إخوان الشياطين ومواليهم
لا يُصَدِّقُ من يَدَّعِي شيئاً من علم الغيب أو يَدَّعِي حالاً مخالفةً لما دل عليه القرآن وسنة النبي
? وما أجمعت عليه الأمة في صدرها الأول.
كَثُرَ من ينتسب إلى الأولياء ويكون له أحوال شيطانية ويكون له هَدْيْ يخالف به ما يجب على
الأولياء من طاعة الله ورسوله ومعاداة الشياطين، وربما كان منهم من يَدَّعِي بعض علم الغيب
فيكون كاهناً، أو يُخبِرَ ببعض المُغَيَّبَاتِ فيكون عرَّافاً، أو يكون على حال لم يكن عليها السلف
ولا ما أجمعت عليه الأمة فيكون مُدَّعِيَاً لشيءٍ يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
وهذا كما أَنَّهُ كان في الدجالين كذلك كان في السحرة والكهنة حقيقةً، وكذلك في بعض من
ينتسب إلى الصلاح والطاعة ظاهراً وهو في الباطن من إخوان الشياطين ومُوَاليهم.
وما ذكره ظاهر الدليل من كتاب الله ? ومن سنة رسوله ?.
ونذكر تحت هذه الجملة مسائل:
( المسألة الأولى:الله ? هو المختص بعلم الغيب فلا يعْلَمُ أحدٌ الغيب، بل الله ? هو الواحد الأحد
وهو العالم بغيب السماوات والأرض وما فيهن ومن فيهن، قال ? ?وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ
يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ?[الأنعام:59]، وقال ( في سورة النمل ?قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ?[النمل:65]، وقال ? ?عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا(26)إِلَّا مَنِ
ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا(27)لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ
رَبِّهِمْ ?[الجن:26-28]، الآية وكذلك في قوله ? ?إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ
وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ
تَمُوتُ?[لقمان:34]، فدَلَّتْ هذه الآيات أنَّ علم الغيب مختصٌ بالله ?، والمقصود به علم الغيب
المُسْتَقْبَلْ؛ يعني ما سيكون في الأرض أو في السماء هذا لا يعلمه على اليقين والحقيقة إلا الله
?، وإنما الناس يَخْرُصونَ في ذلك فواجبٌ اعتقاد أنَّ الله ? يعلم الغيب وحده ? وتقدست
أسماؤه.
ومن ادَّعَى شيئاً من علم الغيب فإنما هو من الشياطين أو من إخوان الشياطين كما قال ? ?وَيَوْمَ
نحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ
بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا?[الأنعام:128]، فذكر أَنَّ الجني يستمتع بالإنسي
بعبادته له وتقرُّبِهِ له، وأنَّ الإنس يستمتع بالجني بما يخبره من المُغَيَّبَاتْ وما يكون.هذا دلَّتْ عليه
أيضاً عدد من الأحاديث عن النبي ?، وكانت الكهانة وهي ادِّعَاء ما يُسْتَقْبَلْ من الأمور من
الغيبيات، أو العِرَافَةْ -سيأتي تفسيرها- كانت من الأمور الشائعة في زمنه ? وقبل ذلك من أمور
الجاهلية.
وقد روى مسلمٌ في الصحيح (أنَّ معاوية بن الحكم السُّلَمِي أتى النبي ? وقال له إنَّ رجالاً
يَتَكَهَّنُونَ فنهاه النبي ? عن ذلك)، وقد جاء أيضاً في الحديث (ليس منَّا من تَكَهَّنَ أو تُكُهِّنَ له)،.
المسألة الثانية:قال (وَلَا نُصَدِّقُ كَاهِنًا وَلَا عَرَّافُا) العلماء اختلفوا في معنى الكاهن والعَرَّافْ
وتفسير هذا وهذا على عدة أقوال.
وظاهر صنيع المؤلف الطحاوي / أنَّهُ يُفَرِّقُ بين العَرَّافْ وبين الكاهن.
وسبب التفريق أنَّ الأحاديث جاء فيها ذِكْرُ الكاهن مفرداً والعَرَّافْ مُفْرَداً، وجاء فيها ذِكْرُ
الكاهن والعرَّافْ مَجْمُوعَينِ مما يَدُلُّ على الفرق بينهما.
