كانت السماء الملبدة بالغيوم تمطر بغزارة، وقد خلت الشوارع سوى من بعض السيارات المسرعة إلى بيوتها، فقط سيارته كانت تقف بجوار حديقة صغيرة اعتاد على زيارتها يوميا، ربما تمثل لديه ذكرى لماضِ قديم ، ظل (وحيد) واقفا يستمع إلى زخات المطر القوية ،ثم قرر العودة إلى المنزل بعد أن شعر بأن الأمطار لن تتوقف قريبا.
لمح فتاة تظهر من بعيد، لم تتضح الرؤيا لديه لكثر الأمطار المنسكبة، اقترب فاتضحت الرؤيا لديه شيئاً فشيئاُ، رآها فتاة بزيها المدرسي تحتضن حقيبتها بين ذراعيها، تمشي بخطوات صعبة تصارع فيها الرياح العاصفة، توقف بالقرب منها فالتفتت إليه، كانت ترتجف بردا، قد بللتها الأمطار الغزيرة، رآها وقد أعطت قطرات المطر لوجهها الأبيض المنير رونقا ساحرا أضفى على خديها حمرة جميلة، تألقت في عينيه كوردة متفتحة قد زادتها قطرات الندى زينة وسحرا.
فتح نافذته الجانبية وقال لها مبتسما:
- إلى أين أنتِ ذاهبة تحت هذه الأمطار الغزيرة يا آنسة ؟
أجابته وقد أضفت على ثغرها ابتسامة تجمع في معانيها ترددا واضحا بين الطمأنينة والخوف :
- انتهيت من المدرسة وأنا ذاهبة الآن إلى المنزل في الحي المجاور.
قال: - اذا سأوصلك فالجو متعب والشوارع خالية.
نظرت إليه بحيرة وقد تذكرت وصية والدتها بعدم الركوب مع أي شخص يوقف سيارته لها في الطريق.
قررت الركوب أخيرا وتجاهلت ذلك الأمر بسبب الطقس البارد، ألقت نظرة على حذاءها الملطخ بالوحل وثيابها المبللة، ثم رمقته بنظرة استحياء يداخلها شعور طفولي بريء.
قال ضاحكا: لا عليكِ من ذلك.
ركبت بجواره، ثم وصفت له الطريق المؤدي إلى منزلها، نزلت وقد ظلت نظراته تتابع طريقها حتى غابت عن ناظريه بدخولها باب بناية كبيرة يغلب عليها طابع معماري قديم.
بعد لحظات قليلة نزل ودار بينه وبين حارس تلك البناية حديث قصير، بعدها رجع إلى المنزل.
استلقى على سريره وقد شغلت تلك الفتاة خواطره، وظل يسترجع تلك اللحظات القليلة، وما علم به من حارس البناية.
اسمها (زهرة) الابنة الوحيدة لوالديها، طالبة في السنة الأخيرة، والدتها ربة منزل في بداية الشيخوخة، أما والدها فقد تجاوز السبعين من عمره، يتكأ على عصاته الهرمة ولم يتبقى له من العمر إلا القليل.
شعر بأحاسيس جياشة لم تنتابه منذ زمن طويل، وقضى يومه ذاك ولم تفارق (زهرة) خياله لحظة واحدة. أما هي فقد استغربت ما حدث لها، ولكن سرعان ما داهمها النعاس واستسلمت لنوم عميق وقد احتفظت بصورته في مقلتيها العسليتين.
استيقظت باكرا كعادتها، وقد بدأ قرص الشمس بالارتفاع، ليضفي على الأرض الرطبة جمالا ساحرا بعد يوم ممطر. خرجت من منزلها وهي تشعر بنشوة عارمة تدب في جسدها، قد كساها هذا الصباح الجميل جمالا يضاهي روعة إشراق شمس الشتاء الدافئة.
أسرعت خطواتها نحو المدرسة المجاورة، وهي تستنشق رائحة الشجيرات الزكية المحاطة ببقايا مياه المطر.
خرج هو أيضا وقد بدى له جمال هذا الصباح المشرق، واتجه بنشاط إلى عمله.
كلاهما كان يفكر بالآخر حتى حان وقت الرجوع إلى المنزل. أبطأت خطواتها وكانت نظراتها تتلفت يمنة ويسرة، بينما كانت نظراته تلاحقها بعد أن مكث وقتا ليس بالقليل مقابل المدرسة ينتظر خروجها.
شعر بلهفتها للقائه، استجمع قواه وتقدم نحوها وهي تمضي في طريقها غير منتبهة لوجوده.
- أتبحثين عن أحد ما؟
التفتت إليه بخوف سرعان ما تبدل إلى سعادة خفية، وقد تدفق الدم إلى خديها المتوردين ليضيف إلى جمالها حياء الفتاة الرقيقة.
تبادلا حديثا قصيرا، وافترقا في نهاية الطريق كلٌ إلى منزله .
