تعالوا نتمعن في كتاب الله الذي أرسله إلينا أجمعين ليُعلمنا فيه بأنه فرض علينا الصيام ماذا قال لنا؟{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} هو خطاب في الكتاب لكن لكل مؤمن فيه زاد خاص به من العلم والنور من العلي الوهاب بل إن المؤمن كلما قرأه بصفاء قلب ونورانية وشفافية ورَدت علي قلبه معاني علوية وأنوار ربانية لا يدرى لها كيفية وإنما من باب قول رب البرية {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ} وهذا من إعجاز كتاب الله لا يُرسل الله خطاباً إلى فرد ولكن يُرسل الله خطاباً إلى جماعة فيه معنى عام تتفق عليه الجماعة وفيه ما لا يُحصى من المعاني الخاصة لكل فرد في هذه الجماعة الخطاب واحد:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} للمؤمنين في عصر رسول الله والمؤمنين من بعده إلي يوم الدين خطاب عام لكل من انتسب إلى دائرة الإيمان وفي ثناياه معاني خاصة لكل مؤمن تمعن في آيات كتاب الله وتدبر في خطاب الله وأراد بقلبه وروحه أن يصل إلى شئ من فحواه فكل واحد له فيه معاني ليست لغيره من السابقين ولا المعاصرين ولا اللاحقين لكن نقف الآن عند المعني العام الذي يُخاطب الله به جميع المؤمنين إلى يوم الزحام {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ }وكُتِب أي فرض فهو فريضة والصيام معناه لغة الترك صام عن الأكل أي ترك الأكل وصام عن الشرب أي ترك الشرب وصام عن الكلام في قوله {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} أي ترك الكلام إذاً الصيام معناه الترك ترك أي أمر من الأمور يُسمى صيام ولكن الصيام الذي خاطبنا به الله وأمرنا أن نتدبر في معناه ونتذوق في فحواه ونقوم به عاملين متابعين لحبيب الله ومصطفاه ذكر الأئمة الكرام له معاني لا تُعد ولا تُحصى ومن جملة هذه المعاني - التي تجمع ما يناسب هذه الحقيقة العبادية من الحضرة الربانية وهي الصيام -قول أحد الصالحين في تعريف الصيام ( الصِيامُ جِهادٌ للجِسمِ ومُخَالَفةٌ للنَفسِ وسِياحَةٌ للعَقلِ ومُشاهَدةٌ للرُوحِ فمَنْ صَامَ بِهذه الحَقائِق نَفذَ مِن أَقطارِ السَمواتِ والأَرضِ ومَنْ لَم يَصُم بِهذه الحَقائِق كَان صِيامُه صِيام عَادة عَن الطَعامِ والشَراب ولَم يَنفُذ بِحقَائِقه مِن أَقْطارِ السَمَواتِ والأَرْض) الصيام في نظر العارفين والصادقين والمـُخلصين والمـُقربين له معاني علوية جهاد للجسم ومخالفة للنفس وسياحة للعقل ومشاهدة للروح فالصيام هنا بأربعة حقائق صيام فيه نصيب للجسم وفيه نصيب للنفس وفيه نصيب للعقل وفيه نصيب للروح وهذا هو صيام الموقنين والمقربين الذين مدحهم الله في آية المقامات بقوله {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} يُقصد في هذه الآية صيام أهل العناية وصيام أهل الولاية الذي نتحدث عنه في هذه البداية إن شاء الله فالصيام جهاد للجسم لأن الجسم يترك ما أحله الله فإذا ترك الحلال فمن باب أولي ينبغي أن يترك الحرام وهذه حكمة لا بد أن يتدبرها كل صائم وإلا فإن صيامه يكون معني بقول الحبيب{رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلاَّ الْجُوعُ}[1] الأكل حلال ومنعه الله والشرب حلال ومنعه الله وإتيان الرجل أهله حلال ومنعه الله فإذا كان الله منع الحلال لنعلم علم اليقين أن حرمة الحرام أشد وقعاً في رمضان فينبغي أن نتجنب جميع المحرمات التي نهانا الله عنها في كتابه وبيَّنها الحبيب في سنته ومن هنا يجب علي الجسم أن يجاهد لأن الصيام جهاد للجسم لا يجاهد في ترك الطعام والشراب لأن من أمر بذلك يعين ولولا عونه ما استطعنا أن نصبر علي ترك الطعام