النــــبـــؤة
شيءٌ ما كانَ خاطئاً ذلكَ اليوم. هاجمه شعورٌ بالضياع وهو يمشي بهدوء متتبعًا الإرشادات المكتوبة على الورقة الصفراء. تجاوزَ نفقَ المُشاة واتجه مُباشرةً إلى الشجرة التي وُصِفَتْ بدقَّة. كان متقدما على الخط الزمني المحدد له بعشر دقائق، ولم يجد في الورقة الصفراء تفاصيل مما دفعه للانتظار.. أمسكت يدُه الحقيبة بقوَّة بينما أنشب أسنانه في سبَّابَةِ يده الأخرى. برزَ خيطٌ رفيع من الدم إثرَ قضمه المتواصل وأطلق صرخة مكتومةً عندما انتزع بقوة أحد أظافره الناتئة مبللاً الورقة التي في يده بقطرات من الدماء سالت من يده الأخرى التي لُفَّت بشاشٍ طبيٍّ. أنساه الألم الحقيبة التي سقطَت وتدحرجت داخل قناة تصريف المياه بالقرب من الشجرة، كما أنساه الورقة التي تلطخت ببقع أكثر من دمائه. تحرك بسرعة إلى الحقيبة وانتشلها من القناة. تسبب ذلك في فقد شعوره بالاتجاه فخرج من الجهة الأخرى من القناة ولم يخرجه من قلقه غير نفير السيارة التي أصدرت إطاراتها صوتا عاليا. استعادَ توازنه وهرع إلى المكان المحدد أسفل الشجرة. مرَّت خمس دقائق قبل وصول السيارة الصفراء " اللعنة .. الشمس .. إنها تخسف" .. كانت الصرخةُ تتضخم في دماغه عندما أشارت له الفتاة الجالسة على الكرسي الخلفي أن يقطع الشارعَ نحوها .. تعالت صرخة مُحذرة في دماغه تبعها صرير لإطارات ونفير قصير انتهى بصوت اصطدام مكتوم، وعلى الخطِّ الذي يتوسط الشارع كانت يده تُفلت الحقيبة في اللحظة ذاتها التي أفلتت فيها يده الأخرى الورقة وحاولت أن تمسك السيارة الصفراء التي ابتعدت ببطء.
&&&
إنَّ أكْثَرَ اللحَظَاتِ اضْطِرَابَاً هِيَ تِلْكَ التي نُحَاوِلُ فيها إخفاءَ اضطرابِنا. ومهما حاولنا فإن ذكرى ما ستحيلنا إلى ذلك التوهم المُسْتَقِر أن كل شيء بخير. أدرك تمام الإدراك اضطرابنا ونحن نحاول تجنَّب
الخلط المُخيف لهذه السعادة المؤقتة التي نعيشها الآن، بالأسى الذي يُحرق صدورنا كالجمر ..
من كلمة عادل
&&&
قد تشعرُ بندمٍ طفيف أحيانا. لكنك لستَ من النوع الذي يغرق في تأنيب ضميره. أنت يا عادل من هؤلاء الذين يموتون مبكرا بعد أن يُنجزوا كُل شيء. لم تفعل خطأً ولكنك اتبعت ما يُمليه عليك ذلك النسرُ الجريح بداخلك.. ما كان له أن يسرقَ منك شيء فما بالك بشيئين؟ وما كان له أن يجرحَ يدكَ وأنت تبكي عليه أمام الجميع. أنت لها يا عادل ومهما انطفأ النور بداخلك، ثمة نور آخر سيرشدك إلى طريق الخلود؛ لأنك لست من الفانين، ولكنك من الخالدين.
الرسالة الثالثة
&&&
هذه الرسائلُ تدفعني للجنون. أتُراه أحد أتباعه يحاول اللعب بعقلي؟!! .. من المُدهش قدرته على فهمي، وعلى كتابته لي بهذه الدقة، ومن الغريب أنَّه استطاع تجاوز الحرَّاس لأجد رسالة ثانية أسفلَ وسادتي .. ثمة من يحاول اللعب بعقلي ودفعي للجنون. أتراها نسرين؟ وقد أرادت إرباكي قبل ليلتي الموعودة. أم هي تلك الفتاة في السيارة الصفراء، ثمة من يحاول إرباكي ولن أسمح لهم. غدا ليلتي التي أنتظرُ مذ وُلدتُ ولن أسمح لأحد أن يضيعها من يدي.
