موقف الإباضية من علي كرم الله وجهه وأهل النهروان
تأليف
البرهـــان الساطـــع
تأليف
البرهـــان الساطـــع
بسم الله الرحمن الرحيم
مقـــدمــة:
أخي المسلم الباحث عن الحقيقة، إن معركة صفين والتحكيم وما تبعه من أحداث يعد من القضايا المهمة والشائكة في التاريخ الإسلامي التي يجب أن تدرس من منظور شمولي متجرد عن المذهبية والعصبية الجاهلية، فكل يدعي الحق والصواب، والله هو العالم بالصواب وأهله، وما نقوم به هو اجتهادات بسيطة من خلال المعطيات التاريخية والدلائل العقلية المنطقية التي تربط الأحداث بالزمان والمكان لتعطينا صورة أوضح لفهم الحقيقة عن طريق النظر للأمور نظرة شمولية متجردة من وثنيات الأهواء وما ترسب في العقول من رديء الآراء.
ولكن يجب علينا أن نعي جيداً أن النظرة الشمولية للتاريخ تتطلب منا التجرد الكامل والحقيقي من الموروث المذهبي في التعامل مع هذه الأحداث، إنها تتطلب منا أن نصغي إلى الضحية كما أصغينا إلى الجزار، تتطلب منا أن نزن الأمور بموازين العدل والأمانة والعقل والمنطق، لا أن يجر الإنسان من شعيرات أنفه ويطعم الغث والسمين ثم يقول نظرتي شمولية!!
كثيرا ما أسمعك أخي العزيز وأنت تدعي البحث عن الحقيقة تلوك العبارات التي يرددها كتاب التاريخ وأصحاب مقالات الفرق والتي تصف الإباضية بالخوارج وتصف أهل النهروان بإنهم مارقة مرتدين عن الدين؟!!
أخي العزيز الباحث عن الحقيقة ستقول أن مصدر حكمك على موقف أهل النهروان هو كتب التاريخ السنية أو الشيعية!! فهلا أدركت لبرهة أن هؤلاء ما هم إلا خصوم أهل النهروان؟!!
بينما لا أسألك أن تقبل روايات الإباضية والخوارج في المسألة، فشعاري الذي ألتزمت به هو سماع جميع الأصوات والاحتكام لبديهات العقل وسنن الكون والثوابت الراسخة من القرآن الكريم والسنة النبوية الطاهرة، فلهذا فإني آليت على نفسي أن ألتزم بروايات أهل الحديث والتاريخ المعتمدين وعرضها على موازين الحق والعدل والإنصاف، فاءت بما شئت من روايات أخي العزيز لترى إن كل الروايات التي تشين أهل النهروان هي بين واهي وموضوع ومختلق ومصنوع.
شبهة إجبار الإمام علي على التحكيم:
وأول قضية أحب أن أفندها هي الإدعاء بأن أهل النهروان أناس سذج من أجلاف الأعراب لا يفقهون إلا لغة الحديد والنار؟!! فالعقل والمنطق والحق والأمانة التي لو تجردنا من مورثاتنا الفكرية لضفرنا بها تقول: أنه لا يمكن لهؤلاء ((القراء)) أن يكونوا بهذه السذاجة التي تدعيها تلك الروايات الباطلة القائلة بأنهم هم من اجبر الإمام علي على التحكيم!!، فقط انظر إلى أسمهم ((القـــــراء)) وستجيبك هذه التسمية على كل الافتراءات التي حاول كتاب التاريخ وسمهم بها.
هل تعرف ماذا تعني كلمة)) القـــراء )) ؟!! إليك الجواب من فطاحل التاريخ والحديث :
قال ابن خلدون في شرحه لمعنى لكلمة القراء:
".. ثم إن الصحابة كلهم لم يكونوا أهل فتيا ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم. وإنما كان ذلك مختصاً بالحاملين للقرآن العارفين بناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه وسائر دلالته بما تلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم أو ممن سمعه منهم ومن عليتهم. وكانوا يسموّن لذلك ((القـراء)) أي الذين يقرأون الكتاب لأن العرب كانوا أمة أمية. فاختص من كان منهم قارئاً للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ. وبقي الأمر كذلك صدر الملة.. وكمل الفقه وأصبح صناعة وعلماً فبُدِّلوا باسم الفقهاء والعلماء من القراء.."( انظر المقدمة، ص563-564).
وقال في موضع آخر: " والقوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم والتأليف والتدوين ولا دُفعوا إليه ولا دعتهم إليه حاجة. وجرى الأمر على ذلك زمن الصحابة والتابعين وكانوا يسمون المختصين بحمل ذلك ونقله إلى القراء أي الذين يقرأون الكتاب وليسوا أميين لأن الأمية يومئذ صفة عامة في الصحابة بما كانوا عرباً فقيل لحملة القرآن يؤمئذ قرّاءٌ إشارة إلى هذا. فهم قرّاءٌ لكتاب الله والسنة المأثورة عن [رسول] الله لأنهم لم يعرفوا الأحكام الشرعية إلا منه ومن الحديث الذي هو في غالب موارده تفسير له وشرح " ( انظر المقدمة، ص 747 ).