والشراب لحظة أو أقل لكن إعانة الله هي التي توفقنا إلى تنفيذ أمر الله لكن جهاد الجسم في سد المنافذ والحواس التي جعلها الله هي التي تنقل للجسم ما يحس به الإنسان وما يراه وما يسمعه وما يشعر به فيمنع عن العين كل النظرات التي حرمها الله في كتابه وبيَّنها النبي في سنته ويكون صيام العين بقول الله {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} والأذن يسدها عن سماع الكذب والغيبة والنميمة فيترك كل سماع حرَّمه الله وأنَّب الله على من فعله وقال في فاعليه وهم اليهود {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} إذاً لا بد أن تصوم الأذن عن سماع الكذب والغيبة والنميمة وقول الزور وأقوال الخنا والفجور وهذا مقتضى جهاد الجسم أما اللسان فيصوم عن اللغو ويصوم عن المحرمات من السب والشتم واللعن والغيبة والنميمة واليمين الكاذبة وقول الزور لقول الحبيب في الأمر الجامع لسوءات اللسان {مَن لم يَدَعْ قولَ الزُّورِ والعملَ بهِ فليسَ للهِ حاجةٌ في أن يَدَعَ طعامَهُ وشَرابَه}[2] ووضع الروشتة الإلهية للصائمين المـُخلصين الصادقين فقال{إذا كانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَصْخَبْ فإنْ سابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قاتَلَهُ أَحَدٌ فَلْيَقُلْ إنّي امْرُؤٌ صائِمٌ}[3] الرفث هو الكلام عن الجماع أو عن النساء أو ما شابه ذلك ولا يصخب أي لا يرفع صوته بأي كلام يُغضب الله وهذا صوم الصادقين الذين يجاهدون في صوم اللسان كما قال سيدنا رسول الله في حديثه المبارك وصوم الأيدي عن الشكايات الكيدية والبلاغات الظالمة فضلاً عن السرقة وإعانة الظالمين ومد اليد للمساعدة مع البعيدين عن الله الذين يسعون لظلم العباد وإفساد البلاد وصوم الرِّجل عن الحركة إلى أي مكان حرَّمه الله فجهاد الجسم بصيام الحقائق التي جعلها الله نوافذ للجسم وهذا صيام العلماء والحكماء الذين قيل في شأنهم:
إذا ما المرء صام عن الخطايا -- فكل شهوره شهر الصيام
وقول الحبيب في روشتته الجامعة ) إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَحَارِمِ وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ وَلا تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَصَوْمِكَ سَوَاء}[4] ليس البطن والفرج فقط ولكن السمع والبصر واللسان أما النفس فهي كما قال الله في شأنها {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ} ولم يقل {آمرة} ولكن قال {أمَّارة} بصيغة المبالغة أي لا تكف عن تكرار الأمر للإنسان الذي فيه مخالفة لحضرة الرحمن ولذلك اقتضى الصيام أن يخالف الإنسان كل ما تهمس وتوسوس به النفس إلي الإنسان:
وخالف النفس والشيطان واعصهما -- وإن هما محضاك النصح فاتهما
لا بد من مخالفة النفس وفي خلافها الوصول إلى رضاء الله لأنها كما قال الله في شأنها لا تأمر إلا بالسوء والله لا يحب الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم والصيام يعين الإنسان علي جهاد النفس ولذلك قال النبي{يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِيعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وَجَاءٌ }[5] وقال لجميع الأمة{ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ فَضَيِّقُوا مَجَارِيَهُ بِالْجُوعِ والعطش}[6] فأعلمنا أن الجوع هو الباب الأول الذي يخوضه المجاهد في طلب الوصول إلي مولاه لأنه هو الذي يهذب النفس ويجعلها تكف عن المطالب الشهوانية والرغبات الدنية فيَقْوى القلب وتسطع الروح ويطالبان بالمطالب الروحانية والعلية التي توصل المرء إلى المراتب الهنية.