استمرا على هذه الحال شهورا شعر خلالها (وحيد) بسعادة لم يشعر بها منذ زمن بعيد، بدأ في رؤية الأشياء جميلة بعد أن اعتاد على عدم الاكتراث بما حوله.
أما (زهرة ) فقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة دافئة لا تفارقها، وبدت الحياة لكليهما أشبه بروضة من رياض الجنة تمتلئ سماؤها بالحب والدفء والحنان.
تعاهدا على بناء حلمهما على أرض الواقع فور انتهاء (زهرة) من دراستها، يوما بعد يوم تكبر احلامهما ويزداد حبهما بريقا ولهفة.
ولكن حدث مالم يتوقعه (وحيد)، فجأة وجد نفسه يعود إلى الوراء، وتفاجأ بماضيه قادم إليه من جديد ، ليفتح صندوق ذكرياته المهجور.
إنها ( حنان) الحب الأول الذي تسلل إلى حياة (وحيد)، جاءت تطرق بابه من جديد، وتوقظه من الحلم الذي كان يعيشه.
رآها فانتعش حبه القديم، وخفق قلبه بشدة. أحبها بجنون وبادلته ذلك الحب، ثم رحلت فجأة دون أي مقدمات ، حاول العثور عليها فلم يجدها، انهارت قواه وشعر بإحباط كبير ، كأنه كان يتخيل سراب سرعان ما تلاشى عندما حاول الاقتراب منه ، فظل يحيي ذكرياته بزيارته للحديقة الصغيرة التي كانت تجمعهما معا ، حتى ذلك اليوم الماطر الذي جمعته الصدفة بـ ( زهرة).
سألها وقد تصبب العرق من جبينه: - حنان؟!!
أجابته وقد رمقته بنظرة حنين ولهفة: - أجل أنا حنان.
ساد الصمت أرجاء المكان برهة واستدركت حديثها قائلة:
- أعلم بما يجول في خاطرك، انت تحاول معرفة السبب الذي رحلت من أجله وإلى أين ذهبت أليس كذلك؟
أجابها والذهول يطغى على نظراته: - بلى.
استمرا في الحديث ساعات طويلة، أشعلت فيها (حنان) نيران حبه القديم من جديد.
بقدومها نسي حبه الجديد واسترجعت (حنان) مكانها في قلبه الذي احتلته (زهرة ) لفترة قصيرة.
شعرت (زهرة) بالتغير المفاجئ الذي طرأ على (وحيد)، حاولت معرفة السبب وكان في كل مرة يعتذر لها بحجج واهية ، كانت متيقنة كل اليقين بأنه يخفي عنها شيء ما ، ولكن حبها الكبير منعها من الإلحاح عليه في معرفة اسباب تحوله هذا.
بعد تفكير طويل قرر أخيرا ان يصارحها بذلك لما لها من مكانة كبيرة في قلبه.
رفع سماعة الهاتف وتحدث إليها طالبا رؤيتها حالا ، استغربت (زهرة) من هذا الموعد المفاجئ ، سألته وقد ملأ الرعب قلبها: - هل حدث لك مكروه يا عزيزي ؟
أجابها مسرعا: - كلا.
قالت له بدهشة: إذا لماذا تلح على رؤيتي الآن؟
أجابها بهدوء: - أرجوكِ انه أمر بالغ الأهمية.
أسرعت (زهرة) في ارتداء ثيابها، وخرجت مسرعة إلى الشاطئ لتلتقي بحبيبها ( وحيد) وكلها شغف ولهفة في معرفة ذلك الأمر المهم.
راودتها أفكار عديدة في طريقها إليه ، أهمها أنه ربما لم يعد يقدر احتمال فراقها ،وسيطلب منها الاستعجال في ارتباطهما ، شعرت بقلبها يرقص فرحا فهي أيضا باتت لاتقوى على فراقه.
سرعان ما تبدد إحساسها بالفرح عندما لمحت ذلك الحزن العجيب الذي يطل من عينيه، وضع يديه على كتفيها وقد حان وقت الغروب.
تنهد بألم وأطلق زفرات حارقة اشعلت نيران قلبها،
بدأ في الحديث ، اخبرها بعودة (حنان) حبيبته التي اجبرها أهلها على الزواج من رجل أعمال مشهور يدعى (فؤاد) وافته المنية منذ فترة قصيرة لتظهر (حنان) في حياته من جديد.
كانت تستمع اليه بدهشة ، تحدث حديثا مطولا عن حبه القديم، شعرت بنيران تضطرم في أعماقها ، أرادت أن تتحدث فلم تستطع، اجبرتها لحظات الموقف الصعبة على الخنوع والتراجع، أحست بارتعاش ثغرها وبقشعريرة مخيفة قد دبت في جسدها ، كانت كلماته تمطر قطرات ساخنة أحرقت ساحة قلبها الصغير، ولكن بقدر ما آلمها حديثه بعث ذلك ارتياحا في نفسها، فقد كانت سعادته تمثل غايتها الوحيدة التي تطمح الى تحقيقها.