لهذا إذا نظرت إلى أصل اللغة فإنَّ كلمة تَكَهَّنَ وكاهِنْ غير كلمة تَعَرَّفَ وعارِفَ وصيغة المبالغة
عَرَّافْ.
لأنَّ التَكَهُّنْ هو رَجْمُ الإنسان بالغيب فيما لا يعلم، يعني أنَّهُ يستقبل ما سيأتي بما لا علم له به.
ويدخل في ذلك عموم الظن؛ لكن الظن ليس معه ادِّعاءْ لعلم الغيب، وأما التَّكَهُّنْ فصار فيه ظَنٌّ
هو في الأصل يعني في اللغة وظَنٌ فيما سيحصل مُسْتَقْبَلَاً.
لهذا يجوز لغَةً أنْ يقول القائل تَكَهَّنْتُ أَنُّهُ سيكونُ كذا وكذا على اعتبار يعني في المستقبل أنَّهُ
يظن أنَّه سيكون كذا وكذا.
ثم شاع هذا الاسم فيمن يَدَّعُونَ علم الغيب بواسطة الشياطين، فصار لَقَبَاً واسْمَاً على طائفةٍ
مخصوصة وهم الذين يَتَوَلَّونَ هذه الصَّنْعَةْ ويُخْبِرُونَ الناس عمّا سيكونُ من أحوالهم فيما
يستقبلون من الزّمان.
فإذاً صار الكاهن كما عَرَّفَهُ بعض العلماء على هذا الاعتبار هو من يقضي ويُخْبِرُ بالمُغَيَّبات.
وأما لفظ العَرَّافْ فهو في اللغة أَصْلُهُ من عَرَفَ أو تَعَرَّفَ يَتَعَرَّفُ فهو مُتَعَرَّفٌ أو عَرَّافْ.
فهو الذي يُعَرِّفُ بأمورٍ غيبية يَعْرِفُهَا فَيُخْبِرُ بها.
وهذا يشمل الأمور الغيبية في الزمان الماضي مما حدث أو مما سيكون؛ لأنَّ المعرفة والتَّعَرُّفْ
تشمل الماضي والمستقبل.لكن خُصَّ في بعض الاستعمالات بأنَّهُ من يُخْبِرُ عن الأمور التي
حصلت وانتهت مما خَفِيَ عن الناس كالإخبار عن مكان المسروق أو الضَّالَةْ أو عن شيءٍ
أَضَاعَهُ الإنسان أو عن شيءٍ حصل وخَفِيَ عن الناس ونحو ذلك من المسائل.
إذا نظرت إلى هذا الأصل اللغوي وارتباط ذلك بحال أهل الجاهلية، فالعلماء اختلفوا في ذلك
على أقوال:
( القول الأول:
أنَّ الكاهن: هو القاضي بالغيب، وهو الذي يُخْبِرُ عن أمورٍ مُسْتَقْبَلَةٍ من الغيب مستعيناً في ذلك
بالشياطين.
والعراف: هو الذي يُخْبِرُ عما خَفِيَ مما حَدَثَ وغاب عن الناس بالاستعانة أيضاً بالشياطين.
( القول الثاني:
أنَّ الكاهن يَعُمُّ الجميع، فالعراف أخص، والكاهن يدخل فيه من يُخْبِرُ باُمورٍ مُسْتَقْبَلَة أو ماضية
غابت عن الناس، أو التنجيم أو نحو ذلك، فيجعلون:
الكاهن: اسماً عاماً لكل من يَدَّعِي شيئاً من علم الغيب، فيدخل في صور كثير من الضرب
بالرمل ومن الوَدَعْ ومن الخشب والاستقسام بالأزلام، خشبة (آ با جاد) والطرق بالحصى ونثر
السُّبَح، والخط في الرمل ونحو ذلك مما هو شائعٌ عندهم، وأدْخَلَ فيها طائفة من المعاصرين -
كما سيأتي بيانه- التنويم المغناطيسي وما يجري مجراه.
والعراف أخص من هذا فيكون مخصوصاً باسْمٍ، والاسم العام الكاهن.