والنفس شهوة مطعم أو مشرب أو ملبس
أو منكحٍ فاحذر بها الــداء الدفـين
كيف السبيل إلي علاجها والتغلب عليها؟ :
جع إضعفنها وحـاذرن من غــيها
واحذر قوى الشيطان في القلب كمين
وغيِّها أي الوسوسة الداخلية لك التي ربما لا تشعر بها إذاً السلاح الذي أنبأنا به الله وبيَّنه ووضَّحه رسول الله وزاده ايضاحاً العارفين بالله لجهاد النفس هو سلاح الجوع فمن لم يستطع أن يخوض هذه المهمة وأن يقوم بهذه الملمة ويجاهد نفسه علي الجوع فإنه لا يستطيع أن يتغلب علي نفسه قالت السيدة عائشة {أوَّل بدعة حدثت بعد رسول الله الشبع إنّ القوم لما شبعت بطونهم جمحت بهم نفوسهم إلى هذه الدنيا}[7] وقال ذو النون { ما شبعت قط إلا عصيت أو هممت بمعصية }[8] فالإنسان عندما يشبع وتمتلئ العروق بالدم تثور غرائز الشهوة في نفسه لكن أثناء الجوع لا يستطيع الإنسان أن يواصل حتى في شهوة الكلام لضعف جسمه فما بالكم بشهوة النساء؟ وما بالكم بشهوة أصناف وألوان الطعام؟وشهوة الزى وشهوة حب الظهور وغيرها من الشهوات فالذي يُضعف الشهوات النفسية هو الجوع ولذلك كان سلاح الصالحين والعارفين أبد الآبدين هو قول النبي{صُومُوا تَصِحُّوا}[9] تصحوا ظاهراً وباطناً قلباً وقالباً جسماً وروحاً والكلام في هذا المجال لا نستطيع إيفاءه في هذا الحديث مع صغر كلماته لدقة معانيه التي جعلها الحبيب فيه فجهاد النفس يكون بترك شهواتها ومحاولة إيقافها في رغباتها وتحويلها من رغبات دنية إلى رغبات أخروية أو رغبات فيها فوز برضاء الله ولذلك كان السلف الصالح يقولون{من حدَّث نفسه بالنهار علي ماذا يفطر فقد أخطأ طريق الصالحين} وكان أصحاب رسول الله يصومون ولا يفكرون علي ماذا يفطرون ولا علي ماذا يتسحرون وإنما يتركون الأمر لمن يقول للشئ كن فيكون ورد أن السيدة عائشة أرسل لها ابن أختها عبد الله بن الزبير مائة وسبعون ألف درهم وكان ذلك ساعة العصر فأخذت في توزيعها حتى لم يبق منها إلا درهم واحد فقالت لها خادمتها: أنسيت أنك صائمة؟ قالت: لو ذكرتني لفعلت اشترِ لنا بهذا الدرهم إفطاراً فاشترت بالدرهم إفطاراً علي قدره وبعد شراءه جاء سائل فقالت: أعطه له قالت: وعلي ماذا نفطر؟ قالت: كوني بما في يد الله أوثق منه بما في يدك وقبل المغرب مباشرة إذا بآت يأتي ومعه شاة مشوية وقدمها هدية للسيدة عائشة فقالت السيدة عائشة لخادمتها: هذا خير لي ولك أم ما كنت تريدين أن ننشغل به ونفكر فيه فأعطتها درساً عملياً فيما كان عليه الحبيب المصطفى وأحبابه وأصحابه الكرام ولذا رُوي عنهم أنهم كانوا إذا أرادوا السحور كان بعضهم يجرع جرعة ماء وبعضهم كان يسف سفَّات من الشعير وبعضهم كان يأكل لقمة هينة بسيطة لأنهم كانوا لا يفكرون إلا في إرضاء الله ويحاولون نزع نوازع النفس في الصيام ليكون صيامهم أكمل عند الله ولكي يتم الصيام ويكون الإنسان من أهل مقام الصائمين أو كما قال الله{السَّائِحُونَ} فالسائحون في الحقيقة هم الذين صامت أجسامهم ونفوسهم، فساحت قلوبهم وأرواحهم في ملكوت الله العلي ينبغي أن يصوم الإنسان بفكره عن كل فكر دنيوي دني لا يفكر إلا في الأمور العلية أما الأمور الدنية من الكيد ومن الخداع ومن اللؤم ومن النفاق لا بد أن يصوم عنها بالكلية ويتجمَّل بجمال يقول فيه الله {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} يُعلي الفكر بدلاً من أن يُفكر في الهموم والغموم والأمور الدنية فإن من أكبر حِكَم الصيام عند العارفين أن الصوم يُخلص الإنسان من الهموم والغموم والأمور الدنية والدنيوية لانشغاله بالكلية بالقرب من رب البرية فإذا صام الفكر عن الهم والغم والأمور الدنية انشغل بالفكر في الآخرة وبالتمعن في الآيات القرآنية وبالفكر في آيات الله الكونية وبالفكر في إبداع صنع الله في