تبادلا نظرات الوداع وقد ران عليهما الصمت، انتهى حبهما بغروب شمس ذلك اليوم، وقد عزفت امواج البحر وطيور النورس الحزينة أجمل ألحان الفراق.
أسرعت خطواتها نحو المنزل وكانت الدموع تتأرجح في عينيها الجميلتين، أغلقت باب حجرتها وتهاوت على سريرها، قد مزقتها عباراته الأخيرة، وانهارت في بكاء طويل.
ظلت (زهرة) على هذا الحال منذ آخر يوم قد جمها بـ ( وحيد) ، ذبل جمالها، وأصبحت رهينة الحلم الذي لم يتحقق ، كانت تتعذب كثيرا لفراقه ولكن كانت تشعر بالارتياح والرضا لسعادته، مرت شهور عديدة ولم تتغير أحوالها، قد تشعب في أعماقها ، واحتل قلبها، ولا زال حبها يكبر حتى بعد رحيله عنها.
بينما كان ( وحيد) يكمل قصته القديمة مع (حنان) ، شعر بأنه قد افتقد وجوده (زهرة ) بجواره ، خلفت في قلبه فراغ لم تقدر (حنان) على سده رغم الحب الذي يجمعهما، افقتد روحها المرحة، تفكيرها الطفولي، خوفها دائم، ومشاعرها الصافية البريئة.
استمرا على حالهما ، هي تزداد ألما وشوقا وحنينا ، وهو سجين قفص الحيرة، يعجز عن اصدار قراره الأخير.
توالت الخلافات بين (وحيد) و(حنان) ، تصادمت أفكارهما ، ربما السنين التي فرقتهما كانت كفيلة بتغيير ما كانا عليه ، وما كان حبهما المفاجئ سوى الحنين الى ماضٍ كتب عليه بالضياع.
هنا أحس ( وحيد ) بالندم على قراره المتسرع بشأن (زهرة) التي انتشلته إلى عالم جديد تذوق فيه بقربها طعم الحياة، وجعلته ينظر الى الدنيا بنظرة أخرى، نظرة الجمال والفرح.
عصفت به مشاعر الشوق ، وقرر اخيرا أن يعتذر لها ويعيدها زهرة متفتحة تفوح بعبير الحب في أحضانه من جديد.
مرت أيام عديدة يحاول فيها (وحيد) جاهدا الاتصال بـ ( زهرة) أو العثور عليها دون جدوى، تردد إلى جميع الأماكن التي جمعتهما بكثرة ولكن لا أثر لها، فقد كل وسيلة في العثور عليها، انتابه احباط كبير إلى ان قاده جنونه أخيرا للذهاب إلى منزلها .
انطلق بسيارته مسرعا وهو يتحدث إلى نفسه بغضب:
- كيف لم يخطر ببالي قبل الآن أن أذهب إلى منزلها بنفسي والسؤال عنها؟
طرق باب الشقة فلم يجبه أحد إلى أن يأس وهم بالرحيل، سرعان ما تلاشى ذلك اليأس عندما سمع خطوات أقدام قادمة يصاحبها سعال شيخ عجوز مرهق.
فُتِح الباب على شيخ عجوز ، قد رسمت الشيخوخة خطوطها بدقة على وجهه الأبيض، يتكأ على عصاةٍ قديمة، سأله بدهشة : - من انت؟
أجاب (وحيد) مترددا : انا ... أنا جئت للسؤال عن (زهرة)، أليس هذا منزلها ؟
تبدلت نظرات دهشة العجوز الى حزن وأسى ،أجابه مطرقا رأسه : - (زهرة) ماتت منذ شهر.
وقف (وحيد) بلا حراك، قد أصابه الذهول والدهشة مما سمع ،تبلورت عينيه الزرقاوين بالدموع وهو يستعيد مرارا ما قاله الشيخ ليستوعب هذا الخبر الذي نزل على قلبه نزول السهم على قلب العصفور.
ماتت الزهرة عندما حرمها (وحيد) من ماء الحب الذي كانت ترتويه، ماتت عندما اقتلعها من جذورها ورمى بها على الرصيف قد مزقتها لحظات الغياب، ماتت عندما استنشق عبيرها كله وتركها زهرة ذابلة لا رائحة لها ولا عبير، ماتت وهي تحتضن خيال حبيبها (وحيد) بين ذراعيها.
قضى (وحيد) حياته بعدها وحيدا يجر وراءه آلامه وأحزانه ، لاتفارق زهرته خياله لحظة ،يزوره طيفها كل ليلة، يحلم بلقاءها من جديد في العالم الآخر ، فقد بات أمل لقاءها في هذا العالم أمل مقتول.
سهارى
تعليق