وقول ابن خلدون هذا له شواهد كثيرة من كتب السنة نذكر منها مثالاً واحداً من صحيح الإمام مسلم:
"حدثني محمد بن حاتم حدثنا عفان حدثنا حماد أخبرنا ثابت عن أنس بن مالك قال جاء ناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أن ابعث معنا رجالا يعلمونا القرآن والسنة فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار يقال لهم القراء فيهم خالي حرام يقرؤون القرآن ويتدارسون بالليل يتعلمون وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان فقالوا اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا قال وأتى رجل حراما، خال أنس، من خلفه فطعنه برمح حتى أنفذه، فقال حرام فزت ورب الكعبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه إن إخوانكم قد قتلوا وإنهم قالوا اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا " (المنهاج- شرح صحيح مسلم بن الحجاج- الرواية :4894، م7،ج13/ص49)
فإذا أدركت ذلك علمت أن من كانت هذه عقليته لا يمكن أن يتصور أن يكون بتلك السذاجة التي تحاول كتب التاريخ وصمه بها، أضف إلى ذلك الرواية الصحيحة السند التي ذكرها الإمام أحمد والتي ذكرها الأستاذ علي بن محمد الحجري في كتابه "الإباضية ومنهجية البحث" ص 180-184 جاء فيها :
عن أبي وائل شقيق بن سلمة ما نصه: " قال: كنا بصفين فلما استحر القتل بأهل الشام اعتصموا بتل فقال عمرو بن العاص لمعاوية أرسل إلى علي بمصحف وادعه إلى كتاب الله فإنه لن يأبى عليك فجاء به رجل فقال بيننا وبينكم كتاب الله (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون) فقال علي: نعم أنا أولى بذلك بيننا وبينكم كتاب الله قال فجاءته الخوارج ونحن ندعوهم يومئذ ((القراء)) وسيوفهم على عواتقهم فقالوا يا أمير المؤمنين ما ننتظر بهؤلاء القوم الذين على التل ألا نمشي إليهم بسيوفنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم … "انظر الإمام أحمد (المسند الرواية : 15408) والنسائي ( السنن الكبرى 6/463 ) وابن أبي شيبة ( 15 /317 ) وأبي يعلى ( المسند 1 / 364 ).
حتى إن الدكتور حسين عبيد غانم غباش وهو شافعي من السنة قال بعد أن ذكر رواية القلهاتي (العالم الإباضي) والتي يتفق معناها مع معنى رواية الإمام أحمد هذه ما نصه: (هذه الرواية للوقائع تعيد وضع مجموعة من كتابات مؤرخين مسلمين غير إباضيين، وعلى الأخص ما يدعيّ منها أن الخوارج شجعوا علياً على قبول مبدأ التحكيم، موضع المساءلة ، بل ويدحضها.) " انظر عمان الديمقراطية الإسلامية، ص 53 "
هكذا يكون التجرد من المذهبية وهكذا تكون النظرة الشمولية .
قضية التـحكيـم :
تقول روايات المؤرخين – خصوم أهل النهروان – ما مضمونه: ( إن أهل النهروان قالوا له: (لا حكم إلا لله وان عليا حكم الرجال في حكم الله)، ورد ابن عباس أن الله في كتابه أمر بالتحكيم في حالات، وهي قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام} المائدة 95، وقوله تعالى {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا} النساء35.
من هاتين الآيتين انطلق ابن عباس ليثبت لهم جواز التحكيم في الإمامة، فإذا كان الله قد حكم في الرجال في شأن يسير، ليمنع الشقاق بين الزوجين، أفلا يجوز تحكيم الرجال منعا لشقاق في صفوف الأمة، وحقنا للدماء؟!!)اهـ.
ونحن نقول: لماذا لم تورد مصادر التاريخ رد اهل النهروان أو القراء – أهل الحكمة والعلم كما وصفتهم رواية مسلم وأحمد وابن خلدون – على حجة ابن عباس؟ هل فعلا أفحمهم بهذه الحجة أم انهم كانوا مسلحين بإجابات قاصمة لهذه الحجج؟!! تعالوا بنا لنرى ردهم الذي بدد هذه الحيرة التي وقع فيها البعض، وذلك منقولا من كتب الإباضية ورثة أهل النهروان.
