رحيل شيخ مجاهد
لم تكن قرية «الدَيْه» تعلم الجمعة قبل الماضية وهي تستقبل عشرات الآلاف من مواكب المعزين، أنها ستستقبل حشوداً أخرى الجمعة التالية لوداع ابنها الشيخ محمد علي العكري.
رحل الشيخ فجراً، وبدأ الخبر بالشياع مع مطلع الصباح، وأُعلِن عن بدء التشييع عند الواحدة والنصف ظهراً. واختار المشيعون أن يطوفوا بالقرية من الشمال حتى استقرت الجنازة في المقبرة في الجنوب عند الساعة الثالثة والنصف، قطعت فيها مسافة كيلومتر واحد في ساعتين. فقد كانت الحشود كبيرة، والموكب يسير بطيئاً، يتقدّمه زملاؤه من علماء دين وخطباء منبر حسيني وطلاب العلم الديني... وآلاف من المحبين جاءوا من مختلف المناطق ليشهدوا لحظات الوداع الأخيرة. فالرجل كانت له صولاتٌ وجولاتٌ ستبقى طويلاً في الذاكرة، وخصوصاً لجيل السبعينيات.
ستظل صورة الشيخ العكري في الذاكرة العامة، ذلك الرجل قصير القامة، ضئيل الجسم، كبير العمامة، وسيظل الناس يذكرونه دائماً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهي من الفرائض الدينية الثقيلة، التي لا يمارسها إلا قلةٌ من الغيارى في كل جيل، ممن لا يكترثون كثيراً بما يُقال عنهم، أو يقيمون وزناً لتقييمات ونظرات الآخرين، ويواجهون بصدورٍ عاريةٍ أنواع اللمز والطعنات.
في بداية السبعينيات، حيث كانت مظاهر الالتزام الديني قليلة، كانت غيرته الدينية تدفعه للطواف بالأسواق وتوجيه نصائحه الأخلاقية المباشرة للشباب والشابات. وأذكره كما يذكره كثيرون من أبناء جيلي، وهو قائمٌ يدعو المارة في سوق المنامة للتمسك بتعاليم الدين والأخلاق والالتزام بالحشمة، في مشهدٍ غير مألوف من قبل ومن بعد.
في نهاية السبعينيات، ومع المد الإسلامي الكبير، أصبحت مظاهر الالتزام الديني مألوفةً وشائعةً، فوفّرت عليه جزءًا من الهم والمعاناة. في تلك الفترة، أخذ يتصدّى لبعض المطالب الشعبية، واصطدم ببعض الجهات على طريقة زميله الراحل عبدالله فخرو رحمهما الله، فانتهى به المطاف مثله إلى الاعتقال عدة مرات، ولبث في آخرها بالسجن بضع سنين، قضى أغلبها في جزيرة جدا الشهيرة.
كانت الثمانينيات مرحلة ازدهار قانون أمن الدولة، حيث خشعت الأصوات وأحصِيَت الأنفاس، فوجّه بعض جهوده لجانب التعليم الديني، من تعليم الناشئة والشباب الصلاة والقرآن والفقه. ومع زيادة انتشار المخدرات في تلك المرحلة الحالكة، بادر إلى العمل على مشروع تزويج الشباب الفقراء؛ لتحصينهم من الضياع. لقد كان الهم الأخلاقي حاضراً عنده على الدوام كرجل دين، وربّما كان ذلك هو البذرة الأولى لمشاريع الزواج الجماعي التي ستنتشر في العقدين التاليين.
أغلب اللافتات التي حملها المشيعون أمس، كانت تصفه بالشيخ المجاهد، وتنعته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد غاب عن الساحة في الأعوام الثلاثة الأخيرة، فقد أقعده المرض حتى أسلم الروح إلى بارئه فجر أمس الجمعة.
سيبقى الشيخ العكري الناصح المتواضع في الذاكرة العامة طويلاً. وأثناء موكب التشييع المهيب، همس لي أحد الشباب أنه قرأ بعض ما ترك من كتبٍ في سجن جو. تلك بذرةٌ صغيرةٌ من صنائع المعروف التي عُرف بها:
ومن يفعل الخيرَ لا يُعدم جوازيه.... لا يذهب العرفُ بين اللهِ والناسِ
قاسم حسين
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3032 - السبت 25 ديسمبر 2010م الموافق 19 محرم 1432هـ
لم تكن قرية «الدَيْه» تعلم الجمعة قبل الماضية وهي تستقبل عشرات الآلاف من مواكب المعزين، أنها ستستقبل حشوداً أخرى الجمعة التالية لوداع ابنها الشيخ محمد علي العكري.
