فلسفة
الأعياد في الإسلام من منظور تربوي
دكتور/سالم بن سبيت بن ربيع البوسعيدي
قبل أن أشرع في الكتابة مع قدوم العيد مستأذنا من عدة كتّاب ومراجع أن أشارك وأقطف هذه المقالة في فلسفة الأعياد وفوائدها التربوية، فما أحلى كلمة "عيد" على اللسان؛حيث يحتفل المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بيومين من أيام السنة في كل عام متقاربين في الزمان لا يفصل بينهما سوى شهرين من أشهر السنة أحدهما بعد أداء فريضة الصيام لتأكيد ذلك الانتصار النفسي الذي يحققه شهر رمضان للمسلم الصائم، والثاني لتأكيد ذلك المؤتمر العام بجوار بيت الله الذي يجتمع فيه المسلمون من جميع الأقطار على اختلاف جنسياتهم ولغاتهم وفئاتهم مع ما يرافق ذلك من الشعائر والنسك التي تحقق الانتصار على الشهوات والأهواء والنزعات.وحق للذين بذلوا غاية الجهد ليتغلب عنصر الخير فيهم على نوازع الأنانية والأثرة وحب الذات، حق لهم أن يفرحوا بسعيهم المبارك في سبيل تطوير إنسانيتهم في زمان تباعدت فيه ظروف الحياة المعارة بين الإنسان وإنسانيته، ولتأكيد هذا الانتصار النفسي التربوي الذي يحققه الصوم في حياة المسلم يفرح الصائم فرحتين كما جاء فيما عن نبي الرحمة صلوات الله عليه وسلّم. وقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يقترن عيدا الإسلام بركنين من أركانه الخمسة هما الصيام والحج فاقترن العيد الأصغر وهو عيد الفطر بانتهاء الصوم، واقترن العيد الأكبر وهو عيد الأضحى بانتهاء الحج، ولم يكن ذلك من قبيل الصدفة، ذلك لأن الصوم وما يكتنفه من تبتل وعبادات تحقيق لأهداف الإسلام على مستوى المجتمع، كما وإن الحج وما يكتنفه من نسك وشعائر تحقيق للإسلام على مستوى العالم، فإن المجتمع المسلم يبلغ ذروته من التكافل والتعاون والتعاضد والتراحم وهو يؤدي فريضتي الصوم والحج وفيهما يزداد المسلمون التصاقاً بكتاب ربهم الذي أنزل في رمضان، وأن مناسبة عيد الفطر هي شكر لله سبحانه وتعالى الذي أعاننا على صيام نهار رمضان وقيام ليله وأداء العبادات إلى نهايته وبهذا يكون عيد الفطر وهو الجائزة التي يمنحها الله تعالى لعباده الذين أدوا صيامهم على الوجه الشرعي المطلوب ويكون بذلك أحسن الجوائز، العيد فرحة متأصلة في قلب الإنسان ونفسه،وهو محطة موغلة في القدم،بمعنى أن أصل فكرة العيد يعود إلى فكرة قديمة قد تبانى عليها البشر لمناسبات معينة،فمنذ أن تشكلت البشرية وأخذت ترتقي سلم التحضر والمدنية. في مثل هذا اليوم الذي جعله الله سبحانه عيدا للمسلمين، ولمحمد ذخرا وشرفا وكرامة ومزيدا تهبط علينا رحمة الله الواسعة بنورها الذي يشرق في قلوب المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها، ليربطهم برباط الرحمة في يوم الرحمة. فيوم العيد هو يوم الرحمة، لأن الله سبحانه وتعالى يرحم فيه عباده ويرحم المؤمنون بعضهم بعضا، القوي منهم يرحم الضعيف، والغني منهم يرحم الفقير والكبير منهم يرحم الصغير. والعيد بعد الصيام ليس مجرد تقليد من التقاليد التي تتكرر آليا بلا معنى؛ فالعيد يحمل معاني رمزية هامة تتجاوز تهافت المعاني في ظل العصرية الحالية التي تعتبر ضبط النفس من الرذائل، وتحكم الإنسان في نفسه تزمتا، وتقيس العصرية والتحضر بمقدار التحلل والتفسخ عن القيم والاجتراء على المحظورات والدنايا.