الـــرد الأول:
قالوا له : لقد جعل تعالى حد الزاني والزانية الجلد والرجم وحد شارب الخمر الجلد والتعزير وحد السارق قطع يده، وجعل حد الفئة الباغية قتالها إلى أن تؤوب إلى الحق، وجعل حكم اختصام الزوجين أن يحكم اثنين من أهليهما، وحكم من أصطاد في الحرم أن يحكم اثنان ذوا عدل أليس كذلك؟
الجواب لا محالة : نعم
قالوا له: إذا افترضنا جواز تحكيم حكمين في أمر قتال الفئة الباغية، فمعنى ذلك جواز تحكيم حكمين في أمر قطع يد السارق وجلد الزاني ورجمه إلى غيرها من الحدود، فتكون بذلك حدود الله معلقة بحكم الرجال وليس لها معنى، وهذا لا يجوز في شرع الله، فكيف يسيغ لعلي أن يوقف حد من حدود الله ويحكم فيه الرجال؟!!
أليس هذا خلطا في الحدود والأحكام؟!! الله تعالى جعل حكم السرقة قطع اليد وحكم إختلاف الزوجين التحكيم فهل يجوز أن أحكم أثنين في حد السارق؟!! بالطبع لا يجوز فكيف يجوز أن أوقف حد قتال الفئة الباغية وأحكم فيه رجلين؟!!
العقل والمنطق الواقف على حدود الله وشريعته يقول بأنه: لا يجوز.
ثم قالوا له: في تحكيم الحكمين في قتل صيد الحرم: هل يجوز أن يكون أحدهما أو كليهما ممن يقول بجواز صيده – والله تعالى يحرم الصيد – فهل يجوز أن نأتي بواحد أو أثنين كافرين بحكم الله؟!!
الجواب: طبعا لا يجوز لأن الله تعالى قال: {فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صيام ليذوق وبال أمره} فمن كفر بهذا الحكم ورده لا يجوز تحيكمه أبدا .
إذا كان عمرو بن العاص يرى استحلال دماء المسلمين وحرم ما أحل الله من قتال من بغى على المسلمين وتولى من عادى الله وعادى المسلمين، فعلي بتحيكمه عمرو بن العاص قد حكم فيمن قتل الصيد وهو محرم من يعتقد انه لا يحرم قتل الصيد في الحرم ولا يحرم قتل الصيد في الحلّ على المحرم.
فهل هذا يجوز ؟!! بالطبع لا ولا يقبله عاقل.
أليس أبو موسى الأشعري كان شاكا في قتال معاوية – الفئة الباغية – وكان يخذل الناس عن القتال فهو كعمرو بن العاص أو قل أنه متشكك في حكم من قتل صيد الحرم، فهل يجوز تحكيم مثله؟!!
بالطبع لا يجوز.
فالخاتمة أن عليا حكم في دماء المسلمين من كان يعتقد جواز استباحتها وانتهاك حرمتها ومن كان يحارب الله وإمام المسلمين ومن كان يوالي حزب الشيطان والفئة الباغية على المسلمين، وهذا طبعا لا يجوز ولا يمكن أن يقبل به عاقل.
الـــرد الثاني:
ولو جئنا لما ذكروه من قوله تعالى {فإن خفتم شقاق بينهما} إلى قوله تعالى {يوفق الله بينهما}
قالوا لابن عباس: فاخبرنا عن رجل عنده يهودية أو نصرانية وكان بينهما اختلاف ومنازعة هل ينبغي له – أي علي – ولمن حضر من المسلمين أن يدعوا اليهود أو النصارى يحكمونهم بما هم به كافرون من أحكام المؤمنين؟!!
قال ابن عباس: لا.
قالوا: كيف حكم علي عمرو بن العاص وهو يكفر بما حكمه فيه ويستحل ما حرم الله من دماء المسلمين ويدين بغير دينهم ويوالي من عادوا ويعادي من والوا، فنذكرك بالله هل يسع عليا هذا؟!!
قال : لا يجوز هذا لمن فعله ولا يسعه.
الـــرد الثالث:
ثم قال القراء لابن عباس: أن عليا تخلى عن اسم الإمارة وجعل منصب الخلافة مساواة بينه وبين معاوية وجعل أمر الإمامة بيد من حارب الله وجماعة المسلمين واستباح دمائهم.
قال لهم ابن عباس: أن النبي خلع أسم الرسالة عن نفسه حين كتب في صلح الحديبية، من محمد بن عبدالله بدلا من محمد رسول الله.
قالوا له: أمر الموادعة والقضية بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين كانت منازل وقد نقله الله تعالى عنها منزلة منزلة وكل منزلة ينتقل منها لا يجوز عليه ولا على المسلمين العودة إليها، فمثلا لا يجوز للمسلمين أن يصلوا إلى بيت المقدس بعد تغيير القبلة إلى الكعبة الشريفة، ولا يجوز عليهم أن يشربوا الخمر بعد تحريمها علما بأنها كانت حلالا قبل التحريم.