رحل الشيخ فجراً، وبدأ الخبر بالشياع مع مطلع الصباح، وأُعلِن عن بدء التشييع عند الواحدة والنصف ظهراً. واختار المشيعون أن يطوفوا بالقرية من الشمال حتى استقرت الجنازة في المقبرة في الجنوب عند الساعة الثالثة والنصف، قطعت فيها مسافة كيلومتر واحد في ساعتين. فقد كانت الحشود كبيرة، والموكب يسير بطيئاً، يتقدّمه زملاؤه من علماء دين وخطباء منبر حسيني وطلاب العلم الديني... وآلاف من المحبين جاءوا من مختلف المناطق ليشهدوا لحظات الوداع الأخيرة. فالرجل كانت له صولاتٌ وجولاتٌ ستبقى طويلاً في الذاكرة، وخصوصاً لجيل السبعينيات.
ستظل صورة الشيخ العكري في الذاكرة العامة، ذلك الرجل قصير القامة، ضئيل الجسم، كبير العمامة، وسيظل الناس يذكرونه دائماً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهي من الفرائض الدينية الثقيلة، التي لا يمارسها إلا قلةٌ من الغيارى في كل جيل، ممن لا يكترثون كثيراً بما يُقال عنهم، أو يقيمون وزناً لتقييمات ونظرات الآخرين، ويواجهون بصدورٍ عاريةٍ أنواع اللمز والطعنات.
في بداية السبعينيات، حيث كانت مظاهر الالتزام الديني قليلة، كانت غيرته الدينية تدفعه للطواف بالأسواق وتوجيه نصائحه الأخلاقية المباشرة للشباب والشابات. وأذكره كما يذكره كثيرون من أبناء جيلي، وهو قائمٌ يدعو المارة في سوق المنامة للتمسك بتعاليم الدين والأخلاق والالتزام بالحشمة، في مشهدٍ غير مألوف من قبل ومن بعد.
في نهاية السبعينيات، ومع المد الإسلامي الكبير، أصبحت مظاهر الالتزام الديني مألوفةً وشائعةً، فوفّرت عليه جزءًا من الهم والمعاناة. في تلك الفترة، أخذ يتصدّى لبعض المطالب الشعبية، واصطدم ببعض الجهات على طريقة زميله الراحل عبدالله فخرو رحمهما الله، فانتهى به المطاف مثله إلى الاعتقال عدة مرات، ولبث في آخرها بالسجن بضع سنين، قضى أغلبها في جزيرة جدا الشهيرة.
كانت الثمانينيات مرحلة ازدهار قانون أمن الدولة، حيث خشعت الأصوات وأحصِيَت الأنفاس، فوجّه بعض جهوده لجانب التعليم الديني، من تعليم الناشئة والشباب الصلاة والقرآن والفقه. ومع زيادة انتشار المخدرات في تلك المرحلة الحالكة، بادر إلى العمل على مشروع تزويج الشباب الفقراء؛ لتحصينهم من الضياع. لقد كان الهم الأخلاقي حاضراً عنده على الدوام كرجل دين، وربّما كان ذلك هو البذرة الأولى لمشاريع الزواج الجماعي التي ستنتشر في العقدين التاليين.
أغلب اللافتات التي حملها المشيعون أمس، كانت تصفه بالشيخ المجاهد، وتنعته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد غاب عن الساحة في الأعوام الثلاثة الأخيرة، فقد أقعده المرض حتى أسلم الروح إلى بارئه فجر أمس الجمعة.
سيبقى الشيخ العكري الناصح المتواضع في الذاكرة العامة طويلاً. وأثناء موكب التشييع المهيب، همس لي أحد الشباب أنه قرأ بعض ما ترك من كتبٍ في سجن جو. تلك بذرةٌ صغيرةٌ من صنائع المعروف التي عُرف بها:
ومن يفعل الخيرَ لا يُعدم جوازيه.... لا يذهب العرفُ بين اللهِ والناسِ
قاسم حسين
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 3032 - السبت 25 ديسمبر 2010م الموافق 19 محرم 1432هـ
تعليق