..
..
لا أستطيع إخفاء قلقي أمام نفسي .. أكاد أنهار من وطأة الخوف، ثمة كثيرون سيعتمدون عليِّ ولن أسمح لنفسي بخذلهم، سأراجع كلمتي للمرة الأخيرة، وسأنسى الرسائل، وموعدي بعد غد، سأنسى تلك العبارة السخيفة وكل شيء سيؤثر على كلمتي غدا .. سأنام بهدوء. أنت لها يا عادل، ستفرح أمك أن تراك شامخا والكل يسمع كلمتك في التلفاز، ستموت نسرين وسينفجر رحمها المُنتفخ غيظا.. كما آمل
من مذكرات عادل
&&&
قارنَ ساعة يده بالساعة الضخمة في نهاية الشارع. تأكد من رقم السكة، ومن رقم البيت. تنفَّس بشكل متسارع ليتغلب على ارتجافة يديه وقدمه. وصلت رسالة إلى هاتفه: "لقد رأيتك ولكنني لم أستطع النزول لرؤيتك .. هناك طفلٌ صغير سيأتيك بمظروف بني ستجد به تفاصيل اللقاء .. لا تخبر أحدا وسأفسر لك كلَّ شيء لاحقا .. احضر في الموعد وأحضر الحقيبة التي أهداك إياها أبوك" .. شاهدَ السيارة وهي تبتعد وحاول اللحاق بسيارته إلا أن قدمه المُرتجفة أعاقته، كما أعاقته يده المرتجفة أن يمسك السيارة التي تلاشت تدريجيا عن عينيه.
&&&
إنهم الموتى الذين امْتَلَكُوا الشجاعةَ الكافيةَ أن يبقوا في ذاكرتنا مُكللينَ بحُسنِ الذِّكْرِ. وحدهُ الموتُ استطاعَ إقناعي أننا لن ننسَاهُ. وأننا كما نختان أنفسنا بالفرح المُفتعل هذا، فإنا حزنا أكبر وأسى، وحسرة تُحرق صدورنا الآن وكأن ألف جمرة تحترق بداخلنا.
من كلمة عادل
&&&
لن يمكنك النجاةُ من حقد الآخرين عليك. أنت من هؤلاء الذين يثيرون الجدلَ إن اختفوا وإن ظهروا، وإن تحدثوا أو صمتوا. الكُل يتربص بك وكما تُثير أحلامَ فتياتهم بك غضبهم، يهيِّج وجودك على قيد الحياة شعورهم بالنقص، فيكادون أن يفترسون أنفسهم. أنت تعرف يا عادل أنك كالشمس، تُحرقُ إن أردتَ كُل شيء، ولكنك تُنير ظلامَ قلوبهم.
الرسالة الثانية
&&&
كان يومي تعيسا. رسالةٌ أسفل الفراش .. اللعنة .. ساورني الشك حتى في نفسي، وخفتُ أن يعرف أحد فعلتي، ألهمتني الرسالة الصبرَ حتى خِلتُها من نسرين، ولكنني بددت هذا الوهم بسرعة فتلك الحاقدة لن تُرسل لي إلا كأسا مملوءا بالسم، وستبرق عيناها عندما تراني أشربه حتى الثمالة .. آآه لو أعرف كيف وصلت هذه الرسالة أو من أرسلها .. لا أريد تعكير صورة الصابر على وفاة أخيه، سأتمالك نفسي حتى ألقي كلمتي، وحينها سأحكم بالإعدام على الحراس جميعهم.. لا زال جزء في داخل يأمل أن تكون نسرين قد أرسلتها .. اللعنة على هذا القلب الضعيف...
..
..
كدت أن أفترس منسقي الذي حملَ لي الخبر السعيد، حتى كدت أن أنسى ادعاء البكاء على المرحوم، وعلى ابنه الذي لن يراه. أخفيت ابتسامتي ببراعة اليوم، وأنا سعيد لأنني استعدت سيطرتي على أعصابي. كلمتي جاهزة، وستُدهشهم جميعا بعد أسبوع. كم أنا سعيد هذه اللحظة، سأنام بهدوء كطفل، وسأنير ظلام قلوبهم ثم سأحرقهم جميعا.