وكذلك الأمر بالنسبة لمهادنة المشركين حيث أنزل الله عز وجل على نبيه بعد ذلك تحريم معاهدة المشركين فقال: {براءة من الله ورسوله} إلى قوله جل وعلا {إن الله غفور رحيم} وإلى قوله {لا تعملون}، فبراءة جاءت بنقض كل عهد وتحريم أمان المشركين وقتلهم حيث ما وجدوا وحصرهم والقعود لهم بكل مرصد وتحريم الجنوح إليهم ولا يقبل منهم إلا الدخول في الإسلام والإقرار به ولأهل الكتاب الجزية فما لهم إلا الإسلام أو الجزية ولم يحل الله أمان أحد منهم إلا من استجار ليسمع كلام الله فإن لم يؤمن أبلغ مأمنه.
وقال عز وجل {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} فلا إقامة لأحد لما نقل الله نبيه عنه.
فيتضح لنا أن عهد النبي مع المشركين منسوخ لا يجوز العمل به ولا التعويل على ما جاء فيه، فلا يجوز للنبي بعد ذلك اليوم أن يكتب لأحد من المشركين {محمد بن عبدالله} بدل {محمد رسول الله}، فكيف يجوز لأحد من المؤمنين ذلك؟! فإذا جاز ذلك، جاز أيضا أن يتوجه المسلمون في صلاتهم نحو بيت المقدس بدلا من الكعبة وجاز لهم شرب الخمر وغيره من الأمور المنسوخة في شرع الله.
وقالوا له أيضا بأن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم أمر رباني لا ينفسخ بمسح أسم النبوة من صحيفة الصلح بينما أسم الإمارة شيء اختياري يستطيع الأمير أن يتخلى عنه عن طريق مسح الإمارة عن نفسه، وهذا ما حصل حيث صار أمر الإمارة شاغراً بيد عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري وتساوى علي مع معاوية في الإمارة، فشتان بين الحالتين.
فقال ((القراء ))بعد ذلك لابن عباس: نذكرك بالله يا ابن عباس هل تعلم أن الذي احتج به صاحبك علينا منتقض غير جائز في الدين؟
قال ابن عباس: اللهم نعم.
الــــرد الرابع:
قالوا له : اخبرنا ألم يحل الله دماء معاوية وجنده لأنهم الفئة الباغية، فهل حرم علي دمائهم لأنهم تابوا إلى الحق وبايعوا إمام المسلمين؟
قال ابن عباس: أحل الله دمائهم، ولكنهم لم يتوبوا.
قالوا له: أليس علي قد حرم علينا ما أحل الله من قتالهم من غير انتقال منهم عن سبب حلية دمائهم – أي من غير توبة منهم – ؟ وهل هذا جائز؟
قال ابن عباس: اللهم نعم قد حرم ما أحل الله دون توبة منهم وهذا غير جائز.
قالوا له: أليس عمار من المهتدين، ومن عمل عمله من المهتدين؟
قال ابن عباس: نعم.
قالوا له : بسبب هذا العهد بين علي ومعاوية وتحريم علي لدماء جيش معاوية، بسبب ذلك صار من يقاتل جيش معاوية كما فعل عمار من قبل يعد كافراً عند صاحبك، فكيف يكون عمار من المهتدين ويضل من عمل عمله واقتدى بهداه، فإن كان عمار قاتلهم على هدى فقد اهتدى من سار على طريقه؟! فهل يجوز هذا لصاحبك؟
قال ابن عباس: لا يجوز، وعمار من المهتدين ومن سار على طريقه كذلك.
قالوا له: ألم يشترط علي ومعاوية أن من خرج من جند أحدهم ودخل في جيش الآخر كان يخرج رجل من جيش علي ويدخل في جيش معاوية فليس لعلي أن يقيم عليه الحد وكذلك إذا خرج رجل من جيش معاوية إلى جيش علي فليس لمعاوية أن يقيم عليه الحد؟
قال ابن عباس: اللهم نعم.
قالوا له: أليس هذا تعطيلا منه لحكم الله وإقامة حد الله على من خان المسلمين وعاون المارقين الباغين المحاربين لله ولجيش المسلمين؟!!
قال ابن عباس: اللهم نعم.
قالوا له: إن كان معاوية وعمرو بن العاص سلما لحكم الله وما أنزل من القرآن ورجعا عما كانا عليه وفاءا إلى أمر الله، فالحق علينا أن نقبل توبتهم ونتولاهما لأن الله أمر بقتال الفئة الباغية حتى تفيء.
قال ابن عباس: نعم.
قالوا له: أما أن نحكم الرجال فيما قد فرغ الله من الحكم فيه، فهذا لا يجوز.
قال ابن عباس: نعم.
قالوا له: فإن حكم الحكمان بنقض ما جاءنا من الله فيلزمنا أن ننتقل عما نحن فيه من الهدى والبينات إلى الضلال والعمى وأن نترك حكم الله والإيمان الذي نحن عليه وأن نستحل ما حرم الله من موالاة المارقين الباغين، وأن نحرم ما أحل الله من معاداتهم ومقاتلتهم بحكم كتاب الله، وأن نعادي من أقر بديننا وموقفنا من الباغين ونكون بذلك رافضين لما افترض الله علينا من ولاية المؤمنين، فمعاذ الله أن نفعل ذلك إن شاء الله حتى تذهب أنفسنا أو نظهر على عدونا.