هذا القول الثاني هو المشهور عند أهل العلم والأكثر عليه.
( القول الثالث:
أنَّ العراف أشمل والكاهن أخص منه.
لأنَّ الكاهن مخصوص بالعلم المسْتَقْبَلِي عل حسب قولهم.
والعراف لكل من يدَّعي شيئاً من علم الغيب.
( والراجح من هذه الثلاثة أنَّ الكاهن اسم غير اسم العَرَّافْ.
فالكهانة لها صفتها وأحكامها، والعَرَّاف له صفته وأحكامه على نحو ما ذكرنا في القول الأول.
( المسألة الثالثة:دَلَّتْ الأدلة في سنة النبي ? على أنَّ تصديق الكاهن أو العراف محرَمٌ بل كفر،
وعلى أنَّ إتيان الكهنة والعرافين فيها إثمٌ كبير.
فمن ذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث حفصة -ولم يسمها مسلم-؛ بل قال عن
بعض أزواج النبي ? وهي حفصة أم المؤمنين أنَّ النبي ? قال "من أتى عرافا فسأله عن شيء
لم تقبل له صلاة أربعين ليلة".
وجاء في سنن أبي داوود حديث أبي هريرة أنَّ النبي ? قال "من أتى كاهنا فصدقه فقد كفر بما
أنزل على محمد ?".
وفي مسند الإمام أحمد أيضاً من حديث أبي هريرة أنَّ النبي ? قال "من أتى كاهناً أو عرافاً
فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين ليلة". وإسناده صحيح.
فَدَلَّت هذه الأحاديث على أنَّ:
* إتيان الكاهن أو العراف منهي عنه.
* وأنَّ سؤاله كبيرة من كبائر الذنوب إثمها عظيم يَتَرتَبْ عليها أن لا تقبل للمرء صلاة أربعين
ليلة من عِظَمِ الإثم.
* وأنه إن سَأَلَ فَصَدَّقْ فقد كفر بما أنزل على محمد ?.
إذا تبين ذلك فقوله ? "من أتى عرافا فسأله عن شيء" هذا فيه عموم، (سأله عن شيء) يعني
عن أي شيء سواءٌ أكَانَ فيما مضى عن ضالة أو عن شيءٍ مفقود أو عن شيءٍ في المستقبل
فإنه لا تُقْبَلُ له صلاة أربعين ليلة.
وسبب ذلك أنَّ العراف لا يستدل على ما غاب بأمورٍ ظاهرة أو بتجربة أو بأسبابٍ معلومة،
وإنما يستعين بالجن، والاستعانة بالجن شرك لأنَّ الجن لا يُعينون الإنسان إلا إذا تَقَرَّبَ إليهم
وأعطى بعض العبادة لهم ومَكَّنَهُم ليستمتعوا به، كما قال تعالى ((وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ
يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا))[الجن:6]، يعني زاد الجنيُّ الإنسيَّ رهقاً وإثماً
وبلاءً."لم تقبل له صلاة أربعين ليلة" اختلف العلماء هنا هل عدم القبول يعني الإجزاء ولكنه لا
يثاب؟ أم أنها لا تقبل بمعنى أنها لا تُجْزِئُهُ لو صَلَّى ولكن يجب عليه أن يفعلها -يعني أن
يقيمها-، وأنه لا يثاب عليها لأنها لم تُقْبَلْ منه؟
وهذا في نظائره في تفسيره (عدم القبول) هل عدم القبول يعني عدم الإجزاء أو عدم الثواب؟
والظاهر هنا أنَّ عدم القبول بمعنى عدم الثواب؛ لكنه إذا أَدَّاهَا سقط عنه الفرض، لإجماع الأمة
أَنَّهُ لا يجب عليه أن يعيدها بعد اقتضاء الأربعين ليلة.