كل مصنوعاته الظاهرة والخفية فيدخل في قول الله { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}فيصبح من أولي الألباب الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض لأن فكره علا عن الحجاب وأصبح له باب من الوهاب يفد إليه فيه عوارف وآداب يُجَمل بها بما كان عليه جمال الأصحاب والنبي الأواب فالصوم في هذا المجال سياحة عقلية في النفس وفي الآفاق إذا صام الإنسان عن الفكر الدَّني تسامي الفكر وانشغل بالفكر في أمر عَلِي أو في تجلي إلهي أو في باب معنوي فتحه الله له من لطفه أو غيبه الخفي وهذه سياحة العقل للصائمين إذا ساح العقل في آيات الله النفسية أو الكونية الظاهرة أو الخفية أو آيات الله القرآنية تنبلج في القلب أذكار يذكر بها رب البرية ولا يغيب عن حضرته بالكلية فتظهر عليه الفتوح ويلوح عليه جمال الروح ويفتح الله باباً له لتعرج منه روحه إلي ملكوت الله العلي أو جبروته السني أو قدسه الإلهي وتتمتع الروح بالتجليات التي يُكاشف الله بها أهل العنايات وقال في شأنها في محكم الآيات {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}وقال فيها النبي{ لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات }[10]
[1] سنن ابن ماجة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ [2] صحيح البخاري عن أبي هُريرة [3] مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة[4] رواه البيهقي في فضائل الأوقات عن جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ [5] الصحيحين البخاري ومسلم عن عبد الله[6] رواه مسلم في الصحيح عن أنس [7] ذكر في احياء علوم الدين[8] سبل السلام وإحياء علوم الدين[9]ابن السني وأَبو نعيم في الطب عن أَبي هُرَيْرَةَ[10] أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي هريرة بنحوه
منقول من كتاب [الصيام شريعة وحقيقة]
http://www.fawzyabuzeid.com/table_books.php?name=الصيام شريعة وحقيقة&id=82&cat=2
إذا ما المرء صام عن الخطايا -- فكل شهوره شهر الصيام
وقول الحبيب في روشتته الجامعة ) إِذَا صُمْتَ فَلْيَصُمْ سَمْعُكَ وَبَصَرُكَ وَلِسَانُكَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْمَحَارِمِ وَدَعْ أَذَى الْخَادِمِ وَلْيَكُنْ عَلَيْكَ وَقَارٌ وَسَكِينَةٌ يَوْمَ صِيَامِكَ وَلا تَجْعَلْ يَوْمَ فِطْرِكَ وَصَوْمِكَ سَوَاء}[4] ليس البطن والفرج فقط ولكن السمع والبصر واللسان أما النفس فهي كما قال الله في شأنها {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ} ولم يقل {آمرة} ولكن قال {أمَّارة} بصيغة المبالغة أي لا تكف عن تكرار الأمر للإنسان الذي فيه مخالفة لحضرة الرحمن ولذلك اقتضى الصيام أن يخالف الإنسان كل ما تهمس وتوسوس به النفس إلي الإنسان:
وخالف النفس والشيطان واعصهما -- وإن هما محضاك النصح فاتهما
لا بد من مخالفة النفس وفي خلافها الوصول إلى رضاء الله لأنها كما قال الله في شأنها لا تأمر إلا بالسوء والله لا يحب الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم والصيام يعين الإنسان علي جهاد النفس ولذلك قال النبي{يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِيعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وَجَاءٌ }[5] وقال لجميع الأمة{ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ فَضَيِّقُوا مَجَارِيَهُ بِالْجُوعِ والعطش}[6] فأعلمنا أن الجوع هو الباب الأول الذي يخوضه المجاهد في طلب الوصول إلي مولاه لأنه هو الذي يهذب النفس ويجعلها تكف عن المطالب الشهوانية والرغبات الدنية فيَقْوى القلب وتسطع الروح ويطالبان بالمطالب الروحانية والعلية التي توصل المرء إلى المراتب الهنية.