فقال ابن عباس: اللهم هذا هو الحق.
قالوا له: وكيف يحل الله قتال قوم ويأمر به ويأذن فيه، ثم يكفر علي من استحله؟!! حتى يأذن فيه من يستحل تحريمه – أي تحريم قتال الفئة الباغية وهذا هو عمرو بن العاص – من الحكمين، وذلك أن عليا حرم القتال الذي أحله الله من معاوية وجنده حتى يأذن فيه عمرو بن العاص وأبو موسى، وزعم أنه من قام بكتاب الله جل وعلا وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم المصطفى لكنه يستحل ما أحل الله من قتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله فهو من الكافرين!! حتى يأذن فيه من يدين بتحريم ما احل الله من قتال الفئة الباغية بغير كتاب من الله، حتى يأذن له من يدين بتحريم حلال الله ويستحل ما حرم الله من دماء المسلمين ويعادي أولياء الله ويوالي أعداء الله ، فنذكرك يا ابن عباس هل يسع هذا من فعله ويهتدي به؟
قال ابن عباس: اللهم لا.
وانصرف ابن عباس عنهم وهو مقر لهم معترف لهم انهم قد خصموه ونقضوا عليه ما جاء به مما أحتج به عليهم .
وتعلق بعض الجهلة بما قاله الإمام النووي في شرح صحيح مسلم حين قال معلقا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه في بني قريضة، ما نصه: (فيه جواز التحكيم في أمور المسلمين وفي مهماتهم العظام، وقد اجمع العلماء عليه، ولم يخالف فيه إلا الخوارج، فإنهم أنكروا على علي التحكيم)اهـ، "انظر النووي، شرح صحيح مسلم، تقديم د. وهبة الزحيلي، طبع المكتبة العصرية بيروت، ط1 سنة1422هـ، المجلد الرابع ج12 ص439".
وهذه شبهة كنا نربأ بالإمام النووي من أن يتعلق بمثلها لأنها ضعيفة وواهية، فكيف يقيس الإمام النووي مسألة قتال الفئة الباغية التي نزل فيها نص قرآني واضح جلي لا لبس فيه، وهو قوله تعالى {وإن فئتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}الحجرات 9، كيف يقيس هذه المسألة المنصوص عليها في الكتاب بمسألة لم ينزل فيها نص أو تشريع قبل حدوثها؟!!
فأمر الحكم في بني قريظة لم ينزل فيه قرآن أو حكم من الله قبل تحكيم سعد بن معاذ، فالمسألة مفتوحة يستطيع أن يحكم بما شاء، فهو مفوض من عند الرسول صلى الله عليه وسلم، بينما مسألة قطع يد السارق وجلد الزاني وقتال الفئة الباغية أمور نزل فيها نص قرآني فلا يمكن أن يحكم فيه برأي الأشخاص أبداً.
ومن هنا يتبين للجميع أن ما حاول كتاب المقالات والمؤرخين إلزام أهل النهروان به من الحجة لا يصمد أمام الفحص، بل أن حجج أهل النهروان كانت أقوى وأرسخ، وهي لك أخي المسلم المنصف لكي ترى صدق قوتها وأصالتها.
الحــوار بين ابن عباس وعلي:
تحاول المصادر التاريخية أن تتجنب ذكر الموقف الذي حصل بين ابن عباس وعلي بعد التحكيم وبعضها يقول أن علي سار بنفسه إلى أهل النهروان!!
ونحن نقول أن ما ذكروه من توجه علي لأهل النهروان ما هو إلا لإدراكه أن ابن عباس لم يستطع أن يقيم عليهم الحجة، هذا من جانب ومن جانب آخر ماذا عسى أن يقول علي لأهل النهروان وهم قد فندوا جميع الحجج التي تذكر كتب التاريخ أن علي وابن عباس احتجوا بها على أهل النهروان؟!! بل أن ابن عباس لم يستطع إلا أن يعترف لهم بأنهم على الحق المبين والصراط المستقيم.
ولكن هل يعقل أن لا يخبر ابن عباس تلك الحجج لعلي، وأن لا ينصحه قبل أن يقتل المؤمنين الأبرياء ظلما وعدوانا؟!!
الجواب: ذلك غير معقول طبعا. لكن ابن عباس معروف بالحكمة فلهذا من البديهي جدا أن يتوجه بالنصح لعلي على انفراد خاصة إذا ما عرفنا الأشعث –عميل معاوية في جيش علي- وعيونه.