وفي ظل هذه الانقلابية المخيفة في المثل الإنسانية يأتي العيد لتصحيح رمزية الإنسان في الاحتفال بسعادته وممارسته لفرحه وتجديد الأثواب الداخلية في النفس البشرية قبل تغيير أثواب البدن؛ فالعيد في الإسلام هو عيد الفكرة العابدة، وليس عيد الفكرة العابثة كما يقول مصطفى صادق الرافعي؛ لذلك كانت التهنئة في العيد هي تهنئة بضبط النفس وامتلاك الإرادة الإنسانية.أما العيد على مستوى الأمة فيحمل رمزية عميقة تدعو الأمة أن تحقق تحرر إرادتها وحريتها بالتعالي فوق الماديات وعدم الخضوع إلا للحق، وأن المسلمين جسد واحد في فرحتهم تسود فيهم روح الأسرة الواحدة من ضرورة شعور الجميع بالسعادة والسرور.كما أن العيد هو إشعار للأمة بأن فيها قوة وقدرة على التغيير والتحمل والصبر والنجاح أيضا؛ لأنها أثبتت وجودها الروحي في عيد المبدأ لا المادة.وهو عيد يحقق معاني الإخاء والتراحم حتى يشعر الجميع بالسعادة؛ لذلك كانت سنة الإسلام أن تؤدى زكاة الفطر قبل العيد حتى لا تمتد يد الفقير في ذلك اليوم بالسؤال، وأن يكون عطاء المسلمين له يحقق له الكفاية لا الكفاف، كما دعا الإسلام أن يخرج جميع المسلمين بمن فيهم الفقراء زكاة الفطر حتى يشعر الفقير ولو ليوم واحد في العام أن يده ترتفع للعطاء مرة، فيكون هذا عيدا سعيدا له.واقتضت سنة الإسلام أن تؤدى صلاة العيد في الميادين والأماكن الفسيحة الواسعة، وأن يخرج لهذه الصلاة كل المسلمين رجالا ونساء وأطفالا، حتى كبيرات السن، وصاحبات الأعذار من النساء، وحكمة ذلك أن يأتي الاحتفال بالعيد على هيئة الانتصارات الشعبية الكبرى التي تخرج الأمة كلها للاحتفال بها يعلوها البِشر والسرور، وتلبس أجمل الثياب وتتعالى صيحات التكبير التي ترمز إلى النصر في كل مكان، ودعا الإسلام أن يخرج المسلمون من بيوتهم مكبرين جماعات وأفرادا حتى يشعر الجميع بالانتصار يوم العيد، وأن يعودوا إلى بيوتهم من غير الطريق الذي ذهبوا منها إلى مصلاهم حتى تنتشر الفرحة في جميع الشوارع والطرقات،والسعادة في حقيقتها هي الطمأنينة والرضا، وبالتالي فهي داخلية لا ينعم بها الإنسان ما لم يتهيأ لها مع ضرورة أن تتوافق مع الظروف الخارجية، وخبرة الحياة تشهد أن سعادة السواد الأعظم من الناس ميسورة ببعض التدبير فيما يتعلق بالغذاء والمأوى والبدن، إلا أن السعادة التي لها أعماق وثبات ودوام لا بد أن يكون لها هدف وغاية مرسومة.والأمة الإسلامية التي شرفت برسالة الإسلام تسمو أهدافها وغاياتها فهي الأمة الوسط التي تتمتع بوضوح الرؤية وسلامة الوسيلة وإنسانية الهدف، ومن هذه الوسطية الراشدة كان احتفال الأمة بعيدها بحيث تأخذ فيه حظها من مباهج الحياة وزينتها وتلهو اللهو الذي يمتع النفس في ظلال الفضائل، إن العيد في الإسلام يعني الفرح في أسمى معانيه.. الفرح في الطاعة والقرب من الله والفوز برضاه.. الفرح لفرح الأمة إذا حققت ما تصبو إليه.. الفرح بكف بكاء اليتيم وكفالته وإدخال السرور عليه.. الفرح بإغناء الفقير والمسكين والمحتاج عن سؤال الناس.. الفرح بنهضة الأمة وتوحدها لمواجهة ما يحاك لها من أعدائها.. الفرح بفضل الله، فهذا هو معنى الفرح في الإسلام، ومن ثم فلن تكتمل أفراحنا حتى تكف أصوات المدافع في أراضينا المحتلة.