من مذكرات عادل
&&&
حتى وإن طعنَك الجميع يا عادل، هنالك ما تستطيع فعله. أنت أجدر منهم جميعا وأنت الذي عملت مع أبيك السنين الفائتة. ذلك المريض لن يفعل شيئا، ولن يدير شيئا، ولكنها تلك الحاقدة عليك زوجته التي سيعطيها دفة الإدارة. أنت أحقُّ بها منه. فافعل ما تُمليه عليك نفسُك، إن ذلك في صالح العائلة.
الرسالة الأولى
&&&
فَعلها أبي إذن، وأعطى كل شيء لأخي. ولكنني لن أتركَ الأمر هكذا. سرقَ قبل سنة حبيبتي نسرين واستطاع أن يؤلبها ضدي. وها أنا ذا أخاطب دفتري الحقير مُدركا أن ذلك السافل سيقضي الأيام القادمة في قراءة الكِلمة التي ستعدها له زوجته المُحبة –ولا ريب- .. ماذا فعلتُ بك يا أبي .. أتُراها زوجتك الأولى التي دفعتك لتغيير رأيك .. ألم تُهدكَ زوجَتُكَ العجوزُ ابنَك الذي كان ساعدك الأيمن .. أهكذا يا أبي .. أتعطي لذلك المريض، الضعيف ولاية عهدك وتتركني أنا الذي تركتَ أمه ولفظتها دون شيء ..
..
خطتي جاهزة وقد أعددت لها من قبل. غدا سيأكلُ ذلك السافل آخر وجبة له في الحياة. وسيدخل كبير حرسه السجن بتهمة تسميمه. وبعد عام ستكون نسرين نائمة على فراشة بجوار دفتري هذا. وسيعرفون جميعهم من هو عادل... سيعرفون.
من مذكرات عادل
&&&
صمت الجميع، وتوجس الابنان وهما جالسان بالقرب من كرسيِّ أبيهما الضخم. كان صوت أبيهما ضعيفا وحاسما:
- قررتُ أن يخلفني وأن يدير هذه العائلة من بعدي ابني الأكبر محمود.
خرجت الزوجتان وقد أخفقت إحداهما في إخفاء فرحها، كما أخفقت الأخرى في إخفاء حسرتها. كذلك فعل الولدان إذ فشل الأكبر في إخفاء شفقته، كما فشل الأصغر في إخفاء دموعه. تفرَّق الجمع بينما مضى الابن الأصغر للشارع وهو يقضم سبابته بعنف مُنتزعا أحد أظافره بقسوة. كان يتنفس بشكل متكرر ليتغلب على نوبة الهلع التي أصابته قبل أن تقف بجواره سيارة صفراء وبها فتاة جالسة على الكرسي الخلفي. ألقت له الفتة ورقة التقطها بصعوبة وقد كُتب في الورقة بخط كبير.
"إنه ذلك الأعمى الذي ستخسفُ شمسُه، والذي سيموت بعد يوم من تحقيق مجده"
كانت إحدى يديه تُمسك بالورقة، بينما حاولت يده الأخرى الإمساك بالسيارة الصفراء التي اختفت عن ناظريه.