وأما تصديق الكاهن أو العراف -يعني إذا سَأَلَ كاهناً فَصَدَّقَه- فما في الحديث ظاهر وهو أنه قال
"فقد كفر بما أنزل على محمد" هذا في حال السائل المُصَدِّقْ فكيف بحال الكاهن نفسه؟؟
يعني تُوُعِّدَ السائل الذي يسأل ويُصَدِّق أَنَّهُ قد كفر فكيف بالكاهن أو بالعراف؟
لهذا هنا مسألتان:
(المسألة الأولى: في حكم الكاهن أو العراف؟
والصحيح أنهم إذا استعانوا بالشياطين في ذلك، يعني لم يكونوا دجَّالين وإنما فعلاً يُخْبِرُونَ عن
اسْتِعَانَةٍ بالشياطين فإنَّ هذا كفر، ويجب استتابتهم إنْ تابوا وإلا قُتِلُوا عند كثير من أهل العلم.
المسألة الثانية: في حال السائل؟
قال "فقد كفر بما أنزل على محمد" وهنا الكفر هل هو كفرٌ أكبر مخرج من الملة أم كفرٌ أصغر
دون كفر؟ أم يُتَوَقَّفْ فيه فلا يُقَالُ كفرٌ أكبر ولا كفرٌ أصغر لعدم الدليل على ذلك؟
أقوال لأهل العلم:
(من أهل العلم من المعاصرين وممن قبلهم من قال أنه كفرٌ أكبر لظاهر قوله "فقد كفر"
(ومن أهل العلم من يقول هو كفرٌ دون كفر، وهذا أظهر من حيث الدليل لأمرين:?الأمر الأول:
أنَّ النبي ? كما في رواية أحمد قال "من أتى كاهنا أو عرافا فسأله عن شيء فَصَدَّقَهْ لم تقبل له
صلاة أربعين ليلة" فرتَّبَ عدم قبول الصلاة على السؤال والتصديق معاً ولو كان السائل الذي
صَدَّقَ كافراً فإنه لا تقبل صلاة حتى يتوب دون تحديدٍ لمدةٍ معلومة.
( القول الثاني وهو رواية عن الإمام أحمد أنَّه يُتَوَقَّف فيه، فلا يقال هو كفر أكبر ولا أصغر لأنَّ
الحديث أطلق ثم لبقاء الردع في الناس والتخويف في هذا الباب.
((منقول))
لا يُصَدِّقُ من يَدَّعِي شيئاً من علم الغيب أو يَدَّعِي حالاً مخالفةً لما دل عليه القرآن وسنة النبي
? وما أجمعت عليه الأمة في صدرها الأول.
كَثُرَ من ينتسب إلى الأولياء ويكون له أحوال شيطانية ويكون له هَدْيْ يخالف به ما يجب على
الأولياء من طاعة الله ورسوله ومعاداة الشياطين، وربما كان منهم من يَدَّعِي بعض علم الغيب
فيكون كاهناً، أو يُخبِرَ ببعض المُغَيَّبَاتِ فيكون عرَّافاً، أو يكون على حال لم يكن عليها السلف
ولا ما أجمعت عليه الأمة فيكون مُدَّعِيَاً لشيءٍ يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
وهذا كما أَنَّهُ كان في الدجالين كذلك كان في السحرة والكهنة حقيقةً، وكذلك في بعض من
ينتسب إلى الصلاح والطاعة ظاهراً وهو في الباطن من إخوان الشياطين ومُوَاليهم.
وما ذكره ظاهر الدليل من كتاب الله ? ومن سنة رسوله ?.
ونذكر تحت هذه الجملة مسائل:
( المسألة الأولى:الله ? هو المختص بعلم الغيب فلا يعْلَمُ أحدٌ الغيب، بل الله ? هو الواحد الأحد
وهو العالم بغيب السماوات والأرض وما فيهن ومن فيهن، قال ? ?وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ
يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ?[الأنعام:59]، وقال ( في سورة النمل ?قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ?[النمل:65]، وقال ? ?عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا(26)إِلَّا مَنِ
ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا(27)لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ
رَبِّهِمْ ?[الجن:26-28]، الآية وكذلك في قوله ? ?إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ
وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ
تَمُوتُ?[لقمان:34]، فدَلَّتْ هذه الآيات أنَّ علم الغيب مختصٌ بالله ?، والمقصود به علم الغيب
المُسْتَقْبَلْ؛ يعني ما سيكون في الأرض أو في السماء هذا لا يعلمه على اليقين والحقيقة إلا الله
?، وإنما الناس يَخْرُصونَ في ذلك فواجبٌ اعتقاد أنَّ الله ? يعلم الغيب وحده ? وتقدست
أسماؤه.