وتتجلى فلسفة العيد في العبادة وإحيائه بالصلاة والدعاء والتضرع، وتلاوة القرآن والتكبير والتهليل والتحميد وكثرة الذكر والشكر لله رب العالمين في الطرقات وفي المساجد والبيوت وخاصة أيام التشريق لما ورد في ذلك من فضل، ويعد ذلك إظهارًا لشعار العيد وفلسفته التربوية. وتبدو فلسفة العيد في الوحدة والمساواة: الوحدة التي تتجلى في صلاة جميع المسلمين العيد في يوم واحد. ومن فلسفة العيد ومعانيه التربوية: التكافل الاجتماعي والسخاء والمودة في القربى والبشاشة والفرح في وجه من نلقاه من المسلمين: وذلك ببذل الصدقات والهدايا، والتوسعة على الأهل والأولاد والجيران، وصلة الرحم، وبث الوئام، والبدء بالصلح، ونبذ الخلافات، وتنقية القلوب من الضغائن والأحقاد، والعفو عن المسيء، وإفشاء السلام على مَن نعرف ومَن لا نعرف، وإطعام الطعام، و عيادة المريض، وزيارة الضعفاء وأصحاب العاهات، وذوي الاحتياجات الخاصة وتفقد حوائجهم، وتحصيل البركة بزيارتهم ودعائهم، وإدخال السرور عليهم، وإدخال البهجة على الأطفال بوسائل الترفيه المباحة شرعًا، حتى يعم الفرحُ والسرورُ، و أن نقلع عن العادات السيئة، كالإسراف والتبذير والضوضاء التي تنبعث من الألعاب النارية.. وغيرها.وفي ختام مقالتي أقطف لكم شذرات من وحي العيد،فإذا كان العيد السعيد بين ظهرانيكم ، فعلموا أولادكم فلسفة العيد في شرعنا الأغر، علموهم أنهما عيدان فقط ولا ثالث لهما ، وقد جعلهما الله مكافأة للعباد بعد قيامهم بأعمالٍ تعبديةٍ يستحقون عليها الجائزة .علموهم أن عيد الفطر سُميَ بيوم الجوائز ، لأنَّ العامل إذا فرغ من عمله كوفئ على قدر جهده ، وصائم رمضان وقائم لياليه بالتلاوة والذكر بذل في هذا الشهر جهداً مضاعفاً يفوق بذله في سائر الشهور ، لذلك استحق الجائزة من الكريم سبحانه.وكذلك الحال في عيد الأضحى ، لأن الحاج يكون قد بات في ( منى ) و وقف على صعيد عرفات ، وفارق الأهل والوطن وسهر ليله بالدعاء والاستغفار ، فاستحق المغفرة والخروج من الذنب كيوم ولدته أمه .علموهم وأنتم غادون إلى صلاة العيد أن المسلمين في هذه الدنيا قوة لا تقهر إذا وحَّدوا كلمتهم ، وطرحوا خلافاتهم جانباً ، ووطَّدوا صِلاتهم بربهم .علموهم وأنتم تكسونهم الثياب الجديدة أنَّ في الأمة أطفال مثلهم لا يجدون ما يسترون به عوراتهم أو ما يرتدونه في مثل هذه الأيام .علموهم و أنتم تطربون لنداءاتهم ( بابا ) أن هناك في الأمة أطفال فقدوا آباءهم وأمهاتهم وحُرموا هذا النداء العذب في مثل هذا اليوم فضلاً عن بقية الأيام .علموهم و وجِّهوهم وأنتم تغدقون عليهم الأموال في صبيحة العيد كيف يصرفونها ، أو كيف يستثمرونها بالصدقات والهبات وألاّ ينسوا أنَّاتِ الثكالى والمحرومين . علموهم الرفق والتسامح والشعور بآلام الآخرين وأوجاعهم . علموهم كيف يكون المسلمون جسداً واحداً إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى ...علموهم كل ما يقربهم من الله ، ليكونوا بحق شباب الغد المنتظر .تلك القطوف العيدية التي استفدتها في مقالتي سائلا من المولى –عزّ وجل- أن يعيد هذه المناسبة وجميع المناسبات على الحبيبة عمان وقائدها المفدى بالخير والبركات،،، وكل عام وأنتم بخير،،،
تعليق