&&&
من منَّا سينسى أخي الأكبرَ محمود الذي راح ضحيةً بريئة للمؤامرة الدنيئة. أعرف أن الجميع الآن مضطرب، وأنكم جميعا –مثلي- تتذكرون محمود الذي طالما جاهد جسده المُنهك ليلبي مطالب المُحتاج. وإنه لم يكن واقفا مكاني اليوم، فإنه واقفٌ في التاريخ الذي سطَّره، والتاريخ الذي سُطِّر له، والتاريخ الذي سُطِّرَ به. وأن الموتَ كما أخذَ منَّا حُلَّته الطِّينيةَ فإنه وهبنا إيَّاها، ليتردد هو عصفورا في ذاكرتنا للأبد
ختام كلمة عادل
معاوية الرواحي
29/3/2006
شيءٌ ما كانَ خاطئاً ذلكَ اليوم. هاجمه شعورٌ بالضياع وهو يمشي بهدوء متتبعًا الإرشادات المكتوبة على الورقة الصفراء. تجاوزَ نفقَ المُشاة واتجه مُباشرةً إلى الشجرة التي وُصِفَتْ بدقَّة. كان متقدما على الخط الزمني المحدد له بعشر دقائق، ولم يجد في الورقة الصفراء تفاصيل مما دفعه للانتظار.. أمسكت يدُه الحقيبة بقوَّة بينما أنشب أسنانه في سبَّابَةِ يده الأخرى. برزَ خيطٌ رفيع من الدم إثرَ قضمه المتواصل وأطلق صرخة مكتومةً عندما انتزع بقوة أحد أظافره الناتئة مبللاً الورقة التي في يده بقطرات من الدماء سالت من يده الأخرى التي لُفَّت بشاشٍ طبيٍّ. أنساه الألم الحقيبة التي سقطَت وتدحرجت داخل قناة تصريف المياه بالقرب من الشجرة، كما أنساه الورقة التي تلطخت ببقع أكثر من دمائه. تحرك بسرعة إلى الحقيبة وانتشلها من القناة. تسبب ذلك في فقد شعوره بالاتجاه فخرج من الجهة الأخرى من القناة ولم يخرجه من قلقه غير نفير السيارة التي أصدرت إطاراتها صوتا عاليا. استعادَ توازنه وهرع إلى المكان المحدد أسفل الشجرة. مرَّت خمس دقائق قبل وصول السيارة الصفراء " اللعنة .. الشمس .. إنها تخسف" .. كانت الصرخةُ تتضخم في دماغه عندما أشارت له الفتاة الجالسة على الكرسي الخلفي أن يقطع الشارعَ نحوها .. تعالت صرخة مُحذرة في دماغه تبعها صرير لإطارات ونفير قصير انتهى بصوت اصطدام مكتوم، وعلى الخطِّ الذي يتوسط الشارع كانت يده تُفلت الحقيبة في اللحظة ذاتها التي أفلتت فيها يده الأخرى الورقة وحاولت أن تمسك السيارة الصفراء التي ابتعدت ببطء.
&&&
إنَّ أكْثَرَ اللحَظَاتِ اضْطِرَابَاً هِيَ تِلْكَ التي نُحَاوِلُ فيها إخفاءَ اضطرابِنا. ومهما حاولنا فإن ذكرى ما ستحيلنا إلى ذلك التوهم المُسْتَقِر أن كل شيء بخير. أدرك تمام الإدراك اضطرابنا ونحن نحاول تجنَّب
الخلط المُخيف لهذه السعادة المؤقتة التي نعيشها الآن، بالأسى الذي يُحرق صدورنا كالجمر ..
من كلمة عادل
&&&
قد تشعرُ بندمٍ طفيف أحيانا. لكنك لستَ من النوع الذي يغرق في تأنيب ضميره. أنت يا عادل من هؤلاء الذين يموتون مبكرا بعد أن يُنجزوا كُل شيء. لم تفعل خطأً ولكنك اتبعت ما يُمليه عليك ذلك النسرُ الجريح بداخلك.. ما كان له أن يسرقَ منك شيء فما بالك بشيئين؟ وما كان له أن يجرحَ يدكَ وأنت تبكي عليه أمام الجميع. أنت لها يا عادل ومهما انطفأ النور بداخلك، ثمة نور آخر سيرشدك إلى طريق الخلود؛ لأنك لست من الفانين، ولكنك من الخالدين.
الرسالة الثالثة
&&&
هذه الرسائلُ تدفعني للجنون. أتُراه أحد أتباعه يحاول اللعب بعقلي؟!! .. من المُدهش قدرته على فهمي، وعلى كتابته لي بهذه الدقة، ومن الغريب أنَّه استطاع تجاوز الحرَّاس لأجد رسالة ثانية أسفلَ وسادتي .. ثمة من يحاول اللعب بعقلي ودفعي للجنون. أتراها نسرين؟ وقد أرادت إرباكي قبل ليلتي الموعودة. أم هي تلك الفتاة في السيارة الصفراء، ثمة من يحاول إرباكي ولن أسمح لهم. غدا ليلتي التي أنتظرُ مذ وُلدتُ ولن أسمح لأحد أن يضيعها من يدي.
