قال تعالى: ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب ). (سورة يوسف آية 111)
لقَصَصِ الأوليـن لَذةٌ استثنائية وعِبرةٌ مُستهدفةٌ مِنْ سَردهـا..
تَحـكي ثَبـاتَ قومٍ أو عِصْيانَهمْ..
وتُصوِّر لنا شُرفاً مضيئةً من حياةِ أنبياءٍ كِـرامْ..
بِقَــلَمـِي سَأسْرِدُ لَكُـمْ قِصَـةَ شـُعَيـبْ عَليـهِـ السْـلام...
منذ زمن بعيد ..وُجدَ قومٌ يعبدون الأيكـة، وكانوا ينقصون المكيال والميزان ولا يُعطون الناس حقهم...
إنهم قوم مدين الذين ذُكروا في القرآن الكريم..
أرسل الله لهم شعيباً ليدعوهم إلى عبادةِ الله والعدل في التعامل ، ولكنهم أبوا أن يطيعوه واستكبروا واستمروا في عنادهم وتوعدوه بالرجم والطرد وطالبوه أن يُنزل عليهم كِسفاً من السماء..
فلنسترسل في حديثنا أعزائي عن سيرته حتى نستبين النقاط المهمة في قصته..
من أبرز ما يجلو في قصة سيدنا شعيب عليه السلام بأن الدين ليس قضية توحيد وألوهية فقط !
بل أن الدين يحوي أسلوباً لحياة الناس وتعاملهم..
لمَّا أرسل الله تعالى شعيباً إلى أهل مدين ، دعى قومه بما يدعوا له كل نبي وهو عبادة الله سبحانه وتعالى فهذه عقيدة موحده بين الأديان كلها..
بعد أن بين شعيب الأساس المتين بدأ في توضيح أمورٍ أخرى أُرسِل من أجلها..
أولها : المعاملات اليومية –قضية الأمانة والعدالة – كما ذكرنا سابقاً عن قوم مدين بأنهم كانوا ينقصون المكيال و الميزان ولا يعطون الناس حقهم ، إذ أنها رذيلة لابد من التطهر منها ، لاسيما وأن قوم مدين تميزوا بها فقد كانوا يعتبرون بخس الناس أشياءهم نوعاً من أنواع المهارة في البيع والشراء، ثم جاء شعيب عليه السلام وشف لهم حقيقة ما يفعلون وأوضح لهم بأن فعلهم يُعتبر سرقة ولم ييئس شعيب من نصحهم ولطالما بين لهم خوفه عليهم من عذاب يوم محيط وحذرهم من الفساد المُتَعمد في الأرض.
بعد ذلك بدأ شعيب عليه السلام يُخلي بينهم وبين الله سبحانه وتعالى ويريهم بأنه لا يملك لهم شيئاً وأنه ليس موكلاً عليهم ولا حفيظاً عليهم ولا حارساً لهم وإنما هو رسولٌ مِن عندِ الله يبلغ رسالات ربه
بيَّنَ شعيب عليه السلام لهم عاقبة فسادهم إلا أنهم قابلوه ببيان على شدة كفرهم!
فأخذوا بالسخرية منه واستهانوا به فما كان شعيب عليه السلام في أعينهم إلا ضعيفاً وهم أقوى منه..
وأنكروا إمكانية أن يتدخل الدين في الحياة الاقتصادية، وأن هذه حرية الإنسان الشخصية وهذا ماله الخاص!
فأدرك شعيب عليه السلام مدى سخريتهم منه إذ وصلوا لاستبعاد أحقية الدين بالتدخل في الحياة اليومية!
ولكنـه بأسلوبه اللطيف الواثق من الحق الذي معه تجاوز سخريتهم وبيَّن لهم بأنه على بينةٍ من ربه وأنه لا ينهاهم عن شيء لمصلحةٍ شخصية وإنما هو كباقي الأنبياء " إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت " ، فهذا هو المضمون الحقيقي لكل دعوات الأنبياء...
وأخذ يحاول إيقاظ مشاعرهم بتذكيرهم بمصير الأقوام السابقين وكيف دمرهم الله بأمر منه وأن سبيل النجاة هو العودة إلى الله سبحانه وتعالى..
رغم ذلك كله أصرَّ قوم مدين على إعراضهم وتحولوا من السخرية إلى التهديد !!
هددوه بالرجم وأنه لولا أهله وقومه ومن تبعه لحفروا له حفرة وقتلوه ضرباً بالحجارة...
رغم قسوتهم إلا أنَّ شعيب كان ألطف منهم وتجاوزهم ووجَّه لهم سؤالاً واحداً هدفه إيقاظ عقولهم : "قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللهِ"
بدا جلياً بعدها أن قوم مدين قد ضاقوا ذرعاً بشعيب ، فاجتمعوا رؤساء قومه ودخلوا مرحلة جديدة مغايرة لما سبقها!
قاموا بتهديده فعرضوا عليه أمرين إما التشريد وهو الطرد من قريتهم أو أن يعود إلى ملتهم!
تعجب شعيب عليه السلام من موقفهم إذ كيف يريدون منه العودة إلى ديانتهم بعد أن نجَّاه الله وأين الإنصاف فهو يدعوهم بكل لين وهم يستخدمون القوه!
فحمل الدعوة ضده الرؤساء الكبار والحكام وبدا واضحاً أنَّ لا أمل فيهم فنفض شعيب يده منهم بعد التهم التي وُجهت ضده..
لكل قومٍ جاحدين وعاصيين مصيـرٌ مَهين فما كان مصير قوم شعيب عليه السلام؟
لابد لنا من ذكر اللون الجديد الذي انتقل إليه قوم شعيب وهو التحدي، فراحوا يطالبونه بأن يُسقط عليهم كسفاً من السماء إن كان من الصادقين..راحوا يسألونه عن عذاب الله ساخرين منه بأن يكون لذلك وجوداً !!
انتظر شعيب أمر الله ، حتى أوحى الله له بأن يخرج هو والمؤمنين من القرية وخرج شعيب عليه السلام وجاء أمر الله فقد كانت صيحةٌ واحدة ..صوتٌ جاءهم من غمامة أظلتهم..بدا لهم في بداية الأمر أنها تحمل لهم مطراً ولكن هيهات ما كانت تحمله من عذاب عظيم فأدركتهم صيحةٌ جبَّارة جعلت كل واحد منهم يجثم على وجهه في مكانه فصعقت الصيحة كل مخلوق حي!!
فهكذا انتهت قصة شعيب عليه السلام مع قومه...