والنفس شهوة مطعم أو مشرب أو ملبس
أو منكحٍ فاحذر بها الــداء الدفـين
كيف السبيل إلي علاجها والتغلب عليها؟ :
جع إضعفنها وحـاذرن من غــيها
واحذر قوى الشيطان في القلب كمين
وغيِّها أي الوسوسة الداخلية لك التي ربما لا تشعر بها إذاً السلاح الذي أنبأنا به الله وبيَّنه ووضَّحه رسول الله وزاده ايضاحاً العارفين بالله لجهاد النفس هو سلاح الجوع فمن لم يستطع أن يخوض هذه المهمة وأن يقوم بهذه الملمة ويجاهد نفسه علي الجوع فإنه لا يستطيع أن يتغلب علي نفسه قالت السيدة عائشة {أوَّل بدعة حدثت بعد رسول الله الشبع إنّ القوم لما شبعت بطونهم جمحت بهم نفوسهم إلى هذه الدنيا}[7] وقال ذو النون { ما شبعت قط إلا عصيت أو هممت بمعصية }[8] فالإنسان عندما يشبع وتمتلئ العروق بالدم تثور غرائز الشهوة في نفسه لكن أثناء الجوع لا يستطيع الإنسان أن يواصل حتى في شهوة الكلام لضعف جسمه فما بالكم بشهوة النساء؟ وما بالكم بشهوة أصناف وألوان الطعام؟وشهوة الزى وشهوة حب الظهور وغيرها من الشهوات فالذي يُضعف الشهوات النفسية هو الجوع ولذلك كان سلاح الصالحين والعارفين أبد الآبدين هو قول النبي{صُومُوا تَصِحُّوا}[9] تصحوا ظاهراً وباطناً قلباً وقالباً جسماً وروحاً والكلام في هذا المجال لا نستطيع إيفاءه في هذا الحديث مع صغر كلماته لدقة معانيه التي جعلها الحبيب فيه فجهاد النفس يكون بترك شهواتها ومحاولة إيقافها في رغباتها وتحويلها من رغبات دنية إلى رغبات أخروية أو رغبات فيها فوز برضاء الله ولذلك كان السلف الصالح يقولون{من حدَّث نفسه بالنهار علي ماذا يفطر فقد أخطأ طريق الصالحين} وكان أصحاب رسول الله يصومون ولا يفكرون علي ماذا يفطرون ولا علي ماذا يتسحرون وإنما يتركون الأمر لمن يقول للشئ كن فيكون ورد أن السيدة عائشة أرسل لها ابن أختها عبد الله بن الزبير مائة وسبعون ألف درهم وكان ذلك ساعة العصر فأخذت في توزيعها حتى لم يبق منها إلا درهم واحد فقالت لها خادمتها: أنسيت أنك صائمة؟ قالت: لو ذكرتني لفعلت اشترِ لنا بهذا الدرهم إفطاراً فاشترت بالدرهم إفطاراً علي قدره وبعد شراءه جاء سائل فقالت: أعطه له قالت: وعلي ماذا نفطر؟ قالت: كوني بما في يد الله أوثق منه بما في يدك وقبل المغرب مباشرة إذا بآت يأتي ومعه شاة مشوية وقدمها هدية للسيدة عائشة فقالت السيدة عائشة لخادمتها: هذا خير لي ولك أم ما كنت تريدين أن ننشغل به ونفكر فيه فأعطتها درساً عملياً فيما كان عليه الحبيب المصطفى وأحبابه وأصحابه الكرام ولذا رُوي عنهم أنهم كانوا إذا أرادوا السحور كان بعضهم يجرع جرعة ماء وبعضهم كان يسف سفَّات من الشعير وبعضهم كان يأكل لقمة هينة بسيطة لأنهم كانوا لا يفكرون إلا في إرضاء الله ويحاولون نزع نوازع النفس في الصيام ليكون صيامهم أكمل عند الله ولكي يتم الصيام ويكون الإنسان من أهل مقام الصائمين أو كما قال