الكوليرا آباءهم و بعض أمهاتهم.
مر على زاوية من المقبرة تبدو عليها الفوضى تنتثر فيها القبور لا نظام حيث لا شيء سوى ورم باهت يكشف عن وجود قبر ما, اقشعر بدنه و هو يشاهد قبورا صغيرة الحجم بدت كندبة خجلى في وجه التراب, أخبروه عندما كبر أن أباه يرقد هنا فلم يعرفه و لم يعرف على أي قبر يقرأ القرآن في رمضانات قريتهم الساذجة.
لم يطل بحثه عن قبر أمه, إذ برز قبرها أمامه على حين غرة و كأنه نبت من أضلاع العدم, أحس بنشوة تخللها حزن هامس ترجمته دمعة كابية على خده الأيمن, قرأ آيات من القرآن على قبرها الذي دثرته حشائش جبلية, من ثم أصابته طمأنينة غريبة برغم الطبيعة التي دنست بقايا أمه.
لحظات قليلة من زمنه المجهول مرت خلالها أحداث بؤسه عليه, وقف أمام القبر ساهما لا يعرف, أيبكي؟ أم يصمت؟, تقلبات نفسية هائلة خنقت البقية الباقية من تجلده و منعت جزعه من الظهور, شعر بخجل شديد و هو لا يزال يفكر بسارة رغم أنه اللقاء الأول مع قبر أمه, تأفف ساخطا من نفسه و دفعه الفضول إلى تفقد القبور الباقية, مر بهدوء محاولا سبر أغوار الظلام على القبور المجاورة.
كلما مر على قبر من القبور تعاظمت مرارته التي أعقبت فعلته أمام قبر أمه و ازداد حزنه على موت أحباب وجدهم هناك, مرر يد مترجفة على الشواهد الجرانيتية الصماء و كأنه يستدر الشجن الذي أودعته تقلبات الدهر بها, و ما أن وصل إلى القبر الأخير حتى درات به الدنيا, ( قبر العبد الفقير, عباس بن إبراهيم), هكذا كتبت العبارة مختصرة كل شيء, إذن مات عباس, ترك له الدنيا و ما فيها بعد عامين من سجنه بجوار قبره رقدت أم عباس, زوجة الشيخ السليطة اللسان, صمت لبرهة مدافعا حبورا مستترا, و أنبه ضميره بشدة فاستغفر الله و قفل راجعا للقرية لينام في المسجد.
أيقظته تسابيح مؤذن أعمى, استغرق فترة من الزمن ليعرفه, إنه الشيخ إبراهيم, غص فؤاده عندما تذكر الشيخ و بطشه السابق بأهل القرية, اجتاحته الشفقة مع تذكره لقبر عباس بالأمس لم يستطع أكثر من رد السلام على الشيخ الذي استنكر صوته, فقال إنه عابر سبيل, لم يهتم الشيخ به بل أذن ثم انتوى ركعتيه صامتا, قام من مكانه ليتوضأ في الفلج المجاور, طافت بذاكرته أيام اصطياد ( الصَّد ) و كم كان يفوق الجميع في عدد ما يصطاده, تشوق لبدء الصلاة لعل الجميع سيعرفون نبأ وصوله, توضأ بهدوء ثم عاد ليصلي ركعتيه, مرت أكثر من ربع ساعة ليقوم بعدها الشيخ لإقامة الصلاة, ألقى نظرة بائسة على المسجد الخالي من المصلين ووقف مع الإمام, حينها فقط أدرك أن قريته لم تعد كما كانت.
لم يكن هو, بل كانت عينه الذاهلة, و لم تكن قريته تلك, كانت مستودعا استعمرته مجموعة من الهنود, النخل ذابل و أشجار ( اللمبا ) مصفرة, لا سارة , حتى ( المجازة ) التي بناها هو و أصدقائه اليتامى قد تحول إليها الهنود, أربع ساعات اقتنصها الذهول من عمره, لم يكد يصدق أنه في قريته, و ها هو في مكان لا يعرفه, يجهله المكان و يتبرأ منه كأنه لم يكن منه, ركض هائما على وجهه تحدق فيه نظرات الهنود الساخرة, وصل إلى ( لمباة ) قديمة كانت لعبة الجميع ذات يوم ,جلس تحتها و قد أصبحت لعنته الوحيدة و بكى كأنه لم يبك قبلا.
كل شيء أصفر اللون يابس القوام, القرية خاوية, تذكر سارة, بكى و لم تعد سارة كما لم تعد قريته, (أين الجميع؟ ), هكذا كان ينتحب, كل شيء يجري بسرعة, الشمس تحرق وجهه و لا يزال النهار يكويه ليصبح عدما, بلا قرية و لا حبيبة.
تذكر شيخ المسجد و قام راكضا إليه, تجاوز القرية بخطواته الراكضة و لكنه لم يتجاوز الزمان, تجاوز المنازل القديمة و لكنه لم يطرد الهنود, ركض كأنه شهاب شارد أو قطرة مطر ينزفها الغمام.
كان الشيخ يتوضأ, صرخ به: شيخ... أين الجميع يا شيخ.
تجاهله و أكمل وضوءه, فأمسكه من كتفيه بعنف : أين الجميع يا شيخ
أزاحه الشيخ بهدوء و قال بلهجة تختصر أزمانه الضائعة: لقد غادروا يا ولدي, لقد هاجروا إلى مسكد.
خنقته الحقيقة, و لكنه عاود إمساكه مرة أخرى: و سارة .. أين هي.
تجاهله الشيخ ورفع صوته بالآذان للمرة الأخيرة.
راسكولينكوف
19/5/2003
تعليق