ومن ادَّعَى شيئاً من علم الغيب فإنما هو من الشياطين أو من إخوان الشياطين كما قال ? ?وَيَوْمَ
نحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ
بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا?[الأنعام:128]، فذكر أَنَّ الجني يستمتع بالإنسي
بعبادته له وتقرُّبِهِ له، وأنَّ الإنس يستمتع بالجني بما يخبره من المُغَيَّبَاتْ وما يكون.هذا دلَّتْ عليه
أيضاً عدد من الأحاديث عن النبي ?، وكانت الكهانة وهي ادِّعَاء ما يُسْتَقْبَلْ من الأمور من
الغيبيات، أو العِرَافَةْ -سيأتي تفسيرها- كانت من الأمور الشائعة في زمنه ? وقبل ذلك من أمور
الجاهلية.
وقد روى مسلمٌ في الصحيح (أنَّ معاوية بن الحكم السُّلَمِي أتى النبي ? وقال له إنَّ رجالاً
يَتَكَهَّنُونَ فنهاه النبي ? عن ذلك)، وقد جاء أيضاً في الحديث (ليس منَّا من تَكَهَّنَ أو تُكُهِّنَ له)،.
المسألة الثانية:قال (وَلَا نُصَدِّقُ كَاهِنًا وَلَا عَرَّافُا) العلماء اختلفوا في معنى الكاهن والعَرَّافْ
وتفسير هذا وهذا على عدة أقوال.
وظاهر صنيع المؤلف الطحاوي / أنَّهُ يُفَرِّقُ بين العَرَّافْ وبين الكاهن.
وسبب التفريق أنَّ الأحاديث جاء فيها ذِكْرُ الكاهن مفرداً والعَرَّافْ مُفْرَداً، وجاء فيها ذِكْرُ
الكاهن والعرَّافْ مَجْمُوعَينِ مما يَدُلُّ على الفرق بينهما.
لهذا إذا نظرت إلى أصل اللغة فإنَّ كلمة تَكَهَّنَ وكاهِنْ غير كلمة تَعَرَّفَ وعارِفَ وصيغة المبالغة
عَرَّافْ.
لأنَّ التَكَهُّنْ هو رَجْمُ الإنسان بالغيب فيما لا يعلم، يعني أنَّهُ يستقبل ما سيأتي بما لا علم له به.
ويدخل في ذلك عموم الظن؛ لكن الظن ليس معه ادِّعاءْ لعلم الغيب، وأما التَّكَهُّنْ فصار فيه ظَنٌّ
هو في الأصل يعني في اللغة وظَنٌ فيما سيحصل مُسْتَقْبَلَاً.
لهذا يجوز لغَةً أنْ يقول القائل تَكَهَّنْتُ أَنُّهُ سيكونُ كذا وكذا على اعتبار يعني في المستقبل أنَّهُ
يظن أنَّه سيكون كذا وكذا.
ثم شاع هذا الاسم فيمن يَدَّعُونَ علم الغيب بواسطة الشياطين، فصار لَقَبَاً واسْمَاً على طائفةٍ
مخصوصة وهم الذين يَتَوَلَّونَ هذه الصَّنْعَةْ ويُخْبِرُونَ الناس عمّا سيكونُ من أحوالهم فيما
يستقبلون من الزّمان.
فإذاً صار الكاهن كما عَرَّفَهُ بعض العلماء على هذا الاعتبار هو من يقضي ويُخْبِرُ بالمُغَيَّبات.
وأما لفظ العَرَّافْ فهو في اللغة أَصْلُهُ من عَرَفَ أو تَعَرَّفَ يَتَعَرَّفُ فهو مُتَعَرَّفٌ أو عَرَّافْ.
فهو الذي يُعَرِّفُ بأمورٍ غيبية يَعْرِفُهَا فَيُخْبِرُ بها.