ولكن لا نستطيع أن نجزم بأنه أخبره عن جميع ردود أهل النهروان وحججهم الدامغة فربما انزعج علي من اقتناع ابن عباس من موقف أهل النهروان ولم يشأ أن يستمع إلى كل آرائهم فلهذا دب بينه وبين ابن عباس خلاف كبير حسبما تورده المصادر الإباضية التي أتحفتنا بقضية الحوار السابق بين ابن عباس واهل النهروان.
قال علي لابن عباس: ألا تعينيني على قتالهم؟
قال ابن عباس: لا والله لا أقاتل قوما خصومني في الدنيا وانهم يوم القيامة لي أخصم وعلي أقوى إن لم أكن معهم لم أكن عليهم.
فلهذا اعتزل ابن عباس جيش علي وهذا ما تؤكده معظم المصادر التاريخية الموثوقة كتاريخ ابن جرير الطبري، حيث أنها تجمع على أن ابن عباس لم يكن في أرض المعركة يومئذ، هذا مع العلم بأن تلك الكتب تقول بأن قتال الخوارج من أعظم القربات!!! فلو كانت هذه الدعوى صحيحة لما ترك ابن عباس الخير والفضل، وهو كان مع علي في جميع حروبه ومعاركه فلماذا ابتعد عنه في هذه المعركة بالذات؟ علما بأنه كان طرفا في النقاش فيها!!.
كل هذه الدلائل تؤكد صدق الخبر بأن ابن عباس فارق جيش علي، ولكن الخلاف لم ينتهي عند هذا الحد حيث نشب النزاع بين علي وابن عباس واتهم علي ابن عباس بسرقة أموال بيت المال في البصرة!! وهذا كله في كتب التاريخ المعروفة ككتاب التاريخ لابن جرير الطبري. فرد عليه ابن عباس: قد عرفت وجه اخذي المال أنه كان بقية دون حقي من بعد ما أعطيت كل ذي حق حقه، قد علمت أخذي للمال من قبل قولي في أهل النهروان ولو كان أخذي المال باطلا كان أهون علي من أن أشرك في دم امرأ مؤمن.
شبهــة قتل عبدالله بن خباب:
ومن الشبهة المثارة حول أهل النهروان هو الدعوى المغرضة والتي تدعي بأنهم قتلوا الصحابي الجليل عبدالله بن خباب رضي الله عنه؟!أما ما أثاره الحاقدون حول رواية قتل أهل النهروان للصحابي عبدالله بن خباب فلم تصح منها رواية واحدة فجميعها قد جاءت عن طريق أبو مخنف (ليس بثقة متروك الحديث) "انظر الجرح والتعديل ت1030 ج7ص182"، وجاء في لسان الميزان ت8/6776 ج4ص584 أنه (أخباري تالف لا يوثق به)اهـ، وجاءت رواية أخرى في مصنف أبي شيبة لكنها مرسلة من طريق أبي مجلز.
ولو سلمنا بهذه الحادثة المزعومة فقد ثبت لدى كتب التاريخ أن حادثة مقتل الصحابي عبدالله بن خباب المزعومة قد تمت عن طريق رجل لا ينتمي لأهل النهروان بصلة وهو مسعر بن فدكي (تاريخ الطبريج3ص116 ) ومسعر هذا ثبت لجوءه إلى راية علي (راجع المحلى لابن حزم ج11 ص301و302 والأنساب للبلاذري ج3ص146)، ولقد اثبت كتاب المقالات أنفسهم عدم رضا أهل النهروان لمحادثة مقتل عبدالله بن خباب حيث يذكر الأشعري في "المقالات" ص43 بعدما أورد ما صنعه مسعر: "وبعض الخوارج يقولون: إن عبدالله بن وهب كان كارهاً لذلك كله وكذلك أصحابه"اهـ.
ومما يؤكد عدم وجود علاقة بين أهل النهروان وبين الناس الذين عرفوا باستعراض المسلمين ما جاء برواية الثقات عند أبي شيبة برقم 19760 ج15ص317 وأبي يعلى برقم 473 ج1ص364 ما نصه (فساروا حتى بلغوا النهروان فافترقت منهم فرقة فجعلوا يهدون الناس قتلاً قال أصحابهم ويلكم ما على هذا فارقنا عليا)اهـ .
ثانـيـاً: ثمة أمر آخر –غير ما تقدم- يؤيد عدم انتهاج أهل النهروان أمر التقتيل والاستعراض، وأن حوادث القتل المذكورة لو ثبتت لا تعدو كونها خروجاً فردياً على هذا الإطار.