الله{السَّائِحُونَ} فالسائحون في الحقيقة هم الذين صامت أجسامهم ونفوسهم، فساحت قلوبهم وأرواحهم في ملكوت الله العلي ينبغي أن يصوم الإنسان بفكره عن كل فكر دنيوي دني لا يفكر إلا في الأمور العلية أما الأمور الدنية من الكيد ومن الخداع ومن اللؤم ومن النفاق لا بد أن يصوم عنها بالكلية ويتجمَّل بجمال يقول فيه الله {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} يُعلي الفكر بدلاً من أن يُفكر في الهموم والغموم والأمور الدنية فإن من أكبر حِكَم الصيام عند العارفين أن الصوم يُخلص الإنسان من الهموم والغموم والأمور الدنية والدنيوية لانشغاله بالكلية بالقرب من رب البرية فإذا صام الفكر عن الهم والغم والأمور الدنية انشغل بالفكر في الآخرة وبالتمعن في الآيات القرآنية وبالفكر في آيات الله الكونية وبالفكر في إبداع صنع الله في كل مصنوعاته الظاهرة والخفية فيدخل في قول الله { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}فيصبح من أولي الألباب الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض لأن فكره علا عن الحجاب وأصبح له باب من الوهاب يفد إليه فيه عوارف وآداب يُجَمل بها بما كان عليه جمال الأصحاب والنبي الأواب فالصوم في هذا المجال سياحة عقلية في النفس وفي الآفاق إذا صام الإنسان عن الفكر الدَّني تسامي الفكر وانشغل بالفكر في أمر عَلِي أو في تجلي إلهي أو في باب معنوي فتحه الله له من لطفه أو غيبه الخفي وهذه سياحة العقل للصائمين إذا ساح العقل في آيات الله النفسية أو الكونية الظاهرة أو الخفية أو آيات الله القرآنية تنبلج في القلب أذكار يذكر بها رب البرية ولا يغيب عن حضرته بالكلية فتظهر عليه الفتوح ويلوح عليه جمال الروح ويفتح الله باباً له لتعرج منه روحه إلي ملكوت الله العلي أو جبروته السني أو قدسه الإلهي وتتمتع الروح بالتجليات التي يُكاشف الله بها أهل العنايات وقال في شأنها في محكم الآيات {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}وقال فيها النبي{ لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات }[10]
[1] سنن ابن ماجة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ [2] صحيح البخاري عن أبي هُريرة [3] مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة[4] رواه البيهقي في فضائل الأوقات عن جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ [5] الصحيحين البخاري ومسلم عن عبد الله[6] رواه مسلم في الصحيح عن أنس [7] ذكر في احياء علوم الدين[8] سبل السلام وإحياء علوم الدين[9]ابن السني وأَبو نعيم في الطب عن أَبي هُرَيْرَةَ[10] أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي هريرة بنحوه
منقول من كتاب [الصيام شريعة وحقيقة]
http://www.fawzyabuzeid.com/table_books.php?name=الصيام شريعة وحقيقة&id=82&cat=2
تعليق