وهذا يشمل الأمور الغيبية في الزمان الماضي مما حدث أو مما سيكون؛ لأنَّ المعرفة والتَّعَرُّفْ
تشمل الماضي والمستقبل.لكن خُصَّ في بعض الاستعمالات بأنَّهُ من يُخْبِرُ عن الأمور التي
حصلت وانتهت مما خَفِيَ عن الناس كالإخبار عن مكان المسروق أو الضَّالَةْ أو عن شيءٍ
أَضَاعَهُ الإنسان أو عن شيءٍ حصل وخَفِيَ عن الناس ونحو ذلك من المسائل.
إذا نظرت إلى هذا الأصل اللغوي وارتباط ذلك بحال أهل الجاهلية، فالعلماء اختلفوا في ذلك
على أقوال:
( القول الأول:
أنَّ الكاهن: هو القاضي بالغيب، وهو الذي يُخْبِرُ عن أمورٍ مُسْتَقْبَلَةٍ من الغيب مستعيناً في ذلك
بالشياطين.
والعراف: هو الذي يُخْبِرُ عما خَفِيَ مما حَدَثَ وغاب عن الناس بالاستعانة أيضاً بالشياطين.
( القول الثاني:
أنَّ الكاهن يَعُمُّ الجميع، فالعراف أخص، والكاهن يدخل فيه من يُخْبِرُ باُمورٍ مُسْتَقْبَلَة أو ماضية
غابت عن الناس، أو التنجيم أو نحو ذلك، فيجعلون:
الكاهن: اسماً عاماً لكل من يَدَّعِي شيئاً من علم الغيب، فيدخل في صور كثير من الضرب
بالرمل ومن الوَدَعْ ومن الخشب والاستقسام بالأزلام، خشبة (آ با جاد) والطرق بالحصى ونثر
السُّبَح، والخط في الرمل ونحو ذلك مما هو شائعٌ عندهم، وأدْخَلَ فيها طائفة من المعاصرين -
كما سيأتي بيانه- التنويم المغناطيسي وما يجري مجراه.
والعراف أخص من هذا فيكون مخصوصاً باسْمٍ، والاسم العام الكاهن.
هذا القول الثاني هو المشهور عند أهل العلم والأكثر عليه.
( القول الثالث:
أنَّ العراف أشمل والكاهن أخص منه.
لأنَّ الكاهن مخصوص بالعلم المسْتَقْبَلِي عل حسب قولهم.
والعراف لكل من يدَّعي شيئاً من علم الغيب.
( والراجح من هذه الثلاثة أنَّ الكاهن اسم غير اسم العَرَّافْ.
فالكهانة لها صفتها وأحكامها، والعَرَّاف له صفته وأحكامه على نحو ما ذكرنا في القول الأول.
( المسألة الثالثة:دَلَّتْ الأدلة في سنة النبي ? على أنَّ تصديق الكاهن أو العراف محرَمٌ بل كفر،
وعلى أنَّ إتيان الكهنة والعرافين فيها إثمٌ كبير.
فمن ذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث حفصة -ولم يسمها مسلم-؛ بل قال عن
بعض أزواج النبي ? وهي حفصة أم المؤمنين أنَّ النبي ? قال "من أتى عرافا فسأله عن شيء
لم تقبل له صلاة أربعين ليلة".
وجاء في سنن أبي داوود حديث أبي هريرة أنَّ النبي ? قال "من أتى كاهنا فصدقه فقد كفر بما
أنزل على محمد ?".
وفي مسند الإمام أحمد أيضاً من حديث أبي هريرة أنَّ النبي ? قال "من أتى كاهناً أو عرافاً
فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين ليلة". وإسناده صحيح.
فَدَلَّت هذه الأحاديث على أنَّ:
* إتيان الكاهن أو العراف منهي عنه.
* وأنَّ سؤاله كبيرة من كبائر الذنوب إثمها عظيم يَتَرتَبْ عليها أن لا تقبل للمرء صلاة أربعين
ليلة من عِظَمِ الإثم.
* وأنه إن سَأَلَ فَصَدَّقْ فقد كفر بما أنزل على محمد ?.