فقد كان أبو بلال مرداس بن أدية التميمي ممن شهد صفين مع علي وأنكر التحكيم ثمّ اعتزل إلى حروراء ، وشهد النهروان مع منكري التحكيم، وكان من الأربعمائة الذين ارتثوا في المعركة فنجا، وقد بقي إلى عهد زياد بن أبيه والي معاوية على الكوفة والبصرة والذي كان جائرا الأمر الذي أدى إلى تطرف بعض المعارضين، فكان من ذلك حادثة قريب بن مرة الأزدي الإيادي وزحاف بن زحر الطائي وكانا ابني خالة، فقتلا رجالاً، فقال أبو بلال كما في ( البلاذري (الأنساب) جـ5 ص183/ اليعقوبي (التاريخ) جـ2 ص232/ المبرد (الكامل) جـ3 ص1169: "قريب لا قربه الله من كل خير وزحاف لا عفا الله عنه، لقد ركباها عشواء مظلمة" يقول لاستعراضهما الناس. وفي رواية عند الطبري 3/209 : "قريب لا قربه الله، وايم الله لأن أقع من السماء أحب إلي من أن أصنع ما صنع" يعني الاستعراض.
وقد خرج مرداس في زمن عبيدالله بن زياد - الذي سار على منوال أبيه وزاد عليه - في أربعين رجلاً إلى الأهواز قائلاً: "إنه والله ما يسعنا المقام بين هؤلاء الظالمين تجري علينا أحكامهم مجانبين للعدل مفارقين للفضل، والله إن الصبر على هذا لعظيم وإن تجريد السيف وإخافة السبيل لعظيم، ولكننا ننتبذ عنهم ولا نجرد سيفاً ولا نقاتل إلا من قاتلنا" ومن قوله: "إنا لم نخرج لنفسد في الأرض ولا لنروّع، أحداً ولكن هرباً من الظلم، ولسنا نقاتل إلا من يقاتلنا ولا نأخذ من الفيء إلا أعطياتنا"( )، وتؤكد مصادر أخرى أنه لم يقتل ولم يعرض للسبيل (ابن خياط (التاريخ) ص159 )، وأنه كان "لا يدين بالاستعراض" البلاذري (الأنساب) جـ5 ص189.
ومنهج أبي بلال واضح في أنه لا يستبيح قتال أحد إلا دفاعاً عن النفس، وهذا يعكس لنا طبيعة موقف أهل النهروان بأنهم لا يستبيحون دم أحد من المسلمين، فإن أبا بلال واحد منهم، ولا شك أنه إذا كان يقف موقفاً معادياً من قريب وزحاف لما ارتكباه فإن رضاه عن عبدالله بن وهب – وهو رمز لفكر أهل النهروان – يجلي لنا الصورة الحقيقية لمنهجهم في التعامل مع مخالفيهم.
يقول أبو بلال:
أبعد ابن وهب ذي النـزاهة والتقى ***أحب بقاءً أو أرجـِّي سلامــة
فيـا ربِّ سلِّـم نيَّتي وبصـيرتــي ***ومن خاض في تلك الحروب المهالكا
وقد قتلوا زيد بن حصـن ومالكا ***وهب لي التقى حتى ألاقي أولئكـا( ) .
موقف الإمام علي بعد معركة النهروان :
لا شك أن من سبر أغوار التاريخ ودرس أحداثه يستطيع أن يدرك شخصية الإمام علي بن أبي طالب الزكية التي عركتها أيام الدعوة والجهاد في سبيل الله والسير خطوة خطوة في مرحلة بناء تاريخ الإسلام الطاهر الزكي في مراحله الأولى، كما انه كان له الدور الكبير في رتق الخلافات التي ظهرت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان خير عون للخلفاء الراشدين.
فالمستقرئ للتاريخ يدرك بكل سهولة أن شخصية كهذه لا يمكن أن تصر على الخطأ صغيرا كان أم كبيرا، ولإن الإنسان غير معصوم من الخطأ فإن حدوث الخطأ من أي امرأ كان أمر وارد فقد ثبت الخطأ في حق سيدنا آدم حين أكل من الشجرة التي نهاه الله تعالى عن أكلها، فلهذا فتح الله سبحانه وتعالى أبواب رحمته ومغفرته وكرمه في استقبال عودة الإنسان المخطئ، وقد جاء في الحديث (كل ابن آدم خطاء وخير الخطاءون التوابون)، فلهذا فليس من المستغرب أن نجد إشارات كثيرة تدل على صدور تلك التوبة من الإمام علي كرم الله وجهه لما اقترفته يداه في حق الأبرياء من أهل النهروان.
والمشكلة تقع في هل أن الإمام علي قتل أهل النهروان متأولاً بحيث كان يرى أن دماءهم حلال لإنهم على خطأ وهو على صواب؟ أم أنه قاتلهم وهو مدرك انهم على الحق ولكنه أصر على الخطأ فيكون قد قتلهم عمداً؟!!
ونحن ننزه الإمام علي الذي عرفنا تاريخه المجيد وتضحياته في سبيل الدعوة الحقة ونزوله عند الحق حتى لو كان لغيره كما ثبت في رواية سرقة اليهودي لدرعه كرم الله وجهه حيث لم يعترض على حكم القاضي لليهودي بالدرع.
