عدالة الصحابة عند أهل السنة من مسائل العقيدة القطعية ، أو مما هو معلوم من الدين بالضرورة ، ويستدلون لذلك بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة .
أولاً : من الكتاب :
الآية الأولي : يقول الله عز وجل : " لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًاِ ) الفتح : 18
قال جابر بن عبدالله رضي الله عنهما : كنا ألفا وأربعمائة .
فهذة الآية ظاهرة الدلالة على تزكية الله لهم ، تزكية لا يخبر بها ، ولا يقدر عليها إلا الله . وهي تزكية بواطنهم وما في قلوبهم ، ومن هنا رضي نهم : ( ومن رضي عنه تعالى لا يمكن موته على الكفر ؛ لأن العبرة بالوفاة على الإسلام . فلا يقع الرضا منه تعالى إلا على من علم موته على الإسلام ) .
ومما يؤكد هذا ما يثبت في صحيح مسلم من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد ؛ الذين بايعوا تحتها "
قال ابن تمية رحمه الله تعالى : " والرضا من الله صفة قديمة ، فلا يرضى إلا عن عبد علم أنه يوافيه على موجات الرضا - ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبداً - فكل من أخبر الله عنه أنه رضي الله عنه فإنه من أهل الجنة ؛ وإن كان رضاه عنه بعد إيمانه وعمله الصالح ؛ فإنه يذكر ذلك في معرض الثناء علية والمدح له ، فلو علم أنه يتعقب ذلك بما يسخط الرب لم يكن من أهل ذلك " .
وقال ابن حزم : ( فمن أخبرنا الله عز وجل أنه علم ما في قلوبهم ، ورضي عنهم ، وأنزل السكينة عليهم ، فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم أو الشك فيهم البتة ) .
الآية الثانية : قوله تعالى :
( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًاِ ) الفتح : 29
قال الأمام مالك رحمه الله تعالى : " بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة - رضي الله عنهم - الذين فتحوا الشام ، يقولون : والله لهؤلاء خير من الحوارين فيما بلغنا . وصدقوا في ذلك ؛ فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة ، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد نوه الله تبارك وتعالى بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة ؛ ولهذا قال سبحانة وتعالى هنا :
( ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ )
ثم قال : ( وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ ) أي : فراخه .
( فَآزَرَهُ ) أي : شده .
( فَاسْتَغْلَظَ ) أي : شب وطال .
( فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ) أي فكذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آزروه وأيدوه ونصروه ، فهو معهم كالشطء مع الزراع ليغيض بهم الكفار ) .
وقال ابن الجوزي : (وهذا الوصف لجميع الصحابة عند الجمهور ).
الآية الثالثة : قوله تعالى :
( لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَِ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَِ * وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌِ ) الحشر : 8-10
يبين الله عز وجل في هذة الآيات أحوال وصفات المستحقين للفيء ، وهم ثلاثة أقسام :
القسم الأول : ( لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ )
والقسم الثاني : ( وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ )
والقسم الثالث : ( وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ )
وما أحسن ما استنبط الإمام مالك رحمه الله من هذه الآيةالكريمة أن الذي يسب الصحابة ليس له من مال الفيء نصيب ؛ لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء - القسم الثالث - في قولهم : ( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ )
قال سعد بن إبي وقاص رضي الله عنه : " الناس على ثلاث منازل ، فمضت منزلتان وبقيت واحدة ؛ فأحسن ما أنتم كائنون غلية أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت . قال ثم قرأ : ( لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ ) إلى قوله : ( وَرِضْوَانًا ) فهؤلاء المهاجرون .
وهذه منزلة قد مضت . ثم قرأ : ( وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ ) إلى قوله : ( وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ) قال : هؤلاء الأنصار .وهذه منزلة قد مضت . ثم قرأ : ( وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ ) إلى قوله : ( رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌِ ) قد مضت هاتان وبقيت هذه المنزلة ؛ فأحسن ما ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت . يقول أن تستغفروا لهم " .
وقالت عائشة رضي الله عنها : " أمروا أن يستغفروا لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسبوهم " رواه مسلم .
قال أبو نعيم : " فمن أسوأ حالاً ممن خالف الله ورسوله وآب بالعصيان لهما والمخالفة عليهما . ألا ترى أن الله تعالى أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن يعفو عن أصحابه ويستغفر لهم ويخفض لهم الجناح ، قال تعالى : ( وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ )
وقال : ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَِ ) .
فمن سبهم وأبغضهم وحمل ما كان من تأويلهم وحروبهم على غير الجميل الحسن ، فهو العادل عن أمر الله تعالى وتأديبه ووصيته فيهم . لا يبسط لسانه فيهم إلا من سوء طويته في النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته والإسلام والمسلمين " .
وعن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : " لا تسبوا أصحاب محمد ، فإن الله قد أمر بالاستغفار لهم ، وقد علم أنهم سيقتتلون " .
الآية الرابعة : قوله تعالى :
( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُِ ) التوبة : 100
والدلالة في هذه الآية ظاهرة . قال ابن تيمية : " فرضي عن السابقين من غير اشتراط إحسان . ولم يرض عن التابعين إلا أن يتبعوهم بإحسان " . ومن اتباعهم بإحسان الترضي عنهم والاستغفار لهم .
الآية الخامسة : قوله تعالى :
( لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ) الحديد : 10
والحسنى : الجنة . قال ذلك مجاهد وقتادة .
واستدل ابن حزم من هذه الآية بالقطع بأن الصحابة جميعًا من أهل الجنة لقوله عز وجل : ( وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ) .
الآية السادسة : قوله تعالى :
( لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌِ ) التوبة : 117
وقد حضر غزوة تبوك جميع من كان موجوداً من الصحابة ، إلا من عذر الله من النساء والعجزة . أما الثلاثة الذين خُلَفوا فقد نزلت توبتهم بعد ذلك .
تعليق