إذا تبين ذلك فقوله ? "من أتى عرافا فسأله عن شيء" هذا فيه عموم، (سأله عن شيء) يعني
عن أي شيء سواءٌ أكَانَ فيما مضى عن ضالة أو عن شيءٍ مفقود أو عن شيءٍ في المستقبل
فإنه لا تُقْبَلُ له صلاة أربعين ليلة.
وسبب ذلك أنَّ العراف لا يستدل على ما غاب بأمورٍ ظاهرة أو بتجربة أو بأسبابٍ معلومة،
وإنما يستعين بالجن، والاستعانة بالجن شرك لأنَّ الجن لا يُعينون الإنسان إلا إذا تَقَرَّبَ إليهم
وأعطى بعض العبادة لهم ومَكَّنَهُم ليستمتعوا به، كما قال تعالى ((وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ
يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا))[الجن:6]، يعني زاد الجنيُّ الإنسيَّ رهقاً وإثماً
وبلاءً."لم تقبل له صلاة أربعين ليلة" اختلف العلماء هنا هل عدم القبول يعني الإجزاء ولكنه لا
يثاب؟ أم أنها لا تقبل بمعنى أنها لا تُجْزِئُهُ لو صَلَّى ولكن يجب عليه أن يفعلها -يعني أن
يقيمها-، وأنه لا يثاب عليها لأنها لم تُقْبَلْ منه؟
وهذا في نظائره في تفسيره (عدم القبول) هل عدم القبول يعني عدم الإجزاء أو عدم الثواب؟
والظاهر هنا أنَّ عدم القبول بمعنى عدم الثواب؛ لكنه إذا أَدَّاهَا سقط عنه الفرض، لإجماع الأمة
أَنَّهُ لا يجب عليه أن يعيدها بعد اقتضاء الأربعين ليلة.
وأما تصديق الكاهن أو العراف -يعني إذا سَأَلَ كاهناً فَصَدَّقَه- فما في الحديث ظاهر وهو أنه قال
"فقد كفر بما أنزل على محمد" هذا في حال السائل المُصَدِّقْ فكيف بحال الكاهن نفسه؟؟
يعني تُوُعِّدَ السائل الذي يسأل ويُصَدِّق أَنَّهُ قد كفر فكيف بالكاهن أو بالعراف؟
لهذا هنا مسألتان:
(المسألة الأولى: في حكم الكاهن أو العراف؟
والصحيح أنهم إذا استعانوا بالشياطين في ذلك، يعني لم يكونوا دجَّالين وإنما فعلاً يُخْبِرُونَ عن
اسْتِعَانَةٍ بالشياطين فإنَّ هذا كفر، ويجب استتابتهم إنْ تابوا وإلا قُتِلُوا عند كثير من أهل العلم.
المسألة الثانية: في حال السائل؟
قال "فقد كفر بما أنزل على محمد" وهنا الكفر هل هو كفرٌ أكبر مخرج من الملة أم كفرٌ أصغر
دون كفر؟ أم يُتَوَقَّفْ فيه فلا يُقَالُ كفرٌ أكبر ولا كفرٌ أصغر لعدم الدليل على ذلك؟
أقوال لأهل العلم:
(من أهل العلم من المعاصرين وممن قبلهم من قال أنه كفرٌ أكبر لظاهر قوله "فقد كفر"
(ومن أهل العلم من يقول هو كفرٌ دون كفر، وهذا أظهر من حيث الدليل لأمرين:?الأمر الأول:
أنَّ النبي ? كما في رواية أحمد قال "من أتى كاهنا أو عرافا فسأله عن شيء فَصَدَّقَهْ لم تقبل له
صلاة أربعين ليلة" فرتَّبَ عدم قبول الصلاة على السؤال والتصديق معاً ولو كان السائل الذي
صَدَّقَ كافراً فإنه لا تقبل صلاة حتى يتوب دون تحديدٍ لمدةٍ معلومة.
( القول الثاني وهو رواية عن الإمام أحمد أنَّه يُتَوَقَّف فيه، فلا يقال هو كفر أكبر ولا أصغر لأنَّ
الحديث أطلق ثم لبقاء الردع في الناس والتخويف في هذا الباب.
((منقول))
تعليق