..
..
لا أستطيع إخفاء قلقي أمام نفسي .. أكاد أنهار من وطأة الخوف، ثمة كثيرون سيعتمدون عليِّ ولن أسمح لنفسي بخذلهم، سأراجع كلمتي للمرة الأخيرة، وسأنسى الرسائل، وموعدي بعد غد، سأنسى تلك العبارة السخيفة وكل شيء سيؤثر على كلمتي غدا .. سأنام بهدوء. أنت لها يا عادل، ستفرح أمك أن تراك شامخا والكل يسمع كلمتك في التلفاز، ستموت نسرين وسينفجر رحمها المُنتفخ غيظا.. كما آمل
من مذكرات عادل
&&&
قارنَ ساعة يده بالساعة الضخمة في نهاية الشارع. تأكد من رقم السكة، ومن رقم البيت. تنفَّس بشكل متسارع ليتغلب على ارتجافة يديه وقدمه. وصلت رسالة إلى هاتفه: "لقد رأيتك ولكنني لم أستطع النزول لرؤيتك .. هناك طفلٌ صغير سيأتيك بمظروف بني ستجد به تفاصيل اللقاء .. لا تخبر أحدا وسأفسر لك كلَّ شيء لاحقا .. احضر في الموعد وأحضر الحقيبة التي أهداك إياها أبوك" .. شاهدَ السيارة وهي تبتعد وحاول اللحاق بسيارته إلا أن قدمه المُرتجفة أعاقته، كما أعاقته يده المرتجفة أن يمسك السيارة التي تلاشت تدريجيا عن عينيه.
&&&
إنهم الموتى الذين امْتَلَكُوا الشجاعةَ الكافيةَ أن يبقوا في ذاكرتنا مُكللينَ بحُسنِ الذِّكْرِ. وحدهُ الموتُ استطاعَ إقناعي أننا لن ننسَاهُ. وأننا كما نختان أنفسنا بالفرح المُفتعل هذا، فإنا حزنا أكبر وأسى، وحسرة تُحرق صدورنا الآن وكأن ألف جمرة تحترق بداخلنا.
من كلمة عادل
&&&
لن يمكنك النجاةُ من حقد الآخرين عليك. أنت من هؤلاء الذين يثيرون الجدلَ إن اختفوا وإن ظهروا، وإن تحدثوا أو صمتوا. الكُل يتربص بك وكما تُثير أحلامَ فتياتهم بك غضبهم، يهيِّج وجودك على قيد الحياة شعورهم بالنقص، فيكادون أن يفترسون أنفسهم. أنت تعرف يا عادل أنك كالشمس، تُحرقُ إن أردتَ كُل شيء، ولكنك تُنير ظلامَ قلوبهم.
الرسالة الثانية
&&&
كان يومي تعيسا. رسالةٌ أسفل الفراش .. اللعنة .. ساورني الشك حتى في نفسي، وخفتُ أن يعرف أحد فعلتي، ألهمتني الرسالة الصبرَ حتى خِلتُها من نسرين، ولكنني بددت هذا الوهم بسرعة فتلك الحاقدة لن تُرسل لي إلا كأسا مملوءا بالسم، وستبرق عيناها عندما تراني أشربه حتى الثمالة .. آآه لو أعرف كيف وصلت هذه الرسالة أو من أرسلها .. لا أريد تعكير صورة الصابر على وفاة أخيه، سأتمالك نفسي حتى ألقي كلمتي، وحينها سأحكم بالإعدام على الحراس جميعهم.. لا زال جزء في داخل يأمل أن تكون نسرين قد أرسلتها .. اللعنة على هذا القلب الضعيف...
..
..
كدت أن أفترس منسقي الذي حملَ لي الخبر السعيد، حتى كدت أن أنسى ادعاء البكاء على المرحوم، وعلى ابنه الذي لن يراه. أخفيت ابتسامتي ببراعة اليوم، وأنا سعيد لأنني استعدت سيطرتي على أعصابي. كلمتي جاهزة، وستُدهشهم جميعا بعد أسبوع. كم أنا سعيد هذه اللحظة، سأنام بهدوء كطفل، وسأنير ظلام قلوبهم ثم سأحرقهم جميعا.