فهو بلا شك كان متأولا لقتلهم، والمتأول تكفيه التوبة، ولكن اشترط البعض أنه من أخطأ في الجهر يجب عليه أن يتوب في الجهر، ومن أخطأ في السر جاز له التوبة في السر، وقال البعض أن الإمام علي لم يصرح بتوبته من دماء أهل النهروان!!
وأنا أقول أن في هذا الكلام مغالطه للتاريخ فنحن نعلم أن هناك روايات كثيرة تحمل روايات تدل على ندم الإمام علي على قتله لأهل النهروان، بل وثبت عند الإباضية أنه كان كثير البكاء على ما فعل في النهروان، وهل البكاء والندم إلا عين التوبة؟!! أما ما قيل بأنه لم يصرح بتلك التوبة، فأقول: وهل كان نقلة تاريخ إلا اتباع مذاهب وأهواء معادية لأهل النهروان فهل تتصور من هؤلاء الذين ملئت جيوبهم أموال الخزائن الأموية والعباسية أن ينصفوا أهل النهروان وأن يقروا بالحق في هذه القضية؟!!
ألم يزورا التاريخ ويبتدعوا ويختلقوا روايات مكذوبة موضوعة لخدمة أهوائهم وأغراضهم لتنكل بأهل النهروان ومن سار على دربهم من تحري للحق ومعاداة لأهل البغي؟!! نعم فعلوا وشوهوا التاريخ ولطخوه بما أنتجته مطابخ الحروب العلوية الأموية من دعاية إعلامية هائلة لنصرة نفسها على حساب الضحية التي كان صوتها دائما مخنوقاً.
فلهذا نجد في كتب السير الإباضية والتي عرف أصحابها بالأمانة والإخلاص وعدم الكذب حيث - يذكر المبرد في الكامل (والخوارج في جميع أصنافها تبرأ من الكاذب) راجع الحارثي ، العقود ص73 - نجد في أحد أقدم كتبهم وهو كتاب النهروان الذي ذكره البرادي والشماخي ومؤلفه يزيد الفزاري من علماء القرن الثاني الهجري وأقتبس منه العلامة البسياني في القرن الرابع الهجري كتابه السير، نجد في هذا الكتاب روايات تؤكد على توبة الإمام علي بن أبي طالب وبكائه الشديد وندمه على فعلته في النهروان حيث جاء ما يلي:
وعن ابن عباس قال حدثني قمبر مولى علي قال تحولت أنا وعلي إلى النهر بعد القتال فانكب طويلا يبكي فقال ما يبكيك، قال: ويحك صرعنا ها هنا خيار هذه الأمة وقراءها فقلت أي والله فابك وبكى طويلا ثم قال جذعت انفي وشفيت نفسي، فأظهر الندامة على قتله إياهم) العقود الفضية، الحارثي ص68 .
وهذه الأخبار في كتب الإباضية عن توبة الإمام علي تدل على احترامه والإخلاص له ومحاولتهم تنزيهه عن الإصرار على المعصية، فرحم الله أناس هذا شأنهم.
ولأن الله الحليم بعباده يظهر الحق ولو كره الظالمون فقد أظهر إشارات في كتب المعارضين لأهل الحق تبين حقيقة توبة علي وندمه وبكاءه، ولكنهم سرعان ما يحورون الكلام ويأولونه ويضيفون عليه وينقصون حتى يشتتوا فكر القارئ عن وعي الحقيقة الناصعة الجلية .
ومن ذلك ما جاء في مصنف ابن أبي شيبة ما نصه: (.. قال بعضهم غرنا ابن أبي طالب من إخواننا حتى قتلناهم قال فدمعت عين علي.. ) ( الرواية : 19760، ج15/ص317)
وهذه الرواية رواتها ثقات ، يمكن للمنصف أن يراجع تراجمهم في كتاب الأستاذ علي بن محمد الحجري " الإباضية ومنهجية البحث " ص180 .
فبعد كل هذه الخلفية التاريخية والثوابت الروائية للأحداث بعد معركة النهروان لا تستغرب من أحد علماء الإباضية المحققين وهو الشيخ محمد بن شامس البطاشي رحمه الله أن يذكر في كتابه "الكشف عن الإصابة في إختلاف الصحابة" ص 32 – 33 ما نصه (ويبدو أن عليا تاب من قتلهم فإنه صح ندمه والندم توبة ولا عبرة بما يرويه غيرنا)اهـ.
ونحن إذ نستعرض تاريخ تلك الفتنة المريرة ليتملكنا الألم والحزن والأسى مما أصاب الأمة من فرقة وتشتت ولم نكن نريد الخوض في زوابع الفتنة لولا ما يثيره بعض الحاقدين حول معركة النهروان، واتهامهم أهل النهروان ظلما وعدوانا بالبغي وما هم منه أبرياء، فلهذا رأينا من واجبنا تشمير الأيدي وإزاحة الظلام المخيم من هراء الحاقدين.
هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
تعليق