من مذكرات عادل
&&&
حتى وإن طعنَك الجميع يا عادل، هنالك ما تستطيع فعله. أنت أجدر منهم جميعا وأنت الذي عملت مع أبيك السنين الفائتة. ذلك المريض لن يفعل شيئا، ولن يدير شيئا، ولكنها تلك الحاقدة عليك زوجته التي سيعطيها دفة الإدارة. أنت أحقُّ بها منه. فافعل ما تُمليه عليك نفسُك، إن ذلك في صالح العائلة.
الرسالة الأولى
&&&
فَعلها أبي إذن، وأعطى كل شيء لأخي. ولكنني لن أتركَ الأمر هكذا. سرقَ قبل سنة حبيبتي نسرين واستطاع أن يؤلبها ضدي. وها أنا ذا أخاطب دفتري الحقير مُدركا أن ذلك السافل سيقضي الأيام القادمة في قراءة الكِلمة التي ستعدها له زوجته المُحبة –ولا ريب- .. ماذا فعلتُ بك يا أبي .. أتُراها زوجتك الأولى التي دفعتك لتغيير رأيك .. ألم تُهدكَ زوجَتُكَ العجوزُ ابنَك الذي كان ساعدك الأيمن .. أهكذا يا أبي .. أتعطي لذلك المريض، الضعيف ولاية عهدك وتتركني أنا الذي تركتَ أمه ولفظتها دون شيء ..
..
خطتي جاهزة وقد أعددت لها من قبل. غدا سيأكلُ ذلك السافل آخر وجبة له في الحياة. وسيدخل كبير حرسه السجن بتهمة تسميمه. وبعد عام ستكون نسرين نائمة على فراشة بجوار دفتري هذا. وسيعرفون جميعهم من هو عادل... سيعرفون.
من مذكرات عادل
&&&
صمت الجميع، وتوجس الابنان وهما جالسان بالقرب من كرسيِّ أبيهما الضخم. كان صوت أبيهما ضعيفا وحاسما:
- قررتُ أن يخلفني وأن يدير هذه العائلة من بعدي ابني الأكبر محمود.
خرجت الزوجتان وقد أخفقت إحداهما في إخفاء فرحها، كما أخفقت الأخرى في إخفاء حسرتها. كذلك فعل الولدان إذ فشل الأكبر في إخفاء شفقته، كما فشل الأصغر في إخفاء دموعه. تفرَّق الجمع بينما مضى الابن الأصغر للشارع وهو يقضم سبابته بعنف مُنتزعا أحد أظافره بقسوة. كان يتنفس بشكل متكرر ليتغلب على نوبة الهلع التي أصابته قبل أن تقف بجواره سيارة صفراء وبها فتاة جالسة على الكرسي الخلفي. ألقت له الفتة ورقة التقطها بصعوبة وقد كُتب في الورقة بخط كبير.
"إنه ذلك الأعمى الذي ستخسفُ شمسُه، والذي سيموت بعد يوم من تحقيق مجده"
كانت إحدى يديه تُمسك بالورقة، بينما حاولت يده الأخرى الإمساك بالسيارة الصفراء التي اختفت عن ناظريه.
&&&
من منَّا سينسى أخي الأكبرَ محمود الذي راح ضحيةً بريئة للمؤامرة الدنيئة. أعرف أن الجميع الآن مضطرب، وأنكم جميعا –مثلي- تتذكرون محمود الذي طالما جاهد جسده المُنهك ليلبي مطالب المُحتاج. وإنه لم يكن واقفا مكاني اليوم، فإنه واقفٌ في التاريخ الذي سطَّره، والتاريخ الذي سُطِّر له، والتاريخ الذي سُطِّرَ به. وأن الموتَ كما أخذَ منَّا حُلَّته الطِّينيةَ فإنه وهبنا إيَّاها، ليتردد هو عصفورا في ذاكرتنا للأبد
ختام كلمة عادل
معاوية الرواحي